كثيرون منَّا معرَّضون لاعتناق مبدأ هذه الحكمة الثمينة بشكل تلقائي ودون تفكير كثير ولا بروظة، ساعين عفوياً للابتعاد عن كل ما يُسبب المتاعب ووجع القلب على مبدأ “بعِد عن الشر وغنِّيلو“! لكنَّ هذا الموقف يجعلنا نفقد بالتلقائيَّة ذاتها الجزء الأكبر من فعاليتنا، ونستسلم لأوهام وتقييمات تبتعد أكثر فأكثر عن الواقع المباشر وتخلق لنا في آخر الأمر عالمنا الخاص بنا الذي لا يتَّسع إلاَّ للآخرين الذين يُشاركوننا، لسبب أو لآخر، الطريقة التي ارتحنا إليها في الحياة.
من يقبل بتحمُّل المسؤوليَّة، وهنا لا فرق بين أي نوع وآخر من أنواع المسؤوليات حتَّى تلك التي لا تتجاوز مسؤوليتنا الشخصيَّة عن ذواتنا، أو بكلمة أُخرى من يختار أن يعيش كشخص واع لذاته ومُتيِّقظ لمعنى حياته، لا بدَّ له من أن يكتشف عاجلاً أم آجلاً أهميَّة الأخطاء في مسيرة حياته وأنها في الحقيقة من أكثر الوقائع استحقاقاً للتقدير والتفكير، لأنها تحمل في ثناياها بذور كلِّ اكتشاف أو ابتكار أو تجديد أو حكمة .. هذه الأمور البسيطة التي تجعل حياة الإنسان مختلفة عن حياة سائر أخوته من المخلوقات الأخرى. ولولا خوفي من أن يُفهم كلامي على غير مقصده، أو أن يقتطعه أحد من إطاره ويستثير به الاهتمام، لصغتُ لكم دون تردُّد واحداً من المبادئ العزيزة على قلبي بعبارة: “أنا أُخطئ .. إذن أنا موجود” (والعذر من الزميل ديكارت).
لكن، إذا كان الخطأ على هذا الجانب من الأهميَّة في الحياة فما الذي يدفعنا إلى أن نخشى الإقرار بأخطائنا أو حتَّى مجرَّد التفكير بها؟ وما الذي يجعلنا نبذل كل ما لدينا من قوى وقدرات على الإقناع (إقناع ذواتنا أو الآخرين) للتستُّر على ما نقع فيه من أخطاء، أو إيجاد المبرِّرات الكافية للتملُّص من مسؤوليتنا عنها أو حتَّى مُشاركتنا فيها؟ فتكثُر على ألسنتنا عبارات من نوع: “الحق على فلان..” أو “ذنبي برقبة فلان..” أو “الله يجازي اللي كان السبب..”! وعندما لا نجد من نُلقي عليه المسؤوليَّة نصبُّ لعناتنا على “الشيطان” فهذا المسكين لا يستطيع على الأقل الدفاع عن نفسه!
»دافع!: «ماذا سيقول عنِّي الناس؟
هذا السؤال-المعيار تزرعه فينا التربية الاجتماعية التي نتلقَّاها، ونستفيد منه كثيراً في عمليَّة اندماجنا في المجتمع وبناء علاقاتنا وموقعنا المميَّز بين الآخرين الذين يحيطون بنا. إلاَّ أنَّ هذا السؤال نفسه قد يتحوَّل إلى سؤال-سجن يحجز عنَّا إمكانيَّة الاستفادة من أخطائنا، لأنَّ همَّنا يُصبح مُنصبَّاً على مُحاولة تجنُّبها أو تبريرها، والنتيجة في الحالتين إقصاءها عن مجال التفكير بها بموضوعيَّة. في هذه الحال تُصبح الصورة التي كوَّنها الآخرون عنَّا قيداً يٌكبِّل انطلاقتنا الحيويَّة لنكون ما نحن عليه أو ما نريد أن نكونه. بالمقابل، من يقبل أخطاءه بواقعيَّة دون أن يخشى تقييم الآخرين أو اعتباراتهم المُسبقة عنه، يستطيع أن يتغيَّر ويتفاعل مع تطوُّر ظروف حياته بشكل خصب وخلاَّق، ويستطيع على وجه الخصوص أن يكتسب صداقات جديدة وعلاقات أكثر عمقاً وأصالة، لأنَّ صدقه في مواجهة نفسه وجرأته في التعبير عنها أمام الباقين تجعلان منه شخصاً قابلاً لاجتذاب ثقة الناس وصراحتهم. الخبرة البسيطة المباشرة تكشف لنا أنَّ مَن يجرؤ على انتقاد ذاته ومراجعة أخطائه يُشجِّع من يحيط به على اتخاذ موقف مماثل من ذواتهم تجاهه، وهذا يعني مزيداً من التواصل والثقة. وعلى العكس من ذلك، مَن يخشى على نفسه كثيراً ويحاول أن يحميها من أي انتقاد، لا يكسب من حوله إلاَّ الخائفين مثله، المنشغلين أبداً بتلميع جدرانهم البلوريَّة المحصَّنة.
باختصار شديد، يُشبه الذين لا يُخطئون لوحاً بلورياً كبيراً شفافاً لا غبار عليه لدرجة أنَّه يكاد ألاَّ يكون موجوداً، فيصطدم الناس به، وقد يحطِّمونه، لا لشيء سوى أنَّه لا يُرى، أي لا حضور حقيقي له تجاههم.
»دافع : «لا أنا لستُ من هؤلاء..!
يجبرنا الخطأ على مواجهة ذواتنا كما هي على حقيقتها، في ضعفها وتقصيرها ومحدوديَّتها، ورغباتها الدفينة ودوافعها التي نعجز عن السيطرة عليها، وأحلامها وتصوراتها وطريقة فهمهما للأمور .. وكأننا نُضطرُّ فجأة للاعتراف بأنَّ حقيقتنا تختلف عمَّا كنَّا نتمنى أن نكون عليه، أو عمَّا رسمه الآخرون عنَّا من صور جميلة لا تشوبها شائبة.
فها أنا الذي اعتدتُ على المفاخرة بصراحتي، ولا أبالي في سبيل المحافظة عليها بجرح مشاعر الآخرين أحياناً، أجد نفسي وقد تجنَّبتُ مواجهة شخصٍ ما بحقيقة رأيي فيه، لأنَّ لي مصلحة معه أخشى أن أخسرها. أو ها أنا الذي يستند الكثيرون إلى دقَّة معلوماته ووثوقيَّة مصادره، أروِّج خبَراً لم أتحقَّق منه لأنَّه ينالُ من سمعة أحد المُسيئين إليَّ ويُقلِّل من مكانته عند الناس. والأمثلة كثيرة جداً عن الحالات أو المواقف المُشابهة، التي ينالُ خطأي فيها من صوري الزاهية عن ذاتي التي تكوِّن إلى حدٍّ ما عناصر هويتي ومكانتي الاجتماعيَّة.
ماذا أفعل إذاً للدفاع عنها؟ يمكنني إنكار وقوع الخطأ أصلاً إذا استطعتُ إلى ذلك سبيلاً، أو اعتباره زلَّة عارضة استثنائيَّة “تحدث مع أحسن البشر” ولا علاقة لها بي شخصياً، لكنَّ الحل الأكثر سهولة هو بالتأكيد إلقاء المسؤوليَّة على جهة أخرى، قد تكون شخصاً محدداً، أو جهة معنويَّة غامضة مثل “المجتمع” أو “العادات والتقاليد” أو “الضغوط” أو “مصاعب الحياة” أو “التوتُّر والقلق” .. الخ. في جميع الأحوال، لا أعودُ باهتمامي إلى خطأي نفسه لأجعل منه موضوع تفكير ومُراجعة، تقودني في أغلب الأحيان إلى تعديل صورتي المعتادة عن ذاتي، واكتشافها بالتالي على حقيقتها. وهذا الموقف مُريح أكثر دون شك، بل يبدو أحياناً أكثر إقناعاً للآخرين، فما أسهل الافتتان بمن هو “دائماً على صواب” والانضواء تحت زعامته باطمئنان واستسلام؟! لكن أليس هذا هو المنطق السائد في القطعان؟ لا أجدُ تعبيراً أبلغ لوصف حال كهذه من مقولة الإنجيل الذهبيَّة : “ولكن بماذا ينتفع الإنسان لو ربح العالم كلَّه وخسر نفسه؟“
خلاصة الكلام ..
في النهاية ما المقصود من كلِّ هذه الأفكار المتداخلة عن الأخطاء والمخطئين؟ وبماذا يعنينا الأمر؟ إذا استطعنا إدراك المعنى الإنساني والمسيحي للأفكار ، فهذا كفيلٌ بأن يُغيِّر جذرياً موقفنا كأشخاص من كثير من المواقف التي تعترضنا يومياً وتتوارد فيها على ألسنتنا أو في أفكارنا تساؤلات وتصوُّرات عن أخطائنا وأخطاء الآخرين. وندرك بالتالي أنَّه لا يُشرِّفنا في أيِّ حال من الأحوال أن نفتحر بأنَّنا لم نقع في خطأ أو لا يمكن أن نقع في خطأ! ما يدعو إلى الفخر حقاً هو أن تكون لدينا شجاعة الاعتراف بأخطائنا، والتفكير فيها، وتقويمها، وتغيير ما يلزم من مواقفنا أو قراراتنا على ضوء ذلك.
هذا النوع من الشجاعة لا يفتخر به كلُّ الناس… هذا صحيح… وفهمكم كفاية!
المرجع: عن موقع القديسة تريزا بحلب