والفرق الأساسي بين هذا الإنجيل والأناجيل الأربعة المعروفة: متي ومرقص ولوقا ويوحنا هو في العلاقة التي ربطت السيد المسيح بيهوذا الإسخريوطي. فهو يزعم أن يهوذا لم يكن بالخائن الجشع بل هو التلميذ المطيع الذي ضحى بصورته التي توارثتها الأجيال من أجل الاستجابة لطلب المسيح الذي كلفه بأن يسلمه ليكتمل الفداء والخلاص. بل وتحمل يهوذا الصلب عوضا عن المسيح!
وكان رد الفعل المسيحي تجاه الإعلان عن إنجيل يهوذا عقلانيا وأكاديميا على مستوي العالم. لم تكن القضية أبدا هي الدفاع عن العقيدة الراسخة فلم يثبت يوما أن نشر هذا الإنجيل أو أمثاله كأناجيل برنابا ومريم المجدلية قد أثر فيها أيما تأثير.
بل تركزت النقاشات على النواحي التاريخية والعقائدية والسياسية والمنطقية. فمن الناحية التاريخية لم يفند أحد ما أكده العلماء بخصوص صحة الإنجيل. ولكن براءة يهوذا التاريخية ما كانت لتؤثر كثيرا على جوهر العقيدة المسيحية. ربما كانت تؤثر بعض الشيء في عالم السياسة. فلو نجحت في إقناع كل المسيحيين واليهود فلربما خفف ذلك من العلاقة المتوترة بينهما والتي تأثرت إلى حد ما على مدي العصور بصورة يهوذا اليهودي الخائن الذي باع سيده من أجل ثلاثين من الفضة.
بل ربما كان تأثيرها الأكبر في عالم الشعر والأدب حيث يستخدم يهوذا كرمز شائع وجذاب للخيانة شأنه كشأن "بروتس" في الغدر و "شيلوك" في الجشع.
ما ادعاه هذا الإنجيل من أن يهوذا قد صلب عوضا عن المسيح لم يقلق المؤمنين كثيرا حيث أنه من المعروف أن إنجيل يهوذا غير معترف به من الكنائس المسيحية عموما منذ القديم مثله كمثل أناجيل توما ويعقوب ونيقوديموس وغيرها.
وإنجيل يهوذا على وجه الخصوص يبدو وثيق الصلة بالفكر "الغنوسي" الذي ظهر في المراحل الباكرة من المسيحية وحكم عليه بالهرطقة.
والادعاء بأن يهوذا قد تغيرت هيئته ليظهر في صورة المسيح ويصلب بدلا عنه لا يستقيم من ناحية المنطق وخصوصا وأن الفداء لم يكن ليتم إلا بشخص المسيح نفسه. كذا ما الداعي لأن يحث المسيح يهوذا على خيانته؟ ألم تكن هناك فرص كثيرة ليقع بإرادته في أيدي المتآمرين عليه من الرومان واليهود وهو وسط الجموع يعلم ويعمل معجزات؟! ولو كان يهوذا قد سلم يسوع إطاعة لرغبته فكيف نفسر إذن ندمه القاسي الذي دفع به إلى الانتحار؟!
إذن كان ظهور إنجيل يهوذا مدعاة للمؤمنين للتفكير والمناقشة النقدية البنائة. وكانت المحصلة النهائية لهذا التعامل الواثق الهادئ في صالح الأناجيل الأربعة المتفق عليها. فقد أسهم إنجيل يهوذا بتهافته الروحي والمنطقي في إعلاء شأنها وزيادة الاعتقاد بمصداقيتها وبذا صار عاملا إيجابيا وليس سلبيا في ترسيخ الإيمان بالكتاب المقدس الذي يجمع عليه غالبية مسيحي العالم.
أما الحدث الثاني فهو ظهور كتاب "شفرة دافنشي" لمؤلفه دان براون وعرض الفيلم المأخوذ عنه.
وبالطبع فليس هذا بأول كتاب أو عمل فني في الغرب يسئ للعقيدة المسيحية ويشوه حقائقها فقد سبقهما العديد من الكتب والأفلام والمسرحيات التي نحت هذا المنحي. وعلى سبيل الأمثلة القليلة كتب "أسطورة الإله المتجسد" و"الدم المقدس" و"الكأس المقدسة" وفيلم "الإغواء الأخير للمسيح".
ولقد تولي هذا الكتاب الأخير طعن المسيحيين في أخص مقدساتهم. فهو يفترض حدوث مؤامرة كنيسية على المستوي العالمي لإخفاء أن السيد المسيح قد تزوج من مريم المجدلية وأنجب منها نسلا.
ولأنه قد لاقي رواجا كبيرا (فقد بيعت منه 40 مليون نسخة ولشهور عديدة ماضية صار يصعب أن تستقل إحدى وسائل المواصلات العامة في الغرب بدون أن تجد أعين المونا ليزا – المطبوعة على غلاف الكتاب – تحدقان فيك من كل صوب) ، فقد أثار ردود أفعال قوية ومتعددة.
غني عن القول أنه لم تكن هناك أي دعاوى للانتقام أو أعمال عنف. لم يحدث اعتداء على بشر أو تدمير لممتلكات. ولكن تفاوتت ردود الأفعال:
البعض دعا إلى مقاطعة الكتاب والفيلم والبعض رأي ضرورة اتخاذ اجراءات قانونية ضد المسئولين عنهما.
وفي نفس الوقت رأي البعض في الانتشار الواسع لشفرة دافنشي فرصة لن تعوض لتقديم العقيدة المسيحية السليمة للقطاع العريض الذي يستقي كل معلوماته الدينية من أمثال هذه القصص والأفلام التجارية.
وبدلا من تبديد الطاقة في مهاجمة المؤلف والناشر ومنتج الفيلم ومخرجه، استعد الكتاب بمجموعة من الكتب التصحيحية للمعلومات المغلوطة التي وردت في قصة دافنشي. فعلى سبيل المثال ظهر "شفرة دافنشي: البحث عن إجابات" و "تفكيك شفرة دافنشي" و "حل رموز شفرة دافنشي".
وانطلق المؤمنون يحثون – بدلا من أن يثنوا – البعيدين عن الله على قراءة الكتاب ومشاهدة الفيلم ثم يستفيدون من الفرصة لفتح حوار معهم عن حقيقة رسالة الإنجيل وعمق الإيمان المسيحي ولدعوتهم إلى التفكير في الأمور الروحية التي لم تكن تشغلهم من قبل.
بل أن إحدى أقدم الكاتدرائيات في إنجلترا (كاتدرائية وينشستر) والتي صورت فيها بعض مشاهد الفيلم، قد استغلت الحدث وأعلنت عن برنامج مكثف يمتد لشهور ثلاثة الغرض منه مساعدة الناس البعيدين عن الإيمان للوصول إليه بقناعتهم الشخصية وبدون أي ضغوط. فقط عن طريق المناقشة والحوار وتصحيح المعلومات المحرفة التي وردت في قصة دافنشي.
وعلى عكس توقعات الكثيرين ومخاوف المؤمنين بالمسيحية فبدلا من زرع الشك في كلمات الإنجيل وفي نقاء السيد المسيح، يبدو أن كتاب وفيلم شفرة دافنشي سيكونان مدخلا للعديد من الباحثين عن معني للوجود لبدء رحلة روحية للوصول إلى جوهر الإيمان.
* بريطانيا