الحركة المسكونيَّة العالَميَّة، إلى أين؟

الحركة المسكونيَّة العالَميَّة، إلى أين؟
المطران بطرس مراياتي

 

أين نحن من الحركة المسكونيَّة في مطلع الألفيَّة الثالثة؟
ماذا حقّقنا منذ 35 سنة، أي منذ المجمع الفاتيكانيّ الثاني حين دخلت الكنيسة الكاثوليكيَّة رسميّاً في الحركة المسكونيَّة؟
ماذا كانت النتائج الإيجابيَّة؟
ماذا يعترضنا الآن من مشكلات جديدة وتحدّيات معاصرة؟

لا شكّ في أنّ الحركة المسكونيَّة تمرّ في أزمـة.
لا أقول أزمة بالمعنى السلبيّ وما يتضمّنه من إحباط وانهيار وتراجع بالنسبة إلى السنوات الأُولى الموسومة بطابع الجدّيَّة والاندفاع.
بل أريد بكلمة "أزمة" CRISE واقعاً انتقاليّاً قد يؤدّي إلى العبور إلى واقع أفضل، كما نقول في تعبير "أزمة النموّ" مثلاً.
أزمة النموّ هذه تُشير إلى أنّنا لم نصل إلى "ملء القامة" أو إلى الهدف الذي بدأناه بحماسة وتفاؤل، ممّا خلق عند المتسرّعين تساؤلات تشاؤميَّة.
ولكن، في الواقع، لا تزال عمليَّة النموّ مستمرّة، بخاصّة، إذا أخذنا بعين الاعتبار السنوات الثلاث الأخيرة.
يُقسم حديثنا إلى قسمَين:
1 – اللقاء في المحبّة.
2 – الحِوار في الحقيقة.
القسم الأوّل: الحركة المسكونيَّة عبر لقاءات المحبّة
بالرغم من الفتور الذي قد يكون طرأ على الحركة المسكونيَّة إلاّ أنّ اللقاءات الأخويَّة بين الكنائس لا تزال مستمرّة. وإذا أردنا أن نحصيها لوجدنا أنّها أفضل ممّا نتصوّر.
لقد جَمعتُ هذه اللقاءات في خمس فقرات. أبدأ بالحديث عن العلاقات مع الكنائس الأرثوذكسيَّة البيزنطيَّة، ثمّ أنتقل إلى الكنائس الأرثوذكسيَّة الشرقيَّة وغيرها.
1- الزيارات المتبادَلـة
هذا نوع حسّيّ وإعلاميّ للعلاقات الأخويَّة القائمة بين الكنائس. نذكر منها:
آ- الزيـارات التي قام بها قداسة البابا يوحنّـا بولس الثاني إلى كلّ من كنائس: رومانيا (1999)، وجورجيا (1999)، والإسكندريَّة (مصر – 2000)، والقُدْس (2000)، واليونان (2001)، وأوكرانيا (2001)، وبلغاريا (2002). كما تمّ تبادل الوفود بين كنيسة رومة وكنائس صربيا وروسيا وألبانيا.
هذا وزار رومة في كانون الثاني 2002 البطريرك المسكونيّ برتلماوس الأوّل وشارك في لقاء أسّيزي من أجل السلام إلى جانب قداسة البابا. كما زار الفاتيكان في آذار 2002 وفد رفيع المستوى من كنيسة اليونان. أضفْ إلى ذلك زيارة البطريرك تيوكتيست إلى قداسة البابا في رومة في تشرين الأوّل 2002 على رأس وفد من كنيسة رومانيا.
الأهمّ، بالنسبة إلينا، تلك الزيارات المتبادَلة بين كرسيّ أنطاكية للروم الأرثوذكس وكرسيّ رومة، أي بين غبطة البطريرك إغناطيوس الرابع هزيم وقداسة البابا يوحنّا بولس الثاني، إذ تركت زيارة قداسته إلى سورية (أيّار 2001) أثراً عميقاً في نَفْسه. كما قام غبطة البطريرك هزيم بردّ الزيارة، فتوجّه إلى رومة في نهاية العام 2001، ثمّ شارك شخصيّاً في الصلاة العالَميَّة من أجل السلام التي ترأّسها قداسة البابا في 24 كانون الثاني 2002 في مدينة أسّيزي.
وفي سياق حديثي عن لقاءات المحبّة أذكر أنّ البطريرك هزيم أصرّ على أن تكون أوّل زيارة يقوم بها قداسة البابا في سورية، بعد زيارة رئيس الجمهوريَّة، زيارة الكنيسة المريميَّة الأرثوذكسيَّة. كما أصرّ على أن يجلس قداسة البابا في وسط الكاتدرائيَّة أمام الهيكل، وعن يمينه البطريرك هزيم وعن يساره البطريرك زكّا عيواص، على خلاف ما يجري في سائر الزيارات حيث يجلس البابا على طرف اليمين ومضيفه على طرف اليسار. هذا تعبير رائع عن روح الأخوّة القائمة بين الكنيستَين وعن التواضع والاحترام في العلاقات.
وقدّم البطريرك هزيم لقداسة البابا ثلاث إيقونات وضعها على صدره هديَّة تَذكاريَّة رمزاً إلى روح الأخوّة التي تجمع بين الكنيستَين. مُعلناً في خطابه "أن تكون كنيسة رومة المترئّسة في المحبّة عند استعادة الوحدة".
ب- أمّا بالنسبة إلى الكنائس الأرثوذكسيَّة الشرقيَّة (القبطيَّة والسريانيَّة والأرمنيَّة والأثيوبيَّة والأريتريَّة والملنكاريَّة) فنذكر الزيارة التي قام بها قداسته إلى لبنان (1997)، والقاهرة (2000)، والقُدْس (2000)، وسورية (2001)، وأرمينيا (2001) واللقاءات التي تمّت بينه وبين رؤساء الكنائس الأرثوذكسيَّة الشرقيَّة (غير الخلقيدونيَّة) في تلك المدن.
هذا وقد قام المثلَّث الرحمات الكاثوليكوس كاريكين الأوّل بطريرك جميع الأرمن في إتْشمِيادزين بزيارة إلى الفاتيكان (23-26 آذار 1999)، ثمّ قام خلفه الكاثوليكوس كاريكين الثاني بزيارة رسميَّة إلى كنيسة رومـة (9 و10 تشرين الثاني 2000) على رأس وفد رفيع المستوى.
كما زار أنطلياس وفد من الفاتيكان برئاسة الكَردينال كاسبر (25 و27 أيّار 2001) وسلّم الكاثوليكوس آرام الأوّل جزءاً من ذخائر القدِّيس كريكور المنوِّر المحفوظة في مدينة نابّولي الإيطاليَّة، وذلك لمناسبة احتفال الكنيسة الأرمنيَّة بمرور 1700 سنة على اعتماد الشعب الأرمنيّ في العام 301.
لا بدّ من التوقّف هنا عند الزيارة التي قام بها قداسة البابا إلى كاتدرائيَّة مار جرجس للسريان الأرثوذكس، في إطار زيارته إلى دمشق (أيّار 2001) حيث كان في استقباله غبطة البطريرك إغناطيوس زكّا الأوّل عيواص رئيس الكنيسة السريانيَّة الأعلى ولفيف من المطارنة السريان وحشد كبير من المؤمنين.
وهناك أيضاً جلس قداسته في الوسط أمام المذبح على كرسيّ خاصّ مُحاطاً بالبطريركَين الأرثوذكسيَّين.
وقد تحدّث غبطة البطريرك زكّا الأوّل عن العلاقات بين كنيستَي أنطاكية للسريان الأرثوذكس وكنيسة رومة، بما فيها من بيانات مشترَكة وتعاون رعويّ وحِوار بنّاء.
وكانت هديَّة غبطته كأساً لإقامة الذبيحة الإلهيَّة عربوناً للأخوّة في المسيح في انتظار ذلك اليوم حيث ستتمكّن جميع الكنائس من التناول من كأس واحدة.
هذا وقد تميّزت زيارة قداسة البابا إلى أرمينيا (أيلول 2001) بأنّه، على غير عادته في جميع زيارته السابقة، نزل ضيفاً في صرح البطريركيَّة الأرثوذكسيَّة الرسوليَّة الأرمنيَّة، وأقام قدّاساً احتفاليّاً في باحة البطريركيَّة مطعَّماً بصلوات وتراتيل بحسب الطقس الأرمنيّ. وذلك بحضور الكاثوليكوس كاريكين الثاني والمسؤولين في الدولة وحشد غفير من المؤمنين الكاثوليك الذين قدموا من المناطق الشماليَّة.
ج‍- في هذا المجال لا بدّ من الإشارة إلى اللقاءات بين الكنيسة الكاثوليكيَّة والكنيسة الآشوريَّة. فقد زار البطريرك مار دنخا الرابع رومة مرّات عديدة التقى فيها قداسة البابا. وكانت زيارته الأخيرة في مطلع العام 2002 لمناسبة إقامة الصلاة من أجل السلام في مدينة أسّيزي.
د- كما أنّ اللقاءات الأخويَّة مستمرّة بين قداسة البابا ورؤساء الكنيسة الأنغليكانيَّة وسائر الجماعات الكنسيَّة المصلحة والإنجيليَّة وغيرها.
ه‍- أضفْ إلى ذلك أنّ العلاقات المتبادَلة قائمة بين الكنيسة الكاثوليكيَّة و"مجلس الكنائس العالَميّ" من جهة، و"مجلس كنائس الشرق الأوسط" من جهة أُخرى. فإنّ جميع المجالس المسكونيَّة في حدّ ذاتها وأينما وُجدت، عالَميَّة كانت أم محلّيَّة، ساحات لقاء بين مختلف الكنائس لتعزيز الوحدة في ما بينها.
2- المراسَلات المتبادَلة : هي أدقّ أنواع العلاقات لأنّها مدوَّنة وموثَّقة.
صَدَر للأب جورج خوّام كتاب باللغة العربيَّة بعنوان "سِفْر المحبّة" في جزئَين. جمع فيهما الرسائل التي تُبودلت بين كنيسة القسطنطينيَّة وكنيسة رومة من العام 1958 إلى 1980. هي رسائل تنمّ على روح الأخوّة والمحبّة والانفتاح، بدأت من زمن البطريرك أثِناغوراس (1958) لمناسبة وفاة البابا بيوس الثاني عشر وتنصيب خلفه البابا يوحنّا الثالث والعشرين. وقد عبّر فيها عن روحه الطيّبة التي تدعو إلى نبذ عداوات الماضي ورفع الحرومات وبناء علاقات جديدة بين الكنائس باسم المسيح.
ولا تزال هذه المراسَلات مستمرّة حتّى يومنا هذا في مختلف المناسبات وبين مختلف الكنائس الأرثوذكسيَّة البيزنطيَّة والشرقيَّة والكنائس الكاثوليكيَّة والجماعات الكنسيَّة الإنجيليَّة.
ثمّة أسفار محبّة لم تُجمع بعد. نأمل أن تُنشر هذه الوثائق باللغة العربيَّة في وقت قريب لتكون شاهداً على تطوّر العلاقات المسكونيَّة ما بعد العام 1980.
تجدر الإشارة أيضاً إلى خطابات قداسة البابا ورسائله في السنوات الأخيرة التي لا تخلو من فقرات طويلة تدعو إلى تعزيز العمل المسكونيّ الذي وضعه في مقدّمة اهتماماته البابويَّة.
وفي هذا المجال نذكر أنّ وثيقة هامّة حول موضوع "الخليقة والبيئة" تمّ توقيعها، عن طريق المراسَلة عبر الأقمار الصناعيَّة والتلفزيونات الفضائيَّة، بين قداسة البابا والبطريرك برتلماوس الأوّل، وذلك في شهر حزيران 2002.
3- التعاون الرعويّ والخيريّ :
تسعى الكنائس، على مختلف انتماءاتها، إلى التضامن في ما بينها عن طريق الإعانات المادّيَّة والمنح الدراسيَّة ومؤازرة المشاريع الخيريَّة والإنسانيَّة. وهذا تجسيد عمليّ لروح الأخوّة، إن على صعيد البلد الواحد أو على الصعيد العالَميّ.
هذا وقد تمّت اتّفاقيّات رعويَّة بين كنائس عديدة لخدمة المؤمنين يطول بنا الحديث لو قمنا بعرضها.
كما نشأت مؤسَّسات اجتماعيَّة مسكونيَّة تُشارك فيها مختلف الكنائس المحلّيَّة .
4- جمعيّات الكتاب المقدَّس :
لا يزال التعاون قائماً بين مختلف الكنائس لنشر الكتاب المقدَّس عن طريق الترجمة والطبع.
وقد أخذت جمعيّات الكتاب المقدَّس منحى مسكونيّاً. فإنّ كلمة الله تجمعنا وهي المرجع الأوّل والأخير في كلّ حِوار.
مَن يتبع النشاطات التي تُقام في العالَم حول الكتاب المقدَّس من مؤتمرات ومعارض وندوات وتوزيع… يُدرك أنّ هذا العمل المبارَك يفتح المجال أمام جميع الكنائس لمزيد من التقارب والانفتاح.
5- الصلوات المشترَكة :
هذا نوع خامس من حِوار المحبّة تلتقي فيه الكنائس. كما اللقاءات المحلّيَّة السنويَّة لإقامة صلاة مشترَكة في أسبوع وحدة المسيحيّين. أمّا على الصعيد العالَميّ فنذكر الصلوات المشترَكة التي تمّت بين ممثِّلي الكنائس الأرثوذكسيَّة والكاثوليكيَّة والإنجيليَّة في العام 2000 يوم فَتَحَ قداسة البابا أبواب كنيسة القدِّيس بطرس إيذاناً ببدء السنة اليوبيليَّة. وفي ذلك العام تمّ لقاء صلاة مشترَكة بين الكنيسة الكاثوليكيَّة ومختلف الكنائس الأرثوذكسيَّة والإنجيليَّة التي مثّلتها وفود لمناسبة أسبوع الصلاة من أجل وحدة المسيحيّين (كانون الثاني). بالإضافة إلى احتفال مسكونيّ في رومة في ذكرى الشهداء المسيحيّين (أيّار). وفي مطلع العام 2002 أُقيمت صلاة عالَميَّة من أجل السلام في العالَم جمعت ممثِّلين عن مختلف الكنائس.
لم تأتِ المبادَرات من الكنيسة الكاثوليكيَّة وحسْب، بل من كنيسة القسطنطينيَّة والكنائس الأرثوذكسيَّة والإنجيليَّة الأُخرى أيضاً، التي نظّمت صلوات مشترَكة مع سائر الكنائس. لم نصل بعد إلى إقامة الإفخارستيّا معاً لكنّ هذه الصلوات تجمعنا لنرفع التسبيح والمجد لربّنا الأعلى. هذا وإنّ قداسة البابا يشارك في الصلوات المسكونيَّة التي تُقام في الدول التي يزورها. وقد أشار في عظته الأخيرة مختتماً أسبوع الصلاة من أجل وحدة المسيحيّين (25 ك2 2003) إلى أهمّيَّة "العمل المسكونيّ الروحيّ".
نخلص إلى القول إنّ للزيارات والمراسَلات دَورها التاريخيّ، وللتعاون الرعويّ والإرساليّ مكانته، ولكن تبقى الصلوات هي الأهمّ. إنّ الوحدة بين الكنائس هي عملُ الروح القُدُس، وفعلُ إيمان ورجاء ومحبّة. فما من شيء يعجز الله.
أضواء وظلال في لقاءات المحبّة
إنّ هذه اللقاءات زخم مبارَك لحِوار المحبّة. ولكن، ثمّة ظلال في مجال الزيارات المتبادَلة، إذ إنّه لم تتمّ حتّى اليوم زيارات متبادَلة بين قداسة البابا وبطريرك روسيا ألكسيس الثاني. لا بل طلب قداسة البابا زيارة موسكو، وحتّى اليوم لم يتحقّق ذلك بالرغم من وجود وفود من الكنيستَين تتبادل الزيارات واللقاءات!
أمّا سبب عدم نجاح هذا اللقاء بين الكنيسة الكاثوليكيَّة والكنيسة الروسيَّة فيعود إلى أسباب أساسيَّة ثلاثة:
آ- بعد انهيار الاتّحاد السوفياتيّ وإعلان الحرّيّات الدِينيَّة عادت الكنيسة الكاثوليكيَّة إلى نشاطها بالاهتمام برعاياها، ما خلق بعض الحساسيّات لدى الكنائس الأرثوذكسيَّة التي اعتبرته نوعاً من الاقتناص. ولكنّ الكنيسة الكاثوليكيَّة، بوساطة أعلى مرجعيّاتها، طمأنت الكنيسة الأرثوذكسيَّة أنّها تنوي الاهتمام برعاياها وحسْب، محترِمةً حرّيَّة معتقد الأفراد.
ب- تمّ الاستيلاء على كنائس بيزنطيَّة كاثوليكيَّة في عهد الحُكم الشيوعيّ في رومانيا وبلغاريا وروسيا وأوكرانيا وغيرها… ووُضع بعضها بتصرّف الكنائس الأرثوذكسيَّة. بعد انهيار الحُكم الشيوعيّ حاول الكاثوليك أن يستعيدوا كنائسهم فنشأ عن هذا خلاف كبير، إلى أن تمّت لقاءات في رومانيا وغيرها بين الكنيسـة الأرثوذكسيَّة والكنيسة الكاثوليكيَّة بُغية أن يعود الحقّ إلى أصحابه وأن تُسوّى الأمور بطرائق سِلميَّة.
ج‍- الخلاف الناشئ ضمن الكنيسة الأرثوذكسيَّة الواحدة. فكنيسة أوكرانيا، مثلاً، منقسمة على نفسها وفيها ثلاثة بطاركة منقسمين.
كذلك الحال في بلاد المهجر (في أميركا مثلاً) حيث يوجد في المدينة الواحدة عدّة أساقفة أرثوذكسيّين بيزنطيّين يترأّسون جالياتهم الوافدة من البلد الأُمّ بحسب جنسيّاتهم. وهذا يخالف اللاهوت الأرثوذكسيّ الذي يقول بأسقف واحد للمدينة الواحدة. فثمّة أسقف لليونان وآخَر للروس وآخَر للعرب وآخَر للأوكرانيّين في البلد الواحد… والعدد في ازدياد.
كما أنّ "الاجتماع العامّ الأرثوذكسيّ" المرتقَب من العام 1982 والذي يضمّ 15 كنيسة مستقلّة لم يتحقّق حتّى اليوم لحلّ الخلافات.
نأمل أن تطغى الأضواء على الظلال فيتابَع حوار المحبّة عن طريق الزيارات المتبادَلة. ولا بدّ أن يزول سوء التفاهم والتفاوت في وجهات النظر إذا ارتكزا على روح الأخوّة والمسامحة. كما فعل قداسة البابا عند زيارته اليونان لمّا طلب المعذرة علناً عمّا جرى في أيّام حروب الفرنجة وعن كلّ استغلال باسم الصليب والكنيسة.
وما يثلج القلب أنّ البطريرك ألكسي الثاني أرسل كتاب معايدة إلى البابا يوحنّا بولس الثاني في شهر كانون الأوّل 2002 لمناسبة عيد الميلاد، جاء فيه: "لنستأنفْ علاقاتنا في المحبّة الأخويَّة". وبالفعل، تكوّنت لجنة مشترَكة قبل فترة وجيزة بُغية استئناف العلاقات بين الكنيستَين.
القسم الثاني: الحركة المسكونيَّة عبر حوار الحقيقة
بعد أن تحدّثنا عن حِوار المحبّة نتحدّث الآن عن الحِوار اللاهوتيّ، ونسأل: هل يوجد حِوار عقائديّ حول طاولة مستديرة بين الكنيسة الكاثوليكيَّة من جهة، والكنائس الأرثوذكسيَّة (البيزنطيَّة والشرقيَّة) والجماعات الإنجيليَّة من جهة أُخرى؟ لأنّه، في آخر المطاف، ستكون الوحدة نتيجة تفاهم لاهوتيّ واتّفاق عقائديّ.
آ- حِوارات لاهوتيَّة ثنائيَّة
1 – ثمّة حِوارات ثنائيَّة بين طرفَين من الكنائس الأرثوذكسيَّة (البيزنطيَّة). في اليونان، مثلاً، يوجد حِوار بين جامعتَين لاهوتيّتَين على مستوى أكاديميّ عالٍ جدّاً، هما: جامعة أرسطو في تسالونيكي وجامعة الأنطونيانوم في رومة. ويتمّ الحِوار بينهما حول موضوعات لاهوتيَّة مختلفة، ويُقام دَوريّاً في كلّ عام.
هذا وتوجد في مدينة باري (إيطاليا) لجنة مشترَكة بين كنائس روسيا وأوكرانيا من طرف، وكنائس كاثوليكيَّة بيزنطيَّة من طرف آخَر تجتمع في معهد للدراسات المسكونيَّة للمناقشة في أمور لاهوتيَّة.
أمّا في رومانيا فيوجد لقاء رسميّ بين الكنيسة الأرثوذكسيَّة البيزنطيَّة وكنيسة الروم الكاثوليك المحلّيَّة يسعى إلى حلّ الخلافات على أرض الواقع، عقائديّاً ورعويّاً.
هذه ثلاثة محاور رسميَّة تُقام فيها حِوارات ثنائيَّة بين الكاثوليك والأرثوذكس البيزنطيّين.
2 – أمّا مع الأرثوذكس الشرقيّين فثمّة حِوار ثنائيّ رسميّ قائم مع الكنيسة الملنكاريَّة في الهند باسم "اللجنة المشترَكة الدوليَّة للحِوار اللاهوتيّ بين الكنيسة الكاثوليكيَّة والكنيسة الملنكاريَّة الأرثوذكسيَّة السريانيَّة". وقد عقدت اللجنة حتّى العام الماضي عشرة اجتماعات وأصدرت في العام 2001 كتاباً يحتوي على الدراسات التي توصّلت إليها في ما يتعلّق باللاهوت والتاريخ والشهادة المشترَكة.
هذا وكانت توقّفت "اللجنة المشترَكة الدوليَّة للحِوار اللاهوتيّ بين الكنيسة الكاثوليكيَّة والكنيسة القبطيَّة الأرثوذكسيَّة" لأسباب رعويَّة وإداريَّة.
3 – وفي باب الحِوارات الثنائيَّة نذكر عمل "اللجنة المشترَكة للحِوار اللاهوتيّ بين الكنيسة الكاثوليكيَّة والكنيسة الآشوريَّة المشرقيَّة" التي تتابع عملها منذ العام 1995. وقد توصّلت إلى "إعلان مشترَك حول الكريستولوجيا" وإلى "توجيهات لقبول الإفخارستيّا بين الكنيسة الكلدانيَّة والكنيسة الآشوريَّة المشرقيَّة". ولا يزال الحِوار اللاهوتيّ قائماً بانتظام بُغية الوصول إلى تفاهم حول الأسرار والخدمة البطرسيَّة ورئاسة كرسيّ رومة وغيرها.. وقد جرى الاجتماع الأخير بين 5 و9 تشرين الثاني 2002 في رومة.
4 – لا أريد أن أتوغّل في الحِوارات الثنائيَّة مع مختلف الجماعات الكنسيَّة الإنجيليَّة فهي مستمرّة على نحو منتظم. وكان أهمّ ما توصّل إليه الحِوار القائم بين الكنيسة الكاثوليكيَّة والاتّحاد اللوثريّ العالَميّ أنّه أسفر عن وثيقة مشترَكة حول "عقيدة التبرير" تمّ توقيعها في 31 تشرين الأوّل 1999، بعد 30 عاماً من الدراسة اللاهوتيَّة والعمل المسكونيّ.
ب- اللجنة العالَميَّة المشترَكة للحِوار اللاهوتيّ بين الكنيسة الكاثوليكيَّة والكنيسة الأرثوذكسيَّة (البيزنطيَّة)
أمّا الحِوار اللاهوتيّ الأهمّ فيتمّ ضمن لجنة عالَميَّة مشترَكة بين ممثِّلي الكنيسة الأرثوذكسيَّة البيزنطيَّة من جهة، وممثِّلي الكنيسة الكاثوليكيَّة من جهة أُخرى. هي لجنة رسميَّة معترَف بها من الطرفَين تضمّ، حاليّاً، ثلاثين لاهوتيّاً. وقد أُنشئت في العام 1980 وحقّقت، حتّى اليوم، ثمانية مؤتمرات رسميَّة.
أُشير، في هذه العجالة، إلى اللقائَين الأخيرَين اللذَين تمّا في السنوات القريبة الماضية:
– اللقاء السابع. وقد تمّ في دير البلمند في لبنان (1993) بضيافة كنيسة أنطاكية للروم الأرثوذكس. اجتمع أعضاء هذه اللجنة المشترَكة وناقشوا موضوع وضع الكنائس الشرقيَّة الكاثوليكيَّة الانضماميَّة وهي كنائس من أصل شرقيّ انضمّت إلى كنيسة رومة وهي، في نظر الأرثوذكس، عقبة في طريق الوحدة. إنّ التيّار المتشدّد يطالب بحلَّين لهذه المشكلة: فإمّا أن تعود الكنائس الشرقيَّة الكاثوليكيَّة إلى حضن الكنيسة الأرثوذكسيَّة وإمّا أن تُلغى وتصبح كنائس لاتينيَّة تابعة لكنيسة رومة. أمّا التيّار المعتدل الذي تبنّته اللجنة وساد أجواء المناقشات فقد آثر دراسة الأمور على نحو موضوعيّ واقعيّ. وقد اعتمد المجتمعون ثلاثة مبادئ انطلاقاً من وثيقة عمل عنوانها "الأونياتيَّة (الانضماميَّة) أسلوب وحدويّ من الماضي والبحث الحاليّ عن الشركة الكاملة":
– الاعتراف بكِيان الكنائس الشرقيَّة الكاثوليكيَّة.
– رفض أسلوب الانضماميَّة مبدأً ونهجاً.
– رفض الانضماميَّة كنموذج للوحدة المنشودة.
إليكم مقطعَين من البيان الختاميّ الذي عُرف "بوثيقة البلمند": "إنّ الكنائس الشرقيَّة الكاثوليكيَّة التي أرادت إعادة الشركة الكاملة مع كرسيّ رومة وظلّت أمينة لها تتمتّع بالحقوق والواجبات المرتبطة بالشركة التي أصبحت جزءاً منها" (رقم 16). "إنّ طريقة النشاط الرسوليّ المسمّاة "أونياتيَّة" أو (انضماميَّة) ما عادت مقبولةً لا كنهجٍ يُتَّبع ولا كنموذجٍ للوحدة المنشودة بين كنيستَينا" (رقم 12).
وتجدر الإشارة إلى أنّ هذه الوثيقة لم تحظَ بتأييد كامل من سينودُسات بعض الكنائس الأرثوذكسيَّة.
– اللقاء الثامن. توقّفت اللجنة عن الاجتماع حتّى العام 2000 ثمّ عادت فاجتمعت في بلتمور (الولايات المتّحدة) من 9-19 تمّوز في دَورتها الثامنة بعد مفاوضات دامت سنتَين. وبدأت المناقشة حيث توقّفت في البلمند حول ورقة عمل بعنوان: "مفاعيل الأونياتيَّة (الانضماميَّة) الكنسيَّة والقانونيَّة". ودارت المباحثات حول القضايا العالقة مع الأخذ بعين الاعتبار ردّات الفعل التي صدرت حول "وثيقة البلمند".
لم تصل اللجنة إلى حلّ للمشكلة ولم تصدر عنها أيَّة وثيقة، وإنّما اكتفى المجتمعون ببيان صحفيّ نقتطف منه ما يلي: "اتّسم النقاش الذي جرى في أثناء هذه الدورة ببُعد كبير وقوّة وتعمّق، فطال العديد من القضايا اللاهوتيَّة والقانونيَّة المرتبطة بكِيان الكنائس الشرقيَّة الكاثوليكيَّة ونشاطاتها، إلاّ أنّنا لم نتوصّل إلى توافق حول مفهوم لاهوتيّ أساسيّ للانضماميَّة، وتقرّر ألاّ يُذاع إعلان مشترَك حول هذا الموضوع".
هذا الحِوار لم يؤدِّ إلى نتيجة فنشأت صعوبات حول مفهوم الكنيسة وتكوينها، وبقيَت الأسئلة بلا جواب شافٍ: ما هو دَور كرسيّ رومة وسائر الكراسي البطريركيَّة؟ ما هي سُلطة بابا رومة، ولماذا نشوء الكنائس الشرقيَّة الكاثوليكيَّة المستقلّة؟ كيف كانت الشراكة بين البطريركيّات والكنائس في الألفيَّة الأُولى؟ ما قيمة المجامع المسكونيَّة بعد الألف الأوّل؟…
بالرغم من عدم الاتّفاق حول هذه المشكلات إلاّ أنّ البيان لم يغلق باب الأمل فجاء في ذيله: "لذلك يقوم أعضاء اللجنة بتقديم تقارير إلى كنائسهم، يشيرون فيها إلى السُبُل التي تؤول إلى تخطّي تلك العقبة وتؤدّي إلى متابعة للحِوار سليمة".
اليوم، وبعد اجتماع بلتمور في العام 2000، لا نزال نترقّب. بعضهم متفائل لدَور هذه اللجنة العالَميَّة المشترَكة وبعضهم الآخَر متشائم.
هذا وإنّ لجنة تنسيقيَّة بدأت أعمالها لتهيئة اجتماع لاهوتيّ قادم. واللافت أنّ قداسة البابا في أثناء زيارته الكاتدرائيَّة المريميَّة بدمشق (5 أيّار 2001) ذكّر بأهمّيَّة هذه اللجنة العالَميَّة المشترَكة، إذ إنّ الكنيسة الأنطاكيَّة هي من أوائل الدعاة إلى تفعيل الحركة المسكونيَّة: "لذا أودّ أن أعبّر مجدَّداً عن أُمنيتي الصادقة بأن تعود "اللجنة العالَميَّة المشترَكة للحِوار بين الكنيسة الكاثوليكيَّة والكنائس الأرثوذكسيَّة" فتستأنف في القريب العاجل نشاطاتها، وبالطريقة الأنسب. على قدر دقّة المسائل، يتطلّب هذا الحِوار جهداً أكبر، فلا نستغربنَّ ذلك ولا نستسلمنَّ للتراخي. مَن يستطيع أن يمنعنا عن وضع رجائنا في روح الله الذي لا ينفكّ يوقظ القداسة في تلامذة كنيسة المسيح؟".
ج ‍- لجنة مشترَكة عالَميَّة للحِوار بين الكنيسة الكاثوليكيَّة والكنائس الأرثوذكسيَّة الشرقيَّة
بعد أن تكوّن مجلس رؤساء الكنائس الأرثوذكسيَّة الشرقيَّة في الشرق الأوسط (الأقباط والسريان والأرمن) قرّر قداسة البابا شنوده وقداسة البطريرك مار زكّا الأوّل وقداسة الكاثوليكوس آرام الأوّل في بيان أصدروه بتاريخ 11 آذار 1998 أن لا يُقيموا حِوارات لاهوتيَّة مع كنائس أُخرى إلاّ مجتمعين، أي إنّهم لن يقبلوا بأسلوب الحِوارات الثنائية.
قبلت رومة بهذا الأسلوب. وتمّ الاتّفاق على أن تشارك في الحِوار أيضاً سائر الكنائس الأرثوذكسيَّة الشرقيَّة التي لا كرسيّ لها في الشرق الأوسط، مثل الكنيسة الأرمنيَّة في إتْشمِيادزين والكنيسة الأثيوبيَّة والكنيسـة الأرثوذكسيَّة السريانيَّة.
لقد اجتمعت اللجنة التحضيريَّة المشترَكة للحِوار الرسميّ بين الكنيسة الكاثوليكيَّة والكنائس الشرقيَّة بين 27 و29 كانون الثاني 2003 في مكتب "المجلس البابويّ لتعزيز الوحدة بين المسيحيّين" برومة. وقد شارك سبعة أشخاص عن كلّ جانب يمثِّلون الكنائس الأعضاء برئاسة الكَردينال كاسبر والأنبا بيشوي.
وقد تمّ استعراض ما تمّ في الحِوارات غير الرسميَّة السابقة عن طريق مؤسَّسة "برو أورينتي" PRO ORIENTE في فيينّا (النمسا)، وكذلك ما جاء في البيانات المشترَكة الرسميَّة بين بعض رؤساء الكنائس الأرثوذكسيَّة وبابوات رومة، وما تمّ في الحِوارات الثنائيَّة الرسميَّة السابقة (مع الكنيسة القبطيَّة من جهة، ومع الكنيسة الملنكاريَّة من جهة أُخرى).
كما جرى استعراض المسائل التي يلزم إجراء حِوار في شأنها لإزالة الخلافات اللاهوتيَّة المتعلّقة بالكريستولوجيا ولاهوت الكنيسة والخلافة الرسوليَّة ومفهوم الخلاص والأسرار والكنائس الشرقيَّة المتّحدة مع رومة وغيرها من الموضوعات…
هذا وسيُقام الاجتماع القادم بين 27 و30 كانون الثاني 2004 في أنطلياس (لبنان) أو في مصر، بمشارَكة 28 عضواً (14 ممثِّلاً عن كلّ جانب) بالإضافة إلى بعض الاختصاصيّين.
د- أضواء وظلال في الحِوار اللاهوتيّ
بعد هذا العرض المقتضب لما يجري بين الكنائس من حِوارات لاهوتيَّة يجب أن نعترف، بكلّ تواضع، بأنّه الحدّ الأدنى لما يمكن الوصول إليه بعد حوالي أربعين سنة من العمل المسكونيّ!
ولسنا في تقدّم مستمرّ, بل هناك عثرات تعود بنا إلى البداية.
ومن هذه العثرات تباطؤ الحِوار مع الكنائس الأرثوذكسيَّة البيزنطيَّة لأسباب ذكرناها آنفاً.
وبعد أن قطعنا شوطاً في العلاقات مع الكنيسة الأنغليكانيَّة تأزّمت الأوضاع بعد اعترافها برسامة النساء كهنة وأساقفة وقبولها الإجهاض والموت الرحيم وزواج الشاذّين.. وغيرها من المبادئ الأخلاقيَّة التي تتمسّك بها الكنيسة الكاثوليكيَّة.
وقد تعثّرت العلاقات مع الجماعات الإنجيليَّة الرسميَّة بسبب نشوء عشوائيّ لفرق وبدع تحتمي بظلّها ولكنّها لا تتمتّع بأيّ منحى مسكونيّ مسيئةً بذلك إلى الكنائس المحلّيَّة.
أضفْ إلى ذلك أنّ عثرة توحيد تاريخ عيد الفصح، محلّيّاً وعالَميّاً، لا تزال تعرقل مسيرة الوحدة الكنسيَّة الخارجيَّة وتضعف شهادتنا المسيحيَّة في مجتمع متعدّد ومتغيّر.
الخاتمة: رؤيـة مستقبَليَّة
بعد هذه الجولة السريعة في عرض واقع الحركة المسكونيَّة العالَميَّة يبدو وكأنّ الأمور تسير ببطء شديد، أو قلْ تتقدّم على نحو حلزونيّ. تدور وتدور على نفسها مرّات علّها تحقّق صعوداً ولو درجة واحدة.
إليكم ما كتب قداسة البابا يوحنّا بولس الثاني في رسالته الرسوليَّة: "نحو ألفيَّة جديدة" طالباً أن يكون الالتزام المسكونيّ أحد الأولويّات الرعويَّة:
"ماذا نقول عن ضرورة تشجيع الوحدة في ميدان الالتزام المسكونيّ الدقيق؟ نأسف أن يكون إرث الماضي الحزين لا يزال يتبعنا حتّى ما بعد الدخول في الألفيَّة الجديدة. سجّلت الاحتفالات اليوبيليَّة بعض علامات نبويَّة مؤثّرة حقّاً، إنّما بقي أمامنا طريق طويل.
في الواقع، إنّ اليوبيل الكبير, الذي أتاح لنا أن نحدّق في المسيح, جعلنا نعي بشدّة وجود الكنيسة كسرّ للوحدة. "أؤمن بكنيسة واحدة": ما نقوله في شهادة الإيمـان يجد أساسه النهائيّ في المسيح حيث الكنيسة لا تتجزّأ (1قور 1/11-13). بما أنّها جسده، في الوحدة الناتجة عن عطيَّة الروح، فهي غير متجزّئة.
إنّ واقع الانقسام امتدّ على مدى التاريخ في العلاقات بين أبناء الكنيسة، وهذا نتيجة الضعف البشريّ في طريقة قبوله العطيَّة الآتية دوماً من المسيح الرأس في جسده السرّيّ. صلاة يسوع في العلّيَّة – "فليكونوا بأجمعهم واحداً كما أنّك فيّ، يا أبتِ، وأنا فيك" (يو 17/21) – هي، في الوقت عينه، وحي ودعاء" (رقم 48).
الحركة المسكونيَّة، أي السعي إلى استعادة وحدة جميع المعمَّدين، ليست "موضة" الزمن الحاضر، ولا لفظة جديدة خُلقت لمسايرة أميال العصر، وليست "ملحقاً" يُضاف إلى عمل الكنيسة الاعتياديّ، بل هي من صلب كِيانها العميق والحواريّ واللاهوتيّ والإلهيّ. ولمّا سُئل الكَردينال فالتر كاسبر رئيس المجلس الحَبريّ لتعزيز وحدة المسيحيّين عن الأمر الأهمّ لكنيسة الألف الثالث بالنسبة إليه أجاب: "الأمر الأهمّ هو أن نقتنع بأنّ العمل المسكونيّ ليس مسألة اختياريَّة".
ويسعى نيافة الكَردينال في جميع دراساته اللاهوتيَّة والحِوارات التي يقودها إلى إبراز الكنيسة بصفتها "شركة" COMMUNIO – KOINONIA، وما يتضمّن ذلك من وحدة في التعدّديَّة, وتناغم في التميّز، ووفاق في التنوّع، وتضامن في الخدمة، ولقاء في المحبّة، وحِوار في الحقيقة…
المهمّ في الحِوار المسكونيّ هو العودة إلى السيّد المسيح والعيش معه وبه ومن أجله، وليس المهمّ فلسفة سرّ المسيح في علوم وتعابير. نحن مدعوّون إلى القداسة وهي موجودة في كلّ الكنائس وهي طريق للجميع. الروح القُدُس يعمل ويهبّ حيث يشاء.
لا أحد يستطيع أن يدّعي امتلاك الروح القُدُس أو امتلاك الحقيقة المطلَقة لأنّ الأسرار الإلهيَّة تتجاوزنا وكلّ التعابير البشريَّة تعجز عن وصف الحقيقة. "الحقيقة هي علاقة مع الله، علاقة ثقة ومحبّة، قبل أن تكون وصفاً لأمور ما وراء هذا العالَم. فالمسيحيَّة حياة الله فينا قبل أن تكون تعبيراً عقليّاً عن السرّ الإلهيّ". كما يقول المطران بسترس (راجع كتاب: مقالات في اللاهوت والحركة المسكونيَّة – المكتبة البولسيَّة – جونية 2001).
لقد نسينا عبر التاريخ شخص يسوع المسيح، وبدأنا نفلسف لاهوته، ورشقنا بعضنا بعضاً بالحرومات، وحصلت حروب باسم المسيح من أجل تعابير وكلمات وطقوس: هل انبثاق الروح من الآب أم من الآب والابن؟ هل يُقام القدّاس بالخمر الممزوج ماءً أو بدونه؟ وهل يكون الخبز فطيراً؟ وهل يكون الميرون من زيت الزيتون أو من زيت السمسم؟ هل الملاك مؤنَّث أم مذكَّر؟ كيف تتنقّى النَفْس قبل الوصول إلى السماء (المطهر والرؤية الطُوباوِيَّة) هل النُور مخلوق أم غير مخلوق؟…
لقد توقّفنا عند القشور ونسينا الروح.
صَدق مَن قال: "إنّ سبب الانقسامات يعود إلى اللاهوتيّين وليس إلى المسيح أو الإنجيل". والمطلوب من لاهوتيّي اليوم العودة بنا إلى الينابيع، إلى يسوع، إلى صفاء إيماننا كما هو عند آباء الكنيسة. حينئذٍ سنلتقي في رؤية شموليَّة واسعة. فكلّما اقتربنا من المسيح زاد اقترابنا الواحد من الآخَر.
أمّا في شأن المسائل اللاهوتيَّة فلا يزال مبدأ القدِّيس أوغسطينُس معاصِراً:
"في الأمور الجوهريَّة وحـدة،
في الأمور الثانويَّة حرّيَّـة،
لكن في كلّ الأمور، المحبّـة".
يسرّني في نهاية الحديث أن أضع بين يدَي القارئ العربيّ خلاصةً لأفكار البطريرك الأرمنيّ نرسيس شنورهالي (1102- 1173) الذي كان واحداً من روّاد الحركة المسكونيَّة مستبقاً بعصور ما توصّلنا إليه اليوم، بفضل علاقاته الأخويَّة ومراسلاته البنّاءة وحِواراته اللاهوتيَّة مع الكنيسة البيزنطيَّة والكنيسة السريانيَّة والكنيسة الكاثوليكيَّة الرومانيَّة.
وقد لُقِّبت هذه المبادئ "بالشرعة المسكونيَّة" أو "الوصايا المسكونيَّة العشر":
1- الوحدة عمل إلهيّ، فالصلاة خير وسيلة للوصول إليها.
2- الشرط الوحيد للوصول إلى الوحدة هو الحقيقة الإيمانيَّة، أمّا التعابير اللاهوتيَّة فهي ثانويَّة.
3- ضرورة الاحترام المتبادَل للتقاليد والطقوس لأنّها إرث مقدَّس لكلّ شعب.
4- يجب التنازل عن الأمور غير الإلزاميَّة حفاظاً على شركة المحبّة.
5- على الوحدة بين الكنائس ألاّ تقود إلى الانشقاق في الكنيسة الواحدة.
6- الوحدة عمل جَماعيّ، ممّا يتطلّب طول الأناة والتقدّم، تدريجيّاً، بُغية تهيئة النفوس.
7- المحبّة المتبادَلة من أهمّ العوامل لنسيان الماضي والقضاء على بذار الحقد.
8- في كلّ حِوار يُطلب من الأطراف: المساواة والصراحة والوداعة.
9- البحث المتواضع عن الحقيقة هو المعيار الوحيد لنجاح كلّ محادثة أو حِوار.
10- على دوافع الوحدة أن تنبع من روح الأخوّة المسيحيَّة وحُبّ السلام مع قناعة داخليَّة أكيدة.

بهذه المبادئ نستطيع العودة إلى المسيح، فتزول الصعوبات، وتتّحد القلوب، وتعود الكنيسة إلى بهاء مجدها، إلى "أورشليم الجديدة، نازلةً من السماء من عند الله" (رؤ 21/2).

المرجع: عن موقع جمعية التعليم المسيحي بحلب