الحياة قضية إيمانية

فما أن انتهت الحرب العالمية الأولى حتى قام هذا الجندي مع بعض رفاقه بتأسيس حزب العمّال الاشتراكي الوطني – وهو الحزب الخطير الذي أصبح معروفاً فيما بعد بالحزب النازي. ومرّت سنوات من الصراعات والمؤامرات والاعتقالات، وانتهت بوصول هتلر إلى مقعد الرئاسة! فأقام ديكتاتورية صارمة، ووضع ألمانيا بجميع هيئاتها تحت إشرافه الشخصي وحكمه المطلق. وكان عام 1934 هو عام الإرهاب وحمامات الدماء، فقد أقام معسكرات الاعتقال التي زج فيها بكل معارضيه.وفي تلك الفترة أملت حكومة هتلر تعليماتها على جميع قادة الفكر والإعلاميين ورجال الدين وغيرهم، أن يزرعوا في قلب الشعب الألماني المبادئ العنصرية التي تنادي بها القيادة النازية، وأن يقووا إحساسهم بالتميّز، ويدعوهم إلى تحقير وكراهية الآخرين!

وتحت وطأة البطش والاضطهاد والتنكيل، انحرف الكثيرون وراء النازية الغاشمة، وفقد الكثيرون إنسانيتهم، وتوارى المصلحون وراء جدران الخوف والصمت، وبقى رجل واحد من رجال الدين يدعى ” مارتن نيمولر” رفض الانصياع للديكتاتورية الهتلرية، وقال:” إن الله يحب البشر جميعاً على اختلاف أجناسهم وألوانهم،  وهو يدعونا للحب وليس للكراهية، وينبغي علينا أن نطيع الله أكثر من الناس”!وكانت هذه الكلمات الصريحة القوية الداعية إلى الحب والأخاء والمساواة بين البشر، تعني أن نيمولر يتحدى هتلر ذاته، بل ويدعو الناس إلى الوقوف في وجه التمييز العنصري الذي يتبناه الفوهرر! وكان من الطبيعي أن يُقبض على نيمولر، ويُنتزع من بيته ومن بين أولاده ليُلقى به في أحد معسكرات الاعتقال الرهيبة، حيث كان المتوحشون والانتهازيون من زعماء النازية يتبارون في التنكيل بالمفكرين. وفي داخل المعسكر ظن النازيون أن نيمولر سيتعلّم الدرس وسيسكت ملتمساً العفو، ولكن شيئاً من ذلك لم يحدث، فمنذ ألقي القبض عليه صارت المناداة” بالحب الإلهي لكل البشر” هي قضيته التي وهب لها بقية عمره!!

وقرر القادة النازيون اسكاته، فنقلوه إلى سجن انفرادي حتى لا يتحدث إلى أحد. لكن نيمولر كان يطل من نافذة زنزانته الضيقة وينادي المساجين، ويعلن لهم دعوة الحب الإلهي! وأغلقت قيادة السجن نافذة الزنزانة بألواح من الخشب، وتركت الرجل يعيش في ظلام دامس بالليل والنهار، لكن القضية التي نذر لها عمره ظلت هي النور الذي يضئ له زنزانته، فكان يتصنّت وقع أقدام العابرين خارج الزنزانة، وحين يشعر بمرورهم قرب النافذة المغلقة، يرفع صوته قائلاً لهم:” أيّها السجناء تشجعوا فإن الله لن ينساكم”!

واستمر نيمولر يفعل ذلك ثمان سنوات في ظلام السجن الكئيب محروماً من حريته ومن بيته وأبنائه، ومن أبسط حقوقه الآدمية! وبعد ثمان سنوات في الزنزانة المظلمة، انتهت الحرب وسقطت النازية، وفي صباح أحد أيام شهر يونية 1945، دخل السجن ضابط أمريكي، وفتح باب الزنزانة، وقبّل السجين، ثم دعى الجنود وقال لهم:” حيوا هذا البطل الذي عاش وتألم وتعذّب، ولم يفرّط في قضيته العظيمة التي وهب لها عمره.


 


عن هو وهي 273 يونية 2000