الوحدة في قلب الصلاة المسيحية

الوحدة في قلب الصلاة المسيحية

  بقلم: الأب جان كوربون

إنا ننطلق من واقع أليم: فنحن لا نعرف أن نصلي، ولا بد للروح القدس أن يعلمنا على الدوام أن نصلي. ويبين الأمر أيضاً أكثر إلحاحاً هذا الأسبوع، أسبوع الصلاة الجامعة لوحدة الكنائس. إن يسوع يصلي بدون انقطاع إلى الآب من أجل هذه الوحدة ( يوحنا 17)، ولكنا لا نعرف أن ننضم إليه في هذه الصلاة وإذا ما أقررنا ذلك يمكن أن تبادرنا ثلاثة أسئلة نلتزم الإجابة عنها: أولاً : لماذا نصلي للوحدة؟ ثانياً : ما هي صلاة يسوع للوحدة؟ ثالثاً : كيف نصلي معه؟

أولاً : لما نصلي للوحدة ؟

 رغبة منا في أن يطهر الروح القدس قلوبنا، لنتمعن في كلمات هذه الأسئلة الثلاث:  "للوحدة"، ما هي تلك الوحدة المنشودة؟ – "نصلي"، وما محل الصلاة ودورها في نشداننا الوحدة؟  وأخيراً "لماذا"، أي ما هي الأسباب التي تحثنا أن نصلي أو لا نصلي للوحدة؟

1-

الوحدة التي إليها نتشوق وهي وحدة "الفردوس المفقود" الذي يعطينا إياه المسيح في "الملكوت الآتي". والوحدة تدرك صميم مأساة الإنسان. سأل الصبي والده المعلم: "لماذا يختلف البشر بعضهم عن بعض؟" فأجابه: "لأنهم كلهم على صورة الله!"

 إن مأساة البشرية تكمن في رفضها أن يكون الآخر مختلفاً، وما الخطيئة إلا تواصل انقطع (فالفعل خطئ يعني أن الساعي أو الرامي لم يصب الهدف أو الغرض)، وحيث يُستنكر الاختلاف أو يُرفض تقوم الفُرقة لأن " الأنا " يرفض " الآخر" كما هو ولا يستسيغه إلا في خدمة الأنا، وهذه المأساة تتمثل كل يوم وعلى الأصعدة كلها: الأهل، الأولاد، المهنة، الوطن والعلاقات الدولية.

 وفي الواقع إن الله نفسه مرتبط بهذه المأساة، فالإله الحي القيوم هو آب وابن وروح قدس، ووحدته ليست عوزاً حسابياً ( نصف الاثنين أو ثلث ثلاثة ). ولا تمازجاً لا شخصياً ( توحيدًا )، ولكنها ملء في الشركة: "المجد للثالوث القدوس الواحد في الجوهر، المحيي غير المنقسم، كل حين، الآن وكل أوان وإلى دهر الداهرين. أمين".

 فعلى صورة الله كمثاله، خُلقت جميع الكائنات البشريّة، من إنسانيّة واحدة، متميزة في كلّ إنسان. ولكن كيف البلوغ إلى "مثاله"، وحُمَةُ الفرقة كامنةٌ في قلوبنا؟ إنّا نتوق إلى الوحدة، ولكنّا لن نبلغها طالما نخلط بينها وبين إزالة الفوارق أو إبتلاع "الآخر" في "الأنا". فما يلزمنا هو شفاء وخلاص وتحرير. يملأ هذا الخلاص التاريخ كله، فهو"تدبير محبة" الآب الذي يريد أن "يجمع الأشياء كلها تحت رأس واحد"، المسيح البكر من بين الأموات، الذي هو"رأس الجسد، أيّ الكنيسةفَفيه ارتضى [الله] أن يُحلّ الملء كلّه، وأن يصالح به، لنفسه، كلّ ما على الأرض وفي السماوات، بإقراره السلام بدم صليبه" (كول1: 18-20) .

فالكنيسة هي تلك العطية الكبرى للوحدة، يمنحها الآب للذين يؤمنون بابنه: بالروح القدس يكون المعمّدون "في شركةٍ مع الآب، ومع يسوع َ المسيح ابنه"(1يو1 :3). فما هو جوابنا إذن عن تلك العطيّة السنيَّة؟

ولأننا لا نزال بعد في الخطيئة وقادرون على الفرقة علينا أن نجتهد في "حفظ وحدة الروح برباط السلام "، وذلك على أصعدة ثلاث :

 1- ما بين المعمدين، داخل كل كنيسة محلية (العيلة، الرعية، الأبرشية): هذا هو صراع المحبة اليومي.

 2- ما بين الكنائس التي لا يجمعها ملء شركة الإيمان: هذا هو معنى الحركة المسكونية.

 3- ولكن "حتى يؤمن العالم"، إذ أن الكنيسة هي في المسيح بمثابة السر، أي أن العلامة والأداة، في الاتحاد الصميم بالله ووحدة الجنس البشري برمته. "ذلك هو سر الوحدة" الذي اؤتمنا عليه، لكي يخلص جميع الناس .

 2-

إن الصلاة وثيقة الاتصال بمأساة الوحدة لأسباب جوهرية ثلاثة مرتبطة هي أيضاً بدورها بالخدمة المسكونية :

 أ- وحدها الصلاة، تستطيع أن تحررنا من الانقسام الذي هو عمل الإنسان القديم فينا . وحدها الصلاة إذاً يمكنها أن تشفينا من داء الفرقة لأنها شركة حيّة مع الآب وأبنائه .

 ب- إن العمل من أجل الوحدة الذي يحدثنا عنه قرار المجمع الفاتيكاني الثاني "في الحركة المسكونية"، يبقى عقيماً إن لم يخصبه الروح القدس، وما الصلاة إلا اتحاد القلب بعمل الروح القدس في الكنيسة.

 ج- يقوم العمل الأساسي في اتحاد الكنائس على حوار القلب بين أفراد كل كنيسة وعلى تبديل ذهنيتهم . ويمكن معالجة الجهل بالتثقيف والحوار، والريبة ببراهين الثقة، والاكتفاء الذاتي بالتعاون الصريح…. لكن الجراح الناجمة عن الماضي عميقة إلى الحد أن أمهر العلاجات النفسية غير قادرة على شفائها، وحدها الصلاة، في مثل هذه الأحوال، تستطيع كل شيء، عامرة بالرجاء وملتحمة بإرادة الآب المحبة .

 3-

يمكننا حينئذ أن نفهم لماذا نصلي أو لا نصلي من أجل وحدة الكنائس :

 أ- من الواضح أن الصلاة المسكونيّة تعني مباشرةً اتحاد الكنائس فيما بينها، أي إحراز تقدم في شركتهم في الإيمان (ومن ثمَّ في أسرار الإيمان)، وشركتهم في المحبة والمصالحة والشهادة للسيد المسيح، والخدمة المشتركة لجميع البشر. إن هذه الصلاة من أجل الكنائس تنطلق إلى ما أبعد من الصلاة لأجل المسيحيين، لأن هذه واجبةٌ دوماً وإن وجدت الكنائس شركتها الكاملة.

ومن الواضح أيضاً أن وحدة الكنائس التي نطلبها في الصلاة لا تعني البتة جبهة واحدة، هجومية كانت أم دفاعية، ضد أي كان. بل على العكس من ذلك إنها انفتاح لخدمة البشر أجمعين وخلاصهم .

 ب- لماذا إذن نصلي من أجل وحدة الكنائس؟ مساعدة لنا في فحص ضميرنا أمام الرب، إليكم بعض الأسباب التي تجعلنا نهمل الصلاة من أجل الوحدة:

 1- لم نقتنع بعد أن انتمائنا المسيحي يعني أننا "من الكنيسة"، وليس فقط "في" جسمي، إن الانقسام بين الكنائس هو جرح جسد المسيح. فإذا ما كنت أحيا حقاً من جسده، لا يسعني ألا أتألم من ذاك الجرح، وألا أعمل كل ما في وسعي لشفائه. وذلك أولاً ودائماً، باتحادي مع يسوع في صلاته من أجل الوحدة.

 2- إنا نجهل، تمام الجهل، معجزة الروح القدس التي تتمثل بالحركة المسكونية في القرن العشرين.

 3- إنا لم ندرك بعد تمام الإدراك التجدد الذي أطلقه المجمع الفاتيكاني الثاني، وبالأخص التزام الكنيسة الكاثوليكية بالحركة المسكونية وما تستوجب من متطلبات، ومن أهمها ارتداد القلب والصلاة.

 4- وينقطع البعض عن الصلاة لأجل الوحدة بحجة أن لا شيء يتقدم. لقد عملوا للوحدة بوجهات بشرية، علماً أن خدمة الوحدة "ليست من عمل البش" (غلا 1:11).

ثانياً : ما هي صلاة يسوع للوحدة ؟

 يمكننا أن نصلي للآب لأنه "أرسل إلى قلوبنا روح ابنه، ليصرخ فيها: أباً ! أيها الآب !"، فمذ ذاك، عندما نصلي من أعماق قلوبنا، هو يسوع يصلي معنا ونحن معه.

 ولكن هل سعينا إلى الولوج حقاً في صلاته؟ تلك الصلاة التي علمناها (الأبانا) لا يمكن أن تصبح صلاتنا (وليس فقط "صلاتي") إلا إذا أصغينا إلى صلاته، تلك التي أوردها القديس يوحنا الإنجيلي في الفصل 17، والتي تتوسع في مبادئ العظة على الجبل (متّى 5 -7 ): الاسم القدوس، الملكوت، إرادة محبة الآب أو عمله، تأوين الله في سعادة الإنسان

 صلى يسوع هكذا بعد أن منحنا سر فصحه، وقبل، يحياه في جسده، إنها صلاة ساعته، تلك الساعة التي فيها حصل نهائياً حدث خلاصنا، ذلك الحدث الذي فيه يسوع الظافر على الموت، لا يعبر عنا ولكن يبقى ويعمل في العالم : و"صلاته" التي تكشف لنا عن سره، هي أيضاً لا تعبر، فيسوع يصليها دوماً وقد تسامت عن التعابير أمام الآب من أجلنا جميعاً ومن أجل جميع البشر. في الواقع، إن هذه الصلاة، بتعابيرها المختلفة، هي نشيد شكر وابتهال من أجل الوحدة الشاملة، في الشركة مع الثالوث الأقدس .

 لنفهمن هذا جيداً : إن يسوع، بموته وقيامته وصعوده إلى السماء، وإرساله الروح القدس، قد أتم في ذاته عودة جميع أبناء الله إلى الوحدة، ولقد فتح الملكوت، وأصبحت المحبة ممكنة، والكنيسة هي إيقونة الشركة في الثالوث الأقدس . … ولكن كل شيء مرتبط بجوابنا عن عطية الوحدة هذه، وهذا الجواب يعني كل معمد وكل كنيسة محلية. واكتمال هذا الفصح العظيم يعود إلينا، بإتحادنا بالمسيح. ذلك هو معنى كل ليترجيّا إفخارستيّة: إن فصح الرأس يصبح فيها فصح الجسد كله .إنّا نحتفل بفصح الرب كي "نكمّله"، كي نؤوّنه في حياتنا من أجل "الآخرين".

 إن هذا الحدث الفريد الحامل التاريخ كلّه يصبح حدث خلاص لنا، ليس فقط في أثناء اليترجيّا الإفخارستيّة، بل يجب أن يكتمل على مذبح القلب بالصلاة. فهو، إذن، صلاة يسوع من أجل الوحدة، صلاة ساعته: أن نحبَّ كما أحبنا هو، وأن يحبنا الآب أيضاً، لكي يحيا الجميع من هذا الحبّ. هذا هو قلب صلاة يسوع.

 ثالثاً : كيف نصلي مع يسوع للوحدة ؟

 إذا تمكنا أن نفهم قليلاً بالقلب ما هي رغبة المسيح الملحة في أن يكون تلاميذه واحداً، حتى يحيا جميع البشر من محبته، يتضح لنا أسبوعاً واحداً للصلاة من أجل الوحدة لا يمكن إلا أن يكون تذكيراً وحافزاً. لا يمكن أن يقتصر صلاتنا على ثمانية أيام في السنة.

 لدينا أيضاً في كل يوم أحد، يوم الرب ويوم الجماعة الكنسية: كل كنيسة تحيي فيه سر الوحدة، فلما لا نؤونه بالصلاة؟ يمكننا حينئذ أن نصغي أكثر، في الليتيرجيا الإفخارستية، يوم الأحد وفي الأيام الأخرى، ساعة استدعاء الروح القدس (الإبيكليسيس): فكل ما نعلنه في "الذكرانية" – أي ما صنعه السيد المسيح من أجلنايحققه الروح القدس كي نشترك فيه. والاستدعاءات التي تلي تنشر حلول الروح القدس على العالم أجمع، وبمقدار ما تستعد كنائسنا لتقبل العطية الكاملة للوحدة، تشرع أبوابها للمحبة التي بها أحب المسيح جميع الناس ليحيوا منها . كثيراً ما يطلب إلينا السيد المسيح أن نصلي دون ملل . إن صلاة القلب سهلة للغاية، وممكنة دائماً لأن الروح القدس حاضر دوماً فينا، يكفي أن نريد ذلك بتواضع وثقة . وحالما يقرر قلبنا – لا أفكارنا ولا مشاعرنا، بل قلبنا – أن يستجيب للروح القدس، يدخلنا هو إلى اسم الرب يسوع القدوس .

 الابتهال إلى يسوع، بمقدار ما نتنفس، لن يلهينا عن مشاغلنا بل ينعش ككل ما نقوم به، ونتحد به كليّاً: "فلست أنا حيّاً بعد،بل هو المسيح يحيا فيَّ" (غلا2 : 20 ). فنكون معه أمام الآب ومن أجل الآخرين. إنّا من "الكنيسة" ومتضامنون في شركة الكنائس ورسالتها إلى الجميع. في صلاة القلب، لنردد تكراراً مع يسوع :"أيها الآب القدوس، إحفظ باسمك الذين أعطيتهم لي… لكي يكونوا بأجمعهم واحداً، كما أنك أنت أيها الآب، فيّ وأنافيك… لتكون فبهم المحبة التي أحببتني…" (يوحنّا 17 : 11، 21، 26 ).

أخيراً،
علينا أن نتحد مع السيدة والدة الإله أمنا، في عرس قانا الجليل وعند أقدام الصليب: "ليس عنهم خمر" ( يو2 : 32 )، الخمر الحقيقي، ثمرة الكرمة، نعطاه في دم السيد المسيح حتى نحمل لإخوتنا وأخواتنا في الإنسانية "ثمر الروح الذي هو المحبة والفرح والسلام، وطول الأناة واللطف والصلاح والأمانة، والوداعة، والعفاف… " ( غلا 5 : 22-23 ). لتنعش تلك الصلاة أيام السنة كلها، فنكون خداماً أمناء للوحدة ! !

عن موقع القديسة تريزا