من أنتِ أيّتها الكنيسة ..؟

   مقدمة

يختلط مفهوم الكنيسة عند الكثيرين من الناس، فالبعض يظن إنها ذلك البناء الحجري الذي يجتمع فيه الناس للصلاة أيام الآحاد و الأعياد، و البعض الآخر لا يرون فبها إلا تجمعا بشريا تجمعه وحدة المعتقد وآخرون يقلصون نظرتهم إلى المؤسسة الكنسية فلا يرون فيها سوى السلطات الدينية و الأشخاص المكرسين من كهنة ورهبان وراهبات.

هذه المفاهيم الشائعة لا تدرك حقيقة الكنيسة و لا تحيط بسرها إذ تبقى أسيرة النظريات البشرية المحدودة.

لا يمكن فهم حقيقة الكنيسة إلا على ضوء العلاقة التي تربط الله بالبشر، هذه العلاقة تأخذ أبعادها في العلاقة التي تربط يسوع المسيح بالآب فهو أنموذج لاتحاد الإنسان بالله، و ماهية الكنيسة هي الجمعة المتحدة بالمسيح.

هذا الاتحاد مع المسيح يُظهر للإنسان حقيقته العميقة فكل إنسان مدعو لأن يصير على مثال المسيح ابنا حقيقيا لله لان المسيح لأن المسيح هو التحقق لكامل لماهية الإنسان انه ملء الإنسان و الإنسان الذي يكتشف ذاته في المسيح يحقق إنسانيته الأصلية ، ففي الله يجد صورته الحقيقية، و هكذا فالكنيسة و أسرارها هي الوسيلة لتحقيق الاتحاد مع المسيح و على ضوء ذلك يجب آن تفهم طبيعة الكنيسة كسر يجمع الله مع البشر.

ينبغي بادئ الأمر أن نعرف كلمة السر ليس السر ما هو المخفي ، أوما يعجز العقل عن فهمه، و لكن كلما تعمق فيه اتعت حدوده لأنه يقودنا إلى عالم غير محدود، السر هو رابط يجمع بين حقيقتين: حقيقة مرئية وحقيقة لا مرئية، انه علامة لشيء آخر ، هذا ما ينطبق على العلاقة بين الله و الإنسان، لذلك فأسرار الكنيسة السبعة هي بمنزلة السلم الذي يربط بين الإنسان و الله، بين السماء و الأرض، يتضمن السر دائما بعدا حسيا منظورا كالماء الخبز و النبيذ و الزيت، فهي عناصر ترمز إلى الحياة البشرية و بعدا لا حسيا، غير منظور، يمثل الحياة الإلهية والنعم التي يسكبها الله في قلب المؤمن، و باختصار نقول: إن السر مكان للقاء الله بالإنسان حيث يعطي نعمه وحياته للإنسان. بهذا تعتبر الكنيسة سراً.

 

الكنيسة سر

الكنيسة هي سر لأنها على مثال يسوع المسيح ( إلهية \\بشرية ) في آن واحد، (سماوية \\ أرضية) في الوقت نفسه، أي أنها مزدوجة النشأة و الطبيعة و الهدف، إنها سر تربط الله بالإنسان إنها سر لأنها معطية الأسرار، إنها السر الأكبر الذي يحتوي باقي الأسرار، إنها سر يسوع المسيح كما أن يسوع المسيح هو سر الله.

الكنيسة هي سر ببعديها الإنسان و الإلهي كما هو يسوع المسيح "إذا عرفتموني عرفتم أبي من رآني رأى الآب" (يو14/7-9 )، و لا أحد يتوصل إلى معرفة الآب إلا بالمرور عبر المسيح ( الطريق ) نحو الآب صورة الله الذي لا يرى (كول1/15).

هذا هو دور الكنيسة أيضا غايتها أن تظهر المسيح و تقودنا إليه ناقلة لنا نعمه، إن سبب وجودها هو أن تربطنا بالمسيح، و هي الوحيدة القادرة على تحقيق ذلك في كل زمان و كل مكان ، فإذا زالت الكنيسة زال الفداء.

الكنيسة هي آية، علامة، و الآية بحد ذاتها لا معنى لها و لكن تشير إلى شيء آخر غيرها، لذلك لا نتوقف عند العلامة، الكنيسة آية تشير إلى المسيح إلى الله إلى الحقائق الروحية إلى الخلاص إلى الوحدة البشرية بالله.

الكنيسة بطبيعتها ثنائية الانتماء إنها امحاء أمام ما تدل عليه مثل الكلمات التي تبقى جوفاء إن لم تق إلى المعنى آلي الفكرة، إنها ليست حالة وسطية و لكنها وسيط إنها لا يمكن أن تنعزل عن أي طرف من الطرفين اللذين تربطهما.

تربطنا الكنيسة بالمسيح بفضل الروح الذي وهبه لتلاميذه يوم العنصرة، الكنيسة بدأت مع المسيح و لكن بلغت كمالها بالروح إن الروح يعلمنا كلية الحقيقة و لكن ليس أكثر من يسوع، مرسل الآب "انه لا يتكلم من عنده ولا يبحث عن مجده كما أرسلني الآب كذلك أرسلكم" أن الروح لا يعطينا تعليما جديداً و لكنه يفتح أذهانا لفهم تعليم يسوع، مذكراً إيانا بكل ما قاله.

لقد تكلم الروح قبل مجيء المسيح بواسطة الأنبياء "الناطق بالأنبياء" كي يعلن عن يسوع، و بعد صعود يسوع إلى السماء أصبح الروح هذا الحضور الذي يسكن في أعماقنا و يحدثنا عن يسوع و يشهد له. كما يشهد يسوع للرب. هكذا يسكن الثالوث داخل الكنيسة فلا أحد يشهد لذاته أو يحل محل الآخر بل يقود إليه، الابن يشهد للآب و الروح يشهد للابن و الكنيسة بفضل روح يسوع تشهد للابن الذي يقودنا نحو الآب. إن الروح روح يسوع المسيح الذي يحيي جسده ، الروح يجمع و يوحد الكنيسة ، شعب الله الجديد، أنا بالروح كما إننا بالمسيح، إذ تعمدنا بروح واحد كي نكون جسداً واحداً. إن الكنيسة هي جماعة الروح والروح يمجد يسوع في الكنيسة.

الكنيسة هي سر المسيح ورسالتها الوحيدة أن تجعل يسوع حاضراً للبشر فعليها أن تعلن عنه وتقدمه لهم. إن واجبنا هو الإعلان عن يسوع المسيح إذ يجب أن يظهر يسوع المسيح للآخرين من خلالنا و يظهر كتاب أعمال الرسل دور الرسل في التبشير المسيح و ما يقومون به من نشاط و جهود كي يشهدوا ليسوع في كل مكان: "ولكن الروح القدوس ينزل عليكم فتنالون القوة و تكونون لي شهودا في أورشليم و كل اليهودية و السامرة حتى أقاصي الأرض"(اع1/8 ).

لقد انطلقت "الكنيسة الناشئة" لإعلان بشرى الخلاص، بشرى الفرح الكبير مثلما انطلق الملائكة في بداية الإنجيل ليبشروا بالفرح العظيم الذي لا يستثني أحداً، فرح ولادة المخلص.

لا تعتمد الشهادة ليسوع المسيح على اللسان و الكلم فقط بل على منهج الحياة و تصرفات الأشخاص، وبقدر ما تصبح حياتنا مسكنا لروح، تنشر رائحة المسيح كرائحة زكية طيبة، تظهر في الاخوة المتبادلة و المحبة بين المؤمنين، لقد كانت شهادة الجماعة المسيحية الأولى بالدرجة الأولى شهادة أخوة و محبة "قلبا واحدا وروحا واحدة". لذا يجب على الكنيسة أن تكون متجسدة في أرض الواقع، حاضرة في التاريخ، ولكنها تشير بذات الوقت إلى حقيقة سماوية، إنها تتعالى فوق التاريخ، ففي حقيقتها المرئية البشرية هناك حقيقة روحانية إلهية لا نراها إلا بعيون الإيمان.

لقد أكد المجمع الفاتيكاني الثاني على النظرة الثالوثية للكنيسة و بكونها تعود في أصلها إلى قصد الثالوث الأقدس و تحقيقه المرحلي في التاريخ: إن الرب يدعو جميع الناس للشركة معه في حياته الإلهية، انه يدعونهم في ابنه "جميع الذين يؤمنون بالمسيح، أراد الآب أن يدعوهم لتأليف الكنيسة المقدسة"

إنها "أسرة الله" التي جمعها الله و حققها على مدى مراحل التاريخ، لقد بشر بها بالرموز منذ بدء العالم وهيئ لها من خلال شعب العهد القديم، و أنشئها يسوع المسيح و أعلنت بحلول الروح القدوس. تظهر نية قانون الإيمان دور الثالوث الأقدس في الخلق و الخلاص الذي يتجلى حياة جديدة: "نؤمن باله واحد آب ضابط الكل … وبرب واحد يسوع المسيح …و بالروح القدوس" وبعد هذا التأكيد على الثالوث الأقدس يأتي الإعلان عن الأيمان بالكنيسة ، كثمرة أولى لعمل الروح كما كان لحلول المحيي.

إن الكنيسة ليس لها كيان بذاتها و ليست هدفا بحد ذاتها ، هي بناء المسيح و إليه تتجه، هي امتداد لسر التجسد لتحقق حضور المسيح في تاريخ البشرية.

إن حقيقة الكنيسة لا تتجلى إلا إذا حاولنا إن نفهمها على ضوء مشروع الله الخلاص و تتطوره عبر التاريخ أي على ضوء الثالوث الأقدس في البشرية فالمعمودية التي تدخلنا الى الكنيسة هي باسم الآب والابن والروح القدوس، هذا هو المشروع الذي أعده الله بسابق تدبيره منذ الأزل حتى يوحد البشرة" تحت رأس واحد هو المسيح(اف1/10"ويهدي جميع الأمم إلى طاعة" ( روم 16/26 ). إنها سر الله كما يقل القديس بولس، و قد كشف عنه بيسوع المسيح. فما هي العلاقة القائمة بين الكنيسة وعمل الثالوث الأقدس في البشرية؟ و ما هي الأحداث الرئيسة التي قامت عليها الكنيسة ؟

إن الاعتراف الإيماني للآب و الابن و الروح القدوس يقود إلى الاعتراف بالكنيسة ، أولى عطايا الله وما تقوم به الأقانيم الثلاثة من عمل خلاصي إنها فعل الثالوث الأقدس. فسر الكنيسة متجزر في الثالوث الأقدس، و سوف نتوقف لنوع خاص عند ثلاث صور كتابية عن الكنيسة شعب الله، جسد الكنيسة، وهيكل الروح القدوس.

 

سر الكنيسة الثالوثي

الكنيسة شعب الله : إن كلمة كنيسة مشتقة من الآرامية تعني الجماعة المدعوة أي الجماعة البشرية التي يدعوها الله و يجمعها في شعب واحد لتكون أداة لخلاص البشرية جمعاء ، و هي الجماعة التي يربطها الإيمان بيسوع المسيح، لأن الكنيسة هي كنيسة يسوع المسيح .إن خلاص الإنسان و تقديسه لا يتم ألا داخل العلاقة التي تربطه مع أخيه الإنسان لذالك ارتبط مخطط الله الخلاص بتكوين شعب و لكن المبادرة لتكوين هذا الشعب تعود إليه فهو الذي يدعو الشعب و بداية هذه الدعوة هي اختيار الله شعبه في العهد القديم إن مفهوم الشعب في الكتاب المقدس يدل على الرباط القائم بين الله و شعبه هذا الانتماء يدعى العهد ، فالله يتعهد بان يهتم بشعبه و يعتني به، و بالمقابل فان على الشعب أن يتعهد بدوره ألا يعبد سوى الله، و الاختبار العميق الذي نجده في الكتاب المقدس هو أن الله كان وفيا دائما لعهده و لكن الشعب هو الذي كان يخون العهد و يبتعد عن الله نحو آلهة أخرى و يسمي الكتاب عدم الأمانة هذه بالزنى و لكن الله وعد الشعب بأنه سيجدد عهده معه هذا العهد لن يكون هذه المرة مكتوبا على حجر ولكن في القلوب "ها إنها تأتي الأيام يقول الرب" أقطع فيها مع بيت أسرائيل و بيت يهوذا عهدا جديدا، لا كالعهد الذي قطعته مع آبائهم يوم أخذت بأيديهم لأخرجهم من أرض مصر لأنهم نقضوا عهدي مع أن كنت سيدهم يقول الرب، و لكن هذا العهد الذي اقطعه مع بيت إسرائيل بعد تلك الأيام يقول الرب هو أنى أجعل شريعتي في بطونهم وأكتبها على قلوبهم و أكون لهم إلها و هم يكونون لي شعبا (ارميا 3/3-34).

هذا العهد الجديد الذي بشر به الأنبياء يحققه يسوع بدمه " هذه الكأس هي العهد الجديد بدمي كلما شربتم فاعلموه لذكري (1كو11/25) داعيا البشرية جمعاء كي تصبح من جديد شعب الله . أن نعرف الكنيسة أنها شعب الله معناه الإقرار أن الكنيسة ولدت من مشروع الهي لتوحد البشرية جمعاء "لا فرق بين يهودي و لا يوناني ليس عبدا و لا حر و ليس ذكرا و لا أنثى لأنكم جميعا واحد في المسيح يسوع"(غلا3/28) إنها شعب سائر نحو الله في دروب البشر ، أي الإصغاء لكل إنسان لتصل إلى كل الشعوب.

إن مفهوم شعب الله لا يعني أن الله أصبح حكرا على شعب دون آخر فالله لا يملكه أحد أن اختيار الله شعبا معينا كما اختار يسوع تلاميذه لا يعني أن هؤلاء أفضل من غيرهم بل ان لهم مسؤولية خاصة عن خلاص الآخرين "بك يتبارك جميع عشائر الأرض" قالها الله لإبراهيم، كما أرسل يسوع تلاميذه كي يعلنوا البشارة إلى جميع الأمم إن دور شعب الله إن يكون ملح الأرض و نور العالم إن الانتماء لشعب الله لا يتم من خلال القرابة الدموية و لكن بالولادة من عل (من الماء و الروح )، كما أن شريعته هي الوصية الجديدة "أحبوا بعضكم بعضا كما أنا أحببتكم".

و بكون الكنيسة علامة و أداة لوحدة البشرية فإنها تشير إلى حقيقة غير مرئية ، حقيقة اسكاتولوجية (أي عالم آخر الأزمان أو ما نطلق عليه السماء ) صحيح أنها شعب الله المسافر على دروب الزمن و لكن ليس موطنها العالم و هي علامة رجاء لأورشليم السماوية لذلك تحييا في هذا العالم كما في الشتات و الغربة وليس لها موطن دائم (1بط1/1؛ عب3/7-4) فلا يحق لها أن تنظر إلى الأمور كأنها مقيمة في الدنيا على الدوام بل أن تتحد بالمسيح المصلوب الذي يقودها نحو مساكن الأب حيث يعد لها هناك مكانا دائما لأن أرض الموعد الحقيقية للإنسان أي أرضه الدائمة هو الله حيث الله كلا في الكل.

 

الكنيسة جسد المسيح

تشبيه الكنيسة بالجد يلقي ضوءا على العلاقة الحميمية بين الكنيسة و المسيح، فهي ليست مجتمعة حوله وحسب إنها موحدة فيه و الاتحاد بالمسيح هو مصدر الوحدة بين الأعضاء، هذه الوحدة تتحقق بشكل جوهري في الأسرار و بنوع خاص في المعمودية التي بها نتحد بموت و قيامة المسيح و في الافخارستيا التي بها نشترك اشتراكا حقيقا في جسد المسيح و نرتفع إلى الشركة معه في حياته و هذا ما يوحدنا بعضنا ببعض.

لقد بدأ يسوع حياته العلنية و بشارته بدعوة التلاميذ الاثني عشر الذين سيكونون نواة الكنيسة، و تبع التلاميذ يسوع و تتلمذوا على يده مدة ثلاث سنوات و كانت لهم بمنزلة المعمودية فالمعمودية لا تقوم فقط على الرتبة الطقسية بل هي تنشئة الإيمان إنها مسيرة روحية مع يسوع تلقوا خلالها تعاليم يسوع و رأوا أعماله و اختبروا قلة إيمانهم و ضعفهم و بذات الوقت رحمة الرب و قوة مغفرته إن المعمودية الحقيقيهي مرافقة المسيح في آلامه وموته لننال حياته ، إنها موت مع المسيح و قيامة معه إن التتلمذ ليسوع معناه الإقامة معه و مشاركته حياته كي يتحول إلى صيادي بشر.

هذا التحول يمر بالضرورة عبر الألم و الصليب ، ففي البداية استهجن التلاميذ إعلان المسيح عن آلامه المقبلة " فانفرد به بطرس و أخذ يعاتبه "(مر8/32) ووصل به الأمر عندما حانت الساعة إلى نكران معلمه عندها أدرك بطرس ضعفه و خطيئته و كن يسوع قادر على أن يحول البنية الإنسانية الهشة إلى صخر يني عليه كنيسته "و أنا أقول لك أنت الصخرة و على هذه الصخرة سأبني كنيستي" (متى16/18) هذه القوة التي يستمدها بطرس من صلاة يسوع "و قال الرب : سمعان سمعان هوذا الشيطان قد طلبمكم ليغربلكم كما تغربل الحنطة، و لكن دعوت لك أن لا تفقد إيمانك و أنت ثبت إخوانك متى رجعت" (لو22/31) إن بطرس يرمز إلى الكنيسة التي على الرغم من ضعفها ونقائصها البشرية تبقى جالا لعمل نعمة الله.

هذه الوحدة بين المسيح و كنيسته يشبهها يسوع بالوحدة بين الكرمة و الأغصان هذه الوحدة ليست خارجي بل هي وحدة داخلية عضوية فكما أن الشجرة و جذوعها واحد كذلك المسيح و المسيحيون هم واحد و كما تستمد الأغصان حياتها من الشجرة كذلك حياة المسيحيين تنبع من المسيح "من يأكل جسدي و يشرب دمي ثبت في أنا فيه" (يو6/56) كل شيء ينطلق من المسيح فهو الرأس و الكنيسة هي الأعضاء هذا التمييز لا يعني الانفصال بل يبين طبيعة الارتباط الكائن بين المسيح و كنيسته "هو قبل كل شيء و به قوام كل شيء و هو الرأس الجسد أي رأس الكنيسة "(قو1/18) هذه الرئاسة ليست سيطرة أو تسلط بل هي أساسها المحبة :"فما أبغض أحد جسده قط بل يغذيه و يعنى به شأن المسيح بالكنيسة" هذه الوحدة بين المسيح و كنيسته هي مصدر الوحدة بين أعضائها. إن الوحدة مصدرها الاشتراك في الخبز الواحد الذي يحولنا جميعا إلى جسده جاعلا منا مسيحا واحدا.

إن وحدة الكنيسة تتحقق بالعودة إلى المسيح مصدر حياتها لأنها تتغذى من عشاء الرب الواحد الذي يجمع الجميع ويهدي القلوب فتتحقق أمنية المسيح ليكونوا واحدا كما أنا و أنت واحدا.

و يمكن أن نوجز ما سبق : بأن الكنيسة هي جسد المسيح بالروح العامل بالأسرار و لا سيما الافخارستيا وكما أنه يوجد في الجسد أعضاء ووظائف مختلفة و لكنها تبقى مرتبطة مع بعضها كذلك أعضاء الكنيسة هم مرتبطون بعضهم ببعض و خاصة بالمتألمين و الفقراء و المضطهدين إن رأس هذا الجسد هو المسيح إنها تستمد حياتها منه و هي تحيا لأجله و هو يحيا معها و فيها .هذه الكنيسة هي عروس المسيح (أف5/27)التي أحبها و بذل نفسه من أجلها و طهرها بدمه (أف5/26)و جعل منها أما خصبة لجميع أبناء الله .

 

الكنيسة هيكل الروح القدوس

إن دور الروح القدوس بالنسبة للكنيسة هو بنزلة دور النفس بالنسبة للجسد ، انه يربط أعضاء الجسد بعضها ببعض و بالرأس الذي هو المسيح جاعلا من الكنيسة هيكل الله الحي فحيث هناك روح الله هناك الكنيسة :"و حجر الزاوية هو المسيح بنفسه فيه يحكم البناء كله و يرتفع ليكون هيكلا مقدسا في الرب و به تبنون أيضا معا لتصيروا مسكنا لله في الروح"(أف2/20-22) إن الروح القدوس هو المبدأ الذي يحيي كل الأعضاء في الجسد و هو يحقق الشركة في المحبة و هو الباني للجسد بواسطة كلمة الله "و الآن استودعكم الله وكلمة نعمته و هو القادر على أن يشيد البنيان" (أع20/32) فبفضل المعمودية يكون الروح القدوس جسد المسيح و بالأسرار ينميها و شفي أعضاء المسيح و بنعمته و مواهبه يجدد الكنيسة و يمنح أعضائها القوة للقيام برسالتهم.

يعني الهيكل مكان حضور الله الفاعل في العالم فالله كان حاضرا وسط شعبه في مسيرته عبر الصحراء ويعتبر العهد الجديد الكنيسة أي الجماعة الكنسية هيكلا و مكانا لحضور الله و حضور يسوع المسيح "لأنه حيثما اجتمع اثنان أو ثلاثة باسمي فأنا أكون هناك في وسطهم" (متى18/20) و من ثم فالكنيسة لا تعني أولا بناء من حجارة ميتة بل بناء من حجارة روحية حجر الزاوية فيه يسوع المسيح إن الكنيسة كهيكل الروح القدوس تحمل في طياتها روح التعددية لأن مواهب الروح متعددة و كل تعددية مصدر غنى وحيوية، و القديس بولس يشبه هذه التعددية إلى الجسد الذي له أعضاء كثيرة و لكنها على كثرتها تبقى جسداً واحداً (1كو12/12-21) فالمحبة تجمع الأعضاء المختلفة في جماعة واحدة فالمواهب متعددة ولكن الروح واحد :"إن المواهب على أنواع و أما الروح فهو هو، وإن الخدمات على أنواع و أما الرب فهو هو"(1كو12/4-5) و هكذا فان الكنيسة كهيكل للروح واحدة و لكنها متعدة المواهب و الاعمال والخدمات.إن الروح القدوس هي علامة الوحدة :"فإننا اعتمدنا جميعا بروح واحد لنكون جسدا واحدا"(1كو12/13) .

إن الروح القدوس يلغي المسافة الزمنية التي تفصلني عن يسوع الناصري و يجعله حاضرا اليوم في حياتي وحياة الكنيسة محولا الحرف الى أنشودة حية . وتعبر الكنيسة عن دور الروح القدوس أجمل تعبير في صلاة الايبكليز التي تقال بعد كلام التقديس و هي صلاة استدعاء الروح القدوس طالبة منه أن ياتي ويحل على القرابين ليجل الخبز جس المسيح و الخمر دم المسيح ، إن الروح يحول الطبيعة و هي هنا (الخبز و الخمر) إلى جسد المسيح و الأفراد إلى جماعة وحدة و محبة مجتمعين في الكنيسة الواحدة لذلك نبتهل إليه سائلين الحدة في الإيمان و شركة الروح القدوس .

إن عمل الروح القدوس إذا هو بناء جسد الكنيسة بالشركة هذه الجسد هي جسد المسيح الذي تكون في أحشاء مريم بفعل الروح و لكن يسوع أعطانا جسده على الصليب فأصبح علامة لحضوره الشامل لكل البشر ولكل الأزمنة هذه الشمولية يحققها الروح القدوس في صورة الكنيسة. وعندما تعيد الكنيسة ذكرى هذه العطية (أصنعواهذا لذكري) لا تبتغي من ذلك الحنين إلى الماضي إنما تدلنا على مسؤوليتنا في تحقيق الوحدة في جسد المسيح و شمولية العطاء و المحبة ، فكل منا مدعو أن يحول جسده و دمه إلى ذبيحة حية تجدد ذبيحة المسيح أي أن ضع أنفسنا في خدمة أخوتنا.

إن الذبيحة الحقيقية هي ما نقوم به كي نتحد مع الله و ندخل في شركة حقيقية معه و هذا يتحقق عندما نتحرر من التمحور حول الذات و الأنانية لندخل في منطق المحبة التي تبذل ذاتها ، عندها تتحول أجسادنا الى حضور وعطاء للآخرين وهذا ما يحس عليه القديس بولس :" انني أناشدكم إذا أيها الاخوة حنان الله إن تقربوا أشخاصكم ذبيحة حية مرضية عند الله، فهذه هي عبادتكم الروحية" (روم12/1) و عندما تقدم الكنيسة الذبيحة الآلهة إنما تقدم ذاتها لكي تصبح جسد المسيح، بهذا تحيي ذكرى ذبيحة الصليب وتشهد لحقيقة روح الله التي هي عطاء و مشاركة .أما نقيض هذه الروح فهو الانغلاق على الذات وسيطرة منطق التملك .

من ما لا شك فيه أن تأسيس الكنيسة يعود إلى يسوع المسيح و أما انطلاقها في الرسالة فيعود إلى الروح القوس ط الروح القدوس ينزل عليكم فتنالون قوة و تكونون لي شهودا " ( أع1/8) فرسالة الكنيسة علامة لحضور الروح القدوس و عمله فيها ، فكما حل الروح القدوس على يسوع يوم عماده قبل انطلاقه بالرسالة ، هكذا حل على التلاميذ يوم العنصرة ، فانطلقوا بالرسالة و بهذا المعنى فان زمن الكنيسة هو زمن الروح القدوس فالروح القدوس و الكنيسة يتممان رسالة يسوع على الأرض.

إن الكنيسة هي طريق الملكوت و علامة خلاص للعالم، و يجب أن تكون حسب تعبير يسوع ملح الأرض وخميرة في العجين و خلاصة القول إن الكنيسة هي الجماعة التي تتعرف إلى الله المتجني في يسوع المسيح.

شعب الله هذا عليه أن يعمل مع ذوي الإرادة الطيبة لبناء عالم أخوي يسوده السلام و الحب و العدل فحيث توجد المحبة هناك الملكوت ، بهذا يشهد شعب الله للرجاء الذي تحقق بالمسيح الناهض من بين الأموات، هذا الرجاء يدعو كل إنسان إلى الدخول فيه مجانا و بدون أية شروط .

مريم أم المسيح و أم الكنيسة : إن الحديث عن الكنيسة يقود إلى الحديث عن مريم العذراء أم يسوع المسيح ودورها في سر الخلاص . إن مريم أصبحت أم المسيح بطاعتها المطلقة لكلمة الله "فليكن لي حسب قولك" بهذا سمحت لله بواسطة ابنه أن يتخذ منها جسدا و يسكن فيما بيننا و يدخل في تاريخ البشرية .

إنها تمثل الإنسانية التي عطت لله المكانة التي يستحقها في أرض البشر ومن خلالها تصلنا نعمة المسيح التي بفضلها نصبح أبناء لله ، بهذا المعنى فان مريم العذراء هي أم للمسيح و أمنا و أم الكنيسة .و كما ولدت مريم العذراء ابنها بأنها وضعت كلمة الله فوق أي اعتبار آخر، كذلك على الكنيسة أن تشع وجه المسيح و تجسده للعالم.

إن المعنى العميق لبتولية مريم يشير إلى هوية يسوع ، فكما أنه كسر قوانين الطبيعة عندما أقامه الله من بين الأموات كذلك ولد في عالمنا بدون الخضوع إلى قوانين الولادة الطبيعية ، فبقيامته وولادته يظهر كونه ابن الله و آدم الجديد الذي بفضله تصبح البشرية خليقة جديدة . لهذا فان الإيمان بقيامة يسوع من بين الأموات وبكونه ابنا لله معناه الإيمان بولادته البتولية من العذراء . و إذا كانت الكنيسة تقر ببقاء مريم عذراء رغم الولادة فهذا معناه الاقرار بان خصب الحياة الإنسانية كما هي الحال في المكرسين من أجل الملكوت يتجاوز المفاهيم الطبيعية للولادة و يتحقق في رجاء الخليقة الجديدة المولودة عبر الألم و الموت لهذا تمثل مريم العذراء الكنيسة.

إن مفهوم عقيدة الحبل بلا دنس لا يعني كما يعتقد البعض أن مريم العذراء ولدت بدون أب و لكن معناه بأنها كانت بكليتها مكرسة لله لا أثر فيها لأي مقاومة لعمل نعمة الله و فعل كلمته ، هذا ما يشير إليه تعبير ممتلئة نعمة أي لا أثر للخطيئة في قلبها لأن المقاومة لله تأتى من الخطيئة . لهذا اختيرت لتكون أم المسيح .ان انتقال العذراء الذي نحتفل به في 15 آب يدل على المشاركة في الخاص الذي تحقق في يسوع المسيح فقيامة المسيح هي صورة لما سوف يتحقق في البشرية إن مريم ابنة البشرية التي أعطت ذاتها لله تنتمي منذ الآن إلى الخليقة الجديدة هكذا تكون مريم العذراء صورة لما سوف يتحقق في البشرية ففيها تحقق الرجاء الذي يتطلع إليه كل إنسان.

عن موقع جمعية التعليم المسيحي بحلب