تأملات حربية للأب يوأنس لحظي

لِماذا الحرب وهل هي من صنع الله؟


وفي وسط هذه الصرخات والتساؤلات سمعت صوت بداخلي يقول: الحرب ليست من صنع الله، فالله ليس سوى خير، ومنه لا يخرج سوى الصلاح، الحرب هي:


دليل على جشعنا، على طمعنا، على رغبتنا في العيش منفردين.


الحرب دليل على حدودنا، دليل على أننا ما زلنا نحمل في داخلنا الرغبة في افتراس الآخرين، مازلنا نحيا وبداخلنا بقايا الحيوان.


الحرب دليل على أننا نأكل خبزاً وطيوراً، ولكننا لا نشبع ما لم نلتهم أخينا الإنسان.


الحرب دليل على أننا نشرب لبناً وخمراً، ولكننا لا نرتوي ما لم نمتص دم أخينا الإنسان.


الحرب دليل على أنه يمكننا أن نصير أبشع من ذئب لأخينا الإنسان.


الحرب وباء إنساني، وباء لا يُنتج إلا أطفال مشوهين، إلا أُناس مشوّهين، إلا شخصيات مجروحة.


الحرب لا تنجب إلا الدمار والخوف وعدم الاستقرار.


الحرب تهدم بيوتنا، حيث بنينا قصوراً من الرمال الطفولية البريئة أمهاتنا تموت، أُسرنا تشرد، أطفالنا تُجهض، أحلامنا تُغتال…


الحرب تُنتج أقلاماً مأجورة، وأفكاراً مبتورة، وفي تربتها لا تنبت سوى قصائد الأسى، وأشعار الحزن، ومراثي الموت…


الحرب تحوّل الحلم وهماً، وكابوساً.


الحرب تزرع القنابل في رحم كل أم تحمل جنينا أسمه “الغد”.


الحرب، لا تُنتج إلا الشهداء، والشهداء نوعان: نوع مات وترك الحياة، ترك ساحة الحياة الملتهبة مفضلاً ظلمة حفرّة القبر، على نور الطلقات النارية والصواريخ الإنسانية… والنوع الثاني عائش، يمشي، ويتكلم، ويروي… ولكنه يحيا بنصف قلب، ويفكر بنصف عقل، ويتكلم بنصف لسان، ولا يروي سوى أقاصيص الرعب والدماء شهيدٌ يحيا في مقبرة الحزن والخوف.


النوعان مائتان، والنوعان مسجونان في قبور الخوف والظلمة.


والخوف كلّ الخوف ومن أن نكون مائتين ونحن غير عالمين، وأول علامات الموت هي الصمت أمام موت الآخرين، أمام ظلم الآخرين، أمام دموع الآخرين وصرخاتهم… فأمام الحرب لا يسعنا إلَّا أن نأخذ أحد الموقفين إمّا أن نكون ثائرين، ولو كان الثمن هو الاستشهاد، وإمّا أن نغسل أيدينا، ونعصم أعيننا، وكأن آلام المتألمين لا تعنينا. ولكن قبل أن نقرر أي الموقفين هو موقفنا يجب أن نعلم أنه إذا كان على الإيمان أن يختار بين الحزن الراكع، والموت الثائر؛ فالإيمان سيختار الموت. أو بين الصمت الخانع والصوت الدامي؛ فالإيمان سيختار الصوت الدامي. أو بين الخنوع والطلقة؛ فالإيمان سيختار الطلقة. لأنه إما أن نحي بقلب لا يخشى ولا يخاف ولا يعد الخطوات، قلب يملؤه الإيمان بالله سيد الحياة، وإما الموت أفضل فلا يخشون الموت سوى الجبناء، ورصيد الشرفاء دائماً هو عدم الخوف، هو الألم، هو الصليب


فهلم نثور لأن الإيمان ليس سوى ثورة، ثورة باسم الحب. ولأن مَن لا يريد أن تتهشم قدماه وتدمي؛ لن يصل أبدا قمة جبل الكرامة. ولا يمكن فهم أسرار الورود إلا عن طريق تحمّل وخز أشوكها. ولن يسكر مطلقا بعطر القيامة مَن لا يحتسي كأس الألم، ويمر عبر طريق الجلجثة


إن منْ ينفض أيديه ويغسل ضميره أمام آلام الآخرين هو مساو تماماً للذي يصنعها، نعم فالصامت كالفاعل. صحيح أنه ليس في استطاعتنا تغير اتجاه الريح، ولكننا نستطيع أن نتحكم في أشرعتنا حسب اتجاه الريح، نستطيع أن نصرخ في وجه منْ أعماهم الظلم والجشع. صحيح أننا لا نستطيع أن نستطيع دون طير طيور الألم والخوف والحذر فوق رؤوسنا، ولكننا نستطيع أن نحول دون بناء أعشاشها في شعْرِنا.


الحرب دمار وخراب ولكنها في ذات الوقت نداء يصرخ في ضمير كلّ واحد منا قائلاً: “أنت مسئول” إنه اختبار لحقيقة إيماننا، إنه السؤال الإلهي: “قاين قاين أين أخوك؟”


الأب يوأنس لحظي جيد