إذا تكلم خمس دقائق زيادة عن المعتاد، قالوا عنه: “إنه كثير الكلام“، وإذا كان قليل الكلام اتهموه بأن الله لم يهبه موهبة الكلام.
إذا أكل عند أحد العائلات، قالوا عنه: “إنه أكول“، وإذا لم يأكل اتهموه بالكبرياء والتعالي.
إذا تكلم عن تبرعات، من أجل الكنيسة أو الفقراء… قالوا عنه: “إنه مادي“، وإذا لم يتكلم اتهموه بأنه لا يهتم بالكنيسة أو بالفقراء…
إذا اهتم بفئة أو بشخص أو بجماعة محتاجة، قالوا عنه: “إنه يميّز بين الناس“، وإذا اهتم بالجميع، وعامل الجميع بطريقة واحدة، اتهموه بالسطحيّة.
إذا كان قريباً من رؤسائه محبوباً منهم، قالوا عنه: “إنه وصولي“، وإذا كان بعيداً عن مركز القيادة اتهموه بالجفاء.
إذا عاتب خاطئاً، قالوا عنه: “إنه قاسي“، وإذا لم يعاتب اتهموه بالتساهليّة.
إذا خاطب الناس بلغة العقل، قالوا عنه: “إنه متحذلق“، إذا قال المعتاد اتهموه بالتحجر.
إذا أخذ موقفاً ثابتاً، قالوا عنه: “إنه متطرف“، وإذا اتبع منهج الحياد اتهموه بالفتور.
إذا صلى كثيراً، قالوا عنه: “إنه يحيا في كوكب أخر“، وإذا عمِل أعمالاً كثيرة اتهموه بعدم الروحانيّة.
إذا وزع المسؤوليات والخدمات، قالوا عنه: “إنه كسلان“، وإذا اهتم بكل شيء اتهموه بالانفراديّة.
إذا نجح أحد الكهنة، قالوا عنه: “إن هذا الكاهن ناجح“، وإذا أخطأ كاهن اتهموا كلّ الكهنة بالفساد.
إذا كان صاحب ابتسامة وبشاشة، قالوا عنه: “إنه غير جاد“، وإذا اتخذ الجديّة منهجاً اتهموه بالجفاء.
وكل هذا يؤكد مقدار ما للكاهن من أهمية وكرامة، ومقدار ما عليه من مسؤولية. ويوضح في ذات الوقت:
1. أن كهنوت الكاهن هو امتداد لكهنوت المسيح؛ لأنه، كما قال المسيح ذاته، “ليس التلميذ أفضل من المعلم و لا العبد أفضل من سيدّه”(متى 10 : 24)، وقال أيضاً:” لأنه إن كانوا بالعود الرطبّ يفعلون هذا، فماذا يكون باليابس”(لوقا 23 : 31). فإن كان المسيح وهو الكاهن الأعظم، قيل عنه: “جاء ابن الإنسان يأكل ويشرب فيقولون هوذا إنسان أكول وشريب خمر محبّ للعشارين والخطاة”(متى 11 : 19)، فكيف لا يكون الشيء ذاته لمن يختار المسيح قائداً.
2. أن من يبحث عن إرضاء الناس، يحيا حياة ملؤها الشقاء والشعور بالألم، لأنه لا يستطيع إنسان مهما وهبه الله من مواهب وخصال، أن يرضى جميع الناس. وفوق كلّ ذلك يجب الإيمان بأن القاعدة الَّتي يجب أن يتخذها الكاهن هي: “ينبغي أن يطاع الله اكثر من الناس”(أع 5 : 29).
3. أن الكاهن مسؤول بحياته قبل كلماته عن كلّ الجسد الكهنوتي، بمعنى أن الكاهن الَّذي يتقدس يقدس كلَّ الجسد الكهنوتي ومن ثمَّ كلَّ الكنيسة، والذي يخطئ يكون سبباً في إلام كلّ الجسد.
4. أن الكاهن بدون معونة الله سرعان ما سيتسرب اليأس إلى قلبه، وسرعان ما سيقول: “زمرنا لكم فلم ترقصوا، نحنا لكم فلم تبكوا”(لوقا 7 : 32)، وبالتالي “لا فائدة”. واليأس هو تلك الخطيئة الموجهة للروح القدس، أي تلك الخطيئة الَّتي لا تُغفر، لأن مَنْ ييأس هو إنسان لا رجاء له ولا إيمان ولا فائدة منه.
5. أن الكهنوت مرتبط في أذهان الناس بالله، لدرجة أن الناس إذا أحبوا الكاهن أحبوا الله، وأحبوا الكنيسة، ومارسوا إيمانهم، وإذا كرهوا الكاهن كرهوا الله والكنيسة وكفوا عن الصلاة.
6. أن أسطورة “الكاهن العارف بكلِّ شيء” قد انهارت؛ فالكاهن الَّذي يدّعي العلم بكل شيء سرعان ما سينكشف أمام شعبِه، وسرعان ما سينعته شعبُّه بالكاذب والمضلل.
7. أن على الكاهن أن يترك دائماً بينه وبين من يرعاهم “مسافة من الاحترام“، فالكاهن الَّذي باسم البساطة يهدّم حائط الاحترام، هو أكثر الكهنة شقاءً. وبعبارة أخرى، إذا لم يترك الكاهن مسافة من الاحترام بينه وبين كلّ أفراد الرعيّة، حتى أرفعهم علّماً وثقافة وروحانيّة، (مسافة من الاحترام وليس من التعالي أو التباهي)؛ سيفقد حتماً وسريعاً سلطته التعليمية، أي سلطته كمعلم وكمرشد وكأب وكقائد، لأن المعلم إذا هبطَّ بمستواه إلى مستوى الطالب قاد الطالب إلى هبوط أعظم وانحطاط أشد.
8. أن لا ينسى الكاهن أنه عندما يفعل أيَّ شيء، إنّما يفعله ككاهن، أي أنه، على سبيل المثال، عندما يضحك أو يقود الرعيّة في السَّمر، يفعل ذلك لهدف تربوي (خلافاً للآخرين الَّذين يقومون بذلك بهدف الانشراح والانبساط)، أي أنه يقوم بالضحك ليوصل من خلال الابتسامة ما لا يستطيع أن يوصله من فوق المنبر، وليوصل بطريقة أبسط مفاهيماً وقيماً يصعب توصيلها بالطرق المباشرة، أي ليوصل الحقيقة (المسيح).
9. أن يعي الكاهن أن عبارة “الشعب لا يفعل شيئاً إلَّا بالعودة إليَّ“، هي عبارة لا تعبر إلَّا عن رعيّة هزيلة لا رأي لها، وعن راعي منتفخ من ذاته. فالخطيئة الكهنوتيّة العظمى هي قيادة الشعب ليقول: “سمعاً وطاعة”، “الَّذي تراه يا أبونا”… لأن القائد الحقيقي هو الَّذي يقود مَنْ أُؤتمن عليهم إلى القيادة الذاتيّة، والمعلمُ الحقيقي هو ذاك الَّذي يقود مَنْ يعلمَّهم إلى الاستغناء عنه، والراعي الحقيقي هو ذاك الَّذي يرعى شعبه إلى أن يكونوا أصحاب رأي ورؤية؛ ومن البديهي أنه لا يستطيع أن يقوم بذلك إلَّا مَنْ امتلاء بالمسيح، مَنْ أفرغ ذاته من أنانيته، ومن تلك الرغبة (الَّتي غالباً ما تأتي بأشكال مقدسة) في جعل الآخرين في حاجة دائمة إليّه.
10. أخيراً أن الكاهن محتاج إلى ضمير مستقيم، ضمير يستطيع ألَّا يفقد الرؤية عندما يتلبد الجو بالغيوم، ضمير يستطيع أن يرى الحقيقة، عندما ينغمس الجميع في الباطل، ضمير مثل النور في أوقات الظلام، ضمير مثل الصديق عند الإحساس بالوحدة، ضمير قوي كالقائد وديع كالأم، ضمير يسكنه حب الله، وحب الآخر، لأن كاهن بلا حب هو كاهن بلا الله، وأخيراً ضمير يستطيع أن يقول:”له ينبغي أن يزيد، ولي ينبغي أن أنقص”. وضمير كهذا لا يُمكننا الحصول عليه بالتمني وإنما بالعمل الدؤوب وبالصلاة الحارة وبالانفتاح على نعمة الله، وبالثقة في من قال “قد كلمتكم بهذا ليكون لكم فيَّ سلام، في العالم سيكون لكم ضيق و لكن ثقوا أنا قد غلبت العالم” (يو16 :33).
بقلم الأب يوأنس لحظي جيد