الصلاة القلبية في التراث الشرقي والغربي الأب/ أغسطينوس موريس الكرملي

و“الصلاة القلبية” أيضاً تعادل عند الكثيرين “صلاة يسوع”، تلك الصلاة التي تستند بصورة جوهرية إلى ترديد عبارة تضم اسم يسوع. وسنتكلم عن هذه الصلاة البيزنطية[1] وأنواعها فيما بعد. ولنذكر فقط الآن أن في عبارة “صلاة يسوع” التباساً أيضاً. فصلاة يسوع هذه هي صلاة موجهة إلى يسوع وليست صلاة يصليها يسوع (وإن كانت في درجتها الأعمق صلاة روح يسوع نفسه الذي يصلي في داخلنا، كما يذكر القديس بولس في روم 26:8، فعند هذا المعنى يجوز التكلّم عن “صلاة يسوع”). وعلى كل حال علينا أن نميز بين “صلاة يسوع” و “الصلاة القلبية”، ذلك لأنه من الممكن أن تُجرى الصلاة القلبية دون أن تكون موجّهة بصورة خاصة أو مباشرة ليسوع. من الممكن اعتبار صلاة يسوع، بالطريقة البيزنطية، إحدى الأشكال المطوّرة للصلاة القلبية، فأساسها، هو الانتباه إلى الله في داخلنا كما هو الحال في الصلاة القلبية عامة، غير أنها أضافت إلى هذا العنصر الأساسي عنصرين آخرين ألا وهما ترديد اسم يسوع وضبط معين للتنفس كما سنرى فيما بعد. فممارسة الصلاة القلبية، وهي ممارسة خاصة للكنيسة الشرقية، قد تطوّرت عبر الأجيال، منذ القرون الأولى وحتى أيامنا هذه. وفي الحقيقة لم تظهر في الكتاب المقدس إلا بصورة ضمنية. وإنما في القرن الرابع فقط ظهرت بصورة واضحة ممارسة الانتباه إلى الله الساكن في داخل النفس، وقد وصلت إلى شكلها الأعمق في القرن الخامس. ولا يجب الاستغراب من أن هذا الشكل من الصلاة الذي أصبح إحدى مميزات الروحانيات المسيحية الشرقية، لم يظهر بوضوح من وقت العهد الجديد. فالكتاب المقدس، مثل ملكوت الله، هو بذرة مدعوة أن تصبح شجرة. فكلام الله في الكتاب المقدس ينمو كلما عاشته الكنيسة بقيادة الروح القدس. وما ستكون عليه الشجرة لا يظهر بوضوح في البذرة نفسها ولا في نبتتها الأولى. ومن الأكيد أن الصلاة في الكتاب المقدس مستندة بالدرجة الأولى إلى مفهوم ارتفاع النفس نحو السماء، باعتبار السماء رمزاً لسكنى الله، وبالتالي فوق الإنسان وخارجه. وهذا هو الموقف الطبيعي في جميع الأديان تقريباً وخاصة الأديان “السماوية”. غير أن سكنى الله في القلب هي عقيدة أساسية في العهد الجديد، لم يبدأ تأثيرها على ممارسة الصلاة إلا تدريجياً، بحيث تولّدت منها صلاة موجّهة إلى الله الساكن في داخل الإنسان. غير أن فكرة هذه الصلاة كانت موجودة ضمنياً في عقيدة سكنى الله في القلب كالشجرة في البذرة. فسيكون من المفيد جداً في بداية كلامنا عن الصلاة القلبية أن نتوقف قليلاً للتعرّف على أسسها في الكتاب المقدس. من الممكن أن يكون انطلاقنا من آيتين أساسيتين تابعتين للرسالة الثانية لأهل كورنتس وكأنهما في الحقيقة جزءان لنشيد واحد ذكرهما القديس بولس ضمن فصول تتكلم عن خبرة وجود المسيح القائم في داخلنا كمصدر للرسالة المسيحية. وهاتان الآيتان هما: “ونحن جميعاً نعكس صورة مجد الرب بوجوه مكشوفة، فنتحولُ إلى تلك الصورة ذاتها, فهي تزداد مجداً على مجد, بفضل الرب الذي هو روح” (2كور18:3)[2]. “والله الذي قال: «ليشرق من الظلمة نور» هو الذي أضاء نوره[3] في قلوبنا لتشرق معرفة مجد الله, ذلك المجد الذي على وجه يسوع المسيح” (2كور6:4). إن بنية الخبرة الروحية المذكورة هنا تشير إلى بنية حدث تجلي الرب، وخاصة كما يأتي في (لو27:9-37) حيث تجلى وجه المسيح في جو الصلاة (لو28:9 ). ففي الحالتين يُذكر نور مجد الله على وجه المسيح (الذي هو في نص القديس بولس المرآة والصورة أي صورة الآب التي تُشع بمجده). ولكن، في وقت القديس بولس لم يكن المسيح مع رسله فحسب بل فيهم أيضاً. والتجلي الذي يشير إليه القديس بولس هنا يحدث في داخل قلوب المؤمنين: “أشرق الله في قلوبنا“. وفيما بعد أشار القديس بطرس إلى هذا التجلي الباطني في رسالته الثانية عندما قال: “فما أتبعنا نحن خرافات ملفقة حين أطلعناكم على قوة ربنا يسوع المسيح وعلى مجييئه, لأننا بعيوننا رأينا عظمته. فإنه نال من الآب إكراماً ومجداً حين جاءه من مجد الله تعالى صوت يقول:«هذا هو ابني الحبيب الذي به رضيت». سمعنا نحن هذا الصوت آتياً من السماء, وكنا معه على الجبل المقدس. فازداد يقينُنا بكلام الأنبياء, وأنتم تفعلون حسناً إذا نظرتم إليه كأنه سراجٌ منيرٌ يُضئُ في كل مكان مُظلم, إلى أن يطلع النهارُ ويُشرقَ في قُلوبكم” (2بط16:1-19)[4] وفعلاً فإن المسيح يسكن في قلوبنا (غلا6:4) بروحه (روم9:8) وهذا الروح ليس حاضراً فينا مثل قوة إلهية فحسب، بل إنه ساكن فينا شخصياً لأنه الروح الحي. “روح الله الحي” (2كور 3:3) “روح المسيح” (روم 9:8) الحي فينا (غلا 20:2). ولأن هذا الروح هو موجود شخصياً في قلوبنا، فإنه يكلم أرواحنا (روم 16:8) ويصلي معنا أبّا أيها الآب على مثال المسيح (روم 26:8؛ غلا 6:4) فنستطيع إذن أن نلتقي بالمسيح القائم وروحه في قلوبنا، أي في عمق كياننا، ونقترب هناك من مصدر إشعاع مجده. ذلك كله يؤيده رمز كتابي مهم، عزيز على القديس بولس، ألا وهو رمز الهيكل أو المقدس. والجدير بالذكر أن الكلمة اليونانية التي يستعملها القديس بولس للإشارة إلى الهيكل هي دوماً “ناوس” أي “المقدس” (في وقت أن الكلمة التي تشير إلى الهيكل بجملته هي “هيبرون”)”Santuario” “Tempio”. وهذه النقطة هي مهمة جداً لنفهم عبارات مثل “إنكم هيكل الله الحي” (2كور16:6؛ 1كور 17:3؛ 19:6). فإذا كان الإنسان قد أصبح هيكل الله فذلك لأن الله يسكن مقدسه الباطني الخفي أي في “قلبه” بلغة الكتاب المقدس. إن تأملنا في رمز الهيكل يجب أن يتم على بعدين. فالهيكل أو بالأخص المقدس هو، في الكتاب المقدس، المكان الذي يسكنه الله على الأرض أولاً، ثم المكان الذي فيه يلتقي الإنسان بالمجد الإلهي ثانياً. وهذان البعدان يتجليان في نصوص كثيرة ومعروفة في كتاب المزامير وأسفار الأنبياء، مثلاً: “تأملتك في المقدس لأرى عزتك ومجدك” (مز3:63)، “أحببت يا رب جمال بيتك ومقام سكنى مجدك” (مز8:27)، “وعبر مجد الرب إلى الهيكل من الباب المتجه نحو طريق الشرق، فنقلني الروح إلى الساحة الداخلية، وإذا بمجد الرب قد غمر الهيكل” (حز4:43-5)، “مبارك أنت في هيكل مجدك القدوس!” (دا53:3). فبالمعنى الروحي لرمز الهيكل كما يستعمله القديس بولس يسكن الله مقدس قلبنا، وفي هذا المقدس نستطيع الاتصال بمجده. وهكذا فإننا نرجع إلى نص الرسالة الثانية إلى أهل قورنتس الذي انطلقنا منه، فإننا نرى مجد الله على وجه المسيح القائم في مقدس قلبنا. لقد قلنا أعلاه أنه من الطبيعي أن يصلي الإنسان وعيناه موجهتان نحو السماء. ويسوع نفسه قد صلى هكذا، وخاصة عندما كان يصلي بصوت مسموع في وسط تلاميذه (مت 19:14؛ يو 41:11؛ 1:17). ونستنتج من ذلك أن الصلاة القلبية أي الانتباه إلى الله الساكن في مقدس قلوبنا، ليست الشكل الوحيد للصلاة المسيحية. فإن الله هو فينا، ولكنه أيضاً فوقنا وحولنا: “إله واحد، وأبو الجميع الذي هو فوق الجميع” (أفس 4:6) ويقول القديس بولس عين الشيء عن المسيح القائم نفسه الذي “يسكن فيه ملء اللاهوت” (كو19:1)، فيصرح أن المسيح فينا ونحن في المسيح (روم 32:6؛ 1:8-2؛ 1كور4:1-5؛ 2كور 17:5الخ). وكذلك يقول المسيح في إنجيل يوحنا 20:14: “إنكم في وإني فيكم” فعلى الصلاة القلبية أن تمارس بالتوافق مع أشكال أخرى من الصلاة الموجهة إلى الله الموجود أمامنا، مثل التأمل بصحبة المسيح الحاضر في كلماته وبأعماله في العالم، وتلاوة المزامير وخاصة الاحتفال بالإفخارستيا. غير أن التجربة تعلّمنا أن ممارسة الصلاة القلبية هي طريق أقصر ومباشر وأسرع لاختبار الاتصال الحي بالإله الحي. »لذا فإن أردت يا أخي أن تكون صلاتك محمّلة بالثمر الكثير, لا تكتفِ بالكلامية منها وحسب, بل بادر كي تكون صلاتك بالقلب والذهن أيضاً. اجعل ذهنك يفهم وينتبه لما يُقال. دّرب قلبك على التحسّس لما يسمع. والأهم, أن تكون صلاتك من القلب. والتي هي هكذا, تكون كالبرق الذي يتحرّك بسرعة نحو السموات. وهكذا تقف صلاتك أمام عرش الله الرحوم, فيستمع إليها الله ويستجيب لها أكثر من سواها. هذه كانت صلاة موسى أيضاً عندما وقف أمام البحر الأحمر ونادى الله فسمع له (خر15:14), ومدّه بالقوّة كي يعتق شعبه من الأخطار التي كانت تتهدّدهم«[5] وإليكم لوحة تشير إلى محل الصلاة القلبية بين الأشكال الأخرى للصلاة:   أشكال الصلاة: الصلاة الشفهية               الصلاة الصامتة الطقسية           الفردية            التأمل   صلاة النظــــــر إلى الله في الخارج       إلى الله في الداخل= الصلاة القلبية في لحظات متكررة  طوال مدة من الزمن ممارسة النظر  اللقاء    (الصلاة الصوفية) الممارسة الأساسية للصلاة القلبية: الانتباه إلى الله في داخلنا يجب أولاً أن نحدد معاني بعض المصطلحات التي سنستعملها: 1)   القلب: علينا أن نتخلص هنا من مفهوم عاطفي لعبارة القلب، وهو مفهوم لا يعتبر القلب إلا مركزاً للعواطف وخاصة عواطف الحب. فالكتاب المقدس والفكر الروحي الشرقي يعتبران القلب مركز شخصية الإنسان كله، المركز الذي يأتي منه كل ما هو عميق من أفكار ومشاعر وقرارات، إن كانت موجهة للخير أو للشر. فالإنسان الكتابي هو حقيقة واحدة، لكنها تتضمن أبعاداً: فأولاً الجسد الذي هو الإنسان بجملته بحسب علاقاته مع العالم الخارجي المحسوس. فعن طريق جسدي أعرف العالم وبقية البشر، وعن طريق جسدي أيضاً يحس البشر بوجودي. ثم إذا توجهنا إلى العمق، نجد النفس التي هي الإنسان بحسب حياته الغير المنظورة من الخارج، أي الإنسان الذي يفكر والذي له مشاعر ورغبات وذكريات. وفي وسط النفس، أو في أعماقها، يوجد القلب، وهو المكان الأكثر صميمياً في كيان الإنسان ومنه تأتي حياة الإنسان النفسية العميقة كلها. إنه مثل ينبوع تفلت أعماقه من شعورنا العادي: إنه المكان الذي يتم فيه الاتصال بين الإنسان والله، بل الاتحاد بينهما. وكما قلنا فإن القلب هو مركز النفس، ولكن النفس لا تنفصل من الجسد لأن الإنسان هو حقيقة واحدة. وأكثر من ذلك فإن النفس لا تسكن الجسد مثل شيء مجاور له، أو كما يسكن إنسان بيته، بل إنها حاضرة في صميم الجسد كله، وإن كان ذلك على درجات مختلفة. ولذا فإن مركز النفس سيكون مرتبطاً بمركز الجسم وكذلك سيكون هناك تطابق بين مواقف الجسد الخارجية ومواقف النفس الداخلية كما سنذكرها أدناه. وهكذا فإن القلب بالمعنى الكتابي وبالمعنى الروحي الشرقي، هو مركز كيان الإنسان حيث يتحد وجودي الإنسان اللحمي والروحي. ولذلك فإن الانتباه إلى أعماق كياننا التي يسكنها الله سيرافقه بصورة طبيعية تركيز الوعي الجسدي على مركز الجسد فالتنفس الروحي مثلاً سيتجسم في تنفس الجسد، وكذلك سيستند تركيزُ النفس على الله وحده، بترديد عبارة واحدة جسدية مؤثرة. إلا أن عبارة القلب، حتى بمعناها الجسدي، يمكن أن يكون لها معنى مجازي. فهناك بعض ممارسي الصلاة القلبية يركزون انتباههم على القلب الجسدي بمعنى الكلمة، وعبارة القلب هي مأخوذة هنا بمعنى حرفي تماماً. غير أن البعض الآخر يركزون انتباههم (ويبدو لنا شخصياً أن هذا الموقف هو الأصح) على مركز الجسد، أي بيمين القلب وفوقه قليلاً. فهنا تتخذ عبارة القلب بمعنى مجازي، وإن كان بالمعنى الجسدي أيضاً، بما أن المقصود هنا هو مركز الصدر. إن اختيار هذا المكان الجسدي بالذات له مطابقة نفسية. فإن توجيه الانتباه إلى مكان هو بالقرب من خفقات قلبنا في داخل ذاتنا قد يذكرنا بقرب خفقات قلب الله نفسه الحاضر في داخلنا والذي إلى حضنه نضم أرواحنا، كما ورد في المزمور 131 “مثل فطيم على صدر أمه هكذا نفسي في داخلي”. وكذلك فإن الموقع الذي هو فوق القلب بقليل يشير إلى بعد ليس فقط تابعاً للمشاعر بل أيضاً تابعاً للمعرفة باعتبار هذا المكان الأعلى من القلب متعلقاً نوعاً ما بالدماغ الذي هو الآلة الجسدية للفكر. 2)   الروح: إن القلب هو المكان الذي يأتي منه كل ما هو عميق في الإنسان. أما روح الإنسان فهي اندفاع قلبه. إنها الدينامية الصميمية لشخصيتنا العميقة. إنها نظرنا الشخصي إلى العالم وإلى الله. إنها حركة حبنا المخلص والاندفاع الذي به يتوجه قلبنا بالإعجاب نحو ما هو عظيم وكريم وجميل. إنها الحركة التي بها نتكئ على قلب الله بالإيمان والثقة. فالروح هي في عمقها شوق إلى الغير المتناهي ولذلك تستطيع أن “تجاوز” كل ما هو أرضي ومحدود وكل ما هو زمني وزائل. وهي ترتكز على الله وعلى الأبدية. إن هذا التجاوز الذي هو في إمكانية الروح ليس في الحقيقة ترك لما هو زمني وأرضي. بل إنه يضيف بعداً جديداً لحياتنا الواقعية. إنني مثلاً أعيش مشكلة صعبة، غير أنني بروحي أنظر إلى الله واثقاً بأنه “يجعل كل شيء يساهم في خير الذين يحبونه” (روم 28:8). فالروح هي أصلاً القدرة على الارتفاع فوق المواقف الجسدية والنفسية، ليس لنتركها بل لنجذبها من بعدها الأفقي إلى بعدها العامودي، أي إلى علاقاتها مع الله والأبدية. فالروح هي مثل طير في مقدوره دائماً أن يرتفع بحرية نحو السماء. وحركة التجاوز هذه التي هي من مميزات الروح تستطيع أن تتم باتجاهين: أي فوق النفس أو في عمق النفس: “إن الروح يتقصى كل شيء، حتى أعماق الله. فمن هو الذي يعرف ما في الإنسان غير الروح التي في الإنسان؟” (1كور10:2-11) فالروح تستطيع أن ترتفع نحو الله فوق النفس أو تغوص نحوه في أعماق القلب، وهي “تجاوز” كل فكرة محدودة وكل اهتمام زائل. وهذه القدرة التي تتمتع بها الروح، أي القدرة على أن تتوجه نحو باطن كيان الإنسان، هي في أساس ممارسة الصلاة القلبية، حيث تتوجه الروح، وهي حركة الشخصية العميقة، نحو الله الحاضر في عمق أعماق النفس.  
                                       روح الله

روح الإنسان   القلب

روح الله النفس الجسد إن توجّه الروح نحو الداخل غالباً ما يعبّر عنه عن طريق صورة النظر إلى الله في الداخل. إن ميزة هذا التعبير هي أنه يدخل عنصر معرفة إلى الاندفاع الحيوي الذي نتوجه به نحو الله، غير أن له مساوئ أيضاً وهي أنه لا يشير بالكفاية إلى ذلك الاندفاع. فالنظر يمكن أن يكون فقط فعل فضولية أو رغبة في المعرفة دون أن يُلزم أصل كياننا. فعلينا إذن أن نتكلم هنا عن نظر محب وواثق وساجد، يجتذب معه كياننا العميق كله. وبهذا المعنى يكلمنا يوحنا الدالياتي، وهو منشد الصلاة القلبية في العراق في القرن الثامن، عن مثل هذا النظر بالعبارات التالية: إنه “نداء صامت” و “إنصات إلى ما في الداخل”، إنه “سجود في المقدس الموجود في القلب” وهناك “ركوع في حضن الرب”. إنه “أن نعانق الله في أنفسنا”. فجميع هذه العناصر تتحد في حركة روحية بسيطة متوجهة نحو الداخل. خامساً: درجات الصلاة الباطنية هناك درجات في الصلاة الباطنية. إن الدرجة الأولى تقوم على مجرد قطع علاقاتنا الشعورية مع العالم الخارجي المحسوس لنتوجه نحو الله وحده. والمطابقة الجسدية لهذا الموقف الداخلي هي إغماض العيون، وهي الباطنية التي يمارسها الغرب عامة في الصلاة الصامتة. هكذا في هذا النص للقديسة تريزا الأفيليلة وهي مُصلحة رهبنة الكرمل في أسبانيا في القرن السادس عشر: “تذكروا ما قال القديس أغسطينوس الذي كان قد بحث عن الله في أماكن كثيرة، ثم وجده في داخل نفسه[6]… إن الذين يستطيعون أن يحبسوا أنفسهم في تلك السماء الصغيرة، أي سماء نفسنا حيث يوجد من صنعها وصنع الأرض، وسيعتادون على ألا ينظروا إلى حيث تتشتت الحواس الخارجية وألا يبقوا هناك، سيصلون بلا شك إلى مياه الينبوع ويشربون منها، لأنهم سيسيرون كثيراً في وقت قصير. كما أن الذين ركبوا سفينة يدفعها شيء من الريح الجيدة يصلون إلى هدف سفرهم بعد أيام قليلة، بينما يتأخر الذين يسيرون في طريق البر… تنسحب الحواس من الأشياء الخارجية وتتغافل عنها إلى درجة أن العيون تغمض تلقائياً لئلا تراها، ولكي تزداد بصيرة عيون النفس تيقظاً. وفعلاً فإن الذين يسيرون في هذا الطريق يغمضون عيونهم، تقريباً كلما يصلون. وهذه العادة هي ممتازة من نواح كثيرة. صحيح أنه تتطلب جهداً لئلا ننظر إلى أشياء هذا العالم، ولكن في البدء فقط. ففيما بعد لا حاجة إلى أي جهد، أو بالأحرى أن فتح العيون في هذا الوقت هو الذي يتطلب جهداً أكبر”. (أنظر طريق الكمال2:28-4)[7]. إن هذا “الاختلاء” مع الله في داخل النفس هو نوعاً ما مثل اختلاء شخص يغلق باب حجرته ليكون فيها منعزلاً عن العالم الخارجي، غير أنه يبقى قرب الباب. ولكن هناك شكل آخر وأوضح للباطنية، وهو شكل باطنية “الصلاة القلبية” بالذات. فالباطنية الآن لا تقوم فقط على الانعزال من العالم الخارجي بل أيضاً على التوجه نحو داخل البيت. إن حركة التوجه نحو الداخل هذه تفترض في الحقيقة سنداً جسدياً. فإن النفس لا تستطيع أن تتوجه بصورة واضحة نحو مركز ذاتها، أي نحو “قلبها”، وأن تثبت فيه نظرها دون أن يتركز الجسد نفسه على داخل ذاته وهو يوجه نظر عينيه نحو داخل الصدر، قرب القلب، متخذاً بقدر الممكن موقفاً جسدياً عاماً يساعد على تركيزه هذا، مثل الجلوس مع انحناء الرأس أو السجود مع الجبين على الأرض.