اكتشف عمرك الاخلاقي

للأخت سامية صموئيل – من راهبات القلب المقدس

أكتوبر2012

      كثيرا ما نركز في علم النفس الانساني على مراحل النمو الجسمي (وهي مرحلة المهد، والطفولة، والمراهقة، والشباب، والشيخوخة)، والخصائص المميزة لكل مرحلة، وقليلا جدا ما نتطرق إلى مراحل النمو الاخلاقي، لذلك رأيت انه من المهم أن تتعرف عزيزي القارئ على مستويات النمو الاخلاقي، لتكتشف عمرك  الاخلاقي، ولعل هذا الأكتشاف يساعدك على النمو والانتقال إلى المرحلة الأكثر سموا، ومن علماء النفس الذين أهتموا بالنمو الاخلاقي " لورانس كولبرج".

ويعتقد كولبرج أن الأخلاق لا تنمو مرة واحدة، بل تخضع لسلسلة من المراحل، يكون تتابع هذه المراحل منتظماً، أي أن كل فرد لابد وأن يمر بمراحل النمو الأخلاقي بصورة هرمية، وقد يسير الأطفال خلال هذه المراحل بسرعات مختلفة. ولا يحدث أن يتخطى أي فرد مرحلة معينة إلى أخرى أعلى منها، إلا أن البعض فقط هم الذين يصلون إلى المرحلة السادسة من المراحل الستة لكولبرج. ويعد النمو الأخلاقي نتاجاً لتفاعل عوامل التنشئة الاجتماعية والأخلاقية مع النمو المعرفي العقلي، فيقوم الفرد أثناء نموه بتعديل بنيته المعرفية الأخلاقية وذلك بإحلال بنى جديدة تبعا لما يتعرض له من خبرات .

 

ويقول مارتن لوثر  Marten Louther الناشط السياسي الأمريكي:  في أهمية نمو التفكير الأخلاقي واثره على المجتمع:  " ليست سعادة البلاد بوفرة إيرادها ولا بقوة حصونها ولا بجمال بنائها، وإنما بعدد المهذبين من أبنائها، وبعدد الرجال ذوي التربية والأخلاق فيها".

 

     ويعتبر النقص في الجانب الأخلاقي مسئولاً إلى حد كبير عما نعانيه اليوم من مشكلات، ولا نكون مبالغين إذا قلنا أن كثيراً من مشكلات مجتمعنا الراهنة هي مشكلات أخلاقية في صميمها، فمظاهر الإهمال والتسيب والفساد والاستغلال وانحرافات الشباب، إنما هي جميعاً تعبر عن أزمة أخلاقية وعن قصور في النمو الأخلاقي

 

        وقد حدد كولبرج ثلاثة مستويات لنمو التفكير الاخلاقي، يشتمل كل منها على مرحلتين، أي ثلاث مستويات وستة مراحل، ويمكننا تلخيص هذه المستويات بالشكل التالي:

المستوي الأول: ما قبل العرف والقانون

        يكون في هذا المستوى معظم الأطفال قبل سن التاسعة، وقليل من المراهقين، وبعض المجرمين في سن المراهقة ومرحلة الشباب. ويشتمل على مرحلتين هما:

المرحلة الاولى: أخلاقية العقاب والطاعة

  Punishment and Obedience Morality

يقع غالبية الأطفال تحت سن عشر سنوات، وقليل من المراهقين، وبعض المجرمين في سن المراهقة ومرحلة الشباب  في هذه المرحلة كنتيجة لتمركزهم الشديد حول ذواتهم، مما يدفع بهم إلى ربط الأحكام الأخلاقية بقواعد السلطة الخارجية وما يترتب على سلوك الفرد من ردود أفعال مادية لمن يمثل السلطة.

فالصحيح أو المقبول هو ما تثيب عليه السلطة والخطأ أو غير المقبول هو ما تعاقب عليه السلطة . ولذلك يعتبر الفرد طاعة السلطة قيمة أخلاقية في حد ذاتها لا لأنه على دراية بأهمية القيم الأخلاقية والاجتماعية التي تحميها هذه القواعد، بل لأنها تجنبه التعرض للعقاب.

       

المرحلة الثانية: أخلاقية الفردية والغائية النفعية وتبادل المصالح

 Individualism, Instrumental Purpose and Exchange Morality

ترتبط الأحكام الأخلاقية بما يشبع عمليا حاجات الفرد نفسه، وحاجات الآخرين إذا كان إشباعها ضرورة لإشباع حاجاته.  ولهذا فإن الفرد ينظر إلى العلاقات الإنسانية من وجهة نظر نفعية إذ يفهمها على أساس تبادل المنافع. وانطلاقا من هذا الفهم تظهر عناصر العدالة والتقسيم العادل، إلا أنها تفهم من وجهة نظر مادية أو عملية تبادلية وذلك تبعا لقانون «خذ وهات» « عش ودع الآخرين يعيشون»،  وليس على أساس تطبيق مبدأ العدالة لتحقيق لعدالة نفسها.

 

ويتم تقويم القرارات الأخلاقية على أساس إشباع الرغبات الشخصية، والوصول إلى التميز عن الرفاق في كل صفقة، وتسيطر على المناقشات الأخلاقية المقاييس المادية. ومثال لذلك: دفع الرشوة وكسر الأشارة في المرور، والتزويغ من العمل… كلها أمور تبدو طبيعية للفرد  طالما أفلت من العقاب. وهناك أمثلة آخرى كثيرة تُمارس من بعض الناس الذين يبلغون من العمر والمنصب مثل الاحتيال والتزوير في الانتخابات … الخ، فكل هذه الأمور قائمة على مبدأ اللذة، وأن ما يسبب اللذة  للفرد يأتي في المقدمة بغض النظر عما يتعرض له الآخرين.

وهذه المرحلة تمثل تطورا فكريا تجاه حل المشكلات، فبدلا من اللجوء إلى العنف الجسدي والقوة، يلجأ الشخص إلى الصفقات الماكرة.

والمرحلتان السابقتان تندرجان تحت المستوى الأول والذي يتميز بالتمركز حول الذات وهو ما قبل التبصر بالعرف والقانون.

والسؤال الآن عزيزي القارئ

 هل تري نفسك في هذا المستوى؟ في أي مرحلة؟ هل تطيع القانون خوفا من العقاب؟ أو خوفا من رئيسك في العمل ، أو من ملاحقة البوليس؟ أو خوفا من عقاب الوالدين؟ أو المدرس ؟ أو أي سلطة كانت؟ إذا كنت كذلك فأنت ما زلت في المرحلة الأولى، ويلزمك الكثير من الجهد لتطوير شخصيتك والسمو بها ، ويمكنك تحقيق ذلك بنعمة السيد المسيح ، حاول أكتشاف مناطق الضعف هذه، وأعمل على تطويرها وحولها لنقاط قوة. فبدلا من أن تشعر إنك مرغم على أنجاز مهامك خوفا من مديرك في العمل، أختار انت بحريتك هذا العمل، واعمله بحب، وقس على ذلك بقية جوانب حياتنا التي لا تزال فى مراحل الطفولة والمراهقة، والتي تحتاج الوصول لمرحلة النضوج، فهذه مسئولية شخصية. 

أما إذا كنت تلجأ إلى اللف والدوران والأحتيال والحيل الماكرة، والتجسس على الاخرين،( وللأسف المجتمع ملئ من هذا النوع من الشخصيات، والأسوأ من ذلك إنهم يعتبرون هذه التصرفات شطارة وذكاء، ويلجأون إلى إستخدام كل الطرق للوصول لاهدافهم دون أي أعتبار للاخرين) ، فأنت في المرحلة الثانية  وتحتاج أن تكون صادقا مع ذاتك ومع من حولك . درب نفسك أن تكون واضحا، قل ما تفكر فيه بدون مكر، التزم بعملك وكن أميناً.

 

المستوى الثاني: أخلاقية العرف والقانون   Conventional Morality

     يقع كثير من المراهقين ونسبة كبيرة من الراشدين في هذه المستوى و تمثل أخلاقيات العرف نقلة كيفية من الذاتية إلى الإجتماعية في التفكير الأخلاقي، حيث ترتبط أحكام الفرد الأخلاقية بالمحافظة على السلوك المتوقع منه، إذ يقوم تفكيره على أساس فكر المجموعة.   ويشمل هذا المستوى مرحلتين هما:

 

المرحلة الثالثة: أخلاقية التوقعات المتبادلة، العلاقات، والمسايرة

 Mutual Interpersonal Expectation, Relationships, and Conformity Morality

 

    يصبح الفرد أكثر إدراكا لحاجات الآخرين وانفعالاتهم ولتوقعاتهم منه، كما يصبح أكثر إدراكا لارتباط قبولهم له بسلوكه تجاههم، ولتحقيق ذلك يميل الفرد في هذه المرحلة إلى القيام بما هو متوقع منه، كما يصبح للقصد أهمية للمرة الأولى ولهذا توصف أخلاقياته بأنها ) أخلاقية الإنسان الطيب (فالفعل الأخلاقي هو الفعل الذي يقصد به إسعاد أو مساعدة الآخرين ويكون مقبولا منهم.

 

        في هذه المرحلة تُبنى القرارات الأخلاقية على أساس ما هو طيب في نظر الناس، وما يعجبهم، وتظهر القدرة على تفهم مشاعر الآخرين، ومشكلة الشخص في هذه المرحلة هي مسايرة الأغلبية " ثقافة القطيع "  وعدم القدرة على إتخاذ موقف شخصي، ويعتمد تفكيره الأخلاقي على النمطية، وبالتالي فأن تفكيره هو تفكير غالبية من يحيطون به. وقد يورط الشخص نفسه من أجل أن يقول الناس عنه "إنه طيب "، أو ينافق طرفين يرى أن كليهما أو أحدهما على خطأ من أجل الا يغضب أحدا منه.

المرحلة الرابعة: أخلاقية النظام الاجتماعي والضمير

 Social System and Conscience Morality

 

    تمثل هذه المرحلة نقلة كيفية في التفكير الاجتماعي الأخلاقي حيث ترتبط الأحكام الأخلاقية فيها بالنظرة القانونية لما هو مقبول أو مرفوض، فالصواب يرتبط بطاعة القانون طاعة مطلقه، وكسره لأي سبب يعتبر سلوكا غير مقبول بصرف النظر عن الضرورات الملحة والحاجات الفردية، إلا أن أخلاقيات القانون في هذه المرحلة تختلف تماما عن أخلاقيات السلطة في المرحلة الأولى والتي يظهر الفرد فيها التزاما بقواعد السلطة خوفا من العقاب، حيث أن المبرر للالتزام بالقانون في هذه المرحلة يرتبط بادراك الفرد لأهميته في الحفاظ على النظام الاجتماعي من الانهيار.

        فيها يجد الفرد أن القانون هو الحكم، وحل أي مشكلة مرجعه القانون الوضعي، وأن العقد شريعة المتعاقدين في أي عمل تعاوني. وأن حل أي مشكلة أخلاقية يجب أن نبحثه فى الاطار القانوني، ويحاول الشخص في هذا المستوى أن يكون عمله قانونياً.

        ومن هنا نجد كثير من المجرمين يفلتون من العقاب حين يتمكنون بأنفسهم أو بأيدي محاميهم من التكيف القانوني لإبعاد التهمة. وهذا يوضح أن القوانين القوانين التي وضعها المجتمع لحمايه أفراده، تحتوي على ثغرات واوجه قصور، يمكن من خلالها الإفلات من العقاب.  

والسوال الان : في اي مرحلة تجد نفسك ؟ هل تتبع الاغلبية في قراراتك؟ وتحاول أن تحافظ على الصورة الودودة الجميلة ؟ هل تنافق حتي لا يزعل منك الاخرين؟ أم انت الشخص الذي يبحث كل شئ بالقانون، حتي لو أستفاد من ثغراته لمصلحته؟ إذا كنت كذلك عليك بإتخاذ قرار شجاع لتعيش ذاتك؟ حرر نفسك من هذه القيود. ابحث عن الوسائل التي تساعدك على ذلك ، ربما يكون شخص قريب منك، او دراسات نفسية واجتماعية …. او قراءة كتب خاصة بتنمية الشخصية ….الخ .

المستوى الثالث: مرحلة ما بعد العرف والقانون

قلة من الأفراد يمكن أن يحقق هذا المستوى. وفيه تظهر محاولة واضحة لتحديد واتباع القيم والمبادئ الأخلاقية الإنسانية بصرف النظر عن مدى ارتباطها بالقانون والعرف الاجتماعي. ويشمل هذا المستوى مرحلتين هما:

 

المستوى الثالث: ما بعد العرف والقانون " المبادئ"

        يعتبر هذا المستوى أعلى مستويات النمو الأخلاقي، فهو يتخطى القوانين الوضعية إلى المبادئ الأخلاقية،  ويصل إليه قلة من الراشدين، ويشمل المرحلتين الخامسة والسادسة.

المرحلة الخامسة: أخلاقية العقد الاجتماعي والحقوق الفردية

    يصل قليل من الأفراد إلى هذه المرحلة والتي يتمكن الفرد فيها من إدراك نسبية القيم  : Moralityوالحاجات الفردية، مما يعني تطور في نظرته للقانون لا كقواعد جامدة للمحافظة على النظام الاجتماعي فقط ولكن كقواعد متفق عليها كعناصر لعقد اجتماعي بين الأفراد لحماية الجميع، ومن هذا المنطلق ترتبط أحكام الفرد الأخلاقية بقيمه الشخصية المرتبطة بهذا الفهم الجديد لمعنى القانون القائم على احترام الحقوق الفردية والاجتماعية وتحقيق العدالة الاجتماعية. هذا يعني إمكانية تغيير هذه القواعد عند فشلها في تحقيق العدالة للجميع.

 

     وببساطة  فيها يتخطي الفرد شكل القانون إلى جوهره، وأن اساس القانون حماية المجتمع، وإن عجز القانون عن ذلك يجب أن تحرر من حرفيته وجموده أو نبطله. فالقانون قائم أساسا على العقد الأجتماعي، وهو في أعلى صورة دستور الدولة.

 

المرحلة السادسة: أخلاقية المبادئ العالمية الإنسانية

Universal Ethical Principles Morality

     ندرة من الأفراد يمكن له تحقيق هذه المرحلة، تتخطئ مرحلة مناقشة القوانين وصلاحيتها في مواقف معينة ، إلى المبادئ العامة التي تحكم البشر من خلال الشرائع السماوية ترتبط فقط بمبادئ بعض النماذج النادرة، حيث ترتبط أحكام الفرد الأخلاقية فيها بمبادئ أخلاقية مجردة ذاتية الاختيارترتبط بالفهم المنطقي والعالمية والضمير، مما يعني النظر للعدالة والمساواة والتبادلية والحرية وحقوق الأفراد كمبادئ إنسانية عامة تعنى باحترام حقوق الإنسان لإنسانيته دون اعتبار لأي مؤثرات أخرى

والسؤال الآن : في أي مرحلة أنت ؟ هل تقف فقط عند التحرر من القانون الغير فعال ، أم تذهب إلى ابعد من ذلك ، إلى مبادئ العدل والحرية والأعتراف بالآخر وكرامته الانسانية؟  يقول لنا السيد المسيح ما يتماشى مع هذه المرحلة:

« أن السبت للأنسان وليس الانسان للسبت »،

« قيل لكم عين بعين وسن بسن .. أما انا فأقول :

أحبوا أعدائكم، باركوا لاعنيكم ، وأحسنوا إلى مبغضيكم».