مواهب الروح القدس

أي قام المسيح بالأعمال التي قال عنها الأنبياء أن المسيح سيعملها وهي أعمال الرحمة لخلاص البشر.

1- يسوع ممتلىء من الروح القدس

عرف الناس يسوع في الناصرة، على أنه ابن يوسف النجار. وقد صنع لهم الأثاث وبنى لهم البيوت مدة سنوات. لكنّه ذهب ذات يوم إلى نهر الأردّن، وهناك حصل شيء عجيب، فدَهِشَ كثير من الذين سمعوه، وقالوا "من أين له هذا؟ وما هذه الحكمة التي أعطيها حتّى إنّ المعجزات المُبينة تجري عن يديه؟ أليس هذا النجّار ابن مريم. (مر5/2-3). ما الذي حدث في نهر الأردّن فجعل يسوع مختلفاً عن سائر الناس؟ يروي لنا الإنجيليون الأربعة هذا الحدث، لنقرأه في إنجيل القديس لوقا: "ولما انفتحت السماء، ونزل الروح القدّس عليه في صورة جسم كأنّه حمامة، وأتى صوت من السماء يقول: "أنت ابني الحبيب، عنك رضيت" (لو3/21-22). إذن نزلّ الروح القدّس على يسوع، ومنذ تلك اللحظة، كفَّ يسوع عن عمل النجار وأخذ يعمل بقوة إلهيّة فيشفي، ويعلّم، ويُعلن ملكوت الله.

2-يسوع يهب لنا روحه

عندما مات يسوع على الصليب، وَهَب لنا روحه كي يستطيع كلّ منا أن يناله. نقرأ في إنجيل (يوحنا19/30) "ثم حنى يسوع رأسه وأسلّم الروح". عندما يموت في أفريقيا شخص ذو شأن وقدرة، يعتقد الناس هناك أن طفلاً سيرث روح هذا الشخص. لمّا مات يسوع على الصليب، لم يهب روحه إلى بطرس ويوحنّا أو إلى شخص آخر فحسب، فقد أنبأ النبي يوئيل قبل بضع مئات من السنين: "إني أفيض روحي على كلّ بشر. فيتنبأ بنوكم وبناتكم، ويحلم شيوخكم أحلاماً، ويرى شبابكم رؤى، وعلى العبيد والإماء أيضاً أفيض روحي في تلك الأيام" (يوئيل3/1-2).

إنّ روح يسوع التي أسلمها على الصليب أُفيضت في بادئ الأمر على الأشخاص المجتمعين في العليّة وذلك في يوم العنصرة، ثمّ على الثلاثة آلاف الذين قبلوا المعموديّة في اليوم نفسه، ثمّ على جميع الناس. وكلما حلَّ روح يسوع في حياة شخص ما حصل فيها تبدّل. نلاحظ عندما امتلأ الرسل من روح يسوع صار بوسعهم أن يقوموا بالأعمال التي قام بها يسوع.

كان بطرس قبل العنصرة جباناً يخاف حتّى من كلمات الخادمة، وبعد أن نزل عليه الروح القدّس خرج من العليّة بجرأة وإيمان وأخذ يعظ لجموع غفيرة. "وأخذ الرسل، بعد العنصرة، يتكلمون بلغات غير لغتهم، على ما وهب لهم الروح القدّس أن يتكلموا" (رسل2،4). "وبينما كان بطرس ويوحنّا صاعدين. إلى الهيكل لصلاة الساعة الثالثة بعد الظهر، كان هناك رجل كسيح من بطن أمّه يحمله بعض الناس ويضعونه كل يوم على باب الهيكل المعروف بالباب الحسن ليطلب الصدّقة من الذين يدخلون الهيكل فلما رأى بطرس ويوحنّا يوشكان أن يدخلا، التمس منهما الحصول على صدقة. فحدّق إليه بطرس وكذلك يوحنّا، ثم قال له: "انظر إلينا". فتعلّقت عيناه بهما يتوقع أن ينال منهما شيئاً. فقال له بطرس: "لا فضة عندي ولا ذهب، ولكني أعطيك ما عندي: باسم يسوع المسيح الناصرّي امشِ!" وأمسكه بيده اليمنى وأنهضه، فاشتدَّت قدماه وكعباه من وقته، فقام وَثْباً وأخذ يمشي. ودخل الهيكل معهما، ماشياً قافزاً يسبّح الله. فرآه الشعب… فأخذهم العجب والدهش كلّ مأخذ ممّا جرى له" (رسل3/1-10).

وأيضاً كان يجري على أيدي الرسل في الشعب كثير من الآيات والأعاجيب… وكان الناس يخرجون بالمرضى إلى الشوارع، فيضعونهم على الأسرة والفُرش، لكي يقع ولو ظلُّ بطرس عند مروره علىأحد منهم. وكانت جماعة الناس تُبادر من المدن المجاورة لأورشليم، تحمل المرضى والذين بهم مسٌّ من الأرواح النجسة فيُشفون جميعاً" (رسل5/12-16).

"كما كان في لُسترة رجل كسيح مُقعد من بطن أمّه، لم يمشِ قط. وبينما هو يُصغي إلى بولس يتكلم، حدّق إليه فرأى فيه من الإيمان ما يجعله يخلُص، فقال له بأعلى صوته: "قمّ فانتصب على قدميك!" فوثب يمشي. فلما رأتِ الجموع ما صنع بولس، رفعوا الصوت فقالوا باللغة الليقونية: "تمثلّ الآلهة بشراً ونزلوا إلينا"… فلما بلغ الخبر الرسولين برنابا وبولس، مزّقا ردائيهما وبادرا إلى الجمع يصيحان فيقولان: "أيها الناس، لماذا تفعلون هذا؟ نحن أيضاً بشر ضعفاء مثلكم نبشّرُكم بأن تتركوا هذه الأباطيل وتهتدوا إلى الله الحيّ الذي صنع السماء والأرض والبحر وكلّ شيء فيها" (رسل14/8-15).

3- ليس بوسعنا أن نكون مسيحيين أصلاء إذا لم ننل الروح القدّس.

لـمَّا أتى بولس الرسول أفسس، لم يهتّم بالعلامات الخارجية للجماعة المسيحيّة، بل تحقّق هل كانت حياة المسيحيين الجُدد تُظهر حضور الروح القدّس. "لـمَّا وصل بولس إلى أفسس… لقي فيها بعض التلاميذ. فقال لهم:

 "هل نلتم الروح القدس حين آمنتم؟" فقالوا له: "لا، بل لم نسمع أنّ هناك روح قدّس". فقال: "فأيّة معموديّة اعتمدتم؟" قالوا: "معموديّة يوحنّا" فقال بولس: "إنّ يوحنّا عمّد معموديّة توبة، داعياً الشعب إلى الإيمان بالآتي بعده، أي بيسوع". فلما سمعوا ذلك اعتمدوا باسم الربّ يسوع. ووضع بولس يديه عليهم، فنزل الروح القدّس عليهم وأخذوا يتكلمون بلغات غير لُغتِهم ويتنبأون. وكان عدد الرجال كلهم نحو اثني عشَرَ رجلاً". (رسل19/1-7).

ويؤكد القديس بولس في رسالته إلى أهل روما تأكيداً قاطعاً: "من لم يكن فيه روح المسيح فما هو من خاصّته" (روم8/9).

والآن نواجه مُشكلة: كلّ منّا، كان قد تعمّد وتثبّت، وقد نلنا الروح القدّس. ولكن ما يدعو إلى الأسف، هو أنّ مُعظمَنا لا يُظهِرُ، أو لا يختبر عمل الروح القدّس في حياته. إنّ قدرة الروح القدّس لم تتحرر فيه بعد. نحن نُشبه إلى حدّ ما فنجان القهوة الذي سُكب فيه السكر من غير تحريك. إذا لم نُحرك الملعقة كي يذوب السكر، لن نذوق طعم السكر كثيراً. إذن لن يكون الحلّ إضافة مزيد من السكر، بل تحريك المضمون. وهذا ما يحدث عندما نصليّ من أجل فيض أكبر للروح القدّس؟ إنّ الروح القدّس يُفاض وينتشر في كلّ كياننا فيبعث فينا حياة جديدة عجيبة. ولكن علينا أن ندعه يعمل فينا بقبولنا مواهبه الكثيرة.

4- إنّ الروح القدّس روح خلاّق، يهبُ لكل واحد بحسب حاجاته.

لنتأمل يسوع ونؤمن أنّ ما حدث له في نهر الأردّن سيحدث لنا أيضاً، "واعتمّد يسوع أيضاً وكان يُصلي، انفتحت السماء، ونزل الروح القدّس عليه" (لو3/21-22). آتياً في الوقت نفسه بمحبّة الآب. "أنت ابني الحبيب، عنك رضيت" يقول بولس الرسول في رسالته إلى أهل روما: "إنّ محبّة الله أُفيضت في قلوبنا بالروح القدّس الذي وُهب لنا" (روم5/5). ما هي نتائج الفيض الكبير للروح القدّس. لنتصور أنّ قلبنا وعاء للروح القدّس، فإذا كان قلبنا ممتلئاً بالمحبّة أو بالروح حتى أنّه ليطفح، فإنّ المحبّة التي فيه ستبغي أن تفيض باتجاهين: نحو الله ونحو القريب.

آ- فيض المحبّة نحو الله: موهبة التكلم باللغات

إنّ الله هو الذي يَهب الروح والمحبّة، فنشعر بالفرح حقاً. نريد أن نُسبح هذا الإله العجيب الذي هو إلهنا، ونريد أن نشكره. ولكن حينئذ ستنقصنا الكلمات، ولا نعلم ما نقوله له. آنذاك "يأتي الروح القدّس لنجدة ضعفنا لأنّنا لا نُحسِن الصلاة كما يجب، والروح نفسه يشفع لنا بأنّات لا توصف" (روم8/26).

دعوني أشرح بطريقة مختصرة. إنّ موهبة التكلم باللغات كما نفهمها هنا، ليست موهبة الوعظ بلغة مجهولة يفهمها جميع الناس كالتي ذُكرت في أعمال الرسل (2/4). وليست موهبة نبوءة، إذّ تُقدّم رسالة من قبل الله وقد أعطيت باللغات وتحتاج إلى ترجمة كما الحالة هي في الرسالة الأولى إلى أهل قورنتس (14/26-28). إنّ موهبة التكلّم باللغات التي نعيها هنا هي بالأحرى موهبة تسبيح الله، أو موهبة شفاعة عندما تنقصنا الكلمات ولا نعلم ما نقول. إنّ الطريقة الحسنة لشرح هذه الموهبة وردت في رسالة القديس بولس إلى أهل روما "لم تتلّقوا روح عبودية لتعودوا إلى الخوف، بل روح تبنٍّ به ننادي: أبَّا، يا أبتِ" (روم8/15).

تصّوروا طفلاً في نحو السنة من عمره بوسعه أن يُعبرّ، ولكن لا يستطيع بعد أن يُبلّغ أفكاره بالكلام، إنّه يتكلمُ لغة الطفل". هكذا موهبة التكلم باللغات هي تمتمّة حقاً، لغة ابن الله الذي يكلّم بها أباه السماوي، والله يفهم كل ما يُقال له. إنّه يعلم عندما نسبّحه أو نتوسل إليه، ولو كنّا نحنُ أنفسنا لا نفهم ذلك. إنّ موهبة الصلاة باللغات هذه المتدفقة من قلب يطفح بالمحبّة لله، يُمكن أن تعبّر في بعض الأحيان على أنّ الروح القدّس قد امتلك حياتنا حقاً.
كانت موهبة التكلم باللغات سبب قلق للكنيسة في قورنتس، لأنّها سبب التشويش في أثناء العبادة، والتكلم باللغات موهبة صحيحة من مواهب الروح القدّس، ولكن المؤمنين في قورنتس استخدموها علامة التفوّق الروحي أكثر منها وسيلة للوحدة الروحيّة. يضع الرسول بولس عدة نقاط عن التكلم باللغات:

1- إنّها موهبة روحيّة من الله (1قو14/2).

2- إنّها موهبة مرغوبة حتى لو لم تكن مطلباً أساسياً للإيمان (1قو12/28-31).

3- إنّها أقل أهمية من النبوءة والتعليم (1قو14/4-5) "فالذي يتكلم بلغة مجهولة يبني نفسه، وأمّا الذي يتنبأ، فيبني الكنيسة. إنّني أرغب في أنّ تتكلموا جميعاً بلغات مجهولة، ولكن بالأحرى أن تتنبأوا."

ومع أنّ بولس الرسول نفسه تكلم باللغات ويذكر ذلك في (1قو14/18-19) "أشكر الله لأنّي أتكلم بلغات مجهولة أكثر منكم جميعاً. ولكن، حيث أكون في الكنيسة، أفضل أن أقول خمس كلمات بعقلي، لكي أُعلّم بها الآخرين أيضاً، على أن أقول عشرة آلاف كلمة بلغة مجهولة".

إلاّ أنّ بولس يُزكيّ النبوءة (الوعظ) كما سمعنا لأنّها نافعة لكل الكنيسة، بينما التكلم باللغات ينفع أساساً المتكلم نفسه. فيجب أن تكون العبادة بين الجماعة مفهومة ونافعة لكل الكنيسة. لذلك يتابع بولس الرسول قوله في (1قو14/12) "إذ أنّكم متشوّقون إلى المواهب الروحية، اسعوا في طلب المزيد منها لأجل بنيان الكنيسة".

يجب أن يتّم كلّ شيء في أثناء العبادة في توافق وترتيب، ولا يوجد ضرورة للتشويش حتى أثناء ممارسة المواهب الروحية،وعندما تحدث فوضى، فهذا دليل على أنّ الكنيسة لا تسمح لله أن يعمل بين المؤمنين كما يشاء، لأنّ الله ليس إله تشويش بل إله سلام.

يقول الأب اميليان تارديف في كتابه يسوع حيّ "عندما نصلي باللغات، يكون فكرنا بتصرف الربّ ليستعملنا كواسطة خلاص. فالصلاة باللغات وسيلة رائعة، قادرة على النفاذ إلى حيث لا يقدر أن يصل لا الإنسان ولا العلم" في أثناء رياضة روحية للكهنة في مدينة "ليون" الفرنسية، حضر منهم مَنْ يتقبّلون موهبة الصلاة باللغات وآخرون يُبدون تحفظاً يصل إلى حدّ السخرية. وكان أشد هؤلاء تطرفاً، يقول الأب اميليان تارديف، أحدُ المُبشّرين الذي يُدّرس اللغة العربية في أفريقيا. ولكن هذا الكاهن وقف في اليوم الثاني أمام الجميع وكتب على اللوح إشارات غريبة، ثم شرحها لنا بتأثر عميق قائلاً: "البارحة، في أثناء الصلاة باللغات كنتم تقولون بالعربية ما يلي: الله رحيم".

إنّ الله في كلّ صلاة يمنحنا رحمته حقاً. يتابع الأب اميليان قوله: "إنّ الصلاة باللغات مذهلة وبما أنّنا نجهل كيف نصلي يأتي الروح ليعضد ضعفنا… ويشفع فينا بأنّات لا توصف" (روما8/26).

إنّ موهبة الصلاة باللغات هي واقع حقيقي في كنيسة اليوم. كلّ ما أريده هو أن أنقل إليكم ما لديّ حولها. يقول الأب تارديف: "لقد شاهدت عجائب وأنا أصلي باللغات أكثر مما شاهدت وأنا أصلي الصلاة العادية. دُعيت ذات يوم إلى برنامج تلفزيوني في كولومبيا وطُلب إليّ أن أصلي من أجل المرضى دقيقة واحدة فقط. عجباً ماذا أقول خلال دقيقة المقابلة؟ أَمِنْ أجل ذلك أُطلق على البرنامج عنوان: "دقيقة الله"؟ بدت لي هذه المدّة قصيرة جداً فاعترضت لدى المسؤولين قائلاً: "تُكرسّون ثلاث دقائق من أجل الدعاية لمصنوعات البيرة ولا تكرسّون للربّ سوى دقيقة واحدة؟…" بدأت الصلاة من على الشاشة الصغيرة يستحثّني الوقت فأسرعتُ. وما إن فرغتُ منها حتى نظرتُ إلى ساعتي فتبيّن لي أنّ لدي بعد ثلاثين ثانية من الوقت. وهنا بدأت المشكلة: ماذا سأفعل خلال هذا الوقت؟ فصليت باللغات أمام عدسات المصّورين. وحسب شهادة الأب "دياغو" الواعظ المواهبي المعروف شفى الله الكثيرين بهذه المناسبة".

ب- فيض المحبّة للآخرين: مواهب الكلمة والشفاء

عندما نزل الروح القدّس على يسوع، أخذ يذهب من بلدة إلى أخرى ويُعلن البشارة الحقيقيّة، وهي مشجعة ومقوّية، وهكذا، عندما تمتلئ قلوبنا من الروح القدّس، بوسعنا أن ننال موهبة أو مواهب الكلمة، على سبيل المثال، موهبة التعليم التي تبني الناس حقاً بالكلمات القادرة على الإرشاد والتشجيع. بوسع الكهنة على وجه خاص أن ينالوا موهبة جديدة للتعليم. وبوسع بعض الناس أن ينالوا موهبة الحكمة والنصح وبوسع آخرين أن ينالوا موهبة المعرفة أو النبوءة. جميع المواهب التي ذُكرت حتى الآن هي مواهب الكلمة.

يقول الأب تارديف إنّ الصلاة باللغات، التي تكلمنا عنها سابقاً، تسهّل كلام النبوءة أو كلام المعرفة. ممّا يعني أنّ الربّ يستعين بنا عندما نكون في مُنتهى الحضور له لأنّنا إذ ذاك نكون كلّياً طوع يديه.

أثناء اللقاء المواهبي الثاني في "مونريال"، طُلب إلى الأب اميليان تارديف أن يصلي من أجل المرضى. حضر 65 ألف شخص الذبيحة الإلهية التي نُقلت وقائعها عبر الشاشة الصغيرة. وصليتُ كثيراً باللغات يقول الأب اميليان، وكانت تحضُرني كلمات معرفة أم نبوءة كثيرة أثناء هذه الصلاة فأنقلها بحرفيتها. وإحدى هذه الكلمات كانت: "هناك أمّ في الرابعة والسبعين من عمرها جالسة أمام الشاشة الصغيرة في منزلها. والربّ في هذه اللحظات يشفيها من العمى".

في نهاية القداس تقدم مني كاهن يثق بي وقال "هل جُننت؟ كيف تسمح لنفسك بأن تعلن أمام 65 ألف شخصاً أن امرأة عمياء تنظر إلى شاشة التلفزيون؟". كان اعتراضه منطقياً إلى حدّ أنّني لم أستطع الإجابة.

في صباح الغد توجهتُ لزيارة عائلتي التي تسكن على بعد 200 كيلومتر من "مونريال" ما إن وصلت حتى قال لي أحدهم: "أبتِ، إنّ المرأة التي شُفيت عيناها من العمى أمام الشاشة الصغيرة تسكن على مقربة من هنا" فاجتاحني فرح حملني على زيارتها.

كانت تدعى "السيدة جوزف إدمون بولان". وهي فعلاً في الرابعة والسبعين من العمر، وقد أصيت بشبكة عينيها، وعالجها أخصائيون أكّدوا لها أنّ مرضها يتفاقم تدريجياً ولا أمل بشفائه، وأنّ صديقتها اقترحت عليها الجلوس أمام الشاشة الصغيرة أثناء قداس الشفاء الذي يُقام في مؤتمر "مونريال". وكان لهذه الصديقة ما أرادت، وعندما سمعت كلام النبوءة شعرت بحرارة شديدة في عينيها.

سألْتُها يقول الأب اميليان إن باتَ بإمكانها القراءة، فأجابت لا! فأردف: "الربّ لا يرضى بأنصاف الحلول. سنصلي معاً لتتمكني من قراءة كلمته في الإنجيل". وبعد ثلاثة أيام اتصلت السيدة بالأب اميليان هاتفياً لتبشرّه بأنّها أصبحت قادرة على قراءة الكتاب المقدّس.

إنّ الروح القدّس يَهب الناس الكلمات التي تساعدهم وتجعلهم ينمون في الربّ: "إنّما كلّ واحد يوهَب موهبة يتجلّى الروح فيها لأجل المنفعة. فواحد يوهب، عن طريق الروح كلامُ الحكمة، وآخر كلام المعرفة وفقاً للروح نفسه" (1قو12/7-8).

وهناك فئة أخرى من الهدايا بوسع الروح القدّس أن يعطينا إيّاها وهي "مواهب الشفاء". وتشمل هذه المواهب، موهبة الرأفة لجميع الذين يتألمون، وموهبة الإصغاء إلى حاجات الآخرين، وموهبة صلاة الشفاء كي يشفى جميع المرضى في قلوبهم وروحهم وأجسادهم. (1قو12/9-10).

موهبة العجائب والشفاءات

يقول الأب اميليان إنّ كلّ الشفاءات التي يصنعها الربّ لا تعتبر أعاجيب. إنّ الشفاءات التي نلتمسها بالصلاة لا تُعتبر "أعجوبة" إلاّ إذا حقّق الربّ شفاء لا يقوى عليه أي علم طبي. وتُعتبر شفاء الحالات التي يُعّجل فيها الربّ مسار الشفاء الذي كان بالإمكان أن يحصل عن طريق عمليّة جراحيّة أو معالحة طبية. لذلك كلّ شفاء يحصل عن طريق الصلاة لا ندعوه "عجائبياً".

يُخطئ تماماً مَنْ يعتقد بأنّ الشفاءات، في تدبير يسوع الخلاصي، هي شيء هامشي. ويخطئ أيضاً من يعتقد بأنّنا لم نعد اليوم بحاجة إلى شفاءات وبأنّ الأساس فقط هو إعلان بشارة الإنجيل، فكلاهما ينسيان طرق يسوع في الرعاية. نحن اليوم نخّطط ونبحث عن ألف طريقة لاجتذاب الناس إلى الكنيسة. نُنظّم الأعياد والحفلات الموسيقية الخ… رغم ذلك يقلّ عددهم شيئاً فشيئاً.

أمّا يسوع، فكان يشفي المرضى وكان الناس يأتون إليه جماعات بأعداد كبيرة، حتّى أنّهم كانوا يضطرون إلى ثقب سطح البيت ليُنزلوا المّخلع منه، لأنّهم لم يتمكنوا من المرور بين الناس لشدة ازدحامهم. وهذا ما يحصل اليوم تماماً. فعندما يشفي يسوع المرضى تتدفق الجماهير بأعداد لا تحصى، عندئذ نُعلن لهم ملكوت الله فيُثمر ما هو أهم بكثير من الشفاءات الجسديّة البسيطة.

إنّ آيات قدرة الله ليست مجرَّد مشهد للتسلية بل تساعد بالفعل على تجديد الحياة بالإيمان.

وتكفي الإشارة إلى مثل واحد ن آلاف الشفاءات التي حصلت في "تاهيتي". يقول الأب امليان تارديف: أثناء القداس من أجل المرضى، وعند رفع جسد الربّ أي القربان المقدّس، أخذ أعمى بالبكاء، وبينما هو يمسح دموعه بدأ يبصر. لقد التقى يسوع، نور العالم، فأستعاد له نور عينيه. فتأثر بذلك كثيراً "كابيلو" مُغنّي المحيط الهادي الشهير، الحاصل على الجائزة الثانية في مهرجان "أوروفيزيون" وسجّل اسمه للاشتراك في الرياضة الروحية اللاحقة، وأثناءها عاد إلى الربّ نادماً واعترف وتناول ثمَّ أعطى شهادته في أثناء القداس الختامي قائلاً: "حصلت هنا شفاءات عديدة وأكبرها كان شفائي، لأنّ الربّ شفاني روحياً. فمنذ 16 سنة خلت، وأنا بعيد عن الحياة المسيحيّة وعن أسرارها المقدّسة، غير أنّ يسوع دنا مني في هذه الرياضة الروحية. وأنا بعد الآن لن أعيش ولن أغنيّ إلاّ ليسوع".
لقد ردّد "كابيلو" شهادته عبر شاشة التلفزيون، وبعدها في الملعب أمام 20000 شخص. واليوم يُبَشّر الشباب عن طريق أغاني مواهبية.

أعتقد بأنّ الجدال حول حدوث الشفاءات وعدم حدوثها هو عقيم، لأنّ نصوص الكتاب المقدّس وسيرة القديسين حافلة بآيات الشفاء. إنّ السؤال الجوهري هو: هل أنا أؤمن بأنّ الله قادر على شفائي؟ وهل عندي ثقة بقدرة يسوع على شفاء الآخرين من خلالي؟

دعا كاهن الرعيّة في "جانيكو" الأب اميليان تارديف لإحياء رياضة روحية ونبهّه إلى أنّ الناس هناك قُساة القلوب ولا يتشوقون للذهاب إلى الكنيسة. يقول الأب اميليان: "مساء يوم وصولنا، كان الحضور قليلاً. وكان هناك رجل منطرحاً على الأرض، أشبه بلعبة خِرَق، لا يتمكن من الوقوف، ومشلول اليدين لا يقوى على الأكل يُثير الشفقة لدى مَرْآه.

تساءلت لماذا أُحضر هذا الرجل إلى هنا. وبينما كنت أحدّق في منظره المحزن، قلت:

"سنصلي من أجله حتى تتمكنوا من اصطحابه معكم". عندما بدأنا الصلاة أخذ يعرق ويرتجف حينئذ أمرته: "قمّ، شفاك الربّ".

ثمّ أخذت بيده وأمرته بأن يمشي. فمشى حتى بيت القربان. وهنا كشف لنا أنّه لم يكن يقوى على الوقوف منذ 19 سنة ولا على القيام بخطوة واحدة. وبعد ظهر ذلك اليوم أخبرنا بأنّ الربّ شفى أيضاً يديه وبدأ بتحريكهما.

امتلأت الكنيسة في صباح اليوم التالي بفضل شفاء المخلع، حتى أنّ الناس لم يتمكنوا جميعهم من الدخول فظلوا خارجاً عند المدخل. يوم نتقبل قدرة الشهادة للربّ تتبدّل موعظتنا. يتابع الأب اميليان قوله: في الماضي، كنت أصرف وقتاً طويلاً لإعداد مواعظي، فأطالع المؤلفين التقليديين وأقرأ اللاهوتيين المُحدِثين. وكانت أبحاثي مختارة وعميقة، بحيث كنت اجتهد في أن لا أفوّت شيئاً مما سأقوله. ولهذا كنت أكتب كلّ شيء على ورقة وأقرأه حتى أتمكن من نقل الكنز على أكمل وجه. غير أنّ الله بدّلني من هذه الناحية أيضاً.

ففي يوم أحد، بينما كنت أتأمل في أوراقي قال لي الربّ: إذا كنت أنت الذي قمت بكلّ هذه الدراسات غير قادر على استيعابها في ذاكرتك لتردّدها على مسامع الآخرين، فكيف يُمكن لهؤلاء الناس البسطاء أن يحفظوا ذلك في قلوبهم وأن الروح القدّس منذ ذلك الحين، غيّرت طريقة وعظتي فاليوم، لا أقوم بشيء غير الشهادة لقدرة الله فأُخبر بما يصنعه بفيض من حبّه. وليس من الضروري أن نُتقن الكلام عن يسوع، بل أن نفسح له المجال ليعمل هو بكلّ قوّة الروح القدّس. إنّ الإنجيل ليس مجرّد كلام وإنّما هو قدرة وقوّة تأتيان من العُلى وتظهران بيننا لبناء ملكوت الله.

إنّ مواهب الروح القدّس تتنوع وتتكامل مع احتياجات كلّ عصر، لكنّ بسبب قلّة إيماننا أو بسبب تفكيرنا المنطقي نظن أنّ مواهب الروح هي من حكايات الماضي، لكن الكنيسة هي عنصرة مستمّرة.

إنّ القديس مرقس، أقدم الإنجيليين يكلمنا في 16 فصلاً عن 18 أعجوبة شفاءات قام بها يسوع. فلو حذفنا من إنجيل مرقس هذه الآيات التي تُشير إلى قدرة الله، لما بقي إلاّ بضع صفحات. كثيرون هم الذين أهملوا هذا الواقع العجائبي فلم يبقَ لهم إلاّ إنجيل مبتور وضعيف، حُوِّلَ إلى عقيدة ونظرّيات.

يسوع هو هو، البارحة واليوم وإلى الأبد، هو سيّد التاريخ، يعمل كما يحلو له لتحقيق أعاجيبه، بدون أن يسألنا رأينا أو يستأذننا فَمَنْ نحن إذاً لنعترض أو لنضع حداً لفعل إلهنا؟

5- تنوّع مواهب ووحدتها

هناك تصوّرات خاطئة حول جوهر مواهب الروح القدّس وعملها. فيعتقد البعض أنّ الموضوع يتعلق خصوصاً بمواهب خارقة كالانخطاف بالروح، والرؤى، وصنع العجائب والتنبؤ بالغيب والتكلم باللغات، وكلام الحكمة وكلام المعرفة الخ… لكنّ بولس يذكر من بين المواهب أيضاً نشاط الرسل والأنبياء والمعلمين، وغيرها من المواهب الإدارة والمساعدة. (1قو12/28). المهمّ أنّ مواهب الروح العادية والخارقة، تهدف كلّها إلى بناء الجماعة "كلّ واحد يتلقى ما يُظهر الروح لأجل الخير العام" (1قو12/7).

ويعتقد البعض الآخر أنّ المواهب الخارقة كانت محدّدة فقط لزمن بداية الكنيسة. ولكنّهم في ذلك ينسون أنّ القديسين في كلّ الأزمنة نالوا مواهب خارقة، كانت بمثابة علاوات وأمثلة للشهادة أمام الآخرين لقدرة الروح القدس وحيوّيته في الكنيسة. وقد تمّ إدراك الكثير من هذا الأمر على نحوٍ جديد من خلال حركة التجدّد المواهبية. وقد رغب بولس الرسول في المحافظة على حيوية مواهب الروح القدّس بقوله: "لا تُطفئوا الروح" (1تس5/19). ويدّل الرسول القورنثيّين، الذين منحهم الروح القدّس مواهب وافرة، على "الطريق المثلى"، التي تفوق كلّ المواهب، وهي المحبّة، التي يمتدحها بكلمات بليغة (1كو13). فالمحبّة هي أسمى ثمار الروح القدّس (غل5/22).

6-المواهب الروحية والخدمة الكهنوتية

إنّ المواهب الروحية والخدمة الكهنوتية الناجمة عن الرسامة ليسا أمرين متناقضين، بل يمكنّهما ويجب لهما أن يُكمل أحدُهما الآخر ويرتبط أحدُهما بالآخر. فمن جهة يجب على الخدّام الكنسيّين ألاّ يدّعوا لهم وحدهم الكفاءة المواهبية؛ ومن جهة أخرى يجب على أصحاب المواهب ألاّ يمارسوها ضد الخِدَمْ الثابتة.

لقد أدرجت الكنيسة الأولى خِدَم الرسل الأنبياء والمعلّمين في مصفّ المواهب (1قو12/28)، ورأت في "الرسل والأنبياء والمبشّرين والرعاة والمعلمين" مواهب منحها الربّ لكنيسته (أف4/11). وبحسب الرسائل الراعويّة، تُمنح بوضع الأيدي "موهبة روحية من قبل الله" (2طي1/6). ولكن الخدمة المرسومة ليست حقاً الموهبة الوحيدة. ومن ثمَّ فهي بحاجة إلى أن تعمل مع المواهب الأخرى. فإنّ هدف الخدمة الكنسية ليس اطفاء الروح، بل امتحان كلّ شيء والتمسّك بالحسن (1تس5/19-21). وفي الفصول عينها التي يستفيض فيها بولس في الكلام على المواهب، يشدّد على فكرة الوحدة والنظام (1قو12/14). "لأنّ الله ليس إله تشويش، بل إله سلام" (1قو14/33).

فالمجموعات التي تشعر بفيض جديد من الروح القدّس، والخدمة الكهنوتية المرسومة المنظمة في الكنيسة تنظيماً ثابتاً، بحاجة بعضهما إلى بعض. فالكنيسة، كي لا تتجمّد، بحاجة مُستمّرة إلى قوى التجديد؛ وهذه الأخيرة بحاجة إلى نقد وتصحيح من قبل التقليد الكنسي، الذي يحملُ الإيمان عبر الأزمنة، إلى أن تتّقد الشعلة من جديد. في كليهما بعمل روح الله، وروح الله لا يُناقض نفسه. وهذا لا ينفي الصراعات من أجل توضيح الموقف، ويبقى مع ذلك القول الآتي: "اجتهدوا في حفظ وحدة الروح برباط السلام" (اف4/3).

أخيراً علينا أن نعلم بأنّ الروح القدّس هو مبدأ وحدة الكنيسة في تنوع مواهبه (1قو12/4-31) وإنّ كمال المواهب وغناها هما من جوهر الكنيسة. فالكنيسة تحيا من كمال الروح، الذي يهبّ حيث يشاء (يو3/8). وبهذا يتبين أن الكنيسة والتجديد الكنسي لا يمكن أن يكونا من صنع البشر. فما هو حاسم في الكنيسة لا يُمكن التصرف به فيجب على الكنيسة إذن أن تُصلي على الدوام لتنال مواهب الروح القدّس التي تُحييها وتنعشها وتُخصبها. كما يجب على المؤمنين أن يسعوا إلى المحبّة ويطمحوا إلى مواهب الروح (1قو14/1) وليكن كلّ شيء من أجل البنيان (1قو14/26).

 

المراجع

 

1- المسيحيّة في عقائدها، سلسلة الفكر المسيحي بين الأمس واليوم. نقله من الألمانية المطران كيرلس سليم بسترس.

2- يسوع حيّ، منشورات الحمل للأب اميليان تارديف وخوسيه برادو فلورس.

3- دورات للحياة في الروح نقلها من الفرنسية الأب جورج شهباز.

4- التفسير التطبيقي للكتاب المقدّس، شركة ماستر ميديا، القاهرة – مصر.

المرجع: عن موقع جمعية التعليم المسيحي بحلب