الفصـــح

في الحقيقة ان الفصح الذي يتكلم عليه المسيحيون لا يريدون به حصراً يوم غد ولكن الثلاثية التي تبدأ بالصلب وتنتهي بالانبعاث. واذا كنت على لاهوت مستقيم فكل شيء في هذه الايام الثلاثة مجد. ما من فاجعة عند المسيحيين ولا يعرفون لطم انفسهم او تعذيبها. ولا يبكون – ان كانوا من الفاهمين – عند رؤيتهم الصليب يطاف به يوم الجمعة العظيمة اذ لا حسرة على يسوع. ليس في هذا خلاف بين الالهيات الشرقية والالهيات الغربية ان انت اخذت نصوص العبادة في الكنيستين على رغم انك تجد قليلاً قليلاً من التأوه عند الارثوذكس البيزنطيين. غير ان الغرب توسع بتصوف ألمي لا يعرفه الشرق اطلاقاً وأنشأ تعبداً شعبياً مثل درب الصليب لمرافقة يسوع الى الجلجلة ما جعل بعض مفكريه والروحانيين يتحدثون عن ان الفداء كامن في الدم المهراق نفسه تأسيساً على قراءة ظاهرية للنصوص مثل انه افتدانا بدمه، الامر الذي جعل شعوب الغرب المسيحي تحجب اهمية الفرح الفصحي فإن الفداء كان بالحب وما كان الدم السكيب الا تعبيراً عن محبة الله لنا بيسوع المسيح.

ليست القضية ان نعيّد معاً ولكن ان يكون عندنا نقاط تركيز واحدة وان نصبح قياميين من وقت العشاء الاخير فالى بستان الزيتون والقبض على المعلم ومحاكمته وتعذيبه فموته فدفنه فقيامته. اذكروا جبل التجلي في رواية لوقا حيث كان يسوع مأخوذاً في سحابة المجد ودخلها ايليا وموسى. اذكروا ان النبيين هذين كانا يكلمانه عن "خروجه من اورشليم" اي عن موته. اذكوا: "الآن تمجد ابن الانسان وتمجد الله فيه". هذا ومثيله في ادب يوحنا ما عنى الا الموت. فيه كانت قوة الله وهيمنة الله على قوى الشر في العالم. ليس عندنا موت زائد قيامة ولا قيامة مفرغة من الذبيحة اساساً لها ومنطلقاً. عندنا دائماً موت مليء بضياء الفصح اي موت قاهر للموت. انشودة العيد عندنا مستهلها: "المسيح قام من بين الاموات ووطئ الموت بالموت…".

هذه صارت قناعة فاعلة عند شهدائنا الذين تلقوا آلامهم تحريراً لهم ومثولاً غير مرجأ في حضرة المخلص. جزء من حبك ليسوع الا تهرب من الموت في سبيله اذا طلبت اليك سلطات عاتية ذلك. الشهادة على انك للمسيح هي واجب عندنا والتنكر له وانت في حال الخطر خطيئة رهيبة. هذا الازدراء بالموت كان مؤسساً على انك في الحقيقة لا تموت اذ الخيار بين الاقرار والانكار كان متروكاً لك خلال ثلاثمئة سنة من العصر الروماني.

لا استطيع ان اقنعك بأن قيامة يسوع الناصري حدث من احداث الواقع لان احداً لم يشاهد جثماناً ينتعش فيتحرك فيظهر ويخاطب الناس ويعايشهم فترة من الزمن. عندي فقط وبتواضع بعض الخطوط الدالة على ايمان المسيحيين. عندي اولاً ان التلاميذ لم يستطيعوا ان "يفبركوا" هذه القصة فخلال الكتب المسماة اناجيل ولئن رأيناهم اتباعاً للمعلم الجديد الا اننا كثيراً ما نراهم يشكون فيه وكلهم كان ينتظر ان ينادي هذا الرجل بنفسه ملكاً على اسرائيل. نيتهم الالتحاق به على ما كان فيها من طابع ديني كانت مختلطة بفكرة البعث القومي واثنان منهم على الاقل سمعان الغيور ويهوذا الاسخريوطي جاءا من حركة المقاومة ولعل يأس الاسخريوطي من زعامة يسوع الوطنية كان من الحوافز التي دفعته الى تسليمه. عندنا سوء تفاهم مستمر او متقطع بينه وبينهم الى درجة انهم انصرفوا جميعاً عنه بعدما تم التسليم ما عدا واحداً ينعت نفسه بالتلميذ الحبيب. هذا الابتعاد الكامل عنه ربما دل على انهم يئسوا من كون الرجل لم يكن كما ارادوه. وواحد منهم لم ينزله عن الصليب بل انزله رجل غريب كان من الانصار البعيدين ولكنه لم يكن من مجموعة الاثني عشر. اجل اجتمعوا معاً في العلية خوفاً من اليهود ولكن توضح النصوص انهم كانوا واقعين في احباط شديد. ما كانوا تالياً مهووسين به ولا منتظرين ان يطل عليهم من انبعاث. ان نظرية "فبركة" القيامة ما كانت واردة سيكولوجياً عندهم.

انهم اقتنعوا اذاً بقيامته. ولو لم يقتنعوا لما قاوموا الاضطهاد اليهودي لهم. من يخترع قصة يتخاذل عند الخطر ولا يدخل السجن كما دخلوه.

عندنا حدث ان بعضاً منهم ذهب الى القبر ومن بينهم نسوة كان من التابعات. ووجدوا ان القبر – وكان على شكل مغارة – فارغ من جسد يسوع (نحن لا نسميه جثة ولا جثماناً). وكان الوالي الروماني وضع عسكراً يحرس القبر بناء على الحاح الاحبار الذين قالوا لبيلاطس ان هذا المضل انما قال انه سيقوم. ولم يكن وارداً عند احد من التلاميذ ولا عند النسوة القديسات انه سينبعث حتى يقوموا بسيناريو سرقة الجثمان ودونها الحراسة المشددة.

ثم تتوالى الشهادات على ان الرسل شاهدوا الرجل بعد موته. ان مجرد المشاهدة بحد نفسه غير مقنع. فقد تكون الظاهرة ظاهرة هيستريا جماعية لينقذ التلاميذ انفسهم من الخيبة الرهيبة ولكني بينت ان مسألة تحرره من الموت ما كانت تهمهم لان قناعتهم بكونه مخلصاً روحياً كانت ضعيفة خلال مرافقتهم اياه وتلاشت واقعياً عندما

رأوا ان من ظنوه زعيماً قومياً قد مات على الجلجلة. ليس من امكان سيكولوجي انهم "رتبوا" الحكاية. انهم اقتنعوا ان هذا الذي تراءى لهم عشية اليوم الذي قال الانجيل عنه انه قام فيه كشف لهم جنبه المطعون بحربة ويديه تحملان اثر المسامير هو اياه فآمنوا ان هذا الذي عُلّق على الخشبة هو اياه الذي ظهر لهم في المكان الذي كانوا فيه مجتمعين.

طبعاً هذه الشهادة الكبيرة تحتاج الى شهادات اخرى تدعمها. فإذا أخذنا آخر متى نقرأ انهم رأوه في الجليل. "فلما رأوه سجدوا له ولكن بعضهم شكوا". ان شك البعض يزيد قناعتي انهم لم يكونوا مسحورين بفكرة القيامة. ثم عندك الظهور لمريم المجدلية الذي قد يكون واحداً عند مرقس ويوحنا وتبعه إخبارها التلاميذ بالامر. وعندك شهادة بقية النساء ورواية ظهوره لاثنين كانا ذاهبين الى عمواس ومجالسته اياهما وكسر الخبز امامهما… فالترائي على بحيرة طبرية وهنا ايضاً "ظنوا انهم يرون روحاً". فأراهم يديه ورجليه وتناول منهم "قطعة من سمك مشوي وشيئاً من شهد العسل فأخذ واكل امامهم" واخيراً ظهوره على بحيرة طبرية "ولم يعلم التلاميذ انه يسوع" غير ان التلميذ الحبيب وحده عرف انه يسوع وهذا التلميذ اخبر بطرس. فهذا لم يكن اذاً مستعداً سيكولوجياً للقاء المعلم. حسب الروايات عندك اذاً عملية اقناع ما كانت سهلة.

بعد هذا بعشر سنين او احدى عشرة سنة يشهد بولس ان المعلم ظهر لخمسمئة اخ وليعقوب. بولس المهتدي جديداً وبدا له السيد على طريق دمشق يكون التقط شهادات ممن بقي او بعض من بقي من هؤلاء الخمسمئة.

ما نسميه على وجه التدقيق قيامة اننا مع انسان مات حقاً وشاهده العسكر الروماني ميتاً وبعد هذا شاهده اتباعه حياً يجتمع اليهم ويؤاكلهم ويخاطبهم ويشهدون هم في ما تركوه لنا من كتب انه اكتسب صفة جديدة وهو انه تحرر من قانون المدى اذ دخل عليهم "والابواب مغلقة". تراءى اذاً بالهيئة البشرية العادية. اما كيف "انتعش" هذا الجسد او تحرك فهذا لم يأت عليه كلام وليس هذا هاجس رسالة دينية همها الاوحد في هذا الصدد ان تقول ان الرجل حي "ولن يتسلط عليه الموت". المسيحية ما سعت الى تفسير بيولوجي لتحرك جثمان. قالت فقط ان الله اقام يسوع من بين الاموات لتجعلنا في علاقة بشخص بات حياً الى الابد ونعيش نحن بحياته.

انحصرت العقيدة الانجيلية بهذا ان عندنا مخلصاً تطوّع للموت ولم يرغمه اليهود ولا الرومان عليه ولو دبروه جميعاً وان هذا الموت هو مطرح مجد الله وانتصار المسيح على الموت والخطيئة. حدث القيامة ما اضاف شيئاً الى هذا التعليم لكنه كشفه. ان ظفر المسيح كان كاملاً لما علّق على الخشبة ولذلك قال: "تم واسلم الروح". ادرك المسيح تمام المجد على الجلجلة واكمل الخلاص. حدث القيامة بيّن ان هذا الخلاص تم لان الجسد لم ينتن واوعب المسيح الاحد عشر ومريم والنساء اللواتي حملن الطيب الى القبر والاخوة قوة شهدوا بها للخلاص اي للحرية التي جعلتهم ابناء الله وقادرين بدورهم على ان يعيشوا بها وان يؤسسوا الرسالة والكنيسة عليها.

حن نؤمن بأن قيامة البشر من بين الاموات انما هي ثمرة انبعاث المسيح اسبقوه في الزمن ام لم يسبقوه، أآمنوا به أم لم يؤمنوا وذلك بناء على قوله لمرتا اخت أليعازر: "انا القيامة والحياة".

هذا ما جعل يوحنا الذهبي الفم يقول: "انه قد أخمد الموت حين قبض الموت عليه". ثم يخاطبه: "ان الجحيم قد ذاقت المر لما التقتك اسفل. قد ذاقت المر لانها ابيدت… تناولت جسداً فألفته إلهاً… فأين شوكتك يا موت؟ أين انتصارك يا جحيم… قام المسيح فانبثت الحياة. قام المسيح فليس من ميت في القبور".

نحن نبيت في هذا الفرح. لذلك اذا التقيت أحد المؤمنين بهذه القيامة تقبله ثلاثاً قائلاً: "المسيح قام" فيجيبك "حقاً قام". هذه عندنا كل الحياة