الرِّسالة الرَاعويَّة السَّادِسة، معًا نحو المستقبل

الرسالة السادسة 1999 معًا نحو المستقبل

الرِّسالة الرَاعويَّة السَّادِسة

معًا نحو المستقبل
"هاءَنذا أجعلُ كلَّ شيءٍ جديدًا" (رؤيا 21/5)
ميلاد 1999
 
مـقـدّمـة
إلى إخوتنا الأساقفة والكهنة والشمامسة والرهبان والراهبات وأبنائنا المؤمنين كافة: "ها إني أبشركم بفرح عظيم يكون فرح الشعب كله: ولد لكم اليوم مخلص في مدينة داود، وهو المسيح الرب" (لوقا 2: 10ـ11).
1. البشرى السارة
          بهذه البشرى السارة نستهل رسالتنا الراعوية السادسة، التي نوجهها اليكم إثر مؤتمرنا التاسع، الذي عُقد في مقر الكرسي البطريركي الماروني في بكركي، ما بين الثالث والسادس من شهر تشرين الثاني/نوفمبر 1999، بضيافة البطريرك مار نصرالله بطرس صفير وباشتراك جميع بطاركة الشرق الكاثوليك. ومع اننا اعتدنا كلمات هذه البشرى السارة، غير انها تكتسب معنى مميزًا، لا لأن هذه الرسالة تصدر حول الأعياد الميلادية فحسب، بل أيضًا لأنها تصدر على مشارف يوبيل السنة 2000 بعد ميلاد السيد المسيح وسرّ تجسده المجيد.
ان السيد المسيح هو الخبر السار، الدائم والمتجدد، الذي يخترق الأجيال، والذي نحمله اليوم في قلوبنا، أفرادًا وجماعات، ليتحوّل فينا ينبوع ماء حي يخصب حياتنا ويجدد فيها الفرح والحياة والالتزام.
2. روحيّة الرسالة
          تستمد هذه الرسالة روحيتها من آية سفر الرؤيا: "هاءنذا أجعل كل شيء جديدًا" (21: 5)، التي توجّتا بها عنوان هذه الرسالة. ان الروح القدس هو الذي يجدد وجه الأرض (راجع مزمور 104:30) ووجه كنائسنا ووجه كل واحد منا. والجديد، قبل كل شيء، هو السيد المسيح بالذات، الذي يرشدنا الروح القدس (راجع يوحنا 16: 13) الى فهم دائم النمو لسرّه (راجع 1 قورنتس 12: 3)، فنبلغ "القامة التي توافق كمال المسيح" (افسس 4: 13). ان السيد المسيح هو جديد الله في عالم الانسان. وبعد ألفي سنة من تاريخنا، لا نزال نتأمل في هذا السر العظيم لنستخرج منه "كل قديم وجديد" (متى 13: 52) فينتعش ايماننا ويتجدد فرحنا (يقول القديس غريغوريوس أسقف نيصا، إنّه في المسيح، "ظهر نسل جديد، وحياة جديدة، وطريقة جديدة للحياة. طبيعتنا نفسها تبدّلت… به كان بدء خلق جديد، وفيه صنع الله سماء جديدة وأرضًا جديدة، كما قال النبي".). والجديد ايضًا هو ما تسعى كنائسنا الى أن تعيشه في المستقبل في ضوء ايمانها بالمسيح، وخبرتها التاريخية، وظروفها الحالية. والجديد، أخيرًا، الذي يوقظه الروح في كنائسنا، هو تلك الرغبة في أن نعمل "معًا" لهذا "المستقبل" ("معًا نحو المستقبل" هو عنوان هذه الرسالة). بهذا الجديد نتوجه الى المستقبل بفرح وأمل، بعيدًا عن الفزع والخوف واليأس بينما نسمع صوت السيد يقول لنا: "ثقوا، أنا هو، لا تخافوا" (متى 14:27).
3. خصوصيّة الرسالة
          لقد اعتدنا، ايها الاخوة والابناء الأحباء، أن نوجه اليكم رسالة راعوية بعد كل مؤتمر من مؤتمراتنا بحسب الموضوع الذي كنا نتناوله ونتأمل فيه ونناقشه. غير ان هذه الرسالة تختلف عن سابقاتها لعدة ظروف رافقت مؤتمرنا التاسع. أول هذه الظروف هو اليوبيل الكبير، الذي يتفاعل في ضمائرنا جميعًا ويوقظ في مختلف كنائسنا العديد من المبادرات، التي نأمل ان تعود بالخير الروحي على جميع كنائسنا، ومن خلالها على جميع مجتمعاتنا. وثاني هذه الظروف هو المؤتمر الأول للبطاركة والأساقفة الكاثوليك في الشرق الأوسط، الذي عُقد في ايار/مايو الماضي، والذي كان خطوة جريئة وفريدة في حياة كنائسنا الكاثوليكية في الشرق. أما ثالث هذه الظروف فهو تلك الرغبة القوية والصادقة لدى الجميع في الوصول بتفكيرنا الجماعي الى حيز الانجازات العملية الملموسة، فيتحول الفكر عملاً وممارسة في حياتنا الكنسية.
ان هذه الظروف مجتمعة تدمغ رسالتنا هذه بخصوصيتها، وتجعلها مدخلاً لما نرجو ان يتسم بها عمل الكنيسة في العقود القادمة من الألف الثالث. اننا نسعى، في هذه الرسالة، الى ان نقطف ثمار التعاون التدريجي بين الكنائس الكاثوليكية الذي أخذ طريقه على أكثر من مستوى في العقود الماضية، لنجعلها نهجًا ثابتًا ودائمًا في عملنا الراعوي. واننا ندعوكم جميعًا، ايها الاخوة والابناء الأحباء، الى ان تأخذوا هذه التوجهات العملية بعين الاعتبار لتكون لنا جميعًا دليلاً الى المستقبل، ودافعًا لاتخاذ المبادرات المناسبة في مجالات العمل المختلفة.
4. مضمون الرسالة وأقسامها
          ان هذه الظروف هي التي تملي علينا مضمون هذه الرسالة، حيث ندعوكم، ايها الاخوة والابناء الأحباء، الى التأمل معنا في هذه الظروف المختلفة، كي ندرك معًا، من خلالها، مشيئة الله علينا في هذه المرحلة التاريخية الراهنة والمهمة، فنعمل على الاستجابة لها بسخاء، وبروح الايمان والرجاء والمحبة.
في القسم الاول، نتأمل في اليوبيل الكبير، يوبيل سنة الألفين، كي يكون منطلقًا جديدًا لحياتنا الكنسية ولدعوتنا ورسالتنا.
وفي القسم الثاني، نعود الى المؤتمر الأول للبطاركة والأساقفة الكاثوليك في الشرق الأوسط، متوقفين عند معانيه الكنسية المختلفة التي نودّ ان ترسخ في كنائسنا لتصبح روحًا جديدة نستلهمها في المستقبل.
وفي القسم الثالث، نتوقف عند خطوط العمل التي نجمت عن هذا المؤتمر، لتكون برنامج عمل لكنائسنا نسعى معًا الى ترجمته تدريجيًا في الجوانب المختلفة من حياتنا الكنسية.



الفصل الأول: اليوبيل الكبير لسنة 2000
5. "والكلمة صار بشرًا" (يوحنا 1: 14)
          يضعنا اليوبيل الكبير لسنة الألفين، قبل كل شيء، أمام هذا السر المذهل، ألا وهو سر التجسد الالهي العظيم، الذي أعلنه الملاك للرعاة خبرًا سارًا، وهو يسوع المخلص والمسيح والرب (راجع لوقا 2: 10ـ11)، والذي لخصه يوحنا الانجيلي في مطلع انجيله بهذه الكلمات المقتضبة والرائعة: "والكلمة صار بشرًا فسكن بيننا فرأينا مجده، مجدًا من لدن الآب لابن وحيد ملؤه النعمة والحق" (1: 14). وهو السر الذي ما انفك المسيحيون، على مرّ الأجيال، يتأملون فيه باندهاش وحمد وتسبيح. في سر التجسد، اتخذ الله زمام المبادرة، ساعيًا في طلب الانسان، وداعيًا إياه الى صورته الأصلية والأصيلة والى ملء انسانيته التي يجدها مجسَّدة في السيد المسيح، الانسان الكامل والاله الكامل ( راجع مواضيع البحث للمؤتمر الأول للبطاركة والأساقفة الكاثوليك في الشرق الأوسط، رقم 10).  
ان الكلمة المتجسد هو هبة الله للبشرية، هبة فاقت جميع توقعاته وانتظاراته وتوقه. في هذا السر، تلاقى الله والانسان، وتلاقت أبدية الله وزمن الانسان (أنظر المرجع نفسه، رقم 9.). وبهذا قدّس الله الزمان وجعله، بكل ظروفه وحيثياته وخواصه، حيزًا لدعوتنا ورسالتنا وشهادتنا. لقد دخل الله، بالمسيح، التاريخ البشري ليجعله تاريخ خلاص. ونحن شهود على ذلك، إذ نعيش في التاريخ من غير ان ننسى الأبدية، وفي الأبدية من غير أن ننسى التاريخ البشري، حيث انه "بالتجسد يصبح الزمن والابدية الوجهين لمشروع خلاص واحد هدفه الأخير ان يستعيد الانسان بهاء صورة الله فيه" (أنظر المرجع نفسه، رقم 9.).
وبينما نتأمل في سرّ التجسد، ندرك تمامًا الدور، الذي أراد الله ان يخصَّ به مريم العذراء، والدة الإله، في هذا التدبير الالهي العجيب. فهي التي قبلت هذا السر ("أنا أمة الرب، فليكن لي بحسب قولك" لوقا 1: 38)، وفرحت به ("تعظم نفسي الربّ وتبتهج روحي بالله مخلصي" لوقا 1: 46)، وتأمّلت فيه ("وكانت مريم تحفظ جميع هذه الأمور، وتتأملها في قلبها" لوقا 2: 19)، وأعطته للعالم ("فولدت ابنها البكر" لوقا: 7). وبهذا أصبحت صورة للكنيسة. فالكنيسة ايقونة مريمية تقبل سر التجسد، وتفرح به، وتتأمل فيه، وتعطيه للعالم.
اننا ندعوكم، ايها الاخوة والابناء الأحباء، الى أن تواصلوا معنا التأمل في هذا السر المدهش طيلة سنة اليوبيل كي يغمرنا ببهائه ويجدد حياتنا، الفردية والجماعية والكنسية (أنظر المرجع نفسه، رقم 9.).
6. من سر التجسد الى كنيسة التجسد
من سرّ التجسد – وما يرتبط به من فداء وحلول الروح القدس ارتباطًا عضويًا – ولدت الكنيسة، جسد المسيح السري. وعندما نذكر الكنيسة، نفكر اولاً بكنائسنا في الشرق. فشرقنا الحبيب هو المكان الذي اختاره الله لهذا التجلي الالهي الفريد، مما يجعلنا أول المعنيين بالاحتفال باليوبيل الكبير. فمن الناصرة وبيت لحم والقدس، ذاع الخبر السار في كل مكان، فوصل اولاً الى كافة أنحاء فلسطين، ومنها الى سائر بلدان المشرق حيث نشأت المراكز المسيحية الكبرى (الاسكندرية، وانطاكيا، والرها، ونصيبين وغيرها، بالاضافة الى روما والقسطنطينية). وكلنا يعلم الى أي حد كان سر التجسد محور تأمل مسيحيي الشرق (لنذكر على سبيل المثال الجدالات الحامية حول هوية السيد المسيح في الشرق في الأجيال المسيحية الأولى)، فكان التربة التي تكوّنت فيها كنائسنا الشرقية، بما فيها من تعابير متنوعة للسر الواحد، في الليتورجيا واللاهوت والروحانية والتراث والتقليد. وكلنا يعلم ايضًا كيف سعى مسيحيو الشرق، على مرّ الاجيال، الى تفسير هذا السر لاخوتهم ومواطنيهم الذين لا يشاركونهم الايمان عينه، كما يدل على ذلك التراث العربي المسيحي. وفي هذا المجال، لا نستطيع أن ننسى ايضًا أن تعدّد التعابير عن السر الواحد أدى للأسف الى شتى الانقسامات، التي لا نزال نعاني منها الى اليوم. نعم، ان كنائسنا هي كنائس سر التجسد بامتياز، المدموغة بعلامة المسيح الحي الى الأبد.
7. سرّ التجسد ومتطلبات الحاضر والمستقبل
          ان تعاملنا التقليدي مع سر التجسد، والذي يشكل سمة من السمات الاساسية لكنائس الشرق، يدعونا الى مواصلة التأمل في هذا السر في ظل ظروفنا الحالية في هذا الجزء من العالم. ويمكن ان نلفت النظر الى ثلاث جوانب عامة لهذا التأمل:
أ. مواصلة الجهد المسكوني: لقد اختلفنا في الماضي حول هوية السيد المسيح وسر تجسده. ولكنه من المعروف ان الكنائس عامة وفي الشرق خاصة دأبت، منذ سنوات، على التحاور في ما بينها لرأب الصدع والبحث معًا عن صيغ تعبر عن الإيمان بشخص السيد المسيح توحدهم وتلمّ شملهم. اننا نرجو ان يكون اليوبيل الكبير مناسبة لنا في الشرق لإعطاء دفعة جديدة وزخم جديد لتلك الحوارات المسكونية، علّنا نكتشف، بهدي من الله وروحه القدوس، ان التعابير المختلفة لسر المسيح الواحد تتكامل ولا تتنافر، وتعبّر عن هذا الجانب او ذاك من سر المسيح الذي لا يُستقصى، والذي لا يحده وصف، ولا يسبر غوره، وذلك بعيدًا عن التصلب والتشنج والجدل العقيم، وبروح التواضع والسجود لسر كشفه الله في ملء الزمان "من أجلنا ومن أجل خلاصنا" (قانون الايمان). يبقى هذا السعي المسكوني من أكبر التحديات التي تواجه كنائسنا في الألف الثالث.
ب. كنائس التجسد "الآن وهنا": لقد ذكرنا المراكز المسيحية الكبرى التي نشأت في الماضي في شرقنا بفعل سر التجسد الالهي، وهي المراكز التي لا تزال تغذي كنائسنا بفكرها وتراثها وغناها. ولكننا لا نستطيع ان نبقى سجناء الماضي. ان هذه العواصم المسيحية الكبرى القديمة لا تعزلنا، بل انها مدخلنا الى العواصم الحالية لبلداننا (الى القاهرة، وبغداد، ودمشق، وبيروت، وعمان، والقدس وغيرها) حيث يدعونا الله الى ان نعيش فيها سر التجسد الالهي. وهذا ما يدعونا الى مزيد من الاندماج في مجتمعاتنا بكل ظروفها الحالية لنكون فيها شهودًا لسر لا يزال يخاطبنا كما يخاطب كل انسان، في كل زمان ومكان.
ج. المعاني الجديدة لسر التجسد: ان التجسد سر لا نستطيع ان نسبر غوره ولا ان نستنفد جميع معانيه. ففي كل عصر من عصور تاريخنا يدعونا الله الى اكتشاف معان جديدة وامتدادات جديدة لسر قديم جديد في ضوء تاريخنا الحالي في الشرق الأوسط. ما هي معاني سر التجسد التي يدعونا الله الى التعمق فيها في هذه المرحلة الراهنة من تاريخنا استجابة لمتطلبات الحاضر وتحدياته ونداءاته؟ كيف نكون اليوم متجسدين على غرار المسيح المتجسد، وفي أية مجالات؟… لقد سبق وتأملنا وإياكم في جميع هذه الاسئلة في رسالتنا الراعوية الثانية ( راجع الحضور المسيحي في الشرق شهادة ورسالة، خاصة الفصل الثالث الذي يحمل العنوان "حضور متجسّد"، الأرقام 26 ـ 33). وهو التأمل الذي ندعوكم الى الرجوع اليه، لأنه يتخذ معنى جديدًا وأهمية خاصة بمناسبة الاحتفال باليوبيل الكبير لسنة الألفين.
8. دعوة إلى الصلاة والتأمل والعمل
          وهكذا ترون، ايها الاخوة والابناء الأحباء، ان اليوبيل الكبير لا يمكن ان يقتصر على الاحتفالات الخارجية، بل من الضروري ان تُسْنِد هذه الاحتفالات وترافقها أوقات مهمة من الصمت والصلاة والتأمل والتفكير. واننا ندعوكم جميعًا، افرادًا وجماعات، الى مثل هذه المبادرات الروحية والتفكيرية والتأملية، لأنها الأجواء المناسبة كي يكشف لنا الروح القدس مشيئة الله علينا في شتى مجالات حياتنا الكنسية على مشارف الألف الثالث من تاريخنا. ان اليوبيل الكبير نعمة خاصة يمنحها الله لنا ويدعونا الى أن نتأمل في جميع أبعادها ومتطلباتها لاستيعابها وعيشها. كما تعلمون، اننا نعيش في هذه الفترة التاريخية المهمة، لا بل الحاسمة، الكثير من التحديات والصعوبات والمستجدات والنداءات والآمال. وفي وسط كل هذا، نجد أنفسنا أمام خيارات، وقرارات، وممارسات، تتناسب مع هذه الفترة التاريخية. وعليه، فنحن بأمس الحاجة الى وقفة صمت وتفكير وتأمل وصلاة نلج فيها الى أعماق ذواتنا، الفردية والجماعية، كي يلهمنا الله لما فيه خير كنائسنا. ومثالنا في ذلك مريم العذراء، التي كانت تتأمل بجميع هذه الأمور في قلبها (راجع لوقا 2: 19) كي تستوعب ما يجري فيها وحولها وتكتشف ارادة الله عليها وتدخل في مخطط الله الخلاصي. ان هذه الوقفات من الصمت والخلوة هي التي ستغنينا وتفجر في كنائسنا طاقات عمل ونشاط في خدمة الملكوت.
9. مع الرسائل الراعوية السابقة
          لقد دأبنا، منذ تأسيس مجلسنا، في توجيه رسائل راعوية (الرسالة الأولى بمناسبة المؤتمر الأول لبطاركة الشرق الكاثوليك، آب/أغسطس 1991؛ الثانية، الحضور المسيحي في الشرق شهادة ورسالة، فصح 1992؛ الثالثة، معًا أمام الله في سبيل الانسان والمجتمع: العيش المشترك بين المسلمين والمسيحيين في العالم العربي، ميلاد 1994؛ الرابعة، سرّ الكنيسة: أنا الكرمة وأنتم الأغصان (يوحنا 15:5)، ميلاد 1996؛ الخامسة، ليكونوا بأجمعهم واحدًا: الحركة المسكونية، فصح 1999.) حول مواضيع نعتبرها هامة. ولقد حاولنا في هذه الرسائل أن نصغي إلى حاجاتكم واهتماماتكم وآمالكم من جهة، وإلى صوت الرب فينا وفيكم. وكان الهدف من هذه الرسائل، كما قلنا في رسالتنا الثانية، أن نفتح معكم "باب التفكير والتبادل والتشاور فتتمخّض عن ذلك مبادرات عملية تبلور شيئًا فشيئًا طبيعة حضورنا وشهادتنا، مجدًا لله وخدمةً للناس أجمعين" (الحضور المسيحي في الشرق، شهادة ورسالة، رقم 59). للأسف، لم تصل هذه الرسائل بما فيه الكفاية إلى كافة فئات المؤمنين لخلل في التواصل في كنائسنا. وإننا ندعوكم، بمناسبة اليوبيل الكبير، إلى العودة إليها، علّها تساعدنا جميعًا على مواصلة التفكير في مثل هذه المواضيع كي نجد طريقنا إلى الألف الثالث. وإننا لمتأكدون أننا نجد فيها من عناصر التأمل والتفكير التي من شأنها أن تنير الطريق لمزيد من الالتزام والعمل.
10. معًا نحو الألف الثالث
          مع هذا كله، أيها الأخوة والأخوات الأحباء، نتوجه إلى الألف الثالث. وإننا متأكدون أن الله يعدّ لنا طريق مجد، وطريق المجد لا يمكن أن يكون إلا درب صليب أيضًا، لأن كنائسنا موسومة بعلامة الفصح المجيد. يقول القديس بولس، في سياق خبرته الروحية، أنه ينسى ما وراءه ويتمطى إلى الأمام ويسعى إلى الغاية (راجع فيليبي 3: 13ـ14). إن هذه الحيوية الروحية، التي عاشها القديس بولس، دعوة لنا جميعًا إلى استيعاب الماضي لإعداد طريق المستقبل. إن الحيوية الروحية هي التي جعلتنا قادرين في الماضي على تخطي الظروف التاريخية المختلفة، وهي التي ستجعلنا ندخل المستقبل معًا بإيمان حي ورجاء متقد ومحبة متجددة. إن السيد المسيح، "سيد الزمن، ورب الكون والتاريخ"، القادر، بقوة روحه، أن يجعلنا نعمل على "تهيئة ربيع جديد للحياة المسيحية" (إطلالة الألف الثالث، رقم 10،18) في بلادنا، لا يمكن الا أن نبنيه معًا.
الفصل الثاني:  الحدث والمعنى
11. الحدث
          إن ذكر المستقبل يقودنا إلى القسم الثاني من رسالتنا ألا وهو مؤتمر البطاركة والأساقفة الكاثوليك في الشرق الأوسط. لقد عُقِدَ هذا المؤتمر في لبنان من التاسع إلى العشرين من أيار/مايو سنة 1999، وجمع كل البطاركة والأساقفة الكاثوليك في الشرق الأوسط، بالإضافة إلى مندوبين من الكرسي الرسولي وكنائس شمال أفريقيا، وبعض المجالس الأسقفية والكنائس الشقيقة ومستمعين علمانيين، رجالاً ونساء، ومستشارين وإعلاميين، بلغ عددهم جميعًا مائتين وستين شخصًا وفدوا من مختلف البلدان. ولقد جاء هذا المؤتمر، بشكل مباشر، في سياق المبادرات التحضيرية لليوبيل الكبير، بغية "تمتين العلاقات بين الكنائس عملاً بتقليد قديم يربط الكنائس بعضها ببعض في مجامع إقليمية تلتئم للتدارس والتشاور والتعاون" (البيان الختامي، رقم 1).
ولقد عُقِدَ المؤتمر تحت علامة الحياة، إذ اختار شعارًا له الآية الإنجيلية: "أتيت لتكون لكم الحياة، وتكون لهم أوفر" (يوحنا 10: 10). ولقد أشار البيان الختامي إلى هذا الشعار مؤكدًا أن الآب، في يسوع المسيح وبقوة الروح القدس، "أتانا بالحياة والحياة الوفيرة ودعانا إلى التنعم بهذه الحياة". ويضيف البيان قائلاً أن الله أفاض هذه الحياة في كنائسنا على مدى تاريخها الطويل، بما فيه من تراثات متنوعة لا تزال تتغذى منها كنائسنا، بفضل "شهدائنا وقديسينا وآبائنا". وهي الحياة التي يواصل الله إفاضتها اليوم في كنائسنا "لتشع فيها الحياة الجديدة" (البيان الختامي، رقم 2 ـ 3).
12. الحدث وسياقه
          لم يكن هذا المؤتمر حدثًا هامشيًا ومنعزلاً، بل جاء في سياق توجّه عام للكنائس الكاثوليكية في منطقتنا نحو مزيد من الترابط والتلاقي والتعاون. فبالإضافة إلى الهيئات التقليدية للشركة (كالسينودس في كل كنيسة)، نشأت شيئًا فشيئًا، ومنذ سنوات، هيئات كثيرة تجمع الكنائس الكاثوليكية، منها مجلس البطاركة والأساقفة الكاثوليك في كل بلد (سوريا، ومصر، ولبنان، والعراق والأراضي المقدسة وغيرها)، ومجلس بطاركة الشرق الكاثوليك، وانضمام العائلة الكاثوليكية إلى مجلس كنائس الشرق الأوسط للتواصل مع جميع الكنائس الشقيقة والجماعات المسيحية في الشرق والتعاون معها. وكذلك، فقد قامت الكنائس الكاثوليكية بمبادرات عدة تسير في نفس الاتجاه، منها مؤتمرات الشبيبة على مستوى الشرق الأوسط، ومؤتمرات العلمانيين وغيرها من المؤتمرات التي دعت إليها الكنائس نفسها أو حركاتها وهيئاتها المختلفة. ولقد كان السينودس من أجل لبنان في هذا السياق مبادرة مهمة قامت بها الكنيسة الجامعة. ولقد جاء مؤتمر البطاركة والأساقفة الكاثوليك في الشرق الأوسط تتويجًا لجميع هذه المبادرات وامتدادًا لها ومكملاً، ودافعًا إلى المزيد منها في المستقبل. إننا نذكر كل هذه المبادرات، أيها الأخوة والأبناء الأحباء، كي تشكروا الله معنا على ما يعمل في كنيسته، ولكي نعمل جميعًا على الاندراج في هذه الدينامية الجديدة، والمساهمة في حركتها وتطويرها.
13. من الحدث إلى المعنى
          إن هذا المؤتمر هو علامة بارزة في مسيرة كنائسنا الكاثوليكية. فللمرة الأولى منذ نشأتها، تجتمع الكنائس الكاثوليكية على هذا المستوى. ومما لا شك فيه أن هذا الحدث، والسياق الذي جاء فيه، هو من علامات الأزمنة التي يجدر بنا التوقف عندها وقراءتها لاستجلاء غنى معانيها والآفاق المستقبلية التي تفتحها لنا. ولقد أشار البيان الختامي للمؤتمر لبعض هذه المعاني حيث قال: "لقد وفر لنا هذا المؤتمر أن نعيش بفرح خبرة روحية وكنسية عميقة في صلواتنا واحتفالاتنا المشتركة واطلاعنا على واقع كنائسنا وفي ما توصلنا إليه من توصيات وعزم على إنشاء أجهزة لمتابعة التنسيق والعمل"، و"إننا نشكر لله ما خصّنا به من نِعم في هذا المؤتمر وما وفّر لنا من فرح في اللقاء والعيش معًا كما جاء في الكتاب المقدس: "ما أطيب وما أحلى أن يسكن الأخوة معًا" (مز 133: 1) (البيان الختامي، رقم 1، 19). وبدورنا، توقفنا، في مؤتمرنا التاسع، عند هذه المعاني التي تجدون صدى لها في بياننا الختامي، والتي نريد هنا أن نعددها ونتوسع فيها كي تظل سمة من سمات حياتنا الكنسية.
14. الارتداد والتوبة
          يرى البيان الختامي لمؤتمر البطاركة والأساقفة أن اليوبيل، بالنسبة لنا، "فرصة ملائمة لتوبة صادقة تتجلى بالعودة إلى الله ومسامحة بعضنا بعضًا وترسيخ حياتنا في المسيح النور والحق والحياة فنحيا بروحه ونعمل بوحيه لنتجدد ونؤدي له الشهادة" (البيان الختامي، رقم 20).كثيرًا ما عاشت كنائسنا في الماضي في خطوط متوازية أكثرمنها متكاملة، فاستسلمنا لروح التنافس والظنون والمصالح الذاتية المتناقضة. فإذا كانت التوبة تغييرًا في الاتجاه، فإننا نرى أن كنائسنا الكاثوليكية تسير نحو طريق الوحدة والتكامل والتعاون، متخطية الصعوبات المتنوعة في علاقاتها المتبادلة والتي عانينا جميعًا من سلبياتها وفعلها المدمر. ولا يمكن أن نرى في هذا الاتجاه الجديد إلا استجابة لدعوة السيد المسيح إلى الوحدة ليؤمن العالم (راجع يوحنا 17: 11، 21ـ23، 26)، ولدعوة القديس بولس المتكررة والحارة لوحدة الجماعة المؤمنة (راجع، مثلاً، فيليبي 2: 2ـ5؛ 1 قورنتوس 1: 10ـ16).
15. التعارف
          كثيرًا ما تعيش الكنائس الكاثوليكية بعضها "بمحاذاة" بعض أكثر مما تعيش بعضها "مع" بعض. في المؤتمر المذكور فرحت الكنائس الكاثوليكية بالتعرف بعضها على بعض من خلال المداخلات حول مختلف الكنائس في سائر مناطق الشرق الأوسط، وكان هذا التعارف، مع ما ينطوي عليه، مفاجأة سارة بالنسبة للكثيرين أدت الى المزيد من التقدير والاحترام المتبادلين. ولقد أصغى المؤتمرون باهتمام وحنو إلى مداخلات بعض الكنائس الصغيرة والمتواضعة في الموارد البشرية والمادية والتي نكاد لا نعرف عنها شيئًا، كالكنائس في إيران، وتركيا، وشمال أفريقيا، مما ساعد على الخروج من التقوقع وعلى توسيع حدود اهتمام كنائسنا ودوائر شركتها. وهنا نود أن نؤكد مودتنا ومحبتنا لتلك الكنائس والعمل على ازدياد الشركة بيننا والتواصل في الإيمان وفي العمل وفي الهموم والتطلعات، وعزمنا على فتح الباب لمزيد من التعاون الإرسالي مع كنائس تلك المناطق حيث أمكن ذلك.
16. الانفتاح
          لم يكن قصد الكنائس الكاثوليكية من هذا المؤتمر أن تجتمع لتنغلق على نفسها وتفكر في مصالحها الخاصة، بل أرادتها مناسبة لترسيخ شتى أنواع الانفتاح، الذي تنتهجه كنائسنا منذ سنوات. وتمثل هذا الانفتاح في ثلاثة خطوط متكاملة: أولهما، الانفتاح المسكوني على سائر الكنائس الشقيقة والجماعات المسيحية المختلفة. وتجلّى ذلك بنوع خاص في "مواضيع البحث" التي أعدت للمؤتمر (راجع مواضيع البحث، رقم 27 ـ 31) وفي البيان الختامي (راجع البيان الختامي، رقم 7/ب). وثانيهما، الانفتاح على الأديان الأخرى بروح الحوار "لتنقية الذاكرة التاريخية، ومتابعة الحوار البنّاء والتعاون الصادق لبناء مجتمع تُحتَرم فيه التعددية والحرية الدينية" (البيان الختامي، رقم 7/ج؛ أنظر أيضًا مواضيع البحث، رقم 35). وثالثهما، الانفتاح على المجتمعات التي تعيش فيها كنائسنا والتضامن معها متلمسة مشاكل الفقراء والمعدمين، وقضايا السلام والعدل وحقوق الإنسان (راجع البيان الختامي، رقم 15 ـ 17؛ وأيضًا مواضيع البحث، 36 ـ 38).
لقد أدركت الكنائس الكاثوليكية أن الخيار المسكوني والحواري والمجتمعي هو خيار المستقبل الذي لا رجعة فيه، لأنه وحده الكفيل ببناء كنائس حية وشاهدة ومجتمعات سليمة ومتكافئة ومعافاة.
17. الشركة
          إن أقوى وأعمق المعاني لهذا المؤتمر هو ما عاشه الجميع من شركة كنسية عميقة. لعلكم تذكرون، أيها الإخوة والأخوات، أن رسالتنا الراعوية "سر الكنيسة" اعتمدت بشكل أساسي على مفهوم الشركة للدخول في سر الكنيسة والتأمل فيه (راجع سرّ الكنيسة، خاصة الأرقام 17 ـ 22). وفي هذا المؤتمر، تحوّل هذا المفهوم حدثًا مرئيًا وحالة ملموسة حيث لمس الجميع هذه الشركة العميقة وراء اختلاف الطقوس، والبِنَى والاتجاهات الروحية واللاهوتية. ولم يكتف المؤتمرون بعيش الشركة، بل تولدت لديهم الرغبة الصادقة في المشاركة العملية والحقيقية، حيث تصبح الشركة عملاً ملموسًا وواقعيًا، بما فيها من تعاون وتنسيق في مختلف المجالات. وهذه الشركة، وما تنطوي عليه من مشاركة وتعاون وتنسيق، لا تعني إلغاء خصوصية كل كنيسة، إنما تعني أن خصوصياتنا لا تحول دون تلاقينا وتعاوننا، بل تقود إليهما وتغنيهما.
18. علامة أمل
          تواجه كنائس بلداننا ومؤمنيها تحديات وصعوبات جمّة، مما يدفع البعض إلى التشاؤم واليأس. يشعر المؤمنون في كنائسنا وبلداننا بالحاجة إلى علامات أمل على طريق مسيرتهم. ولقد كان هذا المؤتمر إحدى علامات الأمل الكبرى على مشارف الألف الثالث. ولقد أشرنا إلى ذلك في البيان الختامي لمؤتمرنا التاسع حيث أكدنا أن هذا المؤتمر "قد أشاع في المؤمنين كافّةً الارتياح والفرح والأمل" (راجع البيان الختامي للمؤتمر التاسع لمجلس بطاركة الشرق الكاثوليك).
لقد اكتشف كثيرون أن كنائسنا، بالرغم من حدودها والصعوبات التي تواجهها، كنائس حيّة يعمل فيها الروح، وقادرة على محاورة ربها ونفسها ومجتمعاتها، وبالتالي، قادرة على مواجهة المتغيرات والمستجدات والتحديات. مع هذا الأمل الثابت والمتجدد، الذي يوقظه الروح القدس فينا، نتجه، بقلوب مطمئنة، إلى الألف الثالث غير مستسلمين للفزع والخوف والاضطراب، بل بالأحرى واضعين ثقتنا بالله الذي وعدنا بأن يبقى معنا، بالمسيح والروح القدس، الى انتهاء الدهر (راجع متى 28: 20).
الفصل الثالث: خطوط عمل للمستقبل
من الأمل إلى العمل
19.     تناول مؤتمر البطاركة والأساقفة مواضيع كثيرة. وقد لاحظ البعض ان هذا الاتساع كان على حساب العمق. ولكن المقصود، في هذا المؤتمر الأول، كان إلقاء نظرة شاملة على القضايا التي تهمنا على أمل العودة شيئًا فشيئًا إلى هذه المواضيع في المستقبل للتعمق فيها. ولكن الأهم من ذلك كله هو تلك الرغبة في الوصول إلى حيز التطبيقات العملية على الأرض استجابة للسؤال الملح الذي لا ينقطع المؤمنون عن طرحه علينا: "وبعد؟ما هي النتائج العملية الملموسة؟". ولقد أشرنا في بياننا الختامي إلى هذه الرغبة عندما أكدنا "أن المتابعة الحثيثة والطويلة المدى لتوصيات المؤتمر هي وحدها الكفيلة بأن تحوّل المؤتمر واقعًا ثابتًا في حياة كنائسنا"، مما يدعو كنائسنا إلى اتخاذها على محمل الجد "لترجمتها إلى واقع ملموس في حياة كنائسنا في المستقبل" (البيان الختامي للمؤتمر التاسع لبطاركة الشرق الكاثوليك). ومن المؤكد أن هذه الرغبة في العمل الملموس هي من العلامات التي يتحتم علينا أن ندرك أبعادها ونستجيب لمتطلباتها، كي تكون كنائسنا بيتًا مريحًا لأبنائها وبناتها، وبيتًا مضيافًا لكل من يتصل بها.
20. توصيات المؤتمر
          تجلت هذه الرغبة في التطبيق العملي في مجموعة واسعة من التوصيات وصل عددها الى 84 توصية في شتى مجالات الحياة الكنسية والراعوية (نشرت هذه التوصيات في كتاب على حدة تحت عنوان توصيات المؤتمر الأول للبطاركة والأساقفة الكاثوليك في الشرق الأوسط). ولا ريب أنها تشكل برنامج عمل واسع النطاق. وإننا نسجلها في هذا القسم الثالث من رسالتنا لقناعتنا بأهميتها من جهة، ولعزمنا على الالتزام بها في المستقبل من جهة أخرى. من المؤكد أننا لن نستطيع أن ننفذ كل شيء مرة واحدة، لأن هذه الخطوط هي عبارة عن عمل طويل الأمد. ولكننا سنبذل قصارى جهدنا، في العقود القادمة من الألف الثالث، لتطبيقها تدريجيًا على أساس واقعي وثابت ومدروس. في الفقرات التالية من رسالتنا، نوجز هذه التوصيات بفصولها الستة كما وردت في الأصل، عاملين على جمع ما تقارب منها في فقرة واحدة، كي تكون أساسًا لعمل مجلسنا في المستقبل، وأساسًا أيضًا لعمل جميع الهيئات والمرجعيات الكنسية، من القاعدة إلى القمة. وعليه، فإن المؤتمر هو من جهة نقطة وصول، وهو من جهة أخرى نقطة انطلاق أيضًا. وتقع مسؤولية متابعته علينا جميعًا. وهذا ما يتطلب طريقة مشتركة منهجية وبرمجة جادة لوضع خطوط العمل موضع التنفيذ وبشكل تدريجي ودؤوب.
21. أولاً: هوية الكنائس الكاثوليكية الشرقية والتنسيق فيما بينها
          كنائسنا الكاثوليكية في هذه المنطقة شرقية في جذورها وتراثها الرسولي والآبائي والليتورجي والروحي المشترك مع الكنائس الأرثوذكسية الشقيقة. وهي في شراكة مع الكنيسة الجامعة تحمل، على تنوع تقاليدها وتعابيرها الإيمانية، القيم المسيحية الإنجيلية الحية. وهذا يقتضي الأمانة لتراثاتنا الغنية المتنوعة واعتمادها أساسًا للتجدد، وإنشاء الهيئات التي تؤمِّنُ التواصل والتعاون بين هذه الكنائس في الشرق.
1. التركيز على تراثنا الشرقي في معاهد التنشئة اللاهوتية والروحية، والنشاطات الراعوية على مختلف الأصعدة، وتعميق معرفة الفكر اللاهوتي الآبائي المشترك والتراث العربي المسيحي وتوظيفهما في خدمة كنائسنا في ظروفها الحالية.
2. إنشاء هيئة تنفيذية تابعة لمجلس بطاركة الشرق الكاثوليك تكون على اتصال مع سينودسات الكنائس الكاثوليكية المختلفة، وإنشاء اتحاد بين مجالس البطاركة والأساقفة الكاثوليك القائمة حاليًا في بلدان الشرق الأوسط، وإقامة اللجان المشتركة لتنسيق العمل الراعوي في البلدان التي تضمّ كنائس مختلفة.
3. العمل على أن تشمل سلطة البطاركة كل أبناء كنائسهم أينما وجدوا (راجع توصيات، البند 1 ـ 7).
22. ثانيًا: حياة الكنيسة
            إن كنائسنا مدعوة، على عتبة الألف الثالث، إلى مسيرة روحية متجددة، والى شهادة للمسيح في عالم متغير يحتاج إلى كرازة جديدة. لقد شدّد المؤتمر على الكرازة الجديدة التي تعتمد على الشهادة الإنجيلية من خلال الأفراد ومن خلال المؤسسات الكنسية على اختلاف أنواعها، والتي تعمل على تغذية الإيمان بمعرفة أعمق لسر المسيح بغية الارتقاء بالمؤمنين من مستوى الانتماء الديني الموروث والممارسة السطحية إلى إيمان واع ومسؤول وحي.
4. الكرازة الجديدة: بلورة مشروع كرازي واسع النطاق يحيي الإيمان في ظل المتغيرات الحالية، وإعداد الاكليروس والرهبان والراهبات والعلمانيين لتنفيذ هذا المشروع حسب حاجات العصر وأولويات حاجات المؤمنين ووفق متطلبات المنهجيات والوسائل الحديثة.
5. التربية الدينية: دعم وتطوير الهيئة الكاثوليكية للتعليم المسيحي التابعة لمجلس بطاركة الشرق الكاثوليك.
6. الكتاب المقدس: دعم الرابطة الكتابية الكاثوليكية القائمة في الشرق الأوسط، وتعزيز كل مبادرة ترمي إلىتوزيع الكتاب المقدس، ودراسته والتأمل فيه، وترجمته ترجمة موحدة لاستعمالها في ليتورجيا التعليم المسيحي. 
7. الليتورجيا: تجديد الحياة الليتورجية بحيث تكون احتفالاً حقيقيًا بسر الخلاص الإلهي، وذلك في الأمانة للتراث وفي الإصغاء لمتطلبات العصر، ودعم هذا التجديد بأدوات (نشرات وغيرها) تسهل على المؤمنين مشاركتهم الفعلية والحية والمثمرة، والعمل على إعداد متخصصين في علم الليتورجيا ومنشطين ليتورجيين في الأبرشيات والرعايا. وفي هذا المجال، العمل أيضًا على توحيد "قانون الإيمان" و"الصلاة الربية" بين الكنائس الكاثوليكية.
8. الروح الإرسالية: تشجيع الدعوات الإرسالية وتنميتها، والإصغاء إلى حاجات الكنائس الصغيرة (كنائس شمال أفريقيا، على سبيل المثال).
9. العمل الراعوي: العناية بالعمل الراعوي، والتركيز عليه في التنشئة اللاهوتية، واستعمال الوسائل العصرية المناسبة واستخدام اللغة التي يفهمها عصرنا ومجتمعنا. وللتنسيق بين رعايا المنطقة الواحدة، إنشاء لجنة راعوية مشتركة (راجع توصيات، البند 1 ـ 7).
23. ثالثًا: الالتزام الرسولي الراعوي
            إن جميع أبناء الكنيسة، من أساقفة وكهنة ورهبان وراهبات وعلمانيين، مدعوون إلى المساهمة في بناء كنيسة السيد المسيح، كل بحسب أصالة دعوته ورسالته. لقد أفاض الله في يسوع المسيح وبقوة الروح القدس هبة خاصة لكل فئة من فئات المؤمنين، وإذا ما وضعت كل فئة موهبتها في سبيل البنيان المشترك، تحت إشراف الأساقفة، نكون قد وصلنا إلى عمل رسولي وراعوي مشترك وناجع في خدمة الملكوت.
10. العلاقة بين الرهبانيات والأساقفة وعلاقة الرهبانيات فيما بينها: إيجاد بنية مناسبة للتعاون بين الأساقفة والرهبانيات، واشراك الرهبانيات، بطريقة من الطرق، في أعمال وهيئات مجالس البطاركة والأساقفة الكاثوليك في كل بلد، وتشجيع التنسيق بين اتحاد الرهبانيات على مستوى الشرق الأوسط سعيًا وراء تبادل الخبرات، وتوزيع الطاقات، وتنشيط التعاون الراعوي، وتلبية نداءات البلدان المحتاجة، في العالم العربي وغيره، قدر الإمكان.
11. العلمانيون: تفعيل دور العلمانيين في كنائسنا تفعيلاً جادًا وحقيقيًا، ولذلك إنشاء المجالس التي تنص عليها القوانين الكنسية، بعد الإعداد لها إعدادًا جادًا وعميقا.
12. الأسرة: الاهتمام بالأسرة ومتابعتها والتعاون معها، عن طريق إنشاء معهد في الشرق الأوسطللدراسات الرعائية الخاصة بالأسرة، وإنشاء هيئة في كل أبرشية أو رعية تعنى برعاية الأسرة والإعداد للزواج.
13. المرأة: تطوير الاهتمام الراعوي بالمرأة لتأخذ مكانها ودورها في العائلة والمجتمع والكنيسة، وتفعيل مشاركتها في الكنيسة ودورها في مراكز المسؤولية والقرار انطلاقًا من خصوصيتها، وتعزيز دور المرأة المكرسة في العمل الراعوي والرسولي والإداري في الكنيسة.
14. الشبيبة: الاهتمام بالشبيبة، وإشراكها في حياة الكنيسة، وتشجيعها على الانخراط في المؤسسات وحركاتالعلمانيين الملائمة، وتنظيم لقاءات للشبيبة المسيحية على مستوى الشرق.
15. الهجرة: إنشاء هيئة حول الهجرة، والاهتمام بالمؤمنين للحد من هجرتهم ومتابعة المغتربين للحفاظ على هويتهم الإيمانية والكنسية بالتعاون والتنسيق مع الكنائس المضيفة (راجع توصيات، البند 28 ـ 45.).
24. رابعًا: الحوار
          إن خيار الحوار هو خيار انتهجته كنائسنا، ولقد توسعت فيه رسالتنا الراعوية الثانية (راجع الحضور المسيحي في الشرق شهادة ورسالة، الفصل الخامس (حضور مسكوني)، رقم 39 ـ 44 والفصل السادس (حضور الحوار)، رقم 45 ـ 52). وإننا نود أن نستمر في هذا النهج مع كل صعوباته وتحدياته، لأننا نرى أنه مهم لكنائسنا، ولجميع المسيحيين في الشرق، ولمجتمعاتنا. ولقد قطعنا شوطًا على طريق الحوار بكل أوجهه، ونؤكد العزم على أننا سنواصل السير في هذا الطريق، واتخاذ الوسائل العملية التي تقود إليه وتترجمه إلى واقع يزداد رسوخًا مع الزمن.
16. الالتزام المسكوني: الصلاة من أجل الوحدة المسيحية، والتركيز على البعد المسكوني في التنشئة الكهنوتية والرهبانية والعلمانية، ودعم "حوار الإيمان" بحوار "المحبة" في جميع المجالات ومنها مجالات الخدمة والشهادة المشتركة، وتوضيح مقومات اللاهوت الشرقي وتعميقه وتشجيع الدراسات والأبحاث اللاهوتية مع الكنائس الأورثوذكسية الشقيقة، واتخاذ الخطوات المسكونية الملموسة (كتوحيد تاريخ عيد الفصح مثلاً، وغيره).
17. العلاقة بسائر الأديان: تعميق علاقة صادقة مع المواطنين المسلمين انطلاقًا من دوافع إنجيلية، والاستمرار في الحوار الإسلامي المسيحي، وإعطاء هذا الحوار مكانة في التنشئة الاكليركية ومعاهد اللاهوت. وكذلك، العمل على تنمية الحوار مع أبناء الديانة اليهودية في ظل الظروف الراهنة مع الأخذ بعين الاعتبار متطلبات العدل والسلام والمصالحة والقواسم الدينية المشتركة.
18. الشراكة في المواطنة: تعميق انتمائنا إلى مجتمعاتنا المعاصرة، وتشجيع الالتزام في الحياة العامة بكل مجالاتها، والمطالبة بإفساح المجال للمسيحيين للمشاركة الكاملة في حياة مجتمعاتهم
25. خامسا: الخدمة الاجتماعية والتربية والإعلام
            إن الخدمة الاجتماعية (خدمة المحبة بشقّيها التنموي والخيري) جانب من جوانب رسالة الكنيسة وتسعى إلى القيام بها دائمًا لخدمة الإنسان والشخص البشري بكل واقعية وانطلاقًا من ظروفنا الحقيقية. وتشمل هذه الخدمة الاجتماعية، بشكل من الأشكال، مجالات التربية والتعليم، والفكر والثقافة ووسائل الإعلام وغيرها. تود كنائسنا أن تظل متنبهة لجميع مجالات الحياة في مجتمعنا لكي تساهم بالتعاون مع جميع أبناء المجتمع في بناء مجتمع سليم ومستقر ومتطور.
19. الخدمة الاجتماعية: الاهتمام بتعليم الكنيسة الاجتماعي، دراسة وتطبيقًا، وتبادل الخبرات والتنسيق بين كنائس بلدان الشرق الأوسط في مجال العمل الاجتماعي، والعمل على تلافي السلبيات التي يمكن أن تنجم عن مثل هذا العمل، واتخاذ المبادرات العملية في جميع مجالات الخدمة الاجتماعية، وتنشئة المؤمنين على مثلهذهالخدمة ومتطلباتها.
20. التربية والتعليم: المساهمة في المجهود الوطني في حقل التربية والتعليم، ومساعدة المحتاجين في حقل التعليم، وتطوير مؤسساتنا التعليمية والتربوية بحيث تستجيب لمتطلبات الإنسان في مجتمعاتنا.
21. الفكر والثقافة: إنشاء رابطة للمفكرين والمثقفين والفنيين المسيحيين في الشرق الأوسط، وتشجيع انخراط المسيحيين في الحياة الفكرية والثقافية والعلمية في بلدانهم، والاهتمام المستمر بالشأن الثقافي على أنه مجال مهم من مجالات الحياة الإنسانية، وتطوير فكر لاهوتي يخاطب إنسان منطقتنا مع إنشاء رابطة اللاهوتيين في الشرق الأوسط تسعى إلى هذه الغاية بالوسائل المختلفة.
22. وسائل الإعلام: الاهتمام بوسائل الإعلام لأهميتها المتزايدة في عالم اليوم وفي بلداننا ومتابعتها، ودعم وسائل الإعلام المسيحية على اختلاف أنواعها في بلداننا، والتنشئة على الاستعمال الصحيح لوسائل الإعلام المختلفة، وتأسيس هيئات متخصصة للعمل في هذا المجال (راجع توصيات، البند 53 ـ 77).
26. سادسًا: حقوق الإنسان
          تحتل حقوق الإنسان مكانة مرموقة في عالم اليوم. وتعتمد حقوق الإنسان في المنظور المسيحي على أن الإنسان، فردًا وجماعة، مخلوق على صورة الله ومثاله، مما يدعونا إلى العمل المستمر لتعزيز كل ما يمكن أن ينمي هذه الصورة وتلافي كل ما من شأنه أن يمحوها أو يشوّهها.
23. حقوق الإنسان: العمل على احترام الحياة البشرية في جميع مراحلها، والدفاع عن حقوق الإنسان أيًا كان وأينما كان، خاصة السجناء والأسرى والأطفال. ولذلك إقامة وتفعيل لجان العدل والسلام في الشرق الأوسط وخلق الأطر المناسبة للتنسيق والتعاون فيما بينها كي تكون أداة بين أيدي البطاركة والأساقفة لدى اتخاذهم المواقف المناسبة في هذا الشأن.
 
27. خــاتمـــة
 فرح وأمـل.
          لقد بدأنا رسالتنا هذه بالفرح الناجم عن البشرى السارة، التي تتحول فينا، بفعل الروح القدس الذي يصنع كل شيء جديدًا، ينبوع ماء حي يخصب حياتنا ويجددها ويدفعها على دروب الحاضر والمستقبل.  ولا يسعنا، في ختام هذه الرسالة، الا ان نشير الى تلك الرؤيا، التي يختتم بها حزقيال النبي سفره، وهي رؤيا المياه الغزيرة المتدفقة من الهيكل لتملأ الارض خصبًا في كل الاتجاهات (راجع حزقيال الفصل 47). ان السيد المسيح، الذي نحتفل بيوبيل تجسده، هو الهيكل الذي تتدفق منه هذه المياه الغزيرة التي تتحول فينا خصبًا وأملاً وحياة. مع هذا الايمان الثابت نسير معًا نحو الالف الثالث "ثابتين في الايمان، فرحين في الرجاء، متضامنين في المحبة" (البيان الختامي لمؤتمر البطاركة والأساقفة الكاثوليك، رقم 20)، ببركة الإله القدير الثالوث الواحد الأحد، الآب والابن الروح القدس. آمين.
 
+ اسطفانوس الثاني غطاس، بطريرك الإسكندرية للأقباط الكاثوليك.
+ مكسيموس الخامس حكيم، بطريرك أنطاكيا وسائر المشرق والإسكندرية وأورشليم للروم الملكيين الكاثوليك.
+ مار نصرالله الكاردينال بطرس صفير، بطريرك أنطاكيا وسائر المشرق للموارنة.
+ مار أغناطيوس موسى الأول داود، بطريرك أنطاكيا للسريان الكاثوليك.
+ مار روفائيل الأول بيداويد، بطريرك بابل للكلدان .
+ نرسيس بدروس التاسع عشر، بطريرك كيليكيا للأرمن الكاثوليك.
+ ميشيل صباح، بطريرك أورشليم للاتين.
 
مجلس بطاركة الشرق الكاثوليك
في عيد الميلاد المجيد
في الخامس والعشرين من كانون الأول/دسمبر 1999