الإنسان الحائر بين الحتميّة والحرِّيَّة

الإنسان مسيِّر:


إن الإنسان بمجرد أن ينظر إلى المؤثرات الّتي تلعب دوراً في حياته يشعر بأن الحرِّيَّة وهم، فهو لا يختار اسمه أو عائلته أو مستواه الاجتماعي أو الاقتصادي أو لون بشرته أو مستوى جماله أو بلده أو لغته… تتحكم فيه الظروف والأحداث اليوميّة، فهو خاضع دائماً لحالته الصحيّة والنفسيّة لدرجة أن العالم النفسي سيجموند فرويد يؤكد أن القدر الأعظم من تصروفاتنا يخضع لمنطقة اللاشعور هذه المنطقة غير الخاضعة لإرادتنا أو لاختياراتنا الحرّة، كما أكد على تأثير خبرات الماضي على نظرتنا وسلوكنا في الحاضر.


كما أن الإنسان خاضع أيضاً للعوامل الوراثة من خلال بنيّة الجينات والكروموزات. وخاضع لثقافته وتراثه الوطني، وللقوانين ، وتربيته فمن نشأ في بيئة متحفظة أو منفتحة أو منتعشة اقتصادياً أو تعاني الفقر يتأثر بذلك، فكل منّا يعكس بيئته، لدرجة أن الفيلسوف  كارل كاركس وصل إلى القول بأن الأوضاع الاقتصادية الشخصيّة والجماعيّة هي التي تشكل تصرفاتنا وتفكيرنا.


والإنسان بحسب مفهوم القدريّة خاضع لمشيئة إلهيّة تأتيه من أعلى وليس عليه سوى الخضوع التام لها… (قصة اللص الّذي عرف المكتوب وحاول الهروب منه فلم يستطع). أضف إلى ذلك ما للآخرين من تأثير مباشر أو غير مباشر على قراراتنا واختياراتنا.


ورغم كلّ ما سبق نختبر أن في الإنسان طوق عارم لتخطي كلّ الحدود، فهو لا يكاد يصل إلى غاية حتى يبدأ اللهث وراء غاية أخرى، (الحاجة أمّ الاختراع، وما كلّ الحضارة التي حولنا إلاّ دليل على ذلك). أي أن الإنسان هو الكائن الوحيد الّذي يُمكن أن نطلق عليه “محطم القيود” كتعبير لشعوره  بأنه حرّ.


 الإنسان مخيّر:


لا يقبل الإنسان مطلقاً أن يوصف بأنه “عبد“، ولذلك لإيمانه العميق بأنه “حر“، وبأن لديه “الإرادة” التي بها يختار ويفعل ما يريده. ورغم كلّ المؤثرات السابق ذكرها لا يُمكن أن ننكر أن هناك اختيارات ومواقف يوميّة تضع الإنسان ذاته أمام حريته وتدعوه إلى موقف حر. فمن ينظر منّا إلى قراراته سيكتشف أن كثير منها لا يُمكن إرجاعه إلى المؤثرات السابق ذكرها، وهذا ما يجعلنا نقول: “هذا فعلى وأنا مسؤول تماماً عنه“. 


ومن ثمَّ فكل منا حرٌّ في علاقاته الشخصية، وفي مواقف الصداقة الحقيقية والعميقة أو الحب الصحيح. حرّ في ضميره، وفي قراراته المصيريّة  (زواج. تكريس. عمل) ومواقفه، حرٌّ في أفعاله الخيّرة أو الشريرة (الخطيئة دليل على الحرِّيَّة) “وضعت أمامك الخير والشر، اختر الخير فتحيَّ”، حرٌّ في معتقداته، حرٌّ في تفكيره، حرٌّ في سلوكه اليومي (لبس، مأكل…). حرٌّ رغم حدوده.


إن الحرِّيَّة ليست وهماً أو سراباً نلهث ورائه، ولكنها خبرة مسؤوليّة غالباً ما نخاف ونهرب منها… (آدم وحواء، وداود الّذي يهرب من مسؤوليّة خطيئته بخطيئة أبشع)


تعريف الحرِّيَّة:


التعريف الأول: الحرِّيَّة هي المقدرة على “الاختيار“، المقدرة على فعل شيء أو الامتناع عن فعله. فالحرِّيَّة هنا هي ملكة الاختيار دون أدنى باعث. (خطورة هذا التعريف، رغم انتشاره، في أنه يقود “لعدم الاكتراث” وإلى “الأنا ماليّة”)


التعريف الثاني: الحرِّيَّة هي “الاستقلال“، في القرارات وفي طريقة الحياة، دون تأثير من الآخرين لا سيما المسؤولين (خطورة هذا التعريف: إبعاد الآخر القريب أو الآخر المطلق “إما وإما”). وكثيرا ما نخلط بين الحرِّيَّة والاستقلاليّة، من حيت أن الاستقلاليّة ليست سوى حرِّيَّة سلبية (فالشخص الّذي يتخذ مبدأ “خالف تعرف” هو أكثر الأشخاص افتقاراً للحرِّيَّة ـ وكذلك من يرفض ما أصطلح عليه الناس، فيرفض كلّ التقاليد والأعراف والوصايا إيمانا منه بأنه لن يفعل إلاّ ما يؤمن به هو؛ فيسقط بذلك في فخ المعارضة، والهدم، والعدوان، ومن ثمّ يصير إلى الانغلاق فالتحجر) لا حرِّيَّة بدون علاقة مع الأخر.


ملحوظة: المقدرة على الاختبار والاستقلالية لا غنى عنهما في طريق التحرر، هذا إذا كانا خطواتين في طريق التحرر وليس غايتين.


التعريف المسيحي للحرِّيَّة:


       ·   الحرِّيَّة هي توجيه كلّ الإمكانيات نحو الخير وليست في الاختيار بين الخير والشر، لأن الخير هو ما يوافق طبيعة الإنسان المخلوق على صورة الله ومثاله. وبعبارة أخرى: الحرَّيِّة هي اتجاه الإنسان الواعي والمختار نحو خيره الحقيقي ونحو إتمام دعوته الإنسانية، أي نحو الله.


                    ·       الحرِّيَّة هي الموقف الّذي ينبع من الداخل ولا يفرض أو يعطى من الخارج.


                    ·       الحرِّيَّة ليست إثبات شيء قد منح لنا بقدر ما هي تقرير لمهمة علينا أن نعمل على تحقيقها.


       ·   الحرِّيَّة ليست واقعة علينا تقبلها على الرغم منّا، أو حقيقة لا نملك إلاّ الخضوع لها، بل هي مسيرة شاقة ومتعبة، الكل مدعو لها ولكن لا يستطيع أن يصل إليها سوى قليلون، “الناس يطربون للقول بأنهم أحرار، ولكنهم لا يعرفون أنه ليس أشق عليهم من أن يتحرروا بالفعل”. وبالتالي ليس المهم السؤال هل أنا حر أم لا؟ بل السؤال هل أنا أقبل، أستطيع، أريد، أتحمل أن أكون حرّاً؟… وبعبارة أحرى: الحرِّيَّة كسب لابد لنا من أن نعمل على إحرازه.


       ·   الحرِّيَّة ليست مرادف للمزاجيّة والأنا ماليّة، بل نقيد لهما، فالحرية الحقيقية هي تلك التي  تقوم على الانتباه للآخر لذاته، فمن لا يخرج من نفسه لا يستطيع أن ينعم بالحرَّيِّة.


خصائص الحرِّيَّة:


   1.    نسبية: الإنسان مخلوق، وليس خالق وبالتالي فحريته نسبية وليست مطلقة.


 2. إمكانيّة: النعم الإلهية لا تعطى جاهزة، بل تقدم كبذور على الشخص أن يختار بحريته، أن يزرعها ويرعاها، أو أن يتركها ويتنساها. (قصة دكان الفضائل).


   3.   شخصية: تنبع من الشخص، ولا يُمكن أن تفرض عليه (لا حرِّيَّة ولكن تحرر).


 4. مخلوقة: الإنسان مخلوق، أي ليس هو مصدر ذاته ولا مصدر حرِّيَّته، وكما أنه يستمد من الله حياته كذلك يستمد منه حريته وبعبارة أخرى ليس الاقتراب من الله إنقاصاً للحرِّيَّة بل إنماءً لها.


   5.   مشروطة: فمن لا يعمل لأجل إنما حريته تبقى حريته مدفونة تحت شماعة المؤثرات الخارجيّة.


   6.   غاية: ليست حالة نصل إليها بل فعل نقوم به. حالة ننشدها طوال حياتنا وليست محطة نصل إليها.


 


الطريق إلى الحرَّيِّة أو كيف أصبح حرّاً؟


        المسيحيّة هي دين الحرِّيَّة  “لقد دعيتم إلى الحرِّيَّة” (غل5/13) حرِّيَّة تصدر عن الروح “فحيث يكون روح الله، هناك تكون الحرِّيَّة” (2كو3/17). حرِّيَّة تنبع من الحقيقة “الحق يحرركم”(يو8/32)، حرِّيَّة تنتج من الإيمان بالله ومن الابتعاد عن الخطيئة “لأن من يفعل الخطيئة فهو عبد للخطيئة”. ولكن السؤال الآن: متى أكون حراً؟، وما الّذي يجعلني حراً؟ وكيف أكون حراً؟…


1. تحمل مسؤوليّة أفعالنا: لأن الهروب من المسؤوليّة يعيق نمو الحرِّيَّة ولكنه لا يستطيع قتلها بداخلنا، فقد خلقنا الله أحراراً، ومن ثمَّ فحريتنا – كما يقول سارتر – هي الشيء الوحيد الّذي ليس لنا الحرِّيَّة في التخلي عنه. تحمل المسؤوليّة يعني خلع شماعة الوراثة، والبيئة، والمجتمع، والقدر، والقضاء الإلهي، والشيطان الشاطر…  لتفسير أفعالنا وتبرير مظاهر ضعفنا، (مَثل: الطفل الّذي يسقط على الأرض، نجري عليه ونضرب الأرض، وكأنها المسؤولة؛ فنزرع فيه أنه ليس السبب…).


2. التخلص من القَدَريّة: والإيمان بأننا لسنا ألاعيب في يد الظروف تحركنا كيفما شاءت، ولكننا خلقنا ولدينا المقدرة العجيبة على تخطي الحدود، فالإنسان كباقي المخلوقات خاضع لمجموعة القوى والقوانين الطبيعية، ولكنه الكائن الوحيد الّذي لديه الجرأة على التدخل في مجرى تلك العوامل. . والتخلص من “القدريّة السلبيّة” يعنى أن “تعمل مائة بالمائة وكأنك كلّ شيء والله غير موجود، وتترك لله مائة بالمائة وكأن الله كلّ شيء وأنت غير موجود”.


3. الإيمان بأني حر: فالحرِّيَّة لا تصير حقيقة واقعية إلاّ إذا آمنا بها، الحرِّيَّة وليدة اعتقادنا بالحرِّيَّة، بدليل أن الشخص الّذي يؤمن بأنه حر يختلف تصرفه عن من يؤمن بأنه مجبر. فأكبر جريمة قد يرتكبها الإنسان في حق ذاته وحق طبيعته الإنسانية هي الاستسلام اليائس لما يحدث، وبعبارة أخرى هي قتل الإرادة الصالحة بداخله (اختيار عدم الاختبار).


4.  عيش الإيمان: فمن لا إيمان له لا حرِّيَّة له. والكتاب المقدس لا يركز على شيء بقدر تركيزه على كون الله هو المحرر، وشعب إسرائيل عرف الله عندما حرره الله؛ فاعتبر حدث الخروج من مصر هو حدث الأحداث، الحدث المؤسس للشعب. والله عندما يخاطب الشعب لا يقول: “أنا خلقتك”، بل يقول: “أنا حررتك”، “أنا الّذي أخرجك من أرض مصر أرض العبوديّة”. والإنسان مخلوق على صورة ومثال الله وبالتالي حر (آدم يسمي المخلوقات). والإيمان بمعنى الاقتراب من الله هو شرط أساسي للتحرر وذلك “لأن الله هو الكائن الوحيد الحر حرِّيَّة مطلقة، وأما الموجودات المخلوقة فهي ليست حرة إلاّ بقدر اقترابها منه، بقدر تحررها من كلّ ما يبعد عنه من خطايا”.


الخلاصة: الإنسان الحائر بين الحتميّة والحرِّيَّة:


يتضح مما سبق أن الإنسان يخضع لمؤثرات خارجيّة مثله مثل سائر المخلوقات ولكنه في الوقت ذاته ليس أثيراً لهذه المؤثرات… (فغرائزه لا تتحكم فيه كما الحال بالنسبة لباقي الحيوانات). والعلوم  الإنسانيّة التي أوضحت قوة المؤثرات الخارجية على الإنسان، هي ذاتها أكدت أن الإنسان ليس هو ذلك الكائن الزئبقي الّذي لا يُمكن لمؤثر ما مهما عظم أن يسجنه تماما… (آلاف الأمثال على أناس تخطوا حدودهم). أي أن الإنسان رغم كلّ المؤثرات الخارجيّة مدعو إلى الحرِّيَّة ، ومن ثمّ فالحرِّيَّة دعوة وليست أمرا جاهزا. الحرِّيَّة إمكانية كامنة فينا يُمكننا تنميّتها ويُمكننا الهرب منها، ولكن لا يُمكننا قتلها.


وبالتالي فلإجابة عن السؤال: هل الإنسان مسيّر أم مخيّر؟ هي أن الإنسان لديّه قدر من الحرِّيَّة في حتمياته، وقدر من الحتميّة في حريّاته، فالحتميات جزء لا يتجزأ من الحرِّيَّة، لدرجة أن الحرِّيَّة لا تفهم إلاّ بحدودها، كما أن النور لا معنى له إلاّ بوجود الظلام، فحدود الحرِّيَّة هي بعينها شروطها، فبدون العقبات التي تصطدم بها الإرادة لا يُمكن أن تنمو، وبدون نمو الإرادة تُمسي الحرِّيَّة مجرد كلمة لا مضمون لها. فالوجود الإنساني من حيث هو خاضع للزمان، والتردد، والصراع، والأزمات هو وجود محدود؛ والحرِّيَّة الإنسانية ليست خارجاً عن هذه الحدود، ومن ثَمَّ فهي محدودة وغير مطلقة، بل مجاهدة لا بد لها من أن تمر بمرحلة الصراع والتناقض، حتى تصل لنضجها.


ليس المهم أنا حر أم لا بل المهم هل أقبل أن أكون حرا؟


هل أقبل أن تسير على طريق الحرِّيَّة؟  هل أقبل مغامرة النمو نحو الحرِّيَّة؟


{لدى الإنسان حرِّيّة في حتمياته، وحدود في حريته}


أنا حر


أنا حر عندما لا أعمل فقط ما أحب، ولكن عندما أحب حقيقة ما أعمل.


أنا حر عندما أؤمن بأن الله هو مصدر وضمان حريتي.


أنا حر عندما أقبل حرِّيَّة الآخرين.


أنا حر عندما أذعن في حياتي لسلطان الضمير.


أنا حر إذا كانت شريعتي الوحيدة هي المحبّة.


أنا حر إذا كنت لا أبيع حريتي لعادة، أو لسيجارة، أو لشهوة.


أنا حر إذا كنت أؤمن بأن الله أعظم من خطيئتي.


أنا حر إذا كان بإمكاني أن أفرق بين السلطة والتسلط.


أنا حر عندما أقبل الآخرين كما هم لا كما أريدهم أن يكونوا.


أنا حر إذا كنت أستطيع أن أغفر لمن أساء في حقي.


أنا حر إذا خلت حياتي من أصنام: المال، الشهوة، الأنانية…


أنا حر عندما أختار فعل الخير، لأنه ما يوافق طبيعتي.


أنا حر إذا كنت أحبّ دون أن أمتلك من أحب.


أنا حر عندما لا أؤمن بالقدريّة، بل أؤمن بالله


        الّذي أوكل إليّ مهمة لا يُمكن أن ينفذها غيري.


أنا حر إذا كنت أؤمن بأني مدعوا لأن أكون حراً.


أنا حر إذا أؤمن بأن المؤثرات الخارجيّة رغم قوتها ليست سدودا


        بقدر كونها فرصة لتنمية وتحقيق حريتي.


الأب يوأنس لحظي جيد