رسالة البابا ليوم الدعوات 2006

قبل إنشاء العالم وقبل أن نكون في هذا العالم، إختارنا الآب السماوي شخصياً، ليدعونا إلى الدخول في علاقة بنوية معه، بواسطة يسوع، الكلمة المتجسد، وبإرشاد الروح القدس. وبموته من أجلنا، أدخلنا السيد المسيح في سر محبة الآب، محبة ملأته كليا وأفاضها علينا جميعاً.  هكذا، بالاتحاد مع يسوع، الرأس، نشكل جسداً واحداً هو الكنيسة.

 

إن ثقل ألفي عام من التاريخ يجعل من الصعب إدراك الأمر الجديد المذهل النابع من سر التبني الإلهي، الذي هو دائماً مركز تعليم القديس بولس. يذكّر الرسول “إن الأب أطلعنا على سر مشيئته…، أي ذلك التدبير الذي إرتضى قضاءه في المسيح، ليحققه عندما تتم الأزمنة، فيجمع في المسيح كل شيء ممّا في السموات وفي الأرض.”(أفسس 1: 9-10). ويواصل التعليم بحماس قائلاً:” وإنّا نعلم أن الله يسخر كل شيء لخير الذين يحبونه، أولئك الذين دعوا بسابق تدبيره. فالذين اختارهم بسابق اختياره، أعدّهم قديماً لأن يكونوا على مثال صورة إبنه ليكون هذا بكراً لإخوة كثيرين”. إن هذه الرؤية لرائعة وجذابة: نحن مدعوون إلى أن نعيش كأخوة وأخوات ليسوع، وأن نشعر بأننا أبناء وبنات لله.  هي عطية لا مثيل لها، تقلب رأسا على عقب كل الأفكار والمشاريع البشرية المحدودة. وكما أن الاعتراف بالإيمان الحق يفتح العقول والقلوب على سر الله الذي لا يستقصى. وماذا نقول إذا عن التجربة القوية في أيامنا هذه، تجربة الانطواء والاكتفاء الذاتي لدرجة أننا نغلق أنفسنا على مخطط الله الحليم  تجاهنا؟ إن محبة الله التي تجلّت في شخص المسيح تستجوبنا.

 

وللإجابة على دعوة الربّ والشروع في السير، ليس من الضروري أن نكون كاملين. نحن نعلم أنّ وعي الابن الضال لخطيئته سمحت له بالعودة واختبار فرح المصالحة مع أبيه. فالضعف الإنساني لا يشكّل عائقاً، شريطة أن يزداد إدراكنا للحاجة إلى نعمة المسيح المخلّصة. وهذه هي أيضاً خبرة القديس بولس الذي قال:” أنا إذاً أفتخر راضياً بحالات ضعفي لتحل بي قدرة المسيح.”(2قو 12: 9). ففي سر الكنيسة، جسد المسيح السري، تبدل قوة المحبة الإلهية قلب الإنسان وتجعله قادراً على نقل محبة الله للإخوة. فعلى مر العصور، بدّلت المحبة الإلهية رجالاً ونساءاً كثيرين كرّسوا حياتهم لقضية الملكوت. وعلى ضفاف بحيرة الجليل، جذب الرب يسوع كثيرين إليه، كانوا يبحثون عن شفاء النفس والجسد، فلمستهم قوة نعمته. كما أنه اختار آخرين ليصبحوا تلاميذه.  وهناك أشخاص مثل مريم المجدلية ونساء أخريات تبعنه بمبادرة شخصية منهنّ،  مبادرة محبة، وبدورهن وجدن، كالرسول يوحنا، مكانة خاصة في قلب السيد المسيح. وأولئك الرجال والنساء الذين عرفوا بواسطته سرّ محبة الآب، يمثّلون الدعوات المتنوعة الموجودة دائماً في الكنيسة. ونموذج المدعوين والمدعوات لأن يشهدوا بطريقة خاصة لحب الله هي مريم، أم يسوع، التي شاركت مباشرة، في سر التجسد والفداء.

 

في المسيح، رأس الكنيسة، يشكل جميع المسيحيين” الذرّية المختارة والكهنوت الملكي والأمة المقدسة  والشعب الذي إصطفاه الله للإشادة بآيات الذي دعاكم من الظلمات إلى نوره العجيب.”(…..)  إن الكنيسة مقدسة، وإن كان أعضاؤها بحاجة إلى تطهير، لأن القداسة هي عطية من الله، ويتلألأ ضياؤها من خلالهم. ويسلّط المجمع الفاتيكاني الثاني الضوء على الدعوة الشاملة إلى القداسة، ويؤكد أن الذين يتبعون المسيح دعاهم الله، لا بحسب أعمالهم، ولكن بحسب تدبير نعمته، والذين تبرّروا بيسوع ربنا أصبحوا حقاً بمعمودية الإيمان أبناء الله وشركاء الطبيعة الإلهية، وبالتالي قدّيسين حقاً.(نور الأمم 40).

 

في اطار هذه الدعوة  الشاملة، إن المسيح، الكاهن الأعظم، الذي لا يغفل عن كنيسته، يختار في كل جيل أشخاصا يهتمون بشؤون شعبه. وبشكل خاص، يدعو إلى الخدمة الكهنوتية رجالاً يمارسون مهمة أبوية، تنبع من أبوة الآب نفسها. (افسس 3: 15).

 

وأشار البابا إلى أنّ رسالة الكاهن في الكنيسة يتعذّر استبدالها والاستغناء عنها. وإن كنا نشهد، في بعض البلدان اليوم، أزمةً في الإقبال على الحياة الكهنوتية، فهذا لا يعني على الإطلاق أن المسيح لم يعد يدعو أناساً، كالرسل، يتركون كل شيءٍ ويكرّسون أنفسهم للاحتفال في الأسرار المقدسة ونشر الإنجيل والعمل الرعوي. ونذكّر هنا ما ورد في الإرشاد الرسولي “أعطيكم رعاة” للسعيد الذكر البابا يوحنا بولس الثاني الذي قال:” إنّ ارتباط الكاهن بيسوع المسيح، ومن خلاله بالكنيسة، هو جوهر كيان الكاهن بفضل التكرّس والمسحة السرية،  وجوهر عمل الكاهن أي رسالته وخدمته. …وهو يواصل في الكنيسة صلاة السيد المسيح وكلامه وذبيحته وعمله الخلاصي.”.(أعطيكم رعاة 16)

 

 وعلى مثال مريم من بيت عنيا التي “جلست عند قدمي يسوع تستمع إلى كلامه”، يكرّس عدد كبير من الرجال والنساء ذواتهم لخدمة المسيح. وهم إذ يقومون بخدمات كثيرة في مجال التربية الإنسانية والاهتمام بالفقراء، في التعليم وإسعاف المرضى، لا يعتبرون هذا النشاط  الهدف الأول لحياتهم. ذلك أن الواجب الأول والخاص لكل الرهبان، كما ينص الحق القانوني، هو  التأمل في الحقائق الإلهية والاتحاد الثابت بالله بفضل الصلاة.” (ق 663، بند 1). وقال البابا يوحنا بولس الثاني في رسالته عن الحياة المكرسة:” في تقليد الكنيسة يعتبر التكريس ألرهباني تعميقا فريدا وخصبا للتكريس العمادي، فبه  ينمو  الاتحاد بالمسيح الذي بدأ بالعماد  ويصبح تمثلا كاملا بالمسيح من خلال التعهد بإتباع المشورات الانجيلية.” (رقم 30)

وإذ نتذكر وصية يسوع: ” الحصاد كثير ولكن العملة قليلون، فاسألوا رب الحصاد أن يرسل عملة الى حصاده” (متى 9، 37) ننبّه إلى ضرورة الصلاة لأجل الدعوات الكهنوتية والرهبانية. ولا نتفاجأ عندما نعرف انه حيث  ترتفع الصلوات الحارة  تزدهر الدعوات.  إنّ قداسة الكنيسة تعتمد على الإتحاد بالمسيح والإنفتاح على سر النعمة التي تعمل في قلوب المؤمنين.لهذا، فإني أدعو جميع المؤمنين لبناء علاقة حميمة مع المسيح المعلم والراعي لشعبه، متشبهين بمريم، التي حفظت في نفسها أسرار الله وتأملتها باستمرار.(لوقا 2: 19)  ولكونها تحتل مكانة مهمة في قلب سر الكنيسة نصلي كلنا معها:

 

أيها الآب أيقظ بين المسيحيين

 دعوات عديدة ومقدسة إلى الكهنوت،

تحافظ على شعلة الإيمان،

 وتحرس  ذكرى ابنك يسوع المجيدة

بفضل التبشير بكلمته ومنح الأسرار،

وبها  تجدّد مؤمنيك على الدوام.

 هبنا خداما قديسين لهيكلك

 يكونون حماة متنبهين وغيورين لسر الافخارستيا،

سر هبة المسيح العظمى لفداء البشر.

أدع خداما لسر رحمتك

ينشرون،  بفضل سر المصالحة،

 فرح الغفران.

أيها الاب اجعل الكنيسة تستقبل  بفرح

  الالهامات الكثيرة للروح القدس

وأن تكون مطيعة لتعاليمه

 فتعتني بالدعوات الى الخدمة الكهنوتية والحياة المكرسة.

أسند الأساقفة والكهنة والشمامسة

والمكرسين وكل المعمدين في المسيح

حتى يتمّموا بأمانة رسالة خدمة الإنجيل.

نسألك ذلك بالمسيح ربنا. امين.

يا مريم، سيدة الرسل، صلي لاجلنا.

 

الفاتيكان في 5 آذار 2006 .

 البابا بندكتوس السادس عشر.

رسالة قداسة البابا بندكتس بمناسبة اليوم العالمي

للصلاة من أجل الدعوات 2006

( ترجمة المعهد الاكليريكي في بيت جالا)

نقلاً عن موقع: abouna.org