الـشهـادة المـسيحية في الـشرق الأوسط

الى ذلك، تتنامى الاصولية الدينية وتحتل العقول والافئدة. يهود ومسلمون ومسيحيون مسحورو الالباب بالخطاب التكفيري الذي يحارب كل فكر يتناول التعددية الدينية، فالخطاب المهيمن هو الخطاب الذي يقسم العالم الى قسمين (او فسطاطين كما يحلو للبعض ان يقول): المخلّصون او الناجون من جهة واصحاب النار من جهة اخرى. الخير والشر، الايمان والكفر، الامة البارة والامم المارقة، دار الحرب ودار السلم… ثنائية لا ترى الا لونين لا ثالث لهما: اما الابيض واما الاسود.


هذا كله، والحديث عن العولمة والتنظير في شأنها في واد، وواقعنا في واد آخر تفصل بينهما محيطات اذا شئت قطعها للزمك آلاف السنين في احسن الاحوال واكثرها تفاؤلا. والهوة تزداد غوراً، يوما بعد يوم.


نحن نعلم ان المسيحيين موجودون منذ بدء المسيحية والى اليوم في كل بلاد الشرق الاوسط. ونذكر هنا البلاد التي يشكل المسيحيون فيها جزءا لا يتجزأ من نسيج سكانها الاصليين: مصر، السودان، سوريا، فلسطين، اسرائيل، الاردن، العراق، ايران، تركيا. لسنا نملك عنهم معلومات في شأن عددهم ونسبتهم الى اجمالي عدد السكان. فاذا كان العدد، في علوم الرياضيات، حقيقة لا لبس فيها، فهو، عند عرب اليوم، رأي او وجهة نظر، كاستفتاءاتهم وانتخاباتهم وميزانياتهم. لذلك، تتراوح اعداد المسيحيين في العالم العربي بين حدين اقصى وادنى بحسب غايات من يعلنها او ينشرها وما يهدف اليه من خلالها. ولأن الارقام ليست دقيقة لن ندخل فيها(1).


مع ذلك، يقول الدكتور طارق متري ان مجموعة من المختصين والكتّاب قدّرت نسبة المسيحيين الى مجموع السوريين واللبنانيين والاردنيين والفلسطينيين المقيمين بنحو العشر في المئة. ويعزو الدكتور متري تدني عدد المسيحيين في المشرق العربي، الذي كان يقدر في بداية القرن العشرين بنحو ربع السكان الى اسباب عدة تختلف باختلاف الحقب والانتماء المناطقي. فيرفض متري اختزال اسباب التدني الى انخفاض معدلات الخصوبة عند المسيحيين وارتفاع معدلات الهجرة بسبب الشعور المتزايد بالغربة والقلق على المصير(2).


ويولي الدكتور متري، في حديثه عن الهجرة، العوامل الاقتصادية اهمية كبرى. فالهجرة المسيحية في بداية القرن العشرين لا يمكن فصلها عن تزايد المسيحيين العددي وعن تحسن اوضاعهم المعيشية، “فقد تسارعت (الهجرة) حين بات الوضع الاقتصادي غير قادر على تحمل تبعات ذلك التزايد، واتسع التفاوت بين نمو الاقتصاد المحلي ومتطلبات الناس الجديدة”. اما هجرة الستينيات من القرن المنصرم “فانها تغذّت بدورها من الرغبة في الارتقاء الاقتصادي. وانعكس نمو ازدهار الاقتصاد او ركوده على تراجع حدة الهجرة او تصاعدها(3).


لا ننسى ايضا ان قيام دولة اسرائيل هو السبب الرئيسي في هجرة معظم الفلسطينيين او في تهجيرهم. وفي لبنان ساهمت الحرب التي استمرت ستة عشر عاما في تشجيع اللبنانيين، وبخاصة المسيحيين منهم، على الهجرة. هذا اذا لم نذكر المجازر التي ذهب ضحيتها الارمن والسريان والاشوريون والروم والارثوذكس في تركيا الناشئة على رماد الدولة العثمانية، مما دفع الناجين من هول هذه المجازر، الى اللجوء الى بلاد الجوار (سوريا ولبنان خصوصا)، او الى طلب الهجرة الى القارتين الاوروبية والاميركية.


رغم تدني عدد المسيحيين، فاننا نشهد في جميع الكنائس المسيحية في الشرق الاوسط نهضة روحية ودينية تتجلى في الحركات الشبيبية الملتزمة بايمان كنائسها وعباداتها وممارساتها. كما تشهد هذه الكنائس نهضة ثقافية دينية من حيث التعليم الديني والنشر والاعلام، قد يكون للبعض بعض المآخذ عليها لتحسين ادائها وفاعليتها هنا وثمة. وقد ادى تأسيس مجلس كنائس الشرق الاوسط الى التقريب بين المسيحيين في مختلف مذاهبهم، والى السعي الجدي لاستعادة الوحدة في ما بينها للشهادة للمسيح في كنيسة واحدة مرئية.


ونشهد، اليوم، بالاضافة الى كل ذلك تراجعا للحضور المسيحي في الحياة العامة. فالمجالات المشتركة التي يمكن ان تجمع المسلمين والمسيحيين في عمل مشترك فشلت في بناء دولة الانسان والديموقراطية والحرية والمواطنة والنهضة العلمية والثقافية وتحرير فلسطين… وادت في الآن عينه الى احباطات كثيرة. بل ان الدول التي رفعت هذه الشعارات تحولت الى ديكتاتوريات لا تطاق. وهو ما زيّن للناس ان الاصولية الدينية هي الحل الامثل لكل المشاكل.


وثمة ظاهرة ايجابية هي ظاهرة الحوار الاسلامي المسيحي ومؤسساته، على الصعيدين الاكاديمي والشأن العام. فالحوار سمة من سمات عصرنا الحاضر، وهو يفترض المعرفة والاحترام المتبادلين، والسعي معا من اجل حياة افضل في الوطن الواحد مع الشريك. وشريك المسيحي في هذا الامر ليس سوى المسلم. لهذا، نشهد نهضة كبرى على هذا الصعيد: مراكز الابحاث والدراسات المسيحية الاسلامية، اللجنة الوطنية للحوار الاسلامي المسيحي في لبنان، والفريق العربي الاسلامي المسيحي للحوار الذي انشىء بمبادرة من مجلس كنائس الشرق الاوسط ويضم مفكرين مسلمين ومسيحيين من مصر وسوريا ولبنان وفلسطين والاردن والسودان.


بعد هذا العرض الذي لا يدّعي الشمولية، بل الاختصار والاشارة الى بعض مواضع الجرح، ماذا عسى هذا القطيع الصغير ان يفعل؟ ثمة الكثير. ولكن بداية الجواب تكمن في مدى رؤية المسيحيين لدورهم في هذا الشرق. فدور المسيحيين الشرقيين ينطلق اولا من ايمانهم بأهمية حضورهم في الشرق، ومن تكلمهم بلغة القرآن الكريم، كتاب المسلمين. ونقول بأهمية حضورهم، ذلك ان الحضور هو غير الوجود، فإمكان الوجود من دون الحضور قائم. ويجب، تاليا، الا يكون وجود المسيحيين في الشرق العربي مجرد تراكم اعداد، او متاحف، او ذكريات، او تقاليد. عليهم ان يكونوا فاعلين في حياة اوطانهم من خلال انخراطهم في قضايا بلادهم وشعوبهم.


فعندما يحكى عن المسيحية الشرقية لا يكون المقصود مسيحية واحدة، بل مسيحيات عدة، تنطق في عباداتها بلغات مختلفة: عربية، ارمنية، سريانية، يونانية، قبطية… وتحمل كل منها في تراثها خصوصيات تميزها عن الاخرى. كما تطبعت كل منها بحضارة الارض التي نشأت فيها وانتشرت، وهكذا نجد ان كل منطقة من مناطق الشرق الاوسط كان لها مسيحيتها وتراثها.


غير ان ابناء الشرق الاوسط من كل الطوائف المسيحية باتوا ينطقون بالعربية ويتواصلون مع مواطنيهم غير المسيحيين باللغة ذاتها. فتقاسم الجميع، مسلمين ومسيحيين، مصيراً مشتركاً واحداً منذ نشأة الدين الاسلامي. وتبنّى معظم المسيحيين العروبة كقاسم مشترك مع مواطنيهم المسلمين ضد تتريك المنطقة، ثم ضد الانتدابات الاوروبية وضد الكيان الاسرائيلي الذي كانت لهم في مواجهته مطالعات لاهوتية تدحض مزاعم اليهود والمسيحيين المتصهينين في حقية انشاء دولة اسرائيل كتحقيق لنبوءات العهد العتيق. ذلك ان المسيحيين لا ينتظرون تحقيق اي نبوءة وردت في العهد العتيق، اذ يعتبرون ان ولادة المسيح حققت كل نبوءات ذلك العهد، وبدأ بالمسيح عهد جديد لا يقوم على التمييز العرقي او الاثني او القومي.


من هنا، تكون الشهادة للمسيح في التزامنا، كمسيحيين، الانسان العربي للرفع من شأنه ورفع الظل عنه وارساء قيم السلام والعدالة والحرية والتكافل الاجتماعي في اوطاننا، ومواجهة الذين يصورون للناس ان المسيحية يمكن ان يكون لها وجه متصهين قبيح، يتمثل في ابشع صوره في دعم الكيان الاسرائيلي، وفي بعض توجهات الكنائس الاميركية المتأثرة بالصهيونية وبالسياسة الاسرائيلية العنصرية. وهنا ينبغي الاشادة بجهود جميع كنائس الشرق الاوسط، ولاسيما الكنائس الانجيلية العربية، التي ساهمت وما زالت تساهم في تصحيح صورة كنيسة المسيح المشوّهة في العالم العربي.


لذلك، تفترض شهادتنا الالتزام بقضايا هذه المنطقة التي جعلنا الله فيها خميرة طيبة. وهذا يفترض انخراطنا في الشأن العام وعدم انكفائنا وانعزالنا عن هذه القضايا. فنحن مسؤولون عن اوطاننا بالقدر نفسه الذي يجد فيه المسلمون انفسهم مسؤولين عنها او اكثر، ولو كنا قلة قليلة، فالملح هو الذي يمنح النكهة للطعام. ذلك ان المسيحيين هم ابناء هذه الحضارة المكونة من المدن والقرى والصحارى والجبال والانهار والوديان، وليس لمن يختار الانعزال حياة في عالم اليوم. ولنا في مجموعة الدول الاوروبية درس ايجابي يعيننا على عدم الانكفاء وراء حدود صنعها التاريخ، تشتت طاقاتنا وتقهقر اقتصاداتنا… على المسيحيين ان يبقوا المبادرين الى لم شمل العرب في اطار واحد، قوامه الحرية والديموقراطية والحياة الكريمة.


انطلاقا من ذلك، نرى ان للمسيحيين الشرقيين دورا كبيراً يلعبونه في المنطقة وفي العالم، وخصوصا في مرحلة ما بعد الحادي عشر من ايلول .2001 فما جرى لا علاقة له بالاسلام ولا بالمسيحية من حيث هما دينان يأمران بعدم الاعتداء والقتل المجاني. ولكن ما صوّره طرفا الصراع (اذا كان ثمة طرفان) واراداه، وعملت وسائل الاعلام على ابرازه، انما هو تحويل هذا الصراع الى صراع بين الاديان. دور المسيحيين العرب يكمن اساسا في تصحيح هذه الصورة عند المسيحيين الغربيين. تاريخ “العيش معا، مسلمين ومسيحيين، اكبر حجة ضد ما يتهم به الاسلام من عدم التسامح والارهاب. فالمسيحيون الشرقيون يمتد وجودهم الى ما قبل نشأة الاسلام. واستمروا في بلدانهم رغم الحكم الاسلامي، واعتبر المسيحيون انفسهم خلال التاريخ انهم والمسلمون ابناء هذه البلاد، لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين. وقد تشارك المسلمون والمسيحيون في صدّ الاعتداءات التي تعرضت لها بلادهم، من الصليبيين الى الصهاينة مرورا بكل المحتلين والمستعمرين.


كل هذا لا يعني اننا ننسى اهمية دور الكنائس وفي دعم بقاء ابنائها حيث هم وفي العمل للحد من الهجرة وآثارها السلبية على حضورها وشهادتها. من هنا، ينبغي تضافر الجهود بين جميع الطاقات المتوافرة في كنائسنا، خصوصا في ميدانَي الخدمة الاجتماعية والتعليم، لكي ندعم مجتمعاتنا لتتقدم وتزدهر. وهذا يتطلب سياسيات جديدة في مؤسساتنا التربوية والاستشفائية والاجتماعية والاعلامية، وفي دعم التعاون الانساني، لتأمين السكن اللائق في ما تملكه الكنائس من اراض موقوفة من خلال مشاريع اسكانية، او تأجير هذه الاوقاف لمدد معلومة في سبيل استثمارها، فتنتعش الكنائس ماليا فتساعد، حينئذ، المحتاجين في شكل افضل، وينتعش المؤمنون فلا يفكرون بمغادرة وطنهم في سبيل لقمة العيش.


في الصلاة التي علّمها يسوع لتلاميذه والتي يتلوها المؤمن يوميا مرات عدة: “أبانا الذي في السموات”، نجد دعوة الى التزام شؤون الارض واحقاق العدالة والسلام لتحويل هذه الارض الى ملكوت سماوي حقيقي. ففي هذه الصلاة يتوجه المسيحي الى ربه قائلا: “ليأت ملكوتك، لتكن مشيئتك كما في السماء كذلك على الارض”. نحن نؤمن بأن الملكوت الالهي قد بدأ وهو حاضر “الآن وهنا”، ولكنه سيعلن بقوة في اليوم الاخير عند المجيء الثاني للمسيح. الا ان المسيحي لا ينتظر بسلبية هذا الملكوت، بل عليه تحقيقهالآن وهنا” من خلال التزامه تحقيق الخير والسلام والعدالة واعمار الارض وعدم تشويهها وتشويه الانسان. أما تحقيق مشيئة الله في الكون فهو منوط بالانسان الذي يلتزم تحقيق مشيئة الله من خلال اخضاع مشيئته لمشيئة الله بحيث تتطابق هاتان المشيئتان. وهل مشيئة الله سوى تحقيق السلام والعدالة والمحبة؟ العالم يتحول اكثر فأكثر ملكوتاً كلما انضم انسان جديد الى الجهاد من اجل عالم اكثر عدلا وسلاما وحبا. التحدي الذي يواجهنا دوما يتمثل في قدرة الانسان المتمتع بالحرية، على عدم انتظار اليوم الاخير للعيش في السعادة، بل في جلب هذا الملكوت من اليوم الاخير الى اليوم الحاضر. الطوبى ليست شأنا مستقبلا بل تشكل تحدياً راهنا في وجه الانسان لتحقيقهاالآن وهنا” في هذا العالم الذي نحيا فيه. في اللاهوت المسيحي، “الآتي” يعنيالحاصل”. فالآتي قد باشر رحلته ومسيرته، ويكتمل الآتي في اليوم الاخير. وهذا ما يسمى بتذوق الخيرات الآتية التي يمنحها الله، بواسع رحمته، للمؤمنين به. الشهادة للمسيح تعني، اذاً، ان المعيار الاساسي لكل موقف مسيحي هو في مدى اقتراب ما يقوم به، خدمة للمجتمع، من تحقيق الملكوت السماوي، اي ملكوت العدالة والسلام والمحبة. واذا انتفى تحقيق اي من هذه الاركان الثلاثة يختل التوازن ويكون الموقف المسيحي، في هذه الحال، موقفاً مساوماً لا موقفاً اصيلا. من هنا، حياة المسيحي هي مقاومة مستمرة طالما هناك انسان مقهور في حريته او في رزقه او في طعام اولاده.


1- يقول الصحافي الفرنسي كلود لوريو ان عدد المسيحيين في الشرق الاوسط يتراوح بين عشرة ملايين وستة عشر مليوناً، وهم موزعون على الشكل الآتي: العراق: بين 600000 ومليون، تركيا: بين مئة ألف و،130000 سوريا: بين 950000 و،1400000 لبنان: بين 1300000 و،1500000 اسرائيل : بين 105.000 و،120000 فلسطين: بين 60000 و،80000 الاردن: 140000 و،160000 ايران: بين 120000 و،130000 مصر بين 3300000 و،8000000 السودان نحو اربعة ملايين. انظر:


Claude Lorieux, ChrAtiens dOrient en terres dislam, Ed. Perrin, 2001,p.361.


2- طارق متري، “المسيحيون في المشرق العربي: قراءة في التاريخ المعاصر”، في كتاب المسيحية عبر تاريخها في المشرق، مجلس كنائس الشرق الاوسط، بيروت، ،2001 ص855-.856


3- متري، المرجع السابق، ص856-.857