سرّ الـزواج

1- هبة حرية:
تشدد الكنيسة، حتى ضمن ظروف ثقافية مبتاينة، على قدرة الرجل والمرأة على الالتزام في الحب بحرية، الواحد تجاه الآخر وتجاه الله. وفي ليتورجيا الزواج، أحد الأسئلة المطروحة على زوجي المستقبل هو التالي: هل جئتما بحرية وبدون أية ضغوطات؟ هذا شرط لصحة السر. الحرية قيمة.
من المؤكد أن حريتنا تخضع دائماً لبعض الظروف إلا أنها ما كانت أبداً مسيّرة بشكل كامل. كي يهب الواحد ذاته إلى الآخر، من الملائم أن يكون الالتزام بأقل خضوع ممكن فليس تعاهد الأزواج الواحد أمام الآخر ناتجاً عن عادة أو منفعة أو ضرورة. ليس من حب في الخوف والضغط. يقول يسوع: الحق يحرركم. والحب الحقيقي لا يعيش إلا في مناخ من الحرية ولا يمكن أن ينمو بدون هذه الحرية التي نتبادلها بكل ثقة، الواحد مع الآخر. ويكمن جمال هذه الحريات التي يهبها أحدنا إلى الآخر في أنها تقرر عدم اتخاذ أي قرار بدون الآخر. وهي تحدد لحريتها الشخصية شرطاً "نبيلاً" هو: القرين الآخر. وهكذا يقدم أحدنا حريته ليجد "حرية أخرى" أكثر اتساعاً بواسطة المشاركة الشخصية. وهكذا ندخل في "خروج" من الذات لنتذوق أمراً "جديداً": ننتقل من "الفردية" إلى "الثنائية". هذه الحرية التي يعيشها الزوجان يؤسسها ويزيدها الحب. إنها تغيّر الحياة بصورة ملموسة لأن العيش معاً يعطي بعداً جديداً لجميع مظاهر الحرية الشخصية. تعبّر هبة حريتي الشخصية عن السخاء والوفرة وهي تعارض أية نظرة أنانية للزوجين. وإذا كان الحب موجوداً، يوسّع الزوجان الحرية وشروط الحرية لكل منهما فيقوى كيانهما مع مرور الزمن.
من العلامات المميزة للالتزام الحر كلمة "نعم". فأن نقول "نعم" يعني الانفتاح نحو مشروع مشترك ويعني الاستجابة إلى نداء شعرنا به وكشفناه وسمعناه. وأن نقول "نعم" يعني الرد بكل كياننا وخاصة في القبول الزواجي. في أغلب الأحيان، يعبّر العاشقان بطرق متعددة عن توق أحدهما للآخر وعن رغبتهما في أن يبنيا معاً شيئاً يدوم وبأن يستمر حبهما المتبادل إلى الأبد. والوعد المتبادل هو "نعم" يقولها كل منهما فيتلقاها الآخر كهدية شخصية. إنها "نعم" تجعل القرين يحلم، وتدخله في أرض جديدة، أرض بكر عليه زراعتها وجعلها جميلة. ولا تعطى هذه الـ "نعم" بسهولة دائماً، فبالنسبة للمقدمين والمقدمات على الزواج الذين يعون حجم الالتزام، تحتوي الـ "نعم" تبعة كل ما هو مأمول وجميع متطلبات ما سيكون. وليست الـ "نعم" ملجأ بل هي مخاطرة ومغامرة سوف تبدأ.
بريسيلا وجان لويس
نحن نعرف جيداً كوننا زوجين مسيحيين أن هذه الـ "نعم" التي يتبعها "أقبلك كزوج، أقبلك كزوجة، وأقدم ذاتي لك لأحبك وأعتني بك طوال حياتنا، في الأيام الحسنة والصعبة، في الأفراح والأتراح حتى يفرق الموت ما بيننا". هذه الـ "نعم" الصغيرة المقتصرة على ثلاثة حروف تحتوي ما يشبه البذار والمورثات لكل حياتنا الزوجية. ثلاثة حروف هي ثلاثة أنغام صافية تحتوي كامل سمفونية حياتنا، وسوف تصدح بشكل خاص كفعل شكر في "الأيام الحسنة" وبصورة "نداء تذكير" في "الأيام الصعبة".
كثيراً ما نقول إننا نتزوج كل يوم. ونحن وإن لم نردد بشكل ظاهر كلمات التزامنا فإننا نعيش كل يوم هذه الـ "نعم" في هبة حياتنا التي يقدمها أحدنا إلى الآخر: "اليوم أقبلك وأهبك ذاتي.." وصلاتنا الزوجية التي نتلوها مساء على مقاعد صلاتنا هي مثل يوم زواجنا. نشكر خلالها الرب لأنه رافقنا طيلة اليوم ونأتمنه ذواتنا الواحد إلى الآخر. إنه قريب منا كأب محب جداً وهو يثبّت كياننا الزوجي بفضل حنانه علينا.
إنها لأمر رمزي بشكل خاص هذه الـ "نعم" التي يتبادلها الرجل والمرأة علناً أمام العائلة والشهود. إن الكلام المتبادل مفهوم من الجميع وهو يسمح للجميع بأن يفرحوا لحب كهذا والتزام كهذا وأمل كهذا. كل وعد بحاجة لشخص ثالث، والشهود الذين يسمعون كلمة "نعم" أليسوا كذلك شهود الله الذي يسمع هو أيضاً الـ "نعم" ويشارك بالـ "نعم" ويقول بدوره "نعم" لهذه الرغبة في الحب؟ إن كان الإنسان جديراًبالـ "نعم" فكم ستحوّله هذه الـ "نعم": بعد ذلك لن يكونا إثنين بل "واحداً"! الله يفرح بالـ "نعم" لأنه الحب. أن نقول "نعم" للحب يعني أن نقول "نعم" لله وأن نسبّحه وأن نجعل ظاهراً مخططه في الخلق لكل إنسان.
يتجلى جمال الإنسان في قدرته أن يقول "نعم" للوجود، لوجوده ووجود الآخرين ووجود قرينه المقبل. إن الـ "نعم" الزوجية هي "نعم" للحياة وللاختلاف المحبوب والمطلوب وإن كان يخيف أحياناً أو يضلّ. الـ "نعم" ليست ساكنة بل هي حركة، هي حياة وهي تعطي الحياة. تبرز السعادة من هذه الـ "نعم" لمشروع مشترك: أليس القرينان من سيكرّسان ذاتيهما في خدمة "نحن" يكتشفانها معاً. الـ "نعم" قرار يقودهما إلى "بيت مشترك" جديد. وهكذا نؤكّد بأن الحرية الشخصية تنمو وتقوى في رباط الزواج حصرياً. وبينما ينحصر الأفق بالنسبة للبعض في إطار اتحاد أحادي الزواج، تنمو الحرية في الواقع وتتعمق في سر الآخر. حين يقدّم كل من الزوجين ذاته بكل حرية إلى الآخر، يكون مدعواً إلى اللقاء مع الله ومحبته لأنه مصدر كل حب.
بريسيلا وجان لويس
وهكذا نصبح كياناً جديداً فيمكننا أن نتكلم على "نحن" وأن نعمل باسم "نحن" لكي ندخل معاً في حرية مختلفة هي حرية تقديم ذاتينا معاً إلى الآخرين.
حين كنا مخطوبين، شاركنا في مظاهرة كانت تهدف إلى لفت الأنظار إلى عدم ملاءمة وسائل النقل العامة للمعوقين. وحينها أؤتمنا على "مارتا" المشلولة في كرسيها المتحرك، فظلت معنا طوال يوم كامل نتنقّل في الحافلات في بروكسيل. بعد زواجنا، استمرينا في زيارتها بانتظام. كانت تستقبلنا مقعدة في فراشها بفرح كبير لدرجة أنه كان يحوّلنا بعد عودتنا إلى البيت. هذا القدر الصغير من حريتنا الذي كنا نقدمه بانتظام إلى مارتا قوّى حبنا الزوجي ووحّد ثنائينا في "كيان" كان قادراً بدوره على أن يهب ذاته.
2- هبة كلية
لم تقديم الذات؟ ما هو الهدف من هذه الهبة المتطلّبة والكاملة التي تستحوذ على الشخص بكامله؟ الغاية من العطاء هي تكوين الوحدة الزوجية والعائلية.
بهذا المعنى فإن العطاء الشخصي "منفتح" في الوقت ذاته إلى ما هو أعظم من الشخص الذي يهب ذاته وإلى حقيقة تتجاوزه هي الزوجان والعائلة. ليس الأشخاص "عبيداً" لهذا الكيان المبهم بل هم في خدمة "سر" يتجاوزهم إلا أنه لا يتحقق إلا بمشاركتهم وحضورهم. للهبة هذا البعد، لذلك يبدو طبيعياً أن تكون كاملة. وكل شخص يجد ذاته في وحدة جديدة: "جسد واحد".
تفترض مثل هذه الهبة ثقة جذرية لا حدود لها إن كان في الشخص الذي يهب ذاته أو في من يتلقى هذه الهبة الشخصية. وكل من القرينين يقدم أفضل ما فيه وفي الوقت ذاته حدوده ونقصه وضعفه. إنه يقدم كل شيء حين يهب ذاته. ولا يمكن للقرين أن يبقى عازباً، إنه قرين للآخر أي إنه يستسلم للغير في "عريه" أي في حقيقة الشخص كما هو تماماً. من المؤكد أن هذه الحقيقة تقريبية وغير معروفة تماماً إنما يتم اكتشافها من خلال تقديم الذات. يُظهر الوعد حقيقة كل شخص، فهناك قفزة يجب القيام بها ومخاطرة يجب خوضها، وهي التي تسمح باكتشاف الجديد.
ليست هذه الهبة ذوباناً أو إضعافاً للشخصيات ضمن كلّ متجانس أو ضمن كيان يُخضع الحريات الإنسانية، وليس الكيان الزوجي مؤسسة صغيرة يجب التضحية بكل شيء في سبيلها. إن كنّا نتحدث عن الهبة الكاملة والحصرية فذلك ضمن الشرط التالي: أن يحافظ كل واحد على شخصيته وأن يجد في هذه الهبة "الأرض الملائمة" كي ينمو ويقوى ويزدهر في الحب. إنه لصحيح وإن كان صعباً أننا نستطيع أن نحافظ على شخصيتنا ونحن ننظر إلى الآخر نظرة إعجاب وتشجيع، وأن نحافظ على شخصيتنا ونحن نحب الآخر باحثين عن تقدّمه. ضمن هذا الشرط يزدهر الحب وتتشكل الوحدة الزوجية. ومعاً، نبني في الحب ما يتجاوزنا وفي الوقت ذاته ما يسمح بأن نكون ذاتنا في أعيننا وأعين الآخرين وعينيّ الله.
بريسيلا وجان لويس
حين سئلت إحدى بناتنا عن الصورة التي تحملها عن والديها قالت: "ما يعجبني بشكل خاص في والديّ هو الاحترام الذي يكنّه كل منهما للآخر… من المهم جداً احترام كون الآخر مختلفاً. إن احترام اختلاف الآخر يسمح له بالحفاظ على حريته وبأن يكون ما هو عليه، وحرمان الآخر من هذه الحرية يعني جعله تعيساً ومنعه من الازدهار، وبالتالي يصبح ذلك عائقاً أمام تفتّح الزوجين بالذات".
بالفعل تفترض هذه الهبة الكاملة احترام الواحد الآخر والإصغاء له. لا يمكن لما هو "كلّي" أن يصير "كلّياني" متسلطاً إذ تستوجب صفة الكلي أن يلتزم كل واحد بحرّية أن يحترم الآخر في كيانه الأكثر عمقاً، ولا يمكن للآخر أن يصبح عبد رغباتي ومشاريعي ونزواتي. لست شرطياً يراقب الآخر، فكل واحد حارس لكيان الآخر في سره المصون. يبدأ الاحترام بالإصغاء إلى ما هو الآخر في اختلافه. نلمس هنا شفافية ليست "جليدية" بل حارة تحترم سر الآخر وجماله وقسماً من حديقته السرية. هذه الشفافية المتبادلة هي شرط لكمال الهبة وتسمح لها بأن تأخذ كامل حجمها في تاريخ الزوجين والعائلة. وتغذّي هذه الشفافية الاحترام والثقة وإن تطلّب ذلك اجتياز بعض الغموض وعدم التفاهم وحدوداً يتعذر تجاوزها. يكون الآخر في هبته الكلية أكبر دائماً من الكلمات التي قد تعبّر عن هذه الهبة. ولا تعني حدوده أن هبته ليست كلية بل هي تبيّن أن هذه الهبة تتجاوز حدود المظاهر وفي الوقت ذاته أنه يمكن تجديدها وإغناؤها بفضل النعمة الإلهية.
3- هبة نهائية ودائمة
هل بالإمكان تقديم الذات والاستمرار في تقديم الذات بالطريقة نفسها وبالزخم نفسه مع مرور الزمن؟ بالنسبة للغالبية من معاصرينا، حلّ الشك بذلك أقلّه بسبب ازدياد مدة الحياة الزوجية بشكل ملموس نسبة إلى الأجيال السابقة. ثقافياً، نحن عطاش إلى حب يتجاوز الموت ويدوم إلى الأبد، وفي الوقت ذاته يفكر البعض في أمانة متتالية ذات وجوه عديدة: امرأة لرغباتي، امرأة أبني معها حياتي المهنية، أم أولادي، العشيقة التي أتوله بها في السن التي يظهر فيها "شيطان الظهيرة"، رفيقة أيام شيخوختي… إن عدم انحلالية الرباط الزوجي ليس صعب احترامه فحسب بل صعب فهمه والتعهد به كذلك. يُنظر إلى الزمن كعدو للحب فهو يستهلك ما هو جيد، لذلك يرغب بعضهم بالتأقلم مع هذه المعطيات الجديدة وابتكار نماذج زواجية أكثر مرونة.
بريسيلا وجان لويس
ومع ذلك فحين نسأل شباب اليوم عن السعادة والقيم التي يرونها هامة، تجيب الغالبية العظمى: "العائلة" وتجيب ابنتنا: "عائلة يسودها السلام والطمأنينة والفرح والمشاركة".. "كان أهلنا يكرّسون وقتاً لنا فكانوا يتأملوننا ويضعون إلينا ويساعدوننا… كان باستطاعتهم عمل كل ذلك لأن كيانهم الزوجي كان في سلام ووفاق".
"جاء دورنا الآن لنحاول اتباع هذا المثال الحسن حتى نجعل نحن أيضاً، زوجي وأنا، أولادنا سعداء".
الخاطبون والأزواج الجدد يضعون إذن في رأس سلّم القيم "النجاح في حياتي مع قريني حتى نجعل معاً بدورنا أولاداً سعداء". لذلك يراقب الأولاد حياة الأهل بحثاً عن مثال يحتذى به أو عن وصفة "كيف نتصرف".
"ما يعجبني في أهلي أنهم بعد ثلاثين سنة زواج ظلوا عاشقين مثل عريسين "متزوجين حديثاً". أنا أعرف ذلك لأني أراه. الكثير من الأزواج لم يعودوا يقبّلون أحدهم الآخر أو لا يتبادلون أية لفتة حنان بعد عدد مماثل من سني الزواج، أما أهلي فلا يزالون…"
وهكذا نلمس أهمية القيم الجوهرية للأمانة وعدم انحلال الزواج المسيحي، وعدم الاستقرار الذي يسببه بكل أسف انفصال أهالي الشباب بحثاً عن قيم صلبة تكون مرجعاً لهم.
الرباط القوي يعطي القوة. ليست الهبة المبدئية بين الأزواج كالالتزام المهني أو الخدمة المبذولة. إن "كلّية" الشخص الذي يقدّم ذاته إلى الآخر تكسب الرباط المؤسس في البداية قوة ترتبط بسر الآخر. إن وهب الذات بهذه الطريقة ليس بالأمر العادي. بشكل رمزي فإن الهبة تتعلق بكامل الكائن البشري في حياته الأرضية، وبشكل حقيقي فإن للهبة قوة ثبات الحرية الشخصية. ويتعلق العهد بالسر الذي لا ينضب للشخص المتلقي والشخص الذي يهب ذاته. إن الرغبة في الحب لا تخضع للزمن الذي يمر فحسب بل كذلك للزمن الذي هو الآخر، إذ إن الارتباط الذي يدوم يمتلك تلك الصلابة الشخصية. إنه أنا، إنه أنت، إنه نحن. إذا كانت الشخصيات والصفات والأجساد تكتسي مظاهر مختلفة حسب فصول العمر فإن الشخص يظل هو هو. هذا هو سر الحب الذي لا ينضب والذي يجري نبعه بغزارة دائماً أبداً حتى يمكن أن يصير نهراً.
يكون العطاء الزوجي مشبعاً بتلك الرغبة في الحب التي تثق بالآخر من خلال كل شيء والتي تترقب ثمار هذا الحب عبر الزمن. الزمن حليف للقرينين إذا ما عاشا حبهما كعهد يحترم ما هما عليه. ونفهم جيداً كيف أن هذا العطاء النهائي لا يمكن أن يستند فقط على المشاعر أو الصفات الخارجية للرجل أو المرأة. تكون الحياة مأسوية أحياناً ولا يمكن للحب إلا أن يتحد بالحقيقة بمظاهرها المختلفة كالمرض وتبدلات الرغبة والخيانة. الحب أقوى من كل شيء إذا ما عبّرت رغبة القرنين بوضوح، بانتظام واستمرار، عن العهد الأولي. ويكون ذلك بأن يجددا زواجهما يومياً لأن كل يوم هو يوم جديد تدعى فيه الحرية إلى أن تقول "نعم" وتكرر هذا باستمرار. الزمن صديق الحب فبدونه كم من اللفتات والكلمات تبقى سجينة، ومعه كم من الاكتشافات غير المتوقعة وكم من الخصوبة!
إن الرغبة في تقديم الذات بدون أي مقابل شرط لحب حقيقي وصادق، وهذه الرغبة هي كذلك مكان ازدهار الأمانة. الوعد الذي يتبادله كائنان يلمسان بهذا الشكل أساس ما يقدمانه الواحد إلى الآخر، لا يمكن إلا أن يكون نهائياً وإلا تحوّل إلى لعبة أو خدعة حب. أن نعد بأن يحب واحدنا الآخر حباً زوجياً يعني أن نعد بالذهاب في الحب حتى النهاية. وليس إنجاب الأولاد بشرط لتحقيق هذه الأمانة إلا أنه يثبت مع الزمن تطلعات الحب الزوجي المدعو إلى أن يصير عائلياً. وهكذا ينقذ الزوجان الأجيال من النسيان ويتوصلان إلى تسجيل أولاد البشر ليس في ما هو افتراضي ولحظي بل في الأعماق السعيدة والهادئة للتاريخ البشري. بالنسبة إلى كل واحد منا، أن نكون أبن أو بنت والدينا هو شرط لتشكل هويتنا الشخصية ولبداية حياة سعيدة.
أغلب من يتزوجون كنسياً يتأرجح شعورهم بين الإحساس بالطلب من الله مساعدته لتقوية حبهم وبين الخوف أحياناً من التزام يعلمون أنه حاسم ونهائي على مستوى الإيمان. الحقيقة أن الله، من خلال سر الزواج، لا يكسي الحب البشري بطبقة مانعة للانحلال. الحب هو وعد حياة وأبدية، إلا إنه للنعمة الإلهية مكانها في عطاء الزوجين. يمهر الله العهد بين الزوجين ويثبته لأنه كان مصدر هذا الحب وقد قرر مع الزوجين الاستمرار حتى النهاية. إن عدم الانحلالية الأسرارية تؤكد عمل الله في التاريخ البشري فهو يظل حاضراً وإن تهرّب الإنسان أحياناً من العلاقة. إن إله يسوع المسيح هو إله العهد منذ التكوين حتى سيناء. يقول الأنبياء إن إلهنا أمين. نعمة السر هي التالية: الدخول في عمق نذور الإنسان بالأمانة الدائمة وتثبيته وإنقاذه وتقويته حين الحاجة وإعطاؤه معنى، إن العهد الذي يكوّن الزواج لا رجوع عنه، ويستطيع الزوجان أن يتّكلا على الله في ذلك ويمكن لهما أن يعتبرا الله "صخرة" حبهما. يسوع هو مخلّص كل حب بشري وهو يعطيه معناه الكامل في الحياة وفي الموت. والسر الفصحي بمجمله موجود في الوعد المتبادل بين الزوجين. بالرغم من صفة التردد التي تحيط بحياة كل إنسان، يمكن لكل شخص أن يؤمن بإمكانية مثل هذا الالتزام المستند إلى الله والمتجذر يوماً بيوم في نعمته. عدم قابلية الانفساخ هذا فرصة للزوجين، والعقد هو أكثر من عقد قابل للفسخ: إنه رباط يجمع الزوجين الواحد مع الآخر ومع الله. يقول الوجه الأكثر إيجابية: "أصبحتما الآن متّحدين بالله في الزواج" ويقول وجه الضعف البشري الذي يضطلع به الله وتدعمه الجماعة المسيحية بشكل أخوي: "لا يفرّق الإنسان ما جمعه الله".
4- هبة خصبة منفتحة على مزيد من الحب
أن يهب المرء ذاته كلياً إلى الغير هو أن يختبر أن الحب في حركة "الخروج من الذات" يتجاوزنا ويقودنا نحو اللامتوقع ونحو الأفضل. وخصوبة الزوجين يعبّر عنها ضمن هذا المسار وهذا التجاوز، وهي تشمل كامل حقل الحياة المشتركة، ويجب ألا نقرنها بالفعالية التي تحمل صفة تقنية (كتحضير مائدة شهية أو التحكم بمصروف البيت أو البحث عن بيت جديد). تتسم الخصوبة دائماً بالمجانية وهي مرتبطة بسعادة الشخص وفرحه وازدهاره واكتشاف صفاته وقوته للتغلب على الآلام والصعوبات. والحب الزوجي والعائلي خصب في جميع مراحل الحياة، فالأولاد الذين تركوا العش العائلي هم دائماً أولادنا ونبقى والدين حتى النهاية.
جميع الأزواج خصبون، وخصوبتهم تأخذ "وجهاً" مع مرور الزمن من خلال ديناميكية العطاء الذي بواسطته ينفتح الرجل والمرأة على جميع قيم الشخص. يجد الزوجان والعائلة خصوبتهما في تقديم الذات إلى الآخرين. يقول النبي أشعيا "وسّع فضاء خيمتك". ليس الكيان الزوجي بهدف في حد ذاته فبقدر ما "يفقد ذاته" "يجد ذاته". للحب قيمة بحد ذاته إلا إنه يبقى دائماً "خروج من الذات" للتوجه نحو الآخر. يكمن مفتاح الخصوبة في "الترفع" و "رفض المحاسبة" و "الواهب – الموهوب" و "التقييم الدوري"، كما يكمن في الرغبة والإرادة بعدم "وضع اليد" على ما نريد وما نبني، كما يفعل الوكيل المتواضع والأمين في الإنجيل. في سبيل "تأمين" خصوبة حقيقية للحب الزوجي لنترك مجالاً للمغامرة. القدرة على القول إلى الآخر: "أنت لا تخزلني" أو بعد عدد من السنين: "أنت لم تخزلني أبداً" لن يكون ممكناً إلا إذا لم نختزل هذا الآخر ضمن مشروع أو ضمن نظرة مثالية. لا يمكن اختزال سر الآخر أبداً ضمن صورة أو رغبة أو حكم، كما أن التكامل بين الشخصين ليس كافياً، فالخصوبة تتجاوز هذا التكامل في الطباع والصفات والرغبات. هذا العطش إلى السعادة المعيشة ثنائياً يجب أن يحتوي على الرغبة في اللانهاية واستقبال النعمة. إن الخصوبة في يدي الله.
الخصوبة أكثر شمولية من إنجاب الأولاد وتربيتهم إلا أنها تتضمنها بطبيعة الحال. هل من شيء أكثر حداثة وأكثر اختلافاً وأكثر مكافأة وأكثر حيرة من الولد الذي يجعل الزوجين عائلة. في كل ولادة، يستيقظ عالم جديد وتكون التغيرات عظيمة. هناك شيء "طبيعي" في قدوم الولد لزوجين متحابين، فالأجساد التي تتحد موسومة دائماً برمزية ظهور الولد. الرجل خصب دائماً بينما المرأة ليست كذلك، ولكن العناق الزوجي يمتلك في ذاته ذلك المعنى المضاعف للاتحاد والإنجاب.
نحن نعلم أن الزوجين اللذين يرفضان عمداً ونهائياً استقبال الولد لا يكون عقد زواجهما صحيحاً. بالمقابل يمكن للزوجين العاقرين المنفتحين على التبني أن يتزوجا. هذا يعني أن العطاء الزوجي موسوم دائماً بالصفة الوالدية. إن أفق كل خصوبة هو أمر شخصي داخلي. نحن نعلم جيداً المحنة والألم القاسيين التي يسببها العقم فهو يهز أركان الزوجين. كل رغبة في ولد أمر معقد والحب وحده كفيل بتنقية مثل هذه الرغبة. للولد حقوقه ولكن ليس من "حق في الولد"، فالرجل والمرأة لا يمتلكان أية حقوق في الحصول على ولد سواء تجاه المجتمع أو تجاه الله. وغياب الولد لا يعني بالضرورة فشل حياة الزوجين كما إن الحق المطلق في الولد مجرد وهم. ليس الولد "موضوع رغبة" مثل أي شيء آخر إنما هو كائن كامل الصفات، إنه عطية الحب وهبة الله.
بريسيلا وجان لويس
التطورات العلمية الحديثة في مجال الإنسال (الإنجاب الاصطناعي) لا تقدم أكثر من حل جزئي لمسألة الخصوبة أو بالأحرى "انعدام الخصوبة" المنجبة. أكثر ما هنالك أنها تقترح مسكّنات. ولقد بدأنا نعي شيئاً فشيئاً أن هذا التقدم العلمي بالذات يفتح الباب أمام انحرافات خطيرة متعلقة من الناحية الأخلاقية، ليس لنا نحن المسيحيين فقط بل لعدد متزايد من غير المسيحيين كذلك. أمام الفراغ القانوني المحيط بهذه المسألة، لنتذكر "الأمهات الحاضنات" و "الأطفال الأدوية" ومطالب مثليي الجنس. لقد بدأت الأحزاب السياسية تتحرك في سبيل "تشريع" المسألة، وأصبح "الحق في الولد" يبرز في الساحة في سبيل سد الفراغ ومعالجة الألم الذي يسببه غياب الولد. هذا الألم الحقيقي فعلاً والعلاجات التي يقترحها العلم لا يمكن أن تتركنا لا مبالين تجاهه.
لقد عانينا هذا الألم، بريسيلا وأنا، نتيجة عقم ثانوي حدث بعد إخفاقات متكررة في الحمل. لم يلتئم جرحنا وألمنا إلا عندما وعينا أن الرب يدعونا لنكون "خصبَين" بطريقة أخرى وفي مجالات أخرى. ولكن قد يعترض أزواج لا أولاد لهم بقولهم "كان لكم فرح "تدليل" الأولاد الذين حصلتم عليهم بينما نحن…" لهم كامل الحق فآلامنا لا يمكن مقارنتها.
مع ذلك فهذه الظروف سمحت لنا بأن نفهم بأن الإنجاب الجسدي لا يسمح لنا بالاقتصاد بالخصوبة الروحية. لا تشكل هذه الخصوبة الروحية بديلاً عن الخصوبة الأولى. نحن نعتقد أن رسالتنا في الخلق لا يمكن أن تقتصر على التكاثر وإعمار الأرض. لقد وعينا أن الآب الخالق يدعونا منذ التكوين إلى الخصوبة الروحية وإيلاء أبناء الله في الإيمان والرجاء والمحبة.
غرمنا على الالتفات إلى الآخرين، "فخرجنا من ذاتنا" متجهين نحو "الأفضل"، نحو "غير المتوقع" من الله. لقد جعلنا هذا الانفتاح نحو ما هو مفاجئ جاهزين لما ينتظره الله منا.
لنرجع قليلاً إلى الأولاد الذين استقبلناهم كعلامة عن خصوبة الحب. الأزواج مدعوون للتعاون مع الله الخالق والآب. والطريقة التي يتّحدون بها مصدر قوة خاصة لهم. حين يقدّم كل من الزوجين ذاته في الفعل الزواجي، يجدان ذاتهما وتتوضح لكل منهما هويته الخاصة، المذكرة أو المؤنثة، كما يتشكل كيانهما الوالدي. وحين يكونان قريبين من الفعل الإلهي يختبران فيه خطوطه المميزة وهي القدرة والخلق والمجانية، ويتجلى الله فيهما كالمعلم والرب لكل ما هو مخلوق. كل شيء خاضع لعمله الخلاق فالعالم كله عجينة بين يديه هو "الخزّاف". "الحياة البشرية مقدسة لأن فيها منذ البدء عمل الله الخلاق". كذلك الأمر بالنسبة للعلاقة الزوجية وثمرة الحمل البشرية "يا رب اختبرتني فعرفتني. عرفت قعودي وقيامي، وتبنّيت أفكاري من بعيد. أنت تراقب سفري وإقامتي، وتعرف جميع طرقي" (مز 139: 1-3). يلمس الزوجان عن قرب، عمل الله هذا، ويترجَم وعيهم هذا الحضور بالاعتراف بالجميل والاكتشاف الجديد دائماً وفعل الشكر. إن تذوق حضور الله هذا في حميمية الذات وفي حميمية علاقة الزوجين هو تعبير فريد عن الخصوبة البشرية. فإذا جاء الولد تكون الهبة مضاعفة إذ إن هذا الكائن الجديد هو "هبة تتدفق من الهبة". الولد هو شخص – هبة يحصل من عطاء والديه ومن هبة الوجود التي يقدمها له الله "لا أحد يأتي إلى العالم دون أن يكون الله قد أراده مباشرة". تتضاعف قوة هذا التأكيد المجمعي حين يعي الأهل مسؤوليتهم وحين "تتفق" رغبتهم الحرة في استقبال الولد مع إرادة الله. في بعض الأحيان، لا يكون هذا "التطابق" كاملاً بل قد يكون تحدّياً حقيقياً للحب البشري. بيد أن كل ولد في طور التشكل في رحم أمه يفصح عن وجه وحيد لمحبة الله وعمله. الولد الجنين معهود به إلى إنسانيتنا منذ الحمل به، فإذا كان وجوده، المجروح أحياناً، يدخل في وجودنا فذلك ليقول لنا: "أحبّوني بما أنا عليه". يشير الحمل بالولد إلى غيرية جديدة فهو يبيّن أن الحب ليس ثنائياً فقط بل متعدد دائماً. وهذه الخصوبة تعيدنا إلى الطريقة التي أحب بها الله كل إنسان باسمه، الصغير والكبير، المجروح والسليم. وقدوم الولد لا يشير إلى نجاح تقنية معينة أو فعل بشري بل إلى مجانية حب الله الذي نلمسه في جسد الإنسان والذي يحافظ على الحرية الشخصية في جسد كل منا.
إذا كان الولد هبة فسيغمرنا بـ "الإضافة" التي يشكّلها. ولا يمكن تسخير لا حضوره ولا غيابه لسعادة البالغين. الحب الزوجي الخصب مدعو في أغلب الأحيان إلى ترشيد رغباته. يكون الولد أحياناً ساحة من ساحات صراع الحب. ويجب التخلي عن الحلم بالولد الكامل للوصول إلى الاعتراف بالولد الحقيقي، فتصنّف صفاته ومهاراته في خلاف ما يظهر، وتكمن كامل المهمة التربوية، وهي ثمرة الحب الزوجي المدهشة، ضمن هذا الأفق. لنقارن هذه المهمة بعمل "الزارع" الذي يرمي بذاره بسخاء في الأرض التي أوكلت إليه. فالتربية هي أن يأتمن المربي كلامه للشخص الآخر الذي يستقبل هذا الكلام فيتوطد فيه ويحيا به وبذلك يجد هو أيضاً السعادة. الحصاد ليس "آلياً"، وخصوبة أقوالنا ومثالنا واستقامتنا وقيمنا تحتاج إلى وقت كي تصبح "ظاهرة" وليس فقط "لتكتسب جذوراً" بل لكي تنمو كذلك في قلب أولادنا. ومن المناسب أن نجعل أفعالنا تطابق أقوالنا، إذ هناك دائماً فجوة بين القول والفعل، فأن نبقى يقظين لحقيقة حياتنا أمر ضروري كي تنتقل البشرى السعيدة من جيل إلى جيل. لا أحد كاملاً إلا أن الشهادة لحقيقة الحب أمر ممكن حتى وخاصة إن تجاوزنا هذا الحب. يمكننا الشهادة دائماً للطريقة التي يحبنا الله بها من خلال المغفرة والحياة الممنوحة والهبات المتلقاة. لا يرى الأولاد الكمال في أهلهم مدة طويلة إلا أنهم يبقون متأثرين دائماً باستقامة شهادتهم. هكذا يجعلنا زمن التربية "نسافر" بين وصية الرب الإيجابية: "أكرم أباك وأمك" ووصية القديس بولس المفيدة جداً: "أيها الآباء، لا تثيروا غضب أبنائكم".
بريسيلا وجان لويس
بالفعل، كم من مرة لاحظنا أن ما زرعناه، عن وعي أو لا وعي، في التربية التي قدمناها لبناتنا قد ظهرت بعد سنوات حين تزوجن وأصبحن بدورهن أمهات. لقد اعتقدنا في وقت من الأوقات أن البذار قد ضاع وأهدر ولم يكن خصباً وها فجأة نجده قد أعطى ثماراً. هذه الملاحظة تشجعنا لنأمل عودة ظهور القيم المسيحية التي أردنا نقلها والتي نعتقد أنها جوهرية في حياتنا. فإذا لم يعد أولادنا يؤمنون أو لا يؤمنوا البتة، وإذا لم يعودوا يمارسون الصلاة أو لا يمارسوها البتة، فمن غير المجدي أن نقتل البذار أو النبتة الصغيرة التي برعمت إذ إننا بذلك نجازف باقتلاعها. لندع الرب يعتني بإنمائها حسب إيقاعه. كانت أمي تقول: "الصبر والوقت الطويل". إن توقيت الله لا يشبه توقيت البشر! قال لنا الكاردينال دانيلز في يوم من الأيام: "فكّروا بالجدول الذي يختفي في مغارة ويغيب عن نظرنا فلا نعرف إلى أين ذهب، إلا أننا نعلم شيئاً واحداً هو أنه سيخرج من جديد من مكان ما من المغارة ليتابع مسيره نحو البحر. أين؟ متى؟ نحن نجهل ذلك". منذ ذلك الوقت، كثيراً ما يقوّي هذا القول رجاءنا.
أن يكون المرء خصباً هو أن يصبر كالزمن وأن يدع الزمن يكشف له، بنعمة الرب، كامل سعة "بذاره". لا يمكن تقييم خصوبة الزوجين بنفس المعايير المستخدمة لتقييم مؤسسة صغيرة، فالعائلة تتعمق حتى حين توهن القوى وتنمو السريرة (حالة ما هو داخلي) من خلال ذكريات حياة طويلة يسكنها الألم أحياناً، ويدنو الأجل. حين تتناقص الحيوية، "لا نغلق المؤسسة" بل على العكس من ذلك يستدعي الأمر بذل طاقات جديدة في خريف الحب والحياة الثنائية. في كل سن، يتبادل الزوجان العون ويتحملان أحدهما الآخر ويهبان ذاتيهما واحدهما إلى الآخر ويشهدان لشعلةٍ تدفئهما. الألم مكان للخصوبة نشعر فيه بوجود النعمة بحميمية أكثر وبقوة أكبر، كما يمكن للإعاقة والمرض والشيخوخة أن تفتح باباً أمام الرجاء اللامتناهي، ورحيل أحد الشريكين يجعل الآخر يائساً وممزقاً إلا أن الوقت يكون قد حان لإظهار الخصوبة التي توحّد بين السماء والأرض.
5- هبة من الرب
قال يسوع للسامرية بالقرب من بئر يعقوب: "لو كنت تعرفين عطاء الله". كل تاريخ الشعب العبري يشهد لحب الله له، هذا الحب "الحنون والغيور". والعهود العديدة المعقودة، كان الله الأمين في حبه هو الذي أرادها دائماً وعرضها. يُرمز إلى هذه العهود بالعلاقة الزوجية بين الله وشعبه، خاصة عبر بشارة النبي هوشع وحياته. كذلك يبين التاريخ المقدس الوارد في العهد القديم الصعوبات التي تعترض الإنسان كي يظل أميناً للهبة المقدمة. يستدعي خلق الإنسان وخطيئته عملاً خلاصياً، فيا يسوع المخلص أنقذ الحب. إنه في الحقيقة يعطي كل إنسان القدرة على الحب، وهذه البشرى الحسنة موجهة إلى الجميع، وهذه الأوقات "الجديدة" هي أوقاتنا فكل شيء قد تغيّر مع المسيح. المسيح، ابن الله، هو هبة الآب إلى البشرية، وبتجسّده اتّحد بكل إنسان، وهذا من أكثر الأحداث مصيرية في تاريخنا البشري. يقول القديس يوحنا: جاء إلى أهل بيته. ومنذ ذلك الحين، تغيّرت حياتنا، فالله أصبح حاضراً فيها بطريقة خاصة. بيسوع اتّحد الله الثالوث بالبشرية جمعاء فأصبح قريباً من كل إنسان، في الماضي والحاضر والمستقبل. وهو في محبته للكنيسة كما يفعل ذلك منذ قرون وقرون وفي كل لحظة، يدوّن في تاريخ البشرية حداثة هذا الحب الخلاصي. والأسرار هي خيوط ضوء تشهد أحياناً في ظلماتنا أن العطاء أمر حقيقي. نحن نعيش من حضور ابن الله فأفعالنا وأقوالنا هي له وهي منه وهي لأجله. تعبّر البنية الأسرارية (بنية متماسكة وعضوية للحياة المسيحية التي حوّلها المسيح) عن حضور جديد لله، ونحن نختبرها بشكل ملموس وخاص في سر الزواج.
بريسيلا وجان لويس
نحن نشعر بذلك جيداً في حياتنا كزوجين. إن غاب العطاء انعدم الحب. الحب أمين فهو عطاء نهائي، والحب لا يسترجع ما وهبه. يقول تعبير شعبي: "العطاء يعني العطاء النهائي والاسترجاع يعني السرقة". إلا أننا نرى أن العطاء بين الزوجين أكثر قوة من العطاء الوارد في المثل الشعبي. إن عطاء الزوجين المسيحيين، عطاءنا المتبادل، من بريسيلا إلى جان لويس ومن جان لويس إلى بريسيلا، أقوى من اتحادنا الجسدي بل أقوى بكثير. إنها هدية من الله، وهذه النعمة لم نطلبها يوم التزامنا الواحد تجاه الآخر منذ 34 سنة وحسب، بل نطلبها اليوم كذلك وجميع أيام حياتنا.
هذه "الإضافة" التي تأتينا من الله يمكن أن يعبر عنها بطرق مختلفة. وما يختص منها بالسر هو أن المسيح يهبنا أن يقدم أحدنا ذاته إلى الآخر بشكل حقيقي. وككل أمر على الأرض، الحب كذلك قد خلّصه المسيح. بروحه القدوس، حرّر المسيح في كل منا قوى المحبة ففتح في قلوبنا دروباً. إذا تجاوزنا الإغواء المتبادل، الحب هو "الرغبة في تقديم الذات إلى الآخر كما هو وطلب الخير له". تسكن قلوبنا الكثير من المخاوف، والكثير من الجروحات محفورة في عقولنا وأجسادنا. المسيح لا يلغي كل شيء وإن شفا، إلا أنه يجدّد ويقوّي القدرة على الحب لدى من يرغب الالتزام في الزواج.
بشكل أعمق، لا يكون التقاء الخطيبين ثمرة الصدفة بل ثمرة العناية الإلهية، أي الله الذي يرعى تاريخنا، وهي حاضرة في لقاءاتنا وتوقظ حرياتنا بشكل ودي. لا يتخذ المرء "زوجة" أو "زوجاً" بالقوة أو حسب التقاليد الاجتماعية ولكنه يدرك بالنعمة أن الآخر هبة من الله، وأنه أعطي لنا ليكون رفيق دربنا في هذه الحياة. إنه بالنسبة إلينا "وجه" يمثل المسيح بشكل خاص، والمسيح وروحه القدوس هو الذي يوجد قوة الحب هذه ويدعمها وينعشها. تبرز خصوصية الزواج المسيحي في الوعي أن الآخر لا يخصني ولن يكون تابعاً لي أبداً بشكل مطلق. القرين هو "علامة" عن الآخر، عن الله. الله يعطيني "علامة" من خلال الشخص الذي يضعه في طريقي والذي أستطيع أن أقول له "نعم" بأمانة وبدون تحفظ.
أ- الله يعطينا أن نعطي
أن أثق بالله يعني أن أضع حياتي بين يديه: القرارات واللقاءات والأحداث المختلفة. يسمح الروح القدس للمسيحي أن يفسّر وقائع الحياة ويبيّن له من حين إلى آخر عمل الله الجليّ. وكما يشير المزمور فالله "موجود في كل آن وفي كل مكان" فلا شيء يخفى عن معرفته حتى لو احترم حريتنا إلى أقصى الحدود: "من ورائي ومن قدامي يحيط بي، وتجعل عليّ يدك. معرفتك هذه ما أعجبها. هي أسمى من إدراكي. أين أذهب وروحك هناك؟ وأين أهرب من وجهك؟ إن تسلّقت السماء فأنت فيها، وإن نزلت إلى عالم الأموات فأنت هناك. إن اتخذت أجنحة السحر وسكنتُ في أقاصي اليمّ، فهناك أيضاً يدك تهديني ويمينك تمسكني". (المزمور 139: 5-10). اهتمام الله هذا هو عناية "مُحبّة" لكل من مخلوقاته، وهذه الحماسة التي تدفعنا نحو الآخر لاكتشافه وخدمته ومحبته إنما مصدرها أعماق قلبنا.
والمسيح يشهد بطريقته لهذه الحماسة المتجهة نحو الجميع. وبدون أن يكون المرء متزوجاً، يبيّن لنا أن الحب غيريّ (يفضّل حاجات الآخرين على حاجاته الخاصة) أي منفتح وقابل لتقديم ذاته إلى "الغير". وإذا كان الطريق الأقصر من الإنسان نحو ذاته يمر بلقاء الآخر فلأن الله أراد الأمر كذلك وذكّرنا به في المسيح. حين نقدّم حياتنا نجدها، ويقول الرب: من يفقد حياته لأجلي يربحها. هذا الخروج من الذات نحو الآخر يجد أساسه في المسيح، فأن ننقذ العالم لأجل المسيح يعني أن نتيح لكل شخص إمكانية تقديم ذاته حتى النهاية في جميع القرارات المتخذة وجميع العلاقات المعيشة. والرجل والمرأة ليسا وحيدين حين يقدّمان ذاتهما الواحد إلى الآخر فالله في صميم عملهما.
ب- الله يهب ذاته في فعل تقدمة ذواتنا
الرب حاضر في صميم الأحداث وخاصة في الأفعال الحرة التي يقوم بها الرجال والنساء ذوو الإرادة الطيبة. وفي القبول الزواجي يقوم الرب بخطوة إضافية مع الزوجين فيقول هو أيضاً "نعم". إنه يلتزم في قلب حرياتنا البشرية و "معها" ولصالحها. وهو بالذات يهب ذاته ليحبّ الزوجين بما هما عليه، وليحبّ كل قرين بالصورة التي هو عليها وتاريخ العائلة كله بالصورة التي يتحقق فيها. هذه الخطوة الإضافية إنما هي قرار إلهي ملموس يخص تاريخ هذين الزوجين ونتلقاه بدورنا من خلال الإيمان بالكنيسة. نحن شهود لذلك في ليتورجيا الزواج وسنكون شهوداً أقل علانية أحياناً في مختلف مراحل الحياة الزوجية والعائلية. الله يسكن في قلب حياة الزوجين أكثر مما نتصور أحياناً، فإذا انتقل الزوجان إلى مسكن جديد، جاء ليسكن معهما مع احترامه الحرية البشرية. إنه فعلاً "عمانوئيل" الله معنا، وفي وجوده ضمان وقوة وتثبيت وتطلّب وحقيقة للعلاقة المتبادلة بين الزوجين.
ج- الله يرافقنا في هبة ذاته المستمرة إلى كنيسته
المسيح هو العطاء المتجسد، وهو ليس إلا عطاء فوجوده على الأرض وعلاقته بأعضاء الكنيسة يعبّر عنه بهذه الكلمة "هبة الذات". فيها نكتشف الحب ومنها تعيش في كل لحظة الكنيسة أي الشعب الذي أبرم معه الله "العهد الجديد والأبدي". هذه "الهبة" دائمة بحيث إن روح يسوع بالذات هي التي تظهرها وتغمر الكنيسة بها.
يعني التشبه بالمسيح واتّباعه ومحبته الدخول في منطق العطاء هذا. إنها مهمة مستحيلة بدون النعمة التي يقدمها لنا. إن حياة الكنيسة قوة وحيوية لأنها ترتبط بشكل دائم بربها، ويقول أشعيا عن ذلك: "زوجكِ وخالقكِ". وهكذا يحب المسبح الكنيسة إلى درجة أنه يقدم ذاته لها كعريس شاب، عريس أمين ومتنبه، عريس لطيف وحنون، عريس شجاع وقوي، عريس صبور وخدوم. الرباط الموجود بين المسيح وكنيسته لا يمكن حلّه: "سأكون معكم حتى نهاية العالم"، وكما يقول القديس بولس: "هذا السر عظيم، وأعني به سر المسيح والكنيسة" (أفسس 5: 32)، فمن يحب المسيح يحب عروسه الكنيسة والعكس صحيح.
بواسطة سر الزواج، يضع المسيح العروسين الجديدين في مركز علاقته الزوجية بكنيسته، ويكون الزوجان في مركز النعم المتبادلة ومركز الحب الذي يتقاسمه المسيح مع كنيسته. وأكثر من ذلك، كما في كل قصة عائلية، يدعى الزوجان إلى الشهادة لرباط الحب هذا، وهما يقدمان صورة عن هذه العلاقة في جسديهما بالذات. هذا "السر" العظيم صار ظاهراً وحاضراً في تاريخ البشرية وفي جميع أرجاء الأرض بفضل ملايين الأزواج المسيحيين الذين يحبّون بعضهم بعضاً "في الرب". وهم يقدمون بواسطة هذا الحب الأسراري علامة إلى الآخرين. إنهم يقولون، كل بلغته وعبر تاريخه، إن الله مستمر في محبة شعبه بشكل ملموس ودائم. ويكون الأزواج، وقد أشركتهم النعمة في رباط المسيح بالكنيسة، علامة مميزة لمحبة الله لجميع البشر وفي جميع الأوقات.
بريسيلا وجان لويس
إننا بهذا الشكل نعي ضعفنا الذاتي وخياناتنا لمخطط الله لنا ولكياننا الزوجي. في الوقت ذاته نتألم إذ نرى الزواج يفقد "معناه" في مجتمعنا المعاصر، وكثيراً ما يتم ذلك حتى لدى القريبين منا. نحن بحاجة إلى حب الله الخلاصي هذا.
أين أنت يا رب؟ لماذا تخلّيت عنا؟ تعال يا رب لمعونتنا ولمعونة "الزوجين والزواج". إن كانت إرادتك تتحقق في رؤيتنا نشهد لحبك الإنسانية، أعطنا النعمة، أعطنا القوة، قوة روحك القدوس، فالزرع يتأخر نموه ونحن محبطون. أعطنا أن نتعرّف العلامات التي يدعونا روحك القدوس من خلالها إلى الشهادة! ساعدنا يا رب أن نلبّي رسالة "الأزواج المسيحيون في الكنيسة وفي عالم اليوم" كما ذكرتنا بذلك رابطتنا غداة التجمع الدولي في سانتياغو (إسبانيا) العام 2000.
6- سمفونية أسرارية
ليس السر حركة معزولة ومحددة لا تاريخ أونتائج لاحقة لها، فجميع الأسرار تتعلق بنهر النعم الدفّاق الذي أجراه الله في كنيسته لأجل البشرية. ينمو الزواج ويزدهر ويعطي ثماراً في الحديقة الأسرارية التي يقدمها الله لنا، وهو مرتبط بأسرار التلقين المسيحي. إنه سر رسالة. بمعنى آخر، في تناغم الفرح والتسبيح الذي يمكننا الإصغاء إليه بقوة الروح القدس كما يمكننا المشاركة به، يكون الزواج وقتاً مميزاً في هذه السمفونية. إنه يشهد لحضور الحب الإلهي في الحب الزوجي والوالدي. لنصغِ إلى الموسيقا التي تعزفها هذه الأسرار الواحد مع الآخر والواحد لأجل الآخر.
الزواج والمعمودية
لقد غطسنا بالمعمودية في سر المسيح الفصحي فبعد أن خلّصنا من كل موت، نقوم معه. ولقد لبسنا المسيح بشكل حميمي، جسدياً وروحياً، ومن الآن فصاعداً "ما أنا أحيا بعد، بل المسيح يحيا فيّ" (غلاطية 2: 20). حين نتحد بالمسيح بهذا الشكل، لا نعود نملك أنفسنا، فبعد أن قدّمنا ذواتنا له، تحوّلنا من الداخل. تكتسي هذا السر منذ البداية مزايا الحب الزوجي، فكل معمّد يتّحد بالمسيح مثل "العروس التي تتحد بزوجها". وهكذا من الطبيعي أن يرى المعمّد هذا العهد يزداد عمقاً في العلاقة الزوجية. بالزواج، يعبّر المعمّدون بكامل ذواتهم عن الرباط الزوجي الكائن بين المسيح وكنيسته. لقد "دعاهم" الرب الذي يجذبهم الواحد بجانب الآخر للسير نحوه في الحياة. وهكذا يثبّت الزواج نعمة المعمّد ويكلّفه برسالة في الكنيسة وفي العالم وهي أن يبيّن كيف يحب المسيح الكنيسة والبشرية جمعاء بحب الزوج الذي يكون حباً حصرياً وخلاّقاً وموحّداً وثابتاً وأميناً. منذ المعمودية نصبح أتباعاً للمسيح، والزواج يؤكد هذه الحقيقة، فأن نحبّ يعني أننا لم نعد ملك ذواتنا بل نقدم ذواتنا إلى الآخر ونتعلم أن نقول "نعم" بكل كياننا وأن نقولها بانتظام. والزوجان، في اندفاع نعمة المعمودية، يقدّمان ذاتيهما، الواحد إلى الآخر، ليقدّما ذاتيهما معاً إلى الله. إنها نفس حركة التخلّي عن الذات للانتماء إلى المسيح.
الزواج والمغفرة
من يحب مدعو إلى أن يغفر كثيراً، وعلامات هذه المغفرة هي العطف والصبر والوداعة. المغفرة هي "العطاء الذي يصل حتى المغفرة" إذ إنها عطاء يتجدد باستمرار. في أغلب الأحيان، تجب إعادة اكتشاف سر الزواج وهو عطاء من الرب. الحب ممكن إلا أنه يجب التغلب على المخاوف والجراحات وأخطاء الواحد تجاه الآخر. ودعم المؤمنين الآخرين ضمن الكنيسة السر أمر جوهري إذ "الزوجان المنعزلان هما دائماً في خطر" : "في "الكنيسة و "بواسطة" الكنيسة يتجدد الوعي لهذه "الهدية" ويتعمق. يمكن لسر المغفرة أن يزدهر على أرضية الحوار والاهتمام بتبرير الذات وعلامات التواضع والسكينة. وبشكل مقابل، هذا السر الذي يعيشه كل من الزوجين بمفرده وكلاهما معاً يدعم الحياة في الحقيقة. وحب المسيح الخلاصي يجددنا في سر المصالحة، فعندما نتلقاه ندخل بكل حرية في التواضع والفرح. ويعني هذا السر إصلاح أنفسنا تماشياً مع محبة الله والاعتراف بأننا لا نستطيع شيئاً بدون نعمته. وأكثر من ذلك، قد يصدف أن نكون غير أمناء للحب الموعود وأن نجرح الله بطرق مختلفة. حينها، تجدد المغفرة الأسرارية القلب وتهب سلاماً قادراً على مواجهة الأزمات التي نسببها بالإضافة إلى المواقف الصعبة الأخرى. وحين يكون الزوجان واثقين من مغفرة الله، يكون بإمكانهما تعميق تعابير حبهما ومسؤولياتهما العديدة. وكونهما زوجين، ما يمس أحدهما يمس الآخر، وهكذا يمكن لجراح وخطايا أحدهما أن تثقل كاهل الآخر. وعلى العكس من ذلك، تجعل المغفرة المتلقاة القلب منفتحاً وتجعل الزوجين في اتحاد أكبر بالله والكنيسة، وهي مع محافظتها على الحياة الروحية الخاصة المغفرة المتلقاة بكل من الزوجين وعلى ضميريهما تنفعهما كليهما معاً. وما ينمّي أحدهما ينمّي الزوجين ويظهر بوضوح أو بشكل سري في الآخر وفي العائلة كلها. المغفرة تطهّر الحب الزوجي وتقوّيه، والحب الزوجي والعائلي يفتح ضمير كل من الزوجين ليعي ضعف الآخر ويحمله ويغفره وكذلك ليخلّصه. والضمير الشخصي الذي يميّز الخطيئة والمغفرة ينقّي الحب المشترك، ومن يعفيه الله "من ديونه" مدعو إلى أن يفعل كذلك وأن يغفر حتى سبعين مرة سبع مرات.
الزواج والافخارستيا
لئن احتفل بزواجات كثيرة دون افخارستيا فإن التقليد الرعوي والتعليم المسيحي وكذلك اللاهوت الروحي والأسراري، تشدد كلها على العلاقة بين السرّين. العلاقة بين الزواج والافخارستيا جوهرية سواء أثناء الاحتفال بالزواج أو في حياة الزوجين فيما بعد. وكان الأب كافاريل يؤكد بانتظام على هذا الكنز من النِعَم المتاح للأزواج.
يكمن مصدر الحب وقمته في الافخارستيا إذ يحضر فيها يسوع لتقديم ذاته إلينا وإلى أبيه. تبيّن لنا كل افخارستيا وتذكّرنا بأن عمل يسوع هو أن يقدّم ذاته حباّ بنا، وأكثر من ذلك، إنه "هبة الله". والاحتفال بالافخارستيا هو الدخول في هذه التقدمة. يقدّم المسيح ذاته إلى الزوجين أثناء موافقتهما على الزواج فهو يقول معهما "نعم". إنه يلتزم بدوره، والافخارستيا تبيّن للزوجين إلى أي مدى يمكن أن يصل هذا الالتزام. وفي كل افخارستيا، يكتشف الزوجان النعمة الخاصة بهما: كيف يقدّم المسيح حياته حتى النهاية حبّاً بالآخر. يتغذّى الزوجان في تاريخهما الملموس من محبة المسيح هذه. في الليتورجيا، نقدم الخبز والخمر ليتحوّلا إلى جسد المسيح ودمه، هذا الخبز وهذا الخمر يرمزان إلى الجماعة: حياتها وجهودها والتزاماتها.
بريسيلا وجان لويس
"اصنعوا هذا لذكري" لها معنى خاص لدينا كوننا زوجين. على صورة المسيح الذي بتقدمته "جسده" و "دمه" يجدد العهد "الأبدي" أي عهد الأمس واليوم والغد، نجدّد نحن كذلك عهدنا. ونتذكر "العطاء" الزوجي المتبادل لكل كياننا، في الأفراح كما في الصعوبات، في السراء والضراء،.. إلى أن يفرّقنا الموت. "بالمسيح وفي المسيح ومع المسيح" نمجّد الآب الذي وَهَبَنا الواحد إلى الآخر والذي يستقبلنا متّحدين معاً به.
وهكذا يمكن للزوجين أن يقدّما ذاتيهما وأن يكونا "شريكين" في سر المسيح الحيّ دائماً أبداً. بعد كل افخارستيا يدخل جزء منا، وبالتالي حياتنا، في الله ويتحول ويتحد بجسده السري. وهكذا نستنتج خصوصية سر الزواج: أن نقول "نعم" لها نفس بُعد "نعم" الله. وكما قالت مريم "نعم" لمشروع الله، كذلك يقول الزوجان "نعم" الواحد للآخر ولله الموجود "داخل" قبولهما. إنه "في" فعل الحرية ذاته. يدعو الله الزوجين ويأخذ بأيديهما ليقدّما ذاتيهما وليتبادلا المغفرة. إنه يخوض مغامرة الحب معهما، وقد يُنكَر أو يُرفَض إلا أنه يظل يسير على طريق الزوجين. أن يدرك الزوجان هذا الحضور الألهي أمر جوهري. قد يكون هذا الأدراك في سبات أو قد يلفّه الغموض إلا أن الزمن والسنين التي تتوالى كفيلة بتطويره، وغالباً ما يعي الزوجان "بعد فوات الأوان" ما هو ثمين في عطاء الرب، وغالباً ما يكون هناك فصول "ربيع" روحية جديدة تظهر في الرياضات الروحية أو في المناسبات العائلية كمعمودية أحد الأولاد والشفاء من جرح عائلي أو شخصي.
بريسيلا وجان لويس
يتزايد عدد الأزواج الذين حين يشتركون معاً بالافخارستيا. يمسك أحدهم بيد الآخر أثناء تلاوة "الصلاة الربية" وحتى تبادل السلام فيقبّلان حينها أحدهما الآخر. هذه العلامات الصغيرة الخارجية ملأى بالمعاني، فهي تساعدنا على إدراك اتحاد الحبّين، حب المسيح وحب القرين.
7- تقدمة ورسالة
كون الإنسان ضمن هذه العلاقة التي تربط المسيح بالكنيسة يؤسس علاقة الرجل بالمرأة "على الصخر" ويكون مصدراً للرسالة. ليس المسيحي أو الزوجان أو العائلة من يختار رسالته الخاصة، فكل رسالة هي "دعوة" نتلقاها من الرب. الله مصدر كل رسالة فمنه نتلقاها ونميزها ونفهمها انطلاقاً من واقع حياة الزوجين واستناداً إلى النعمة الأسرارية.
قولنا إن الزوجين يكلّفان برسالة يعني التأكيد منذ البداية أنه لا يوجد زوجان يعيشان لذاتهما فقط. الكائن العائلي، هذا "الاتحاد العميق بين الحياة والحب" يفيض حباً مصدره يتجاوز الزوجين، وهذا الحب العفوي نوعاً ما مدعو إلى الانتشار والخصوبة والشهادة للحياة وللحب الإلهي حيثما كان. هذا يعني أن ندع غزارة "المياه الروحية" تنتشر في صحارى حياتنا الحديثة. وهكذا يمكن أن يكون للرسالة وجوه متعددة ومختلفة إلا إنها تؤسس كلها على نعمة المعمودية ونعمة سر الزواج. والزواج هو استجابة لدعوة جديدة. وكما أرسل يسوع في الإنجيل تلاميذه اثنين اثنين لإعلان البشارة الحسنة، كذلك يرسل الأزواج اثنين اثنين على طريق الحب. يكون الأزواج في الكنيسة مثل "المكرّسين" فهم يتلقّون هبات خاصة بهم ويكلّفون بواسطة نعمة السر بخدمة مقدسة يؤدونها.
الرسالة المشتركة لغالبية الأزواج هي الشهادة لحب أمين وثابت وقوي. وهذه الأمانة ليست "عادة جيدة" و "مفيدة" و "ثمينة" للجميع بل هي مشاركة واتفاق مع أمانة الله بالذات لشعبه. حين يكون المرء أميناً وحين يحاول ذلك إنما "يتصرف مثل الله" في تاريخ البشر. النشاط الرئيسي للزوجين وللعائلة هو الشهادة لوجود الحب فذلك يقوّي الأجيال يوماً بعد يوم ويشهد لرجاء يجتاز الوقت والمكان. وكما يقول الأب سونيه فإن الأزواج الذين يتّحدون ويثابرون بتقوية ذواتهم يشهدون لإيمان "يجعل المستحيل ممكناً بالإيمان بإمكانيته".
إن خدمة الحياة عن طريق نقلها وتربية الأولاد أمر جوهري أيضاً، وأفق هذه الأبوة والأمومة لا حدود له لأنه من الحب. إنه يسمح ويشجع على إعطاء "طعم" للحياة بكل ما تحمله من معنى. لا يقتصر الأمر على الحصول على الأولاد أو الدعوة إلى الحياة أو الدفاع عنها بل من المناسب أيضاً إيجاد في كل لحظة معنى وطعماً للأبدية. إن ربط الحياة البشرية بحياة الله مهمة مدهشة، وهي تدمج جميع العائلات في عائلة القديسين. الأهل هم المربّون الأوائل على سر الله، ففي العائلة يبشر جميع الأعضاء بعضهم بعضاً. نحن نعتبر أن الصلاة نار تندفع من قلبَي الزوجين وتشفع لكل منهما.
في الختام، الحب الزوجي يجمع بين الروح وربها.
 Père Alain Mattheeuws S.J.
 Priscilla et Jean-louis Simonis