انّ الحركة التصاعديّة لأفعال الشكر هذه تُدخل الجماعه الافخارستيّة في مراحل التدبير الالهيّ. انّها فعلاً ذكرُ تدخّل الله في تاريخ الانسان عَبْر كلّ محطّاته ابتداءً من الخلق حتّى سقطة آدم، ومن ثمّ في كلّ العهود التي تلت، للوصول الى “ملء الزمن”، حيث تجسّد ابن الله وصلب وأقامه الله في اليوم الثالث وصعد الى السماء وجلس عن يمين الآب. والجماعة الافخارستيّة التي تحتفل بسرّ الخلاص العظيم هذا، ما زالت تنتظر مجيئه الثاني بالمجد.
لأجل كلّ هذا، ترفع الكنيسة الشكر والتمجيد وتقدّم قربانها مع المسيح القائم والممجّد الذي يواصل تَقْدِمَة ذاته ومعه العالم بأسره الى أبيه. فالسؤال الذي يُطرح في هذا الاطار التسبيحي هو التالي: لماذا تشكر الكنيسة الله الآب؟ أو بمعنى آخر لماذا تَصنع الكنيسة افخارستيّا؟ نشير هنا الى أنّ الشرح لا ينحصر بصلاة افخارستيّا محدّدة أو بطقس معيّن، بل يهدف الى استخراج الهيكليّة اللاهوتيّة الافخارستيّة عند كلّ الطقوس المسيحيّة.
انّ دوافع الشكر اثنان: الخلق و الخلاص.
شكر من أجل الخلق
انّ نصوص النوافير على أنواعها ومع تنوّع أسلوبها، ومع طولها وقصرها، تشير كلّها الى فعل الخلق العظيم الذي قام به الله. فلندع النّصوص تصف لنا فعل الشكر هذا المقدَّم الى الآب الخالق، و لنستمتع بجمالات وغنى هذه الصلوات التي تعكس اختبارات الافخارستيّة.
النصوص:
* نافور الاثني عشر الماروني. نقرأ:
“حقاً لك يجب المجد، وبك يليق المديح، لأنّك القدّوس، اللّهمّ الآب واهب الحياة، والمبارك مع إبنك وروحك الحيّ القدوس.”
* نافور الاثني عشر السرياني المعروف بنافور مار مرقس البشير. نقرأ:
“انّه لواجبٌ ولائقٌ أن نسجد لك ونمجّدك، يا مَن حقاً أنت هو الله الآب، مع ابنك الوحيد وروحك القدوس. أنت أتيت بنا من العدم الى الوجود وبعد أن سقطنا عدت فأقمتنا…”
* نافور القديس يوحنّا فم الذهب البيزنطي. نقرأ:
“واجب وحقّ أن نسبّحك ونباركك، ونشيد لك ونشكرك، ونسجد لك في كلّ مواضع سيادتك. فانّك أنت الاله الذي لا يفي به وصف ولا يحدّه عقل، ولا يُرى ولا يُدرك، الدائم الوجود، والكائن هوَ هوَ. أنت وابنك الوحيد وروحك القدّوس. أنت أخرجتنا من العدم الى الوجود، وبعد أن سقطنا عدت فأقمتنا. وما زلت تصنع كلّ شيء حتّى أصعدتنا الى السماء، وأنعمت علينا بملكك الآتي.”
* نافور مار باسيليوس الكبير القبطي. نقرأ:
“انّه حقٌّ وواجب أن نشكرك أيّها الاله الأزليّ، الكائن قبل الدهور، المالك الى الأبد، الناظر الى المتواضعين، خالق السماء والأرض، كلّ ما يُرى وما لا يُرى…”
“أنت أيّها الربّ الهنا يا مَن خلقنا وأسكننا في فردوس النعيم. وعندما خالفنا وصيّتك بغواية الحيّة، فقدنا الحياة الأبديّة، ونُفينا في فردوس الفرح…”
* نافور الكنيسة الأرمنيّة. نقرأ:
“حقّاً انّه عدل وواجب أن نحمدك أيّها الآب القادر على كلّ شيء الذي حطّم الطغيان بكلمته وهو الخالق غير المدرك…”
* نافور مار يعقوب الماروني. نقرأ هنا نصّاً يُعتبر من أجمل وأبهى صلوات الكنيسة الافخارستيّة:
“حقّاً انّه لواجب ولائق، أن نمجّدك ونباركك ونمدحك، ونعبدك ونشكرك، يا مبدع البرايا المنظورة وغير المنظورة. يا من تمجّدك سماء السماوات وجميع قوّاتها، الشمس والقمر والكواكب كلّها، الأرض والبحار وكلّ ما فيها، أورشليم السّماوية، بيعة الأبكار المكتوبين في السماء، الملائكة ورؤساء الملائكة الخدّام السّماويّون، جميعهم يرنّمون مسبّحين عظمتك المجيدة تسبيحة الظفر…
انّك القدّوس الكلّي القدرة الخالق والصالح، يا من صنعت الانسان من تراب ومنحته التنعّم بالفردوس لما تجاوز وصيّتك وزلّ، لم تهمله أيّها الصالح…”
* نافور مار بطرس الثالث الماروني. (شرر) نقرأ نصّاً وهو من أقدم النّصوص الافخارستيّة المسيحيّة:
“المجد لك أيّها المسجود له والمسبّح، يا اسم الآب والابن والروح القدس. يا من خلق الكون بنعمته والساكنين فيه بحنانه…”
تحليل النصوص:
بعد أن عرضنا هذه المجموعة المختارة من النّصوص التي تمثّل الى حدّ ما، تراث الكنائس الشرقيّة الافخارستي، نودّ أن نحلّل بايجاز ونستنتج بعض ميزات “الشكر لأجل الخلق”، ويلفت انتباهنا ما يلي:
تتوجّه هذه الصلوات بطريقة مباشرة أو غير مباشرة الى الله الآب.
ينفرد نافور مار بطرس الثالث الماروني (شرر) بذكر “الاسم” الذي يسبق الآب والابن والروح؛ وهنا اشارة واضحة الى أقدميّة هذه الصلاة المتأثّرة بالصلوات اليهوديّة وبالأدب السامي.
تشير الصلوات من مطلعها الى حدث الخلق امّا باستعمال الفعل “خلق” و امّا باستعمال أفعال أُخرى تعني الخلق.
تكتفي بعض الصلوات بذكر الله الآب الخالق دون أن تحدّد نوع الخلق؛ والبعض منها يشير الى ذكر الانسان فقط، والبعض الآخر يورد الخلائق الطّبيعية وهو على رأسها.
يتميّز نافور مار يعقوب بالوصف الجميل للخلق فيرتسم فيه البعد الكونيّ، أي انّ الخلائق كلّها وبوحدة وشركة مع الكنيسة الأرضيّة والسماويّة ترفع التسبيح الى الآب السّماوي من أجل نعمة الخلق ومن أجل صلاحه الذي لا يوصف؛ هذا الصلاح سوف يقود الى خلاص آدم.
تركّز بعض الصلوات على دور الانسان الذي هو تاجُ الخليقة وشريكُ الآب في نِعَم الفردوس. وفي هذا المكان بالذات تذكر النصوص سقطة آدم الذي رفض أن يكون بمعيّة الآب فزلّ وسقط.
بعد ذكر السقطة الأولى تبدأ النصوص بالاشارة الى تدخّل الله في تاريخ الانسان. وهنا يبدأ مشروع الخلاص؛ هذا التدخّل سوف يتوَّج في ملء الزمن فيحقّق الآب تدبيره بابنه الوحيد يسوع المسيح من أجل حياة الانسان وخلاصه.
شكر من أجل الخلاص
بعد ذكر الخلق، تأتي النصوص الافخارستيّة على ذكر مسيرة التدبير الخلاصيّ الذي رسمه الآب الخالق. في هذا المناخ التدبيري، نقرأ النصوص ونتفقّه منها ونكتشف غناها اللاهوتي وفرادتها المميّزة.
النصوص:
* نافور الاثني عشر الماروني. نقرأ:
“قدّوس… أنت الربّ المملوء مراحم… انّك القدّوس واهب الخيرات، يا من لأجل خلاصنا تجسّد ابنك الوحيد من البتول النقيّة مريم، وبتدبيره الالهيّ خلّصنا وافتدانا وفي اليوم قبل آلامه المحية…”
* نافور الاثني عشر السرياني المعروف بنافور مار مرقس البشير. نقرأ:
“انّك قدّوس وكلّي القداسة أنت أيّها الاله الآب… ومجدُك عظيم جدّاً. انّك هكذا أحببت العالَم حتّى بذلت ابنك الوحيد لأجله لكي لا يهلك كلّ من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبديّة.
ذاك الذي أتمّ كلّ تدبيره من أجلنا، في الليلة التي أسلم فيها من أجل حياة العالَم وخلاصه…”.
* نافور القديس يوحنّا فم الذهب البيزنطي. نقرأ:
“… فمع هذه القوّات المغبوطة نهتف نحن أيضاً: ايّها السيد المحبّ البشر ونقول: قدّوس أنت وكامل القداسة..، وعظيم جلال مجدك. لقد أحببتَ عالمك، حتّى انّك بذلت ابنك الوحيد، لكي لا يهلك من يؤمِن به، بل تكون له الحياة الأبديّة.
فهذا أتى وأكمل كلّ ما دبَّرتْهُ عنايتك الالهيّة بشأننا. وفي الليلة التي أسلم فيها، أو بالحريّ أسلم ذاته لأجل حياة العالَم…”.
* نافور مار باسيليوس الكبير القبطي. نقرأ:
“… عندما خالَفْنا وصيّتك… ونُفينا من فردوس الفرح، ولكنّك لم تتركنا قطّ، بل تفقّدتنا دائماً بأنبيائك القدّيسين. وفي ملء الزمن، ونحن في الظلمة وظلال الموت، ظهرت لنا بابنك الوحيد، ربّنا والهنا مخلّصنا يسوع المسيح، الذي بالروح القدس، تجسّد من العذراء القدّيسة مريم.
تجسّد وصار انساناً وعلّمنا طريق الخلاص، وأنعم علينا بالميلاد الثاني من الماء والروح. وجعلنا له شعباً واحداً، وطهّرنا بروحه القدّوس. أحبّنا نحن البشر، وبذل ذاته حتّى الموت، فداءً عنّا، وحرّرنا من الموت بالصليب وقام من بين الأموات في اليوم الثالث، وصعد الى السماوات، وجلس عن يمينك أيّها الآب، وحدّد يوماً يظهر فيه، ليدين كلَّ واحد بالعدل، ويعطيه حسب أعماله.
وعندما جاءت الساعة ليقدّم ذاته للموت، لحياة العالَم، أقام لنا سرّ القربان المقدّس. فأخذ…”
* نافور الكنيسة الأرمنيّة. نقرأ:
“… انّك حقاً قدّوس وفيك كمال القداسة. من يستطيع أن يصف عطاياك الوافرة التي أفاضتها علينا مراحمُك الأزليّة. انّك شملتَ منذ البدء الانسان الخاطئ بعنايتك الربّانية وافتقدته بمختلف الطرق: بواسطة الأنبياء، وفرائض الشريعة، بالكهنوت وتقدمة العجول الرمزيّة. في آخر الأزمنة نقضت الحكم الذي سبّبته معصيتُنا. فمنحتنا ابنك الواحد بمثابة دَين ودائن، مذبوحاً ومسيحاً… وقد صار إنساناً حقيقة لا بالخيال. وباتّحاد غير مختلط تجسّد من أحشاء والدة الله القدّيسة مريم العذراء، واتّخذ جميع عاهات البشريّة عدا الخطيئة وضحّى بذاته على الصليب حبّاً لخلاص العالم.
وفي العشاء الأخير أخذ الخبز…”
* نافور مار يعقوب الماروني. نقرأ:
“… انّك حقّاً قدّوس، اللهمّ الآب ملك الدهور، ومانح القداسة؛… انّك القدّوس الكليّ القدرة، الخالق والصالح، يا من صنعت الانسان من تراب ومنحته التنعّم بالفردوس، ولمّا تجاوز وصيّتك وزلَّ، لم تهمله، أيّها الصالح، بل كأب كثير المراحم أدّبته، وبالشريعة وعدته وبالأنبياء هديّته. وفي ملء الزمن أرسلت الى العالم ابنك الوحيد ربّنا والهنا يسوع المسيح، ليجدّد صورتك، فأتى وتجسّد بالروح القدس من القديسة مريم الدائمة بتوليّتها، وتردّد بين الناس ودبَّر كلّ شيء لخلاصنا.
وفي اليوم الذي قبل آلامه المحيية…”.
* نافور مار بطرس الثالث الماروني ( شرر). نقرأ:
“… نشكرك أيّها الربّ، نحن عبيدك الخطأة، يا من منحتنا نعمتك التي لا يمكننا مكافأتها. لقد لبسْت بشريّتنا لتحيينا بلاهوتك، رفعت سقطتنا وأقمت (زلنا)، أحييت ميتتنا وحوّلت ظلمنا الى حقّ، غفرت آثامنا وأنرت بصائرنا، غلبت أعداءَنا وانتصرت على حقارتنا. فمن أجل كلّ نعمك نحونا نصعد لك المجد والوقار في بيعتك المقدّسة وأمام مذبحك الغافر الآن والى أبد الآبدين.
فأنت اذاً أيّها الربّ، اصنع ذكراً صالحاً بحسب مراحمك الفيّاضة، لكلّ الآباء الأبرار والقدّيسين في ذكر جسدك ودمك اللَّذيْن نقدّمهما لك على مذبحك الحيّ والمقدّس، كما علّمتنا أن نقوم به أنت يا رجاءنا في انجيلك اذ قلت: “أنا خبز الحياة النازل من السماء كي يحيا فيّ الأموات”.
نصنع ذكر آلامك أيّها الربّ كما علّمتنا: ففي هذه الليلة التي أُسلمتَ فيها للذين أرادوا أن يصلبوك، أخذت أيّها الربّ خبزاً بيديك الطاهرتين والمقدّستين…”.
تحليل النصوص:
انّ قراءتنا للنصوص تؤكّد لنا أنّ افخارستيا الكنيسة هي من جهة شكر لأجل الخلق كما رأينا في الفقرة السابقة، وأيضاً لأجل الخلاص، كما سنرى من خلال تحليلنا واستنتاجنا:
1. بعد ذكر حدثِ الخلق في أساليبه المتنوّعة تصل النصوص الى ذكر الآب المخلّص الذي رسم مخطّطه الخلاصيّ بعد سقطة آدم.
2. نرى في مطلع هذه الفكرة صفات الآب التي تشير الى الرحمة والحبّ اللامتناهي والصلاح وغيرها من الأفعال المشابهة التي تهيّئ تدخّله في التاريخ لخلاص الانسان. هذا الخلاص هو تعبير عن رحمته وحبّه وصلاحه.
3. تصف الصلوات بصورة عامّة تاريخ العلاقة بين الله والانسان. انّه تاريخ العهود التي أقامها الله من خلال الأنبياء والملوك، وسوف تتوّج بالعهد الجديد مع يسوع المسيح الابن الوحيد الذي أتى ليحقّق تدبير الآب.
4. في هذا الاطار الخلاصي، نرى التعبير البارز: “ملء الزمن” يحتلّ الصدارة في مشروع الآب. ففي ملء الزمن يرسل الآب ابنه وهنا يبدأ تدبير الابن التاريخيّ الخلاصيّ.
5. في هذا السياق يندرج سرّ تجسّد الابن، وُلد من مريم العذراء ومن الروح القدس وصار انساناً وتردّد بين الناس ودبّر كلّ شيء لخلاصنا. في هذا الاطار نرى أهميّة الاحتفال الافخارستيّ ببعده الكريستولوجي المرتبط ارتباطاً عضوياً بمخطّط الآب؛ ونرى أنّ تجسّد السيّد المسيح وحياته العلنيّة التي تحمل بعداًُ قربانياً افخارستياً سوف يتوّج في الفصح المجيد. ومن التعابير البارزة في هذا السياق: تردّد المسيح بين الناس؛ وفعل “دبّر” الذي يلخّص كلّ مراحل حياة يسوع التاريخيّة الخلاصية.
6. في هذه الحركة التّصاعديّة يتوَّج البعد الخلاصي للشكر في ذكر خبر العشاء الفصحي، خيث تلتقي الجماعة المصلّية حول المسيح الذي قدّم ذاته للعالم مأكلاً ومشرباً، وما يزال يقدّم ذاته في كلّ ذبيحة شكرٍ من أجل خلاص الناس وحياتهم الأبديّة.
7. اللقاء الافخارستيّ الذي هو التفاف الجماعة حول جسد المسيح ودمه، يحقّق وصيّته: “اصنعوا هذا لذكري حتّى مجيئي”. وهكذا في كلّ احتفال تعلن الكنيسة سرّ الموت والقيامة؛ وتشترك بهذا الخلاص شاكرةً الآب على نعمه ومراحمه التي لا توصف مقدّمة له هذه الذبيحة غير الدمويّة التي ترتكز على تقدمة الابن ذاته للآب من أجل حياة العالَم.
ثانياً: شكر الآب تقدّمه الكنيسة لحياة العالَم.
صلاة الافخارستيّا هي شكر ترفعه الكنيسة الى الآب لأنّه الخالق والمخلّص الذي حقّق الخلاص بابنه الوحيد يسوع المسيح. والقدّاس الالهيّ هو لقاء المؤمنين حول مائدة جسد الابن ودمه اذ يشتركون بسرّه الفصحيّ، سرّ موته وقيامته. انّه تدبير الآب الذي يعبِّر عن حبِّه اللامحدود للبشر.
فبعد خبر العشاء تعلن الكنيسة موت المسيح وقيامته منتظرة مجيئه الثاني بالمجد.
وفي هذا الاطار تعرف صلاة الافخارستيّا وتذكر بالتفصيل تدبير الابن الخلاصيّ أي ميلاده وعماده ورسالته العلنيّة بين الناس وصومه وآلامه وموته وقيامته وصعوده الى السماء وجلوسه عن يمين الآب. وفي هذا الموضع بالذات تقدّم الكنيسة القربان والابتهال والذبيحة الروحيّة الى الآب.
اذاً، انّها ذبيحة المسيح تقدّمها الكنيسة الى الآب السماويّ.
انّ فكرة التقدمة هذه هي قاسم مشترك في كلّ صلوات الافخارستيّا؛ وأمّا العنصر الخاصّ والمميّز فهو توجّه الصلوات في هذا الموضع: ففي بعض النوافير مثل المارونيّ والسريانيّ والقبطيّ نرى التوجّه الى الابن، ومن ثمّ يعود الى الآب مع العلم أنّ الصلاة تذكر بتفصيل تدبير الابن مثل البيزنطي والأرمني؛ وأمّا نافور مار بطرس الثالث المارونيّ (شرر) – وهنا تكمن احدى فراداتِه – فهو يتوجّه الى الابن من مطلع النافور بأجمل الأوصاف الافخارستيّة وأبهاها.
ففي كلّ الأحوال، وفي كلّ الأساليب الأدبيّة للنوافير، تبقى غاية الافخارستيّا هي الآب سواء ورد في النصوص بطريقة مباشرة أم غير مباشرة. وبالرغم من أنّ (شرر) يذكر “الاسم” في مطلع الصلاة و”الرب المسيح” في صلبها، فهو بالنهاية “اسم الله الآب” و “ابن الآب الوحيد”.
في اطار التقدمة الروحيّة وبعد دعوة الروح القدس على الجماعة وعلى القرابين، تأتي الطلبات وتحمل البعد الاكليزيولوجي والانتربولوجي للقدّاس؛ أي انّ العالم كلّه يقدَّم الى الآب “نقدٍّم لَكَ”. فبعد أن أتى روح الآب وحلّ على الجماعة، تذكر هنا الجماعة حاجاتِها وأفراحها وأحزانها وآلامها وكلّ اختباراتها. تذكر أحبّاءها وأمواتها. وهذه الطلبات تعني القربان الحيّ الذي يرفع و يقدّم الى الله الآب مع القربان الشهيّ يسوع المسيح الذي قدّم نفسه لأجل حياة العالم.
ثالثاً: قراءة رعويّة لكيفيّة احتفالاتنا الافخارستيّة.
على ضوء ما ورد من أبعاد لاهوتيّة وليتورجيّة، لنقرأ بعض الملاحظات العمليّة والحياتيّة لاحتفالاتنا الافحارستيّة فنرى:
1. أهميّة تلاوة نصوص القدّاس بطريقة واضحة وعلنيّة.
2. تلاوة النصّ بطريقة غير مجتزأة أي باختيار بعض المقاطع من صلاة الافخارستيّا، واسقاط البعض الآخر؛ هذه اشارة الى عدم الوعي للبُعد اللاهوتي للنصّ من جهة، وعدم الحسّ التربوي والرعوي الذي يَعني الجماعة المصلّية من جهة أُخرى.
3. ضرورة عدم التعاطي السطحي مع الصور والرموز والتعابير التي تشير مثلاً الى الخلق والخلائق والتي هي بمثابة قراءة لاهوتيّة كتابيّة لحدث التكوين في الاختبار الافخارستيّ، على ضوء الخلق الجديد الذي تحقَّق للخلاص بالمسيح ويتجدَّد في كلّ قدّاس.
4. أهميّة عدم تقليص الأفعال الافخارستية اذا وردت متتالية برغم التكرار. فلهذه الأفعال بُعد افخارستيّ تصاعديّ اذ انّها تُدخلنا شيئاً فشيئاً في سرّ الشكر العظيم الذي يرفع الى الآب.
5. الرجاء عدم الغاء الكلمات – المفاتيح من النصّ بُغْية ايجاد تعابير أكثر حداثة مثل: “الذبيحة غير الدمويّة” والتي هي عمود فقري في النصّ الافخارستيّ؛ أو “التقدمة” التي هي موضوع القدّاس، وغيرها…
خاتمة.
انّ الاختبار الليتورجيّ بشكل عام والافخارستيّ بشكل خاصّ يرتكز على الثالوث الأقدس؛ فالليتورجيّا هي صلاة الكنيسة – العروس التي ترفع مع المسيح – العريس، الى الآب السماويّ بالروح المحيي والمقدّس. والقدّاس الالهيّ هو صلاة التمجيد والتسبيح والشكر، ترفعها الجماعة مع الابن الوحيد، الفادي والقائم، الى الآب، لأنّه الخالق وراسم الخلاص، مشتركة بذلك في موته وقيامته و منتظرة مجيئه الثاني بالمجد.
تظهر لنا هذه الهيكليّة اللاهوتيّة بطريقة حتميّة في النصوص ابتداءاً من نهاية القرن الثاني حتّى بداية القرن الثالث.
هذه الكنيسة، الافخارستيّة، تسأل الآب أن يرسل الروح القدس فيأتي ويحلّ على الجماعة وعلى القرابين الموضوعة على المذبح ويقدّسها مكمّلاً في الجماعة المصلّية وفي العالم الخلاص الذي هو الموضوع الجوهريّ للقاء الافخارستيّ.
آمين.