هذه هي رؤية النبي داوود للإنسان ولحياته، التي ليست في النهاية سوى بخار يظهر قليلاً ثم يضمحل. فإذا كانت كلمات المرنم تنطبق على أحد بعينه، فيمكن تطبيقها بالتمام على الكاهن الكاثوليكي، ذلك الإنسان الذى يسكب حياته على مذبح الرب في سبيل إخوته البشر أبناء كنيسته وشعبه، فيكاد يتشبه بالمخلص: إذ ليس لأحد حب أعظم من هذا أن يبذل الإنسان نفسه عن إخوته… إنه الشمعة التي تذوب احتراقاً على هيكل الحب الإلهي واهبةً نورها حتى القطرة الأخيرة، في صمت وتواضع وخشوع وبسخاء لا مثيل له…
في مقابل ذلك ماذا يلقى الكاهن أو بالأحرى ماذا يتلقى؟
يعيش وحيداً وكأنه نزيل غريب في هذا العالم،
يمضي حياته متنقلا من بلد إلى آخر كمن لا وطن له،
يمر كطيف بين البشر فلا يشعر به إلا القلة وكأنه ليس من لحم ودم،
يتجرع كأس الوحدة والحرمان وفراق الأهل والخلان دون أن يفتح فاه بالشكوى.
تجلده النظرات واللمزات والكلمات الجارحة فلا يرف له جفن.
تتناوله الشائعات وتلوك سيرته الألسنُ ولو كان قديساً.
يحسده الناس على حريته ولا تعنيهم وحدته.
لكنه برغم ذلك كله:
يقابل الإساءة بالإحسان، والشتم بالبركة، والرفض بالمبادرة، والتباعد بالاقتراب، والصد بالحب، والنقد بالصمت… يفعل كل هذا بصبر عجيب وسعي دءوب ليربح للرب نفساً واحدة.
يقبل الجميع بلا شروط وإن قبله القليلون وبشروطهم.
يحب الناس بلا حدود، وإن رفضه معظمهم.
في خدمة الجميع ليل نهار وإن تنكر له أقربهم.
أب للصغير، أخ للكبير، ابن للمسن وإن نساه الجميع فهو لا ينسى أيّاً منهم.
يتفقد المرضى حاملاً خبز السماء، وفي مرضه لا يعرف له مكاناً يسند إليه رأسه.
بيته مفتوح ومائدته ممدودة وثلاجته مستباحة من الجميع وإن اعتُبر غريباً حتى داخل أسرته.
وأخيراً يموت الكاهن وحيداً، لكن نظرات الغفران في عينيه، وابتسامة الرضى على شفتيه، وعلامات الارتياح تغطي ملامحه فقد عاش حسب قلب الرب وسكب حياته إلى القطرة الأخيرة حباً في مخلصه وكنيسته وشعبه… هكذا يعيش الكاهن القبطي الكاثوليكي وهكذا يموت.
إنه شهيد العصر وكل العصور لكنه صاحب رسالة لا غنى عنها مدى الدهور…
المرجع: عن مجلة صديق الكاهن