راهبات في قلبي و ذاكرتي

 

    أحياناً لكثرة تعلقنا بأشخاص يصعب علينا الحديث عنهم عندما يقتدي الأمر ذلك . أحسست بهذا الشعور و أنا أحاول مرات و مرات أن اكتب عن الأم الطوباوية مرجريتا كاياني و راهبات صغيرات القلب المقدس الفرنسيسكانيات . اجهل سبب صعوبة الكتابة عنهن و لكن ما اشعر به في قلبي أن كل ما استطيع كتابته لن يعبر عن مدى حبي الشديد و امتناني لهذه الأم التي و منذ عرفتها و شيء ما يخصها تركته داخل قلبي .

معرفتي بهم :

    عام 1995 افتتحن راهبات صغيرات القلب المقدس الفرنسيسكانيات منزلا صغيرا لهن بمدينتي ابوتيج بمحافظة أسيوط . أخذن من هذا المنزل الصغير قلعة تشع حباً و سلاما لكل أهالي البلد رغم بُعد المنزل عن الكنيسة الكاثوليكية في ابوتيج . و لكن لا يخفى سراجاً أبدا ، فكن و مازلن يشعن البهجة و الفرح بكل محبة في خدمتهن الجليلة وسط أهالي المدينة . و كنت و مجموعة من الشبيبة مداومين على زيارة هذا الدير الصغير الذي كلما ذهبت إليه سيراً أحسست إنني ذاهبة إلى عـُلية أورشليم . تعلمنا من الثلاث راهبات المختلفات الطباع و المتشابهات الرسالة أن أول سلام لمنزلهن يكون ليسوع المسيح في كنيسته الصغيرة داخل الدير . كانت الأخت الرئيسة " فيورنة " ايطالية الجنسية تفهم المصريين من عيونهم ، و كنت أول مرة بحياتي أتكلم مع شخصاً بلغة العيون ، عيناها التي كانت تحمل سرّ عميقاً لحب هذا الإله المخلص الذي سحر قلبها حتى جعلها تترك كل ما هي عليه في ايطاليا لتأتي و تعيش هنا في مدينة إمكانياتها محدودة و تطورها بطيء . أما الراهبتان فكانتا مصريتان تعيشان بكل بساطة ، واحدة هي الأخت " ليتتسيا " كانت بمثابة الأخت الكبرى التي حملت على عاتقها مسئولية أخواتها الأخريات ، أما الثالثة فهي المميزة بحياتي و كانت و مازالت الصديقة الشجاعة و المثابرة لكل من عرفها و خاصة أنا ، فهي كانت اليد التي امتدت لمساندتي طوال ثماني سنوات و حتى الآن . هي أختي و صديقة عمري "صباح " التي عرفتها صديقة حقيقية لم تفارقني في اشد لحظات حياتي ألمً و أنا على فراش الموت .

    صعوبة الكتابة عن أشخاص اثروا في حياتنا تأتي من عمق محبتنا لهم ، فنظن أن ليس هناك كلمات تصف كم نحبهم و أحياناً كثيرة نخشى أن نقول اقل مما يستحقون . أول جملة عرفتها عن الأم مرجريتا كاياني و التي كانت دائماً ترددها هي " علمني يا يسوع أن أعرفك أكثر و أحبك أكثر " ، كانت دائمة الحديث إلى قلب يسوع الحنون ، عشت هذه المقولة بحياتي و أنا ارددها داخل قلبي . لم أعشها فقد مع شخص يسوع المسيح و إنما عشتها مع كل من عَرفتهم بحياتي ، و خاصة راهبات صغيرات القلب المقدس بنات مرجريتا ، فكلما عرفتهن أكثر أحببتهن أكثر.

    

رسالة الآخر هي رسالة حياة :  

    خلال السنوات الماضية استطعت أن ازور الأربع أديرة لراهبات صغيرات القلب المقدس الفرنسيسكانيات في المعادي بالقاهرة ، إسنا بالأقصر ، كفر الدوار بدمنهور و بالطبع بيتي الثاني كان ديرهن بأبوتيج . و لكل دير من أديرتهن انطباعاً محفوراً بذاكرتي و ذكريات لا تنتهي .

    لم أدرك بحياتي معنى أن يكون طفلا يتيم إلا عندما زرت دير راهبات القلب المقدس بكفر الدوار ، حيث يوجد هناك ثلاثون فتاة تتراوح أعمارهن بين الثلاث سنوات و الأربعة عشر سنة . يعيشون في دير من وجهة نظري هو من أجمل الأديرة بمصر . يكبرون وسط سبع راهبات ، هن العذارى الحكيمات . ما جعلني اعرف قسوة اليتم هي قصة حياة كل طفلة في هذا الدير الذي يطلق عليه أهل كفر الدوار ملجأ الراهبات و هو بكل مقاييس الملاجئ التي نعرفها و نسمع عنها لا تمتد بصلة إليها . فما نشاهده عبر أفلام السينما من قسوة و جرائم و ضرب داخل دور الأيتام لم أشاهده . فقد شاهدت فتيات لهن من الأمهات سبعة . يعملن طوال النهار لتعويض الفتيات عن قسوة الحياة ، يسهرن على تدبير حياة فتيات لا ذنب لهن في وجودهن في هذا العالم . تعجبتُ كثيراً عندما عرفت قصة كل فتاة ، فمع الأسف لم تكن بينهن طفلة واحدة يتيمة بمعنى الكلمة فاقدة الأم و الأب أو إحداهما . و إنما هن فتيات دمر الفقر حياة أهلهن ، و أصبح دير الراهبات هو ملجأ لهم و احن عليهن من منازلهن التي دقها الفقر المدقع .

    كل فتاة منهن أدركت منذ دخولها أول يوم لدير الراهبات أن هذا هو بيتها الذي يحمل الآمان ، صعبة هذه الحياة التي تجعل من البيت غربة و من الغربة بيت . فعندما يعلمون أن علي كل واحدة منهن الذهاب لقضاء يوم مع أهلها يظهر على وجهوهن العبث و كأن الذهاب أمر غير محبب . فما يشعرن به وسط العذارى الحكيمات أقوى و آمن من ما سيجدونه في منازلهن وسط الأهل .

لم يكن منزل الفتيات هو الخدمة الوحيدة بدير راهبات القلب المقدس بكفر الدوار و إنما هناك يوجد مستوصف كامل يعمل يومياً لخدمة كل أهالي المدينة و القرى المجاورة بمسيحيها و مسلميها . يعمل فيها ستة أطباء باختلاف تخصصاتهم و معهم راهبة من السبعة متخصصة في علاج الحروق مع ممرضتين عاملتين بالمستوصف . داخل المستوصف لا يوجد فقر بين إنسان و آخر ، الكل متساويين في الرعاية و الاهتمام ، فربما يصل عدد المرضى في اليوم الواحد إلى أكثر من 200 مريض اغلبهم من المسلمين ، الذين يأتون و كلهم ثقة في هؤلاء الأطباء و الراهبات . و كذلك يشتركن الراهبات في خدمة الكنيسة مع الأطفال و الشباب و منهن واحدة تـُدرس التربية الدينية المسيحية بمدرسة الرهبان الفرنسيسكان . فكفر الدوار من البلاد التي تنعم بوجود رهبانية رجالية و نسائية في ذات الوقت .

 

    في كل مرة ادخل هذا الدير اشعر و كأن هناك جيش يعمل في صمت ، جيش سلاحه الحب و العطاء ، و مهمته كيف نعرف الآخر و نحبه . الآخر الذي يعيش معي و الآخر الذي يأتي إليّ طالباً المساعدة أو المشورة . و في كل الأحوال أنا و هو مشتركين في الحياة . نعيش فيها بإرادة من الخالق و نختار كيف نعيشها بإرادتنا .

    وجود راهبات في الكنيسة نعمة من الروح القدس تفوق كل تصوراتنا البشرية ، و ما نعلمه و ننظره نحن اقل بكثير مما يوجد . علينا فقط الوقوف لحظة واحدة لنتأمل كيف ستكون بلدنا لو لم تكن هناك مُكرسات ؟ يُكرسن حياتهن لخدمة حياة الآخرين … هذه المهمة التي نحن دائماً في أمس الحاجة إليها ، مهمة أن يكون هناك من يُكرس حياته لخدمة المحتاج ، الفقير ، اليتيم ، المُهمش ، و كل الذين فقدوا الكثير من متع الحياة . فالراهبات هن دائماً البديل في حياة هؤلاء .

نصلي للروح القدس أن يُرشد أبناءه المختارين دائماً لهذه الرسالة العظيمة و أن يبارك خدمة كل مَن اختار الآخر رسالة لحياته .