سلطان التعليم الكنسي و عصمة البابا بحسب الإيمان الكاثوليكي

سلطان التعليم الكنسي و عصمة البابا

بحسب الإيمان الكاثوليكي

\"\"

للأب د. يوأنس لحظي جيد

          إن الباب الخامس عشر من القانون الكنسي يتعرض لموضوع سلطان التعليم الكنسي ورسالتها التي تنبع وتتأسس على إرادة مؤسسها السيد المسيح، الذي أنشأها ليواصل من خلالها عمله الخلاصي. وفي ذلك تكمن عظمة الكنيسة، هذه العظمة التي لا تنبع من استحقاقاتها البشرية ولكن من غنى نعمة مؤسسها ("لا بحسب استحقاقاتنا ولكن كعظيم رحمتك"). هذه النعمة التي تتجاوز أي تقصير وتتخطى أي ضعفٍ بشري. ولهذا فالكنيسة، بحسب وعد المسيح لهامة الرسل القديس بطرس وللرسل مجتمعين، ستظل قائمة وشامخة حتى انتهاء الدهور ولن تقوى عليها ابواب الجحيم: "قالَ لَه يَسوعُ: هَنيئًا لَكَ، يا سِمْعانُ بنَ يُونا! ما كشَفَ لكَ هذِهِ الحَقيقةَ أحدٌ مِنَ البشَرِ، بل أبـي الَّذي في السَّماواتِ. وأنا أقولُ لكَ: أنتَ صَخرٌ، وعلى هذا الصَّخرِ سأبني كَنيسَتي، وقوّاتُ الموتِ لنْ تَقوى علَيها. وسأُعْطيَكَ مفاتيحَ مَلكوتِ السَّماواتِ، فما تَربُطُهُ في الأرضِ يكونُ مَربوطًا في السَّماءِ، وما تحُلٌّهُ في الأرضِ يكونُ مَحلولاً في السَّماءِ"(مت16/17-19، وأيضا يو 21/15-19).

     وقد أكد المسيح بعد قيامته رسالة الكنيسة وسلطانها التعليمي بقوله: "نِلتُ كُلَ سُلطانٍ في السَّماءِ والأرضِ. فاَذهبوا وتَلْمِذوا جميعَ الأُمَمِ، وعَمَّدوهُم باَسمِ الآبِ والابنِ والرٌّوحِ القُدُسِ، وعلَّموهُم أن يَعمَلوا بِكُلٌ ما أوصَيْتُكُم بِه، وها أنا مَعكُم طَوالَ الأيّامِ، إلى اَنقِضاءِ الدَّهرِ" (مت28/ 18-20). ومن ثمَّ يمكننا القول بأن سلطة التعليم ووجود الكنيسة هما وجهين لعملة واحدة فلا كنيسة حقيقية بلا تعليم ولا تعليم مستقيم بلا كنيسة.

      ولأن الكنيسة الكاثوليكية تعتبر رسالة التعليم من أؤلوياتها المطلقة نجدها تهتم اهتماما منقطع النظير بترسيخ ابنائها على الإيمان المستقيم بطرق ووسائل تتوافق وتتناسب مع متطلبات العصر الحديث، جامعة بين الأمانة المطلقة للوحي الإلهي وللتقليد المقدس من ناحية، وبين الاساليب والوسائل الحديثة من جهة أخرى. وهي بذلك تضرب بجذورها في التاريخ العريق وتتفرع بأغصانها في المستقبل، لتحتضن وتحيا الحاضر.

      وهنا تجدر الإشارة إلى أن أي سلطة في الكنيسة تعاش لا على أساس أنها امتياز تسلطي بل على كونها خدمة للجميع وبالأخص للأكثر احتياجا، تمثلا بالمسيح الذي لم يأتِ ليُخدم بل ليَخدم، والذي بعد ان غسل أرجل تلاميذه قال لهم: "أنتُم تَدعونَني مُعَلِّمًا وسيِّدًا، وحسَنًا تَفعَلونَ لأنِّي هكذا أنا. وإذا كُنتُ أنا السيِّدُ والمُعَلِّمُ غَسَلتُ أرجُلَكُم، فيَجِبُ علَيكُم أنتُم أيضًا أنْ يَغسِلَ بَعضُكُم أرجُلَ بَعضٍ.  وأنا أعطيتُكُم ما تَقتَدُونَ بِه، فتَعمَلوا ما عَمِلتُهُ لكُم.  الحقَ الحقَ أقولُ لكُم: ما كانَ خادِمٌ أعظَمَ مِنْ سيِّدِهِ، ولا كانَ رَسولٌ أعظَمَ مِنَ الذي أرسَلَهُ.  والآنَ عَرَفْتُم هذِهِ الحَقيقَةَ، فهَنيئًا لكُم إذا عَمِلْتُم بِها" (يو13/ 13 – 17). والكنيسة التي تسلمت من المسيح سلطان التعليم، وسلطان التبشير، وسلطان التقديس، تعتبر أن رسالتها الأساسية هي التعليم، وأنها من خلال التعليم تحيا التبشير والتقديس: "أذهبوا وعلموا…" (مر10/5).

      وقد أكد القانون الكنسي جذرية رسالة الكنيسة التعليمية، انطلاقاً من التبشير بالمسيح وإعلان الخبر السار لكل الأمم، لا بناءً على قواها البشرية المحضة بل مدعومة بقوة الروح القدس وبمعزل عن اي سلطان أو أي تدخل بشري، لأن التبشير واجب وحق، لكل مؤمن، لا يجب ان تحدّه او تعوقه أو تحدده أو تضعفه أي قوة بشرية.

وقد حدد القانون الكنسي ق. 596 أن "مهمّة التعليم باسم الكنيسة من اختصاص الأساقفة لا غير" واضعاً على عاتق الأساقفة مسئولية "مهمة التعليم" و"السهر على سلامة التعليم"، وحفظ شعلة الإيمان متوهجة ومضيئة ومشتعلة، وامتحان أي تعليم فاسد وحراسة القطيع الذي أؤتمن عليه بحيث لا يتسرب إليه "الرعاة المأجورين" ولا يأتي الذئب ويبتدده ، مفضلا أن يقدم حياته "لكي لا يهلك أحد منه"، وذلك بغيرة رسولية تنبع من أنه ذات يوم سيقدم حساباً أمام مَنْ أتمنه على قطيعه.

       هذا الحبر الروماني الذي وحده "يتمتّع ، بحكم منصبه، بالعصمة في سلطان التعليم، إذا ما أعلن على وجه قطعي تعليما ما كملزم في مادّة الإيمان أو الأخلاق، بصفته الراعي والمعلّم الأعلى لجميع المؤمنين، الذي من واجبه أن يثبّت إخوته في الإيمان" ق. 597.

عقيدة "عصمة البابا"

         إن عقيدة "عصمة البابا" هي عقيدة كاثوليكية، بمعنى أنها ايمان كاثوليكي يُلزم الكاثوليك وليس سواهم، والقانون الكنسي يؤكد أن "مَن أنكر إحدى الحقائق التي يجب الإيمان بها كإلهية وكاثوليكية، أو شكّك فيها، أو جحد الإيمان المسيحي برمّته، وأُنذِر على وجه شرعي ولم يرتدع، يُعاقب بالحرم الكبير كهرطوقي أو جاحد، والإكليريكي يمكن أن تُنزل به فضلا عن ذلك عقوبات أخرى بما في ذلك [عقوبة] الحطّ" ق. 1436 بند 1. وهي عقيدة تنبع من الإيمان بأن أسقف روما هو خليفة القديس بطرس هامة الرسل ومؤسس كنيسة روما، وهو ينعم بنعمة "العصمة" عندما يعلن بشكل علاني ونهائي وبصفته السلطة العليا في الكنيسة عقيدة أو تعليما يهدف إلى إنماء وحماية وفهم "الإيمان المستقيم". وعصمة البابا لا تتعلق بحياته الشخصية، فالبابا يخطئ ويمارس سر التوبة ويعترف عن خطاياه، ولكن تتعلق فقط بإعلان البابا لعقيدة أو لتعليم كنسي بصفة نهائية ومن فوق "كرسي روما" وبصفته أسقف وبابا الكنيسة.

       وقد يعاب على الكاثوليك إيمانهم بهذه العقيدة التي يرى البعض أنها تمنح البابا قدرات إلهية، فالله وحده هو المعصوم من الخطأ، وهذا كما سبق وأوضحنا غير صحيح، ويكفى النظر لهؤلاء المعترضين ولتلك الكنائس التي لا توجد فيها هذه العقيدة مكتوبة ومحددة ولكنها معاشة ومطبقة، بمعنى أن ما يقوله البابا أو السلطة التعليمية، وحتى بصفة شخصية وأحيانا مخالفا للمجامع وللتعليم المستقيم، يعتبر عقيدة لا يمكن حتى أن تناقش، وهذا ما يطلق عليه (البابا الفرعون). وبالتالي فعقيدة عصمة البابا لدى الكاثوليك ليست توسيعا لسلطه التعليمية للبابا ولكن تحديدا لها، فليس كل ما يقوله البابا عقيدة.

       ومن ناحية أخرى، يجب التأكيد بأن "عقيدة العصمة" لا تقوم على إصدار أو ابتداع عقائد جديدة ولكن على توضيح وشرح وتأكيد عقائد الإيمان والوحي والتقليد المقدس، لأن الإيمان لا يمكن أن يتغير او ان يتبدل، ولكنه يحتاج إلى شرح وتوضيح وتأكيد وإعلان يتناسب مع لغة وعقلية العصر، هذا الإعلان يقوم على الإيمان بعمل "الروح القدس" الذي يتم في الكنيسة من خلال رجالاتها القديسين.

ختاما

       الحبر الروماني، رأس مجمع الأساقفة بهذه العصمة بحكم وظيفته عندما يعلن، بتحديد مطلق، التعليم المتعلق بالإيمان والخلاق، بصفته أعلى راعٍ ومعلم لكل المؤمنين والذي من واجبه "أن يثبت أخوته في الإيمان" (لو 22/23). إن تعليم الحبر الأعظم، الصادرة عنه شخصيا بهذه الصفة (بصفته بابا)، غير قابلة للتعديل أو المراجعة من أي سلطان آخر كنسياً كان أم بشرياً. ويتمتع الأساقفة المجتمعين في مجمع مسكوني، بناء على دعوة منه أو من من يمثله، بالعصمة ذاتها… لا سلطة لمجمع الأساقفة أو للجسم الأسقفي إلا باتحادها بالحبر الروماني، كرأس لها" (نور الأمم، 25 و 22). وهنا تجدر الإشارة إلى أنه يسقط تحت العقوبة كل مَنْ  أيّد تعليمًا أدانه كخاطئ الحبر الروماني أو هيئة الأساقفة لدى ممارستهم سلطان التعليم الرسمي، وأُنذِر على وجه شرعي ولم يرتدع (ق. 1458 بند 2).

        وختاماً نؤكد أن بهاء وعظمة الكنيسة الكاثوليكية يتلخص في وصفها "أم ومعلمة" أي في كونها منارة الخلاص، حصن الإيمان، هذا الإيمان الذي لا تقوى قوى بشرية ان تغيّره او تبدله. هذا الإيمان الذي يتسم بصفتين: الأولى انه محدد وقاطع: أي غير متروك لمزاجات وطباع وأفكار البشر بل يحميه الروح القدس والسلطة الكنسية العليا. والثاني أنه "غني"، بمعنى ان الإنسان كلما تبحر فيه أكتشف جهله به، ولمس حاجته إلى مزيد من التعمق، وهنا يأتي دور الكنيسة التي تضع مهمة "التعليم" وشرح الإيمان في أولى اهتماماتها، وعصمة البابا ليست إلا تأكيدا على ذلك. فيكفي أن نفتخر بأن في كنيستنا الكاثوليكية عقائد الإيمان قد تمّ جمعها وشرحها في كتاب "تعليم الكنيسة الكاثوليكية" هذا الكتاب الذي قد يتطور بحسب متطورات العصر ليشرح لكل إنسان ولكل ثقافة ولكل لغة "حقيقة الإيمان الواحدة"، ولكنه لن يتغير بتغير الباباوات ولن يتبدل بحسب آرائهم الشخصية.

الأب د. يوأنس لحظي جيد