الخلاف بين الأهل والأبناء

الموضوع واسع جدًا ومتشعّب وقد خصّصتُ له أحد كتبي، الصادر بعنوان "خلاف الأهل والأبناء" (منشورات النور، طبعة ثانية مزيدة، 1992)، والذي نقلتُ فيه آراء الشباب أنفسهم (عِبرَ استقصاء أُجري في إحدى المؤسسات التعليمية) حول أسباب هذا الخلاف، وكنت قد تعرضت قبلاً لهذا الموضوع في كتابي "مع تساؤلات الشباب" (منشورات النور، الطبعة الثالثة، 1985، القسم الأول، الفصل الأول: علاقة الأهل بأولادهم المراهقين)، ثم عدتُ إليه في حديث لي بعنوان "بعض الأضواء على تأزّم العلاقات بين الشباب ووالديهم" نُشر ضمن كتابي"هواجس شبابية حول الأسرة والحب" (منشورات النور، 1986).
ما يمكنني أن أقوله هنا بإيجاز، هو أن ثلاثة عوامل تساهم بشكل أساسيّ في إذكاء خلاف الأهل والأبناء، ألا وهي الإختلاف بين الأجيال، ازدواجية الحبّ الوالديّ، وازدواجية المراهقة.
·       فمن جهة، ينتمي كل من الأهل والأولاد إلى جيلين مختلفين بسماتهما. لم تكن هذه مشكلة حادّة عندما كانت الأجيال، في تعاقبها الزمني، تتماثل إلى حدّ بعيد ويكرّر كلّ واحد منها ويُخلّد صورة الذي سبقه، كما هي الحال في المجتمعات التقليدية. أما اليوم، وفي ظلّ الحداثة، التي ينسحب أثرها، بشكل أو آخر، على المجتمعات كلّها، فالتطوّر يتسارع بحيث يتسّع الشقّ بين جيل وجيل كما لوكانا يتكلمان لغتين مختلفتين. فما نشأ الأهل عليه من حيث مفاهيم السلطة وقواعد اللياقة وأنماط اللباس والهندام وأصول العلاقة بين الجنسين وغير ذلك، غريب إلى حدّ بعيد عما يتوق إليه البنون بتأثير عصرهم، فيستهجن طرف ما يحبّذه الطرف الآخر والعكس بالعكس. من هنا ينشأ سوء التفاهم ونوع من "حوار الطرشان".
·       من جهة ثانية فان المحبة الوالديّة، وإن سمت قيمتها، تتّسم بازدواجية لا تخلو من خطر. فهي (من جهة) قوية، مضحيّة ومتفانية، على وجه العموم، ولكنها (من جهة أخرى)، تنـزع، من حيث لا تدري إلى حد بعيد، إلى إحتواء الولد واعتباره امتدادًا للوالدين ليس إلاّ.
هذه النـزعة – التي توسّعت في عرضها في كتابي "مواقفنا من أولادنا: إمتلاك أم إطلاق؟" (طبعة ثانية، جرّوس برس، طرابلس 1994، مجموعة "نحن وأولادنا") قد تتوسّل شتى الذرائع التربوية لبلوغ أغراضها (مع تستّر على حقيقتها)، فتحاول مثلاً تكبيل الولد بالأوامر والنواهي لشدّه إلى الوالدين، بحجة تجنيبه مخاطر الحياة. هذا ما لا يطيقه المراهق، الذي يتيقظ لديه وعي حادّ لفرادته الشخصة وإصرار مستميت على تأكيد استقلاليتها، لذا فهو شديد الحساسية لكلّ ما يبدو له، (عن خطأ أو صواب)، في محبة الأهل وحمايتهم وسلطتهم، إنكارًا لهذه الإستقلالية أو تهديدًا لها، فيتمرّد عليه ويرفضه (بعنف أحيانًا).
·       وما يزيد في تأزيم الوضع وتعقيد المشكلة، هو كون المراهق لم تكتمل بعد هويته. فهو لا يزال متأرجحًا بين طفولة غادرها ورشد لم يبلغه بعد. من هنا أن سلوكه كثيرًا ما يحيّر أهله، فلا يدرون على أي أساس يتصرفون معه. فهو يطالب بالإستقلال، (وبضراوة أحيانًا)، ولكنه في كثير من الأحوال، يبدو غير مستعدّ للإضطلاع بما يفرضه هذا الإستقلال من وعي ومسؤولية. مما يغري الأهل بأن يحسموا المشكلة باعتماد الحلّ الأسهل. فبدل أن يتكبّدوا مشقة التعامل بيقظة ومرونة مع هذا الوضع المعقّد، الدقيق (في تناقضه وتقلّبه)، يتجاهلون أحد بعدَيه، (مدفوعين إلى هذا التسرّع بملحاحيّة الأوضاع كما وبالضغط الذي تمارسه عليه مشاكلهم الشخصية والعائلية). فإما يستقيلون حيال ولدهم المراهق (كما لو انه صار بالفعل راشدًا)، وإما يعاملونه وكأنه لا يزال طفلاً، علمًا أن كلا الموقفين مؤذٍ ومدمّر. أو انهم يتأرجحون بين هذين الموقفين، وفق تقلّباتهم المزاجية. وهو موقف (أو بالأحرى لا موقف) أشدّ ايذاء من السابقين (لأن المراهق إنما هو بأشد الحاجة إلى خطّ واضح وثابت يرسمه له والداه، فيرتاح اليه بالعمق لأنه يحميه من غموضه وتذبذبه، ولوتار عليه وتمنّى اختراقه).
ما هو الحل؟ ما هي المقترحات العملية من أجل مواجهة التأزّم بين الأهل والشباب؟
هنا أيضًا اكتفي برسم بعض الخطوط العريضة.
·       علاقة الأهل بأولادهم الشباب ليست "بنت ساعتها". انها تندرج في سياق تاريخ، تاريخ العلاقة التي قامت بين الطرفين منذ أن أبصر الأولاد النور. إن علاقة سليمة بالطفل تمنح فرصة أكبر لقيام علاقة سليمة به إذا ما صار يافعًا، وتساهم في تلطيف أزمة المراهقة. لذا اقتضى أن يُقرن الأهل محبتهم للولد بابداء الإحترام له منذ نعومة أظفاره (وذلك بأن يروا فيه منذ البدء انسانًا بكل ما في الكلمة من معنى وكرامة، ولو لم تتفتّح بعد إنسانيته كليًّا). ينبغي بالتالي أن يقدّموا له الإكرام والمراعاة كما يفعلون مع الراشدين أمثالهم، أن يستمعوا اليه باهتمام بدل أن ينعتوا حديثه بـ "الولدنات"، وأن لا يتورّعوا من أخذ رأيه، خاصة في ما يتعلق بشؤونه، وأن يحاولوا بصبر إقناعه بجدوى ما يطالبونه به، وأن يشاركوه اهتماماته- مهما بدت صغيرة (لأنها ليست صغيرة في عينيه)- بصدق وتعاطف، وأن يمنحوه فسحات من الحرية يمكنه أن يتصرف خلالها كما يحلو له.
·       ينبغي أن يعطي الأهل أزمة المراهقة حجمها الحقيقي، فيدركوا أن إصرار ولدهم على التمايز عنهم- مهما بدا عدوانيًا- لا يعني التنكّر لهم والعقوق بهم، لأن ما يرفضه المراهق ليس هو والديه، بل نمط تعاملهما معه كما لو كان لا يزال قاصراً. إنه يحتاج (بالرغم مما قد يبديه من مظاهر التبرّم) إلى حضورهما إلى جانبه، وإلى ما يحمله اليه هذا الحضور من دفء عطفهما ومن سند نضجها وخبرتهما، ولكنه، وبنفس الدرجة، يحتاج إلى تبديل في نمط ذلك الحضور. وكأن لسان حاله يوجّه لوالديه، (ولو كان ذلك عبر سلوكه حيالهما)، هذا النداء: إنني لا أزال ولدكما، ولكنني لم اعد طفلكما، إنني لا أرفض البنوّة، إنما أنا رافض للتبعيّة. فهلّم نفتش معًا، ولو كان ذلك لا يخلو من جهد وتعب، عن نمط علاقة بيننا يتلائم مع وضعي الجديد. نظرة من هذا النوع إلى واقع المراهق، إذا استطاع الأهل أن يتبنوها معًا، (عبر مراجعة دائمة للنفس لا تخلو من مشقّة، ولكنها، بالمقابل، تحدو بالمراهق إلى مراجعة نفسه هو أيضًا)، نظرة من هذا النوع من شأنها أن تنتزع فتيل التفجير عن أزمة لا بدّ منها، بحيث تصبح هذه الأزمة، (لا مؤذية للطرفين)، بل طريقًا إلى ولادة علاقة بينهما أرقى، وأوفر غنى وانسانية، (علاقة تعود على كل من المراهق وأهله بمزيد من النضج والإنتعاش).
·       ومن معالم تلك العلاقة الجديدة أن يتفق الوالدان مع ولدهما اليافع- عبر تفاوض وحوار- على إطار عام وخطوط عريضة لسلوكه يقتنع هو بها، فيمنحناه ثقتهما على هذا الأساس ولا يحاسبانه على كلّ شاردة وواردة ولا يحصيان عليه أنفاسه. بل يتركان له أن يسوس أموره بنفسه ضمن الخطوط العريضة المتفق عليها بينهما وبينه، ويفسحان له بذلك فرصة التمرّس على الإضطلاع بالمسؤولية.
·       يجدر أيضاً بالأهل في هذه الفترة الإنتقالية الحساسة من عمر ولدهم، أن يعرفوا كيف ينتدبون جزءاً مهمًّا من رعايتهم إلى مربيّن من خارج الأسرة (مدرسين، مرشدين، قادة حركات شبابية…) يرتاح اليهم المراهق (لأنه يجد لديهم حياله حيادًا عاطفيًا لا يسعه أن يجده في والديه، فيتعاطى معهم، بالتالي، بأقلّ حرصًا وأكثر حرية مما يتاح له مع أهله). فإذا تمّ هذا الإنتداب فعلاً، وتخطى الأهل غيرتهم وضيقهم من هذا المرجع الجديد في حياة ولدهم، (وقبلوا أن يفسحوا مجالاً لهذا الرديف في حياته)، مكتفين بتنسيق خَفر معه بشأن فتاهم أو فتاتهم عند الإقتضاء، اطمأنت نفوسهم إلى دوره وخفّ بالتالي ضغطهم على ولدهم (وتوتَّرهم بشأنه)، فيصفو الجو بينهم وبينه، وتضحي علاقتهم به أكثر يسرًا وأقلّ إلحاحاً وأوفر مردوداً.
·       يحسن أيضًا بالأهل، في هذه المرحلة بنوع أخصّ، أن يتخطّوا، في تعاملهم مع ولدهم، العلاقة التربوية البحتة، إلى صلة إنسانية أشمل، إلى علاقة إنسان بإنسان تتعدّى وتغلّف وتحيي علاقة الأبّوة والبنّوة، وذلك عبر مساهمتهم واياه في قضايا ذات اهتمام مشترك. (أسَريّة كانت أو ثقافية أو اجتماعية أو روحية…) وعدم تورّعهم من مكاشفته، بقدر ما، وبدون تحميله أعباء تفوق طاقته،بنواحٍ من شخصيتهم (وهواجسهم وتطلعاتهم)، تسمح له بأن يرى إنساناً مثله وراء الدور الوالديّ.
·       يحسن بالشاب، بالمقابل، أن يساهم بتخفيف حدّة العلاقة الصراعيّة مع أهله، وذلك بأن يكلّف نفسه جهد عرض مطالبه عليهم بأقلّ قدر من الإنفعال وبأوفر قدر من العقلانية والوضوح، وبأن يضفي مزيداً من المصداقيّة على مطالبته اياهم بالإستقلال عبر تمرّسه على التصرّف المسؤول الذي يثبت لأهله أنه فعلاً جديرٌ بالثقة.

نقلاً عن: www.mgoa.org