الرسالة الرابعة 1996 سرّ الكنيسة

الرسالة الرابعة 1996 سرّ الكنيسة

مجلس بطاركة الشرق الكاثوليك
ســرّ الكنيســة
"أنَا الكَرمَةُ وَأنتُمُ الأغصَان" (يوحنا 15: 5)
الرسالة الراعوية الرابعة
التي يوجهها بطاركة الشرق الكاثوليكCPC
إلى مؤمنيهم في شتى أماكن تواجدهم
ميلاد 1996
مقــدمة
إلى اخوتنا الأساقفةِ والكهنةِ والشمامسةِ والرهبانِ والراهباتِ والمؤمنين كافَّة، الذين هم كنيسة الله، في جميعِ أبرشيّاتِنا في بلادِ الشَّرقِ وفي بلادِ المهجر، "عَلَيكُمُ النِّعمَةُ والسَّلامُ مِنَ لَدُنِ الله أبِينَا وَالرَّبُّ يَسُوعَ المَسِيح" (1 قورنتس 1: 3).
1. هموم وتساؤلات 
نستهلُّ رسالتَنا الرّاَعَويَّةَ المشتَرَكةَ هذه بالسَّلامِ الذي وجَّهه الرسولُ بولس إلى كنيسةِ قورنتس، لنشاركَكم، منذ البداية، الهَمَّ الذي استحوذَ على قلبِ رسولِ الأمم، إذ تابع قوله لهم: "أُناشِدُكُم، أيُّهَا الاخوة، بِاسمِ رَبِّنَا يَسُوعَ المَسِيح، أن تَقُولُوا جَمِيعًا قَولاً وَاحِدًا وألاّ يَكُونَ بَينَكُم اختِلافَات، بَل كُونُوا عَلَى وِئَامٍ تَامٍّ، في رُوحٍ وَاحِدٍ وَفِكرٍ وَاحِد" (1 قورنتس 1: 10). إلى أن قال: "إنِّي لَم أشَأ أن أعرِفَ شَيئًا، وَأنَا بَينَكُم، غَيَر يَسُوعَ المَسيحِ، بَل يَسُوعَ المَسِيحَ المَصلُوب" (1 قورنتس 2: 2). وهذا هو الهمّ الذي يستحوذ على قلبنا اليوم، والذي يستحثُّنا لنعيَ واقعَنا الكنسي. هل نعي أنّنا كنيسة أساسها يسوع المسيح المصلوب، أم نحن طوائف نسعى وراء إنجازات بشرية؟ هل نعي أنّنا كنيسة ونعيشُ حقًّا هذا الواقع، ونشعرُ بأنّنا مدعوُّون في كلّ يومٍ وفي كلِّ لحظةٍ إلى هذا العيشِ بأمانةٍ متزايدة، فنتساءلَ مع الرسولِ قائلين: كَيفَ نَتَصَرَّفُ في بَيتِ الله أعني كَنِيسَةَ الله الحيِّ؟ (1 طيموتاوس 3 :15). وكيف نكون الأغصان الثابتة في الكرمة فنثمرَ ثمرًا كثيرًا لمجد الله الآب؟ (راجع يوحنا 15: 1ـ 5).
2. انطلاقًا من واقعنا الكنسي اليوم
إنَّ هَمَّ رسول الأمم يستحوذ على قلوبنا أمام واقع تعدُّد تقاليدنا وتنوُّعها، فيما نرغب في الوقت نفسه في أن نكون جميعًا قلبًا واحدًا وكلمة واحدة، في سبيل الشهادة ليسوع المسيح ربِّنا، طبقًا لقوله لنا: "إنَّ الرُّوحَ القُدُسَ يَنزِلُ عَلَيكُم فَتَنَالُونَ قُوَّةً وَتَكُونُونَ لي شُهُودًا في أورَشَلِيمَ وَكُلِّ اليَهُوديِةَِّ وَالسَّامِرَةِ حَتَّى أقَاصِي الأرضِ" (أعمال الرسل 1: 8). نحن اليوم سبع بطريركيات كاثوليكية في شرقنا العربي، بطريركية الإسكندرية للأقباط الكاثولكيك، وبطريركيات إنطاكية للسرّيان والموارنة والروم الكاثوليك، وبطريركية قيليقية للأرمن الكاثوليك، وبطريركية بابل للكلدان، وبطريركية القدس للاتين. ونتواجد جميعًا في البلدان نفسها، ونعمل في حقل الرب الواحد. ونريد أن يكون عملنا واحدًا وأن تكون شهادتنا واحدة مع تعدُّد تقاليدنا وتنوُّعها، لتمجيد الله الذي أرسلنا جميعًا إلى كرمه الواحد، ولتقوية إيمان المؤمنين في جميع بطريركياتنا.
عقدنا لقاءنا السنوي الرابع في الرَّبوَة (لبنان) بين التاسع عشر والرابع والعشرين من أيلول/سبتمبر 1994، بدعوة كريمة من غبطة أخينا البطريرك مكسيموس الخامس حكيم. وفيه تطرَّقنا لهذا الموضوع الأساسي ألا وهو سرّ الكنيسة، وما ينطوي عليه من تمييز بين الكنيسة والطائفة، وبين ما هو من الله وما هو من الناس، وبين التقاليد المجمَّدة والتقاليد التي يجب أن تكون مصدر تجدُّد وحياة، تمكِّننا من مواجهة التحدِّيات الكثيرة في حياتنا اليومية، الخاصة والعامة. 
3. الصلة مع الرسائل السابقة
كُنَّا قد فكَّرنا معًا في رسائلنا الثلاث السابقة حول تجذُّرِ كنائسنا ومعناها ورسالتها في أرضِ المشرق. بحثنا معًا عن طرقٍ جديدةٍ لإحياءِ دعوتِنا وشهادتِنا في مجتمعاتِنا المتبدِّلةِ والمتطوِّرة. ولقد بيَّنَّا فيها أنّ دعوتنا الأساسية في أوطاننا، ومن خلال كنائسنا، هي الشهادة الواحدة ليسوع المسيح ربِّنا. إلا أنّه لا بدَّ لنا من أن نعترف بأن التجربة تبيِّنُ أنّ تصرُّفاتِنا ومواقفَنا الطائفية، رعاةً ومؤمنين، كثيرًا ما تقفُ حاجزًا دون هذه الدعوةِ الأساسية لكنائسِنا. نعترفُ في قانونِ الإيمان "بكنيسةٍ واحدةٍ مقدَّسةٍ جامعةٍ رسولية"، ونتصرَّف في الواقع كطوائف مهتمَّة بتنفيذ رؤيتها الخاصة بها. ولهذا رأينا من الأهمية بمكان أن نتأمَّل وإياكم في سرّ الكنيسة كي ننمّيَ روح الشركة بين كنائسنا في جميع مجالات الرسالة، ونصل إلى تحقيق "نموذج كنسي" يجعل رسالتنا وشهادتنا أكثر شفافية وفاعلية.
4. هدف الرسالة وأقسامها
نودّ أن نتعمّق في هذه الرسالة في مفهوم الكنيسة، كما أرادها يسوع المسيح، وكما فَهِمها وعاشَها الرسل من بعده، ومن ثمّ كما يجب أن نفهمها ونعيشها اليوم.
وإذا ما تكلّمنا عن الكنسية، فلا بدّ لنا من أن نتكلّم أيضاً عن مفهوم الطائفة. وهي الإطار التاريخي والسياسي والبشري الذي عشنا حياتنا الكنسية فيه، وفيه نَمَت تقاليدنا الكنسية الخاصة. وتقاليدنا هذه كنوز روحية وطاقات حيّة ومحيية، أنشأها إيمان أجدادنا، وما زالت قادرة على إنعاش إيماننا اليوم. ومن ثمّ، فإن حياتنا الكنسية، تؤيدها تقاليدنا الخاصة بكل كنيسة من كنائسنا، يجب أن تكون غذاءً لحياتنا اليوم بجميع مجالاتها.
وهذا هو قصدنا في هذه الرسالة، أن نؤكد على ضرورة ضمان التواصل بين تقاليدنا القديمة والخاصة بكل طائفة وبين حياتنا اليومية في هذا العصر بكل مستجداته. همّنا أن يستمرّ التفاعل بين تقاليدنا وبين مقتضيات حياتنا اليوم ورجائنا في المستقبل.
لقد أدّت الطائفة عبر تاريخنا الكنسي وظيفة إيجابية في محافظتها على التقليد الكنسي كما وعلى الحضارة الإنسانية والقومية الأساسية لكل كنيسة من كنائسنا. إلا أن سلبيات كثيرة تسرّبت إلى واقع الطائفة، وذلك بسبب سطحية في الإيمان بصورة عامة، أو بسبب عوامل اجتماعية ضاغطة خنقت المفهوم الكنسي ضمن الإطار الطائفي. مما أدّى إلى ظهور الروح الطائفية، وهي عبارة عن السلبيات المتولدة والمحرِّفة لحياتنا الكنسية، وأهمها الانغلاق على الذات واعتلال الصلة بالآخر المنتمي إلى طائفة أخرى أو إلى ديانة أخرى.
فالسؤال الذي نريد أن نواجهه في هذه الرسالة هو: كيف نتحرّر من هذه الروح السلبية، وكيف نثبّت تقاليدنا ونعيد إليها حيويتها؟ الجواب هو في توضيح مفهوم الكنيسة، وفي التواصل بين التقليد والحياة اليومية، وفي مقدرة هذا التقليد على الإسهام في بناء الحياة المعاصرة وتلبية حاجاتها وتقديم الردود المناسبة لها.
إنّ الهدف من هذه الرسالة إذن هو التوصُّل إلى رؤية واضحة لِمَا أراده يسوع المسيح حين أسّس الكنيسة، ولِمَا أردناه نحن حين آمنَّا بهذه الكنيسة، وما تنطوي عليه هذه الرؤية من تجديد في مواقفنا وممارساتنا. كما أننا نريد أن نوضِّح العلاقة بين الكنيسة التي يريدها يسوع المسيح في كل مكان وزمان وبين الإطار البشري الذي تتجسَّد فيه هذه الكنيسة، والذي عرفناه في شرقنا باسم "الطائفة"، لنقول إننا أولاً كنيسة، وإن الكنيسة تتجسَّد في الواقع البشري لكي تُنقِّيَه وتسموَ به وتحوِّلَه إلى طاقة فاعلة ومحرِّرة. وما هذا التأمل في سرّ الكنيسة إلا مدخل إلى مواجهة تحدِّيات العصر وإلى التفاعل معها ومع جميع اخوتنا البشر.
نُقسمُ رسالتَنا هذه أربعة فصول. في الفصلِ الأوَّلِ نميِّزُ بين مفهومِ الطائفة ومفهومِ الكنيسة، فنبيِّنُ ما هو إيجابيٌّ في تقاليدِنا الخاصَّةِ بكلِّ كنيسة، وما هو سلبيٌّ في المواقف الطائفية التي تدَّعي المحافظةَ على ذلك التراث المتعدِّد وعلى تلك التقاليد، فيما تبعدنا عن المفهوم الصحيح للكنيسة.
في الفصلِ الثاني، نبيِّنُ بِمَ يقومُ سرَّ الكنيسة، وأنّ شركةَ الآبِ والابنِ والروحِ القدس هي مصدر الكنيسة ومثالها وغايتها، فهي سرّ شَرِكةٍ حيَّة، وهي في الوقتِ نفسِه علامةٌ وأداةُ خلاصٍ لجميعِ البشر.
وفي الفصلِ الثالث، نتوقَّف عند التعدُّد والوحدة في حياة الكنيسة انطلاقًا من مفهوم الشركة لنبيِّن ان التعدُّد والوحدة لا يتنافيان، وأنّه يمكنُ أن تبقى الشركة قائمةً مع تعدُّد وتنوُّع التقاليد والكنائس.
وفي الفصل الرابع، نتوقَّف عند بعض الآفاق والتوجُّهات الراعوية التي يمليها علينا سرّ الشركة في الكنيسة، والتي تبيِّنُ كيف يمكنُ أن يكونَ المؤمنُ عضوًا حيًا في كنيسةٍ حيَّة، فيحافظُ على تقاليدها ويشترك في حياتها ويُخلِصُ لكنيستِه الخاصَّة، ويتحرَّرُ في الوقتِ نفسِه من الطائفيةِ وسلبيَّاتِها المدمِّرةِ للكنيسة وللإيمانِ.
الفصل الأول: الكنيسة والطائفة والتقاليد
1 ـ كيف تكوَّنت كنائسنا في الشرق؟
5. في أورشليم نشأت الكنيسة
في مشرقِنا أرسل الله الآبُ ابنَه الوحيد ليصبحَ إنسانًا، وليحقِّقَ بموتِه وقيامتِه الخلاصَ للناس. وفيه أسَّس يسوع المسيح الكنيسةَ لتكونَ خميرةً وأداةَ خلاص. في أورشليم تكوَّنَت بفعلِ الروحِ القدس، يومَ العنصرة، أوَّلُ كنيسةٍ بعد أن سمعَ المحتشدون حولَ الرسلِ عظةَ بطرسَ يُعلِنُ حَدَثَ يسوعَ المسيح الخلاصي فآمنوا به: "فَلَمَّا سَمِعُوا ذَلِكَ الكَلامَ، تَفَطَّرَت قُلُوبُهُم، فَقَالوا لِبُطرُسَ وَلِسَائِرِ الرُّسُلِ: مَاذَا نَعمَلُ أيُّهَا الاخوة؟ فَقَالَ لَهُم بُطرُس: تُوبُوا، وَليَعتَمِد كُلٌّ مِنكُم بِاسمِ يَسُوعَ المَسِيحِ، لِغُفرَانِ خَطَايَاكُم، فَتَنَالُوا مَوهِبَةَ الرُّوحِ القُدُس… فَانضَمَّ في ذَلِكَ اليَومِ نَحوُ ثَلاثَةِ آلافِ نَفس. وَكَانُوا يُوَاظِبُونَ عَلَى تَعلِيمِ الرُّسَلِ وَالمشارَكَةِ وَكَسرّ الخُبزِ وَالصَّلَوَات"
6. ثم في إنطاكية وفي سائر المشرق
على مثالِ كنيسةِ أورشليم تكوَّنَت جميع الكنائسِ في المسكونة، بعدَ أن انتشرَ الرسلُ يعلنون بشرى الخلاص الذي أتى به يسوع المسيح. وفي أنطاكية، تكوَّنت أوَّلُ كنيسةٍ خارجَ أورشليم (راجع أعمال 11: 19ـ 26)، وفيها "سُمِّيَ التَّلامِيذُ أوَّلَ مَرَّةٍ مَسِيحِيّين" (أعمال 11: 26). وفيها أيضًا أصبحت الكنيسةُ "بنتَ الأمم"، بعد أن تحرَّرت من الشريعة اليهودية القديمة، ومنها انطلقَت إلى جميعِ أصقاعِ العالم، وكان لها المقدرة على مخاطبةِ جميعِ الشعوبِ لتجذِبَهم إلى المسيح.
ثم انتشرَت الكنيسةُ في الشرق كلِّه، في مصر، وآسيا الصغرى وقيليقية وأرمينيا وفي بلاد ما بين النهرين. تأسَّست الكنائسُ في معظمِ المناطقِ والمدنِ في الشرق خلالَ القرون الثلاثةِ الأولى للميلاد، رغم الاضطهاداتِ التي واجهَتها. فتأقلمَت فيها وعبَّرَت عن ذاتِها من خلالِ حضاراتها المتنوِّعة والمتعدِّدة. فكانت كنائسَ محليةً بكلِّ ما لهذه الكلمةِ من معنى.لم تكن الظروفُ السياسيةُ مؤاتيةً دائمًا لإقامةِ علاقاتٍ متبادَلةٍ مكثَّفة. فكان بعضُها يعقدُ مجامعَ محلية، عندما كان يتهدَّدُها خطرُ الانحرافاتِ العقائدية. وكان بعضُها يتَّصلُ أحيانًا من خلالِ هذه المجامعِ بالكنائسِ المنتشرةِ في العالم، عارضةً عليها مشاكلَها وصعوباتِها الداخلية. كانت كنيستا إنطاكية والإسكندرية، عاصمتي المشرق في تلك الأيام، مرجعَين للعديد من الكنائس، عندما كان يدقُّ ناقوسُ خطرِ الانحرافات، أو عندما كانت تنشَبُ الخلافاتُ بين الكنائس. وإذا ما استعصى الأمرُ كانت المرجِعيَّة الأخيرةُ لكنيسةِ روما، كما حصل في مجمع خلقيدونيا مثلاً وفي غيره من المجامع. هكذا عاشت الكنائسُ في مشرقِنا، وعبَّرت عن ذاتها ككنائسَ محليّةٍ ومسكونيةٍ في آنٍ واحد.
2 ـ كيف تكوَّنت الطوائف في الشرق ؟
7. الكنائس في الشرق والحضارات المختلفة
كان شرقنا، في العصور القديمة، ساحة لحروب وغزوات طاحنة وساحقة بين شعوب المنطقة ومع شعوب قادمة من خارجها. ومن الغريب أنّ هذه الغزوات لم تقضِ على الحضارات القديمة، بل أبقتها ولو في صورة أقليات مغلوبة على أمرها، كوَّنت مع الزمن أقليَّات قوميّة وإتنيّة، ضمن الإمبراطوريات السياسية المتعاقبة. وكان هَمُّ هذه الأقليات الحفاظ على الذات والهوية في مواجهة العنف والعداء اللذَين كانا يُمارَسان عليها، حتى أصبحت غريزةُ الدفاع عن النفس والبقاء الدافعَ الأساسي والمحرِّك الأوَّل لسلوكها وتصرّفاتها على جميع المستويات.
ومن ضمن الغزوات التي سبقت الفتوحات العربية، والتي خلَّفت في بلادنا أثرًا باقيًا حتى اليوم، ولا سيما في كنائسنا، الغزوات اليونانية والرومانية. وقد اندمجت بعض شعوب المنطقة في حضارة الغزاة، فتثقَّفوا بثقافاتهم وتمتّعوا بمواطنيَّتهم، في حين بقي القسم الآخر والأكبر على لغته وحضارته، القبطية في مصر، والآرامية في سوريا، والآرامية المشرقية القديمة في ما بين النهرين وفي إيران، والأرمنية في أرمينية ثم في قيليقية.
في هذا الشرق المتعدِّد الحضارات، دخلت المسيحية حاملةً رسالة خلاص لجميع البشر. لم تأته غازية بالجيوش أو الأنظمة الحضارية الجديدة، بل أتَتْهُ حاملة رسالة خلاص شاملة ومسكونية، هَمُّها الوحيد أن تعبِّر عن البشرى من خلال لغة العصر وحضاراته المختلفة. فتأقلمت فيه بسرّعة مدهشة ووعي كامل.
8. في القرون الأولى
في القرون الثلاثة الأولى، نشأت كنائس محلية تجسَّدت في الحضارات المختلفة المتواجدة في أنحاء بلادنا. ولقد ارتوت هذه الكنائس الأولى بدَمِ الشهداء، فلم تتمكَّن منها الانقسامات والفرديات، بل ظلَّت، في وجه الاضطهادات وببركة شهدائها، تعيش سرّ المسيح، سواء في الحياة النسكية في القفار والبراري بعيدًا عن صخب العالم، أو في وسط المجتمعات نفسها التي كانت تضطهدها، فتزيدها صلابة في إيمانها ووحدتها الكنسية.
في القرن الرابع، مع اهتداء الملك قسطنطين الكبير، أصبحت المسيحية دين الدولة. وبدأت الدولة تدعم الكنيسة من جهة، ولكنها أخذت من جهة أخرى تفرض عليها مفاهيمها ومواقفها، بل وكثيرًا ما سخَّرتها لمتطلّباتها السياسية. فأخذت تتسرّبُ في الكنيسة الحيَّةِ بالروح القدس مفاهيمُ إداريةٌ وبشرية. وبدا وجهٌ اجتماعيٌّ جديد للكنيسة، وأخذت التقاليد الكنسية الخاصة تتحوَّل شيئًا فشيئًا إلى مؤسَّسات بشرية وإلى أطُرٍ خانقةٍ للإيمان، بدلاً من أن تكون هي نفسها مُنعَشَةً بروح المسيح المجدِّدة.
وفي هذه الفترة بدأت الانقسامات العقائدية الكبرى حول يسوع المسيح كلمة الله الأزلي. وكان لهذه الانقسامات آثارُها الباقيةُ حتى اليوم. وقد لعبت السلطة السياسية الحاكمة دور الحَكَم والمؤيِّد لفريق دون غيره. وبما أن السلطة تحمل هوية ثقافية وقومية معيَّنة، فقد أدّى موقفها إلى تحدِّي باقي الثقافات والقوميات لها. وكذلك نشأت أوَّل مظاهر الطائفية التي أخذت تحصر مفهوم الكنيسة وحياتها ضمن طوائف، كان همُّها، مع مقاومة السلطة الرسمية، المحافظة على هويتها القومية المجسَّدة في تقاليدها الكنسية ومواقفها العقائدية الخاصة.
9. مع الفتح العربي والإسلامي
لم يُرِد الإسلام أن يتدخَّل في الشؤون الدينية المسيحية. فجعل للجماعات الدينية المسيحية كيانًا ذاتيًا تحت إشراف رؤسائها، عُرِفَ بنظام "الذِمَّة". إلا أنّ هذا الاعتراف باستقلالية الكنائس وضعها في مسارٍ طائفي أثَّرَ على بنيتها الداخلية والخارجية حتى يومنا هذا. وأصبحت في استقلاليتها تتميَّزُ بسمتين رئيستين: الأولى همُّ البقاء والدفاع عن المصالح الذاتية في وجه الإسلام وفي وجه الكنائس الأخرى. والثانية، أصبح الرئيس الديني عنوان الطائفة في كلِّ مجال، وأصبحت الطائفة تلقي عليه، بالإضافة إلى مسؤولياته الدينية، مسؤوليات مدنية تفرضها مقتضيات البقاء. وأصبح إطار الطائفة المكان الطبيعي للنُموِّ والنجاح. ولهذا فإنّ مفهوم الطائفة المهتمَّة بالدفاع عن حقوقها طغى شيئًا فشيئًا على مفهوم الكنيسة "جسدِ المسيح" وجماعةِ المؤمنين المتَّحدين في ما بينهم وبسائر الكنائس برباط الروح الواحد.
10. في العصر العثماني
ولما جاء العصر العثماني (1516 ـ 1918) كرَّسَ الوجود الطائفي بصورة نهائية، وذلك في نظام مُكَمِّلٍ لنظام الذمّة عُرِفَ باسم "المِلَّة". ومُنِحَ الرئيسُ الديني صلاحياتٍ مدنيةً أوسع بالنسبة إلى جماعته، وأصبح الممثِّل الرسمي لها أمام السلطان. وكان هذا الوضع الجديد خطوة أخرى حاسمة في اتجاه الطائفية وتحويل الكنيسة إلى كيان اجتماعي وسياسي. وما زلنا نعيش اليوم ضمن هذه العقلية. ولا بدَّ من الإشارة هنا إلى التدخُّلات الأجنبية في تلك الفترة والتي أسهمت هي أيضًا في تكريس الطائفية واستغلالها.
أما اليوم فقد أقرّت غالبيّة الدول العربية الحديثة في دساتيرها المساواةَ بين جميع المواطنين. وأخذت السلطات المدنية على عاتقها جميع المسؤوليات بالنسبة إلى جميع المواطنين على السواء، المسلمين والمسيحيين، فحرَّرت الرؤساء الدينيين المسيحيين من الأعباء التي أثقلهم بها نظام الذمَّة ثم نظام الملَّة. إلاّ أنّ الروح الطائفية ما زالت غالبة داخل جميع كنائسنا الشرقية. ذلك أنّ الأنظمة العربية الحديثة لم تتمكَّن بعد، بالرغم من نصوص الدساتير السديدة، من أن تحلَّ مشكلة التعدُّد الديني في البلد الواحد. فهي تجاه هذا الواقع في عجز وفي حيرة أمام تطبيق مبدأ المساواة بين جميع المواطنين. ولهذا ما زال هناك شعور بأنّ الكنيسة ـ الطائفة هي الإطار الذي يجب أن يدعم المؤمن، لا فقط في حياته الدينية بل وفي حياته المدنية والاجتماعية أيضًا.
11. الطائفة والطائفية
هذه هي في خطوطها الكبرى الظروف التاريخية والحضارية التي أدَّت إلى نشوء ونُمُوِّ كنائسنا المتنوِّعة والمتميِّزة بعضها عن بعض في الشرق. ودفعت هذه الظروف عينها، في سلبياتها وقساوتها ومن جراء خطايانا، بكنائسنا المتنوِّعة إلى التشرذم والانغلاق على ذاتها، فأصبحت طوائف تطغى عليها الفروقات والنتوءات التي حجبت عن وجهها ملامحَ السيد المسيح، وأطفأت فيها شعلة الروح، فنسيت أنّها ليست لذاتها بل لله ولحمل تدبير الخلاص إلى المحيط البشري الذي فيه تكوَّنت وإليه أُرسِلَت.
وهذا كلُّه أدّى إلى ما نُسمِّيه بالروح الطائفية التي تبقى تحريفًا خطيرًا لمفهوم الدين ونقضًا صريحًا لمفهوم الكنيسة. فالطائفية تعني أنّ الهَمَّ الأول هو البقاء اكثرمن النمُوّ، والدفاع عن الذات وعن الحقوق والامتيازات المكتسَبة أكثر من تنمية الإيمان نفسه، وعن الإنجازات البشرية أكثر من الإنجازات الإيمانية. كما تهتمُّ بمظاهر الشعائر الدينية أكثر من اهتمامها بروحها، فتجعل منها سجنًا يقيِّد المؤمنين بماضٍ بعيد غريب عن الحياة الحاضرة، بدلاً من أن يطوِّرها لتكون طاقة حضور وتجدُّد مستمر. وبذلك أصبحت كنائسنا بحكم هذه النزعة الطائفية جماعات حصرت معظم همِّها في ذاتها وفي أبعادها البشرية. ونتج عن ذلك نَقضُ بُعدٍ كنسيٍ آخر، وهو الانفتاح والمحبة. فالطائفية تؤدي إلى الانغلاق على الذات دون الآخر سواء كان مواطنًا أو مؤمنًا. فأصبح الآخر إمّا موضوع جهل وتجاهل وإمّا خصمًا أو منافسًا، مع أن هذا الآخر هو مشارك في الإيمان والأرض والمواطنية والأخُوَّة البشرية.
ولذلك فإن الروح الطائفية تتنكَّر للكنيسة التي تدَّعي الانتماء إليها كما تتنكَّر للمعنى الصحيح لتقاليدها. تتنكَّر للكنيسة لأنّها لا ترى فيها سوى جماعة بشرية مثلِ غيرها من الجماعات، ولأنّها تنغلق على ذاتها كما ذكرنا، بينما كنيسة المسيح منفتحة على الجميع وعلى كل أمَّة وشعب. وتتنكَّر لتقاليدها الكنسية، لأنَّها غالبًا ما تجهلها جهلاً كاملاً، فتحصرها في مظاهر اجتماعية وثقافية. وهذا ما تفعله أيضًا وسائل الإعلام المدنية، والكنسية أحيانًا، حين تركِّز على المظاهر الطائفية وتنسى رسالة الكنيسة الأساسية.
3 ـ تقاليدنا الكنسيّة
12. إرث جديد لنا
قد ورِثنا بحكمِ ولادتِنا الطبيعيةِ مكوِّناتٍ تطبعُ شخصيتَنا الفرديةَ والاجتماعية: الأرضَ الأمّ، وإن هجرَها الكثيرون منذ زمنٍ طويل، واللغةَ الأمّ، والتاريخَ والوطنَ والمؤسَّساتِ والعاداتِ في مجالاتِ العائلةِ والتربيةِ والحياةِ المهنيةِ والمدنية. وورِثنا في الوقتِ نفسِهِ حضارةً وتقاليدَ ومجموعةً من القيم التي نشاركُ فيها الجماعةَ التي نشأنا فيها. وقد أصبحَت هذه كلُّها تتحكَّمُ بصورةٍ لاواعيةٍ بنظرتِنا للأمور وبمسلكِنا الشخصيِّ وبتعاملِنا مع الآخرين بل ومع الله أيضًا.
ولكن بفعلِ ولادتِنا الثانية ـ أي المعمودية ـ لبسنا المسيح وخُتِمنا بخاتمِ الروحِ القدس، فوُلِدنا ولادةً ثانيةً (راجع يوحنا 3: 5). ولم يَتِمَّ لنا ذلك إلا في كنيستِنا الأمّ، إذ فيها وُلِدنا الولادةَ الثانية أي الولادةَ الروحية، وبواسطتِها أصبحنا ورثةً مع الابنِ الوحيد (راجع روما 8: 17). وفي هذا الإرثِ الجديدِ الذي حصلنا عليه يجبُ أن نتنبَّهَ لأمرين:
أولاً، إنّ المعموديةَ لا تُكسِبُنا طبيعةً إنسانيةً أو حضارةً أساسيةً غيرَ التي نشتركُ فيها مع غيرِ المعمَّدين. إنّ كنيستَنا الأمَّ هي كنيسةٌ محليّة، وهي من طينةِ البشرِ المرسَلَةِ إليهم. ولهذا فإنَّها لا تشكِّل مجتمعًا مسيحيًّا بازاء مجتمعٍ آخرَ غيرِ مسيحي. إنّ جِدَّتَها تكمُنُ في كونِها خميرةَ ملكوتِ الله في الواقعِ الاجتماعيِّ والثقافيِّ الذي نعيشُ فيه. ذلك أنَّ الابنَ الحبيبَ اتَّخذَ كلَّ ما في الإنسان ليخلِّصَه. وما لم يتَّخذه الابنُ لا يخلُص. وينطبقُ ذلك على الأفراد والحضارات. والمسيحُ الرّبُّ والمخلِّصُ لا يَهدِمُ ما قد خلق، بل جاء ليحرِّرَنا من الخطيئةِ والموتِ ويطهِّرَنا ويجدِّدَ فينا صورته، حتّى في عمقِ أعماقِ عقليتِنا التي تُغذّيها تقاليدُنا، ما صَلُحَ منها وما وجب تطهيرُه أو تعديلُه، هذا إذا نحن ارتضينا ذلك.
ثانيًا، إنّ كنيستَنا المحليةَ حيث وُلِدنا ونشأنا في المسيح، كانت فعلاً، عبَر تاريخِها، كالخميرةِ في العجين، فأثمرَت ثمارًا روحيةً في المحيطِ الاجتماعيِّ والحضاريِّ حيث زُرِعَت. وهذه الثمارُ هي اليوم تراثُنا، وهي الكتابُ المقدَّسُ الذي تُرجِمَ إلى لغاتِنا، والليتورجيةُ التي نحتفلُ بها في الأسرّارِ الإلهية، وتسليمُ الإيمان الرسولِّي إلى الأجيالِ في كنائسِنا بحسبِ ثقافتِنا الخاصة، والتنظيماتِ القانونيةِ لجماعتِنا الكنسية، وجملةِ الاجتهاداتِ التي نجمَت عن مواجهةِ الهراطقة وعن ضرورةِ الدفاعِ عن الإيمان، مما أدّى إلى تحديدِ قضايا الإيمانِ بصورةٍ أوضحَ وأعمق. ومن خلالِ كلِّ ذلك ظهرَ التعدُّدُ في تقاليدِنا الكنسيةِ في الشرق. وهو أمرٌ مشرعٌ بل ضروري.
13. تقاليدنا إلهية وإنسانية
لتقاليدنا مصدر إلهي وإنساني. هي في الوقت نفسه وليدة النعمة وثمرة جهود آبائنا وأجدادنا في الإيمان والتاريخ. وبما أنَّها إنسانية فيجب البدء بالإشارة إلى المخاطر المحدقة بها. وأهمُّ هذه المخاطر هو ما نسَمِّيه "روح العالم". إنّ آباءنا وأُمَّهاتنا في الإيمان، لا سيما شهداءنا وكتّابَنا الروحيين، خدّامَ التراث الرسولي المقدَّس، هم شهود أحياء لأمانة الكنيسة لربِّها في مواجهتها لروح العالم. وروح العالم هو ما أشرنا إليه وأسميناه بالروح الطائفية، وهو أيضًا الممارسة الحرفية للطقوس الليتورجية، والتباهي بجمالها، في حين أنّ "قلوبنا بعيدة" عمَّن نكرِّم (راجع مرقس 7: 7)، فنترك وصية الله ونتمسَّك بتقاليد البشر (راجع مرقس7: 7ـ8). وذلك واضح على سبيل المثال في بعض العادات المرافقة للمعمودية والزواج والدفن. فهي، وإن كانت حميدة أحيانًا، إلا أنّها تطمس معنى السرّ الأصيل.
14. تقاليدنا هي تجسيد الإنجيل في الحضارة
دعانا السيدُ المسيح في كنيستِنا المحلية لنكونَ أعضاءً في جسدِهِ. ومنها أرسلَنا إلى محيطِنا البشري. وما تقاليدُنا الكنسيةُ المختلفةُ إلا تجسيدٌ في تاريخِ كلٍّ من كنائسِنا لوديعة الإيمان الرسولي الواحد. إنها أشكالٌ خاصّةٌ تكيَّفَت مع كلِّ حضارة، فكانت وسيلةً لتحقيقِ سرّ الخلاصِ الواحدِ وإظهارِه وإيصالِه إلى جميعِ الناس. هي معجزةٌ يجترحُها الروحُ القدس عبرَ تاريخِ الناسِ والحضارات، فيجسِّدُ "كلمةَ الحياة" في كلِّ حضارة، ويفعِّلُ نعمةَ الخلاصِ فيها، ويُدخِلُ البشرَ في شركةِ الله الآب بواسطة المسيح والكنيسة. إنّ الروحَ يجترحُ هذه المعجزةَ في كلٍّ من كنائسِنا، مع الاحترامِ لِكاملِ هوِّيَّتِنا الإنسانية.
15. تقاليدنا تعتمد على قوَّة الروح
كنيستنا هي أُمٌّ لكلِّ واحد مِنّا. قد وُلِدنا أوَّل مرَّة أبناءً لوالدينا، ثم وُلِدنا ولادةً ثانية أبناءً لله في الكنيسة. بعد البشارة حبلت مريم العذراء بالابن ـ الكلمة ـ بقوَّة الروح القدس. وبقوَّة الروح القدس نفسه أصبحت الكنيسة بعد العنصرة جسد المسيح. فسرّ الأمومةِ البتوليَّةِ هو نفسه بالنسبة إلى مريم والى الكنيسة، لا يستند إلى قوَّة بشرية بل إلى قوَّة الروح. وهذا ما لا تدركه الروح الطائفية التي تعتمد على قوَّة هذا العالم. فالكنيسة تكون حقًا كنيسة عندما تكون مثل العذراء مريم، "لا تعرف رجلاً" (لوقا 1: 34)، فتستمدُّ خصبها من قوَّة الروح القدس الذي يحقِّق جميعَ أعمال الله فينا. فيه تُولَدُ الكنيسة، وعنه تصدر جميع تقاليدنا الحيّة.
في الكنيسة وَلَدَنا الروح القدس لحياة الآب بواسطة الابن الحبيب، وهو الذي يغذِّينا بكلمة الله وعطيَّة الإيمان، ويُشرِكنا بواسطة الإفخارستيا في حَدَث المسيح المائت على الصليب والقائم من القبر، ويغفر ذنوبنا ويصالحنا مع الآب ومع اخوتنا، بواسطة سرّي المعمودية والمصالحة. وهو الذي يعلِّمنا بواسطة الكنيسة أن نصلّي وأن نحبَّ مواطنينا ونخدمهم، كما أحبَّ المسيح وخدم. وهو الذي يرسلنا من خلال الكنيسة إلى العالم كشهود وخدّام لشركة الله مع البشر، ولشركة البشر أجمعين في الله.
16. تقاليدنا هي طريقنا لمعرفة يسوع المسيح
لهذا فإنّه لا يسعنا أن نتوصّل إلى "معرفة سرّ المسيح في الكنيسة" (افسس 3: 4ـ 10) إلا إذا كانت تقاليدنا مصدر حياة لنا ومكان خبرة روحية يومية. إنّ آباءنا في الإيمان، لا سيَّما في الشرق، لم يعلِّموا الإنجيل من خلال تعليم مدرسي فقط، بل من خلال سماع كلمة الله في أثناء الاحتفال بالأسرّار الإلهية، أعني من خلال التقليد الذي كان لهم مصدر حياة يومية. فكان يتحوَّل إلى حياة إنجيلية في المجتمع، وإلى جَوٍّ مُشبَعٍ بالصلاة النابعة من القلب. هكذا ينشأ الإنسان الجديد في الكنيسة المتجسِّدة في زمان ومكان محدَّدَين.
الفصل الثاني: سرّ الكنيسة
1 ـ سرّ الشركة
17. الكنيسة سرّ
بعد أن عرضنا نشأة كنائسنا وتقاليدها، وبعد أن رأينا كيف تسرّبت روح الطائفية إليها، نودّ الآن أن نوضِّح لكم، أيها الأبناء وأيها الاخوة والأخوات الأعزاء، ما هي الكنيسة، وما معنى أنّنا أعضاء حيَّة في كنيسة حيَّة، مستلهمين المجمع الفاتيكاني الثاني. كان الهدف من هذا المجمع تجديد الكنيسة الكاثوليكية لكي تبقى أمينة على تدبير الخلاص ومشيئة الله في العالم. والآن بعد مِضيِّ أكثر من ثلاثين سنة على هذا المجمع، قد يجهل أبناؤنا من الأجيال الجديدة ما جاء فيه. بل ومن الممكن أيضًا أنّ الأجيال السابقة لم تعرف أن تستقبل روح المجمع، ولم تُفعِّله في حياة كنائسنا. يبدأ الفصل الأول من الوثيقة الأساسية "في الكنيسة" بالعنوان التالي: "سرّ الكنيسة". ولم تهمل الكنيسة في الفصول التالية وفي غيرها من الوثائق، الجوانب القانونية والعملية في الكنيسة، لأنها هي أيضًا ضرورية. إلا أنَّها تربطها بمفهوم "السرّ" الذي يجب أن يظهر من خلال هذه الجوانب. فالمجال الإلهي هو الأوَّل، ويظهر من خلال كل ما هو حِسِّيّ ومَرئِيّ.
وعليه نبدأ فنقول إنّ الكنيسة سرّ، أي ذاك التدبير الإلهي العجيب الَّذِي "ظّلَّ مَكتُومًا مَدَى الأزَل" (روما 16: 25)، والذي أطلعنا الله عليه "لمَّا تمَّ الزَّمَان" (غلاطية 4:4) "في الحَبِيب" (أفسس1: 6)، الَّذِي شَاءَ الآبُ أن يَجمَعَ فِيهِ كُلَّ شَيء (راجع أفسس 1: 10). وهذا كلُّه يعني أنّ الكنيسة من صُنع الله، وأنّها جماعة من الناس تجمعها نعمة الله أولاً. وليست فقط جماعة تجمعها روابط بشرية: "فَهُمُ الَّذِينَ لا مِن دَمٍ وَلا مِن رَغبَةِ لَحمٍ وَلا مِن رَغبَةِ رَجُل، بَل مِن اللهِ وُلِدُوا" (يوحنا 1: 13). غير أن نعمة الله تمتدُّ إلى هذه الروابط البشرية لتسموَ بها وتحييها وتتجسَّد فيها. ومن خصائص نعمة الله أنّها لا تغلقنا على ذواتنا، ولا تولِّد فينا النعرات الطائفية، بل تملأنا محبة لجميع الناس، لمن كانوا من كنيستنا ولمن كانوا من كنائس أخرى، بل ولمن كانوا على غير إيماننا ومعتقداتنا.
18. سرّ "الشركة" بين الله والناس
للسرّ بُعدان، إلهي وإنساني، فهو يبتدئ وينتهي في الله، وهو موجَّهٌ إلى الإنسان. وموضوع كلامنا هنا هو سرّ الكنيسة التي تحقِّق الشركة بين الله والناس. ومفهوم "الشركة" (Koinônia)، وهي من أجمل العبارات التي عرَّفَ بها العهد الجديد سرّ الله الذي لا يوصف وهو أنّ الله محبّة، هو مفهوم أساسي لفهم طبيعة الكنيسة، وهو الذي اعتمدته الحركة المسكونية الحالية في سعيها إلى المعنى الأصيل لسرّ الكنيسة.
قال البابا يوحنا بولس الثاني: "الشركة هي من المفاهيم الأساسية في تعليم المجمع الفاتيكاني الثاني عن الكنيسة. واليوم بعد خمس وعشرين سنة، يبدو أنّه يجب أن نستمرَّ في تركيز انتباهنا على هذا المفهوم. "الشركة" رؤية خاصّة تفرض سِمَتَها على طبيعة الكنيسة نفسها، وتشمل جميع المفاهيم الأخرى، مثل الاعتراف بالإيمان وشهادة الحياة، وتسليم التعاليم وتثبيت البِنَى والقواعد الكنسية. فهي شركة كل مؤمن شركةً لاهوتيةً وثالوثية مع الله الآب والابن والروح القدس، والتي تفيض فتحقِّق شركة المؤمنين في ما بينهم، فتجمعهم في شعب واحد… ولها أيضًا بُعد أساسي مرئي واجتماعي" (راجع الوثيقة المجمعية في الكنيسة، 9).
2 ـ الثالوث الأقدس مصدر الكنيسة ومثالها وغايتها
19. "الشركة" تخلق "شعبًا واحدًا"
المؤمنون "شعبٌ واحدٌ". كيف نفهم هذه العبارة ؟ قد يفهمها بعضهم من باب الوحدة الإتنية أو السياسية. أمّا الكتاب المقدَّس فإنّه يُضفي عليها معنى آخر. "شعب الله" هو "الجماعة" التي يدعوها الله، ولا وجود لها إلا بالله، وغايتها أن تسير سيرة مقدَّسة لأنَّ الله قدوس. ولأنّ الله اقتَنَاهَا لِذَاتِهِ "لِلتَّسبِيحِ بِمَجدِهِ" (افسس 1: 14). وفي الوثيقة "في الكنيسة" يشرح لنا الفصل الثاني بكامله هذا المفهوم الجديد: "الكنيسة شعب الله"، فيقول:
"هذا الشعب المسيحي رأسه المسيح "الذي أُسلِمَ مِن أجلِ خَطايانا وقامَ لأجلِ بِرِّنَا" (روما 4: 25)، الذي بعد أن نال اسمًا لا اسم فوقه، يملك الآن مجيدًا في السماوات. وهذا الشعب حاله حال الكرامة وحرية أبناء الله، في قلوبهم يسكن الروح القدس سكناه في هيكله. وشريعته الوصية الجديدة: أن يحبَّ "كما أحبَّنا المسِيحُ نَفسُهُ" (يوحنا 13: 34)، وغايته أخيرًا ملكوت الله الذي بدأه الله على الأرض، وعليه أن يمتدَّ من بعدِ أن يُتمِّمَه الله نفسه في آخر الأزمان، عندما يظهر المسيح حياتنا (راجع قولسي 3: 4) "وتُعتَقُ الخَلِيقَةُ مِن عُبُودِيَّةِ الفَسَادِ إلى حُرِّيّة مجدِ أبنَاءِ الله" (روما 8: 21).
20. على مثال الثالوث القدوس
الله الحيُّ والحقُّ هو صانع هذا الشعب الجديد من فيض محبَّته. وهو الذي ما زال يدعو شعبه منذ عهد أبينا إبراهيم، ويُفيض فيه الإيمان ويكشف له عن ذاته. وقد وضع بين يديه تدبير الخلاص الذي يستهدف جميع الناس. وهو يجمع هذا النسل الجديد بحسب الإيمان "مِن كُلِّ عِرقٍ وَمِن كُلِّ بَلَدٍ وَمَدِينَةٍ وَقَريَةٍ وَبَيتٍ". وتوحيد هذه الشعوب في شعب واحد أمر يفوق إدراك الإنسان وقدرته: فهو عمل الله الواحد الأحد الذي يبيِّن أنّ وحدته الإلهية السامية هي في الوقت نفسه سرّ تحقيق الكمال الذاتي في شركةِ الآب والابن والروح القدس. ولهذا لا تتكوَّن الكنيسة بتجميع الأشخاص وتراكمهم، بل هي هبة منبثقة من وحدة الثالوث الواحد غيِر المنقسم، تُقَدَّم للناس مثالاً ونموذجًا لكي يعيشوا بحسبها. "لأنَّ الحَيَاةَ ظَهَرَت فَرَأَينَا وَنَشهَدُ وَنُبَشِّرُكُم بِتِلكَ الحَيَاةِ الأبَدِيَّةِ الَّتِي كَانَت لَدَى الآبِ فَتَجَلَّت لَنَا… لِتَكُونَ لَكُم أَيضًا مُشَارَكَةٌ مَعَنَا وَمُشَارَكَتُنَا هِيَ مُشَارَكَةٌ لِلآبِ وَلابنِهِ يَسُوعَ المَسيح" (1 يوحنا 1: 2 ـ3). ومثلُ هذا السرّ، سرِّ الشركة، لا يصدر من قلب الإنسان بل ينزل من عندِ الله مثلَ "عَرُوسِ الحَمَلِ" (راجع رؤيا 21 :10). ولهذا لم تتكوَّن الكنيسة بقرار مِنّا. وليس الخيارُ خيارَنا لنكون تلاميذ المسيح، بل هو الذي اختارنا أوَّلاً (راجع يوحنا 15 :16)، لأنّ الله الآب هو الذي أحبَّنا أوَّلاً (راجع 1 يوحنا 4 :19).
21. شعبٌ واحدٌ ومتعدّد على مثال الثالوث الأقدس الواحد والغير منقسم
كان سؤالنا منذ بداية هذه الرسالة: كيف يمكن أن تتَّفق الوحدة مع التعدُّد والتنوُّع في كنائسنا وتقاليدنا؟ وفي بحثنا عن الجواب وجدنا إن "الطائفة" والروح التي تغذِّيها لا تقدِّم لنا النموذج الذي يتَّفق مع واقع الكنيسة. ذلك أنّ روح العالم لا يستطيع أن يتصوَّر الوحدة والتعدُّد معًا، ولا يستطيع أن يجمع بينهما. فالنموذج الوحيد الذي يوضِّح لنا هذا السرّ، ويمكِّنُنا من أن نعيش هذا التناقض الظاهر هو نموذج الوحدة في الثالوث الأقدس، وهو النموذج الذي نجد أجمل صورة له في أيقونة الثالوث الأقدس الشهيرة في تقليد فن الأيقونات الشرقية.
كشف الله لنا عن ذاته في سرّ التدبير الإلهي، وبيّن لنا أنّه هو الله الواحد الأحد وانه آب وابن وروح قدس. وكل أقنوم إلهي هو في جوهره "متَّجِهٌ نحو" الآخر، ليس ملكَ نفسه بل هو هبة للآخر، في شفافية الله المطلقة. الله الحيّ غنيٌّ عن كلّ شيء لأنّه الكائن في ذاته. وكل إنسان هو على "صورة الله" (راجع تكوين 1: 26). ومن ثَمَّ فإنّ أساسَ وجود كلِّ كائن بشري وأساسَ كل مطلب له هو أن يُحِبَّ وأن يكون محبوبًا، مثل الله. ولكنَّنا نعرف يا للأسف أنّ هذه الصورة الإلهية فينا تزول وتمحى، كلّما سعت طائفة لنفسها أو كلّما سعى فرد لنفسه، وبقدر ما لم يكن وجود الواحد منا وجودًا في سبيل الآخر. ولهذا ففي نظر الناس تبدو الوحدة بين الأفراد أو بين الجماعات سرّابًا مستحيلاً، لأنّ عالمنا مُعتَلُّ بعِلَّة استثناء الآخر ورفضه، ولأنّ روح هذا العالم يوَلِّد الخطيئة، ومن ثَمَّ الانقسام والموت.
22. الكنيسة من أجل الحياة  
الكنيسة مدعوَّة لتكون علامة الشركة، بما أنّ الله، مثالَها الإلهي، أمينٌ لها ومقيمٌ فيها. ولهذا فهي خادمة لها، والثالوث الأقدس هو غايتها. الكنيسة ترمز منذ الآن إلى "وحدة الله الصميمة ووحدة الجنس البشري"[1][1][1][1]. ولكنَّها لا تحقِّق بعد مشاركة جميع الناس مع الآب وفي ما بينهم. إنما هي مُرسَلة لتعمل على إحلال ملكوت المحبَّة في الخليقة كلِّها، إلى أن يتحقَّق ملء الملكوت، فيكون الله كلَّ شيء في كلِّ شيء. وهذا يعني أنّ الكنيسة لا توجد من أجل ذاتها، بل لربِّها، ولجميع الناس الذين من أجلهم جاء خادمًا ومخلصًا. إنَّها الشركة من أجل الحياة التي تعبِّر عنها أيقونة الثالوث في شجرة الحياة التي تتأصَّل جذورها في شركة الثالوث الأقدس.
لسنا لأنفسنا بل لمن مات وقام من أجل الجميع. وينطبق هذا الكلام على كلِّ معمَّد وعلى كلِّ كنيسة. كنيسة الله هي لله، هي للآب وبالتالي هي لجميع أبنائه المشتَّتين في العالم. إذا ما أدركنا هذه الحقيقة كان لهذا الإدراك أثَرٌ حاسم في تجديد "الحِسِّ الكنسي" فينا وفي جميع مواقفنا. وهذا يعني ارتداد قلبنا إلى الآب بواسطة الابن الحبيب الذي يحقِّق وحدتنا مع الله الآب ومع جميع أبنائه.
3 ـ الكنيسة سرّ الشركة بمعنى العلامة والأداة
23. علامة مرئية للسرّ الإلهي 
بواسطة الكنيسة يكشف الله للناس سرّ الشركة في الثالوث الأقدس، ويمنحهم في الكلمة المتجسِّد وبالروح القدس، حياة الشركة نفسها. فالكنيسة إذن هي سرّ الشركة والعلامة الدالَّة عليها وأداة تحقيقها. إنّها في جوهرها كذلك. وهذا يعني أنّ الكنيسة تقدِّم وتمنح بصورة مرئية السرّ الذي لا يُرَى والذي يفوق الإدراك، أعني سرّ الوحدة والشركة الإلهية. فالكنيسة هي في الوقت نفسه وبصورة غيرِ منقسمة، "فئة من الناس وجماعة روحية"، "هي حقيقة واحدة مركّبة من عنصر بشري ومن عنصر إلهي": وهذا هو سرّ الكلمة المتجسِّد نفسه.
لا بدَّ من أن تستنير خبرتُنا الكنسيةُ اليوم بهذه الرؤية الإيمانيّة، وإلا فإنّنا ننحرف نحو أحد النقيضين المتطرِّفين: الأوَّل أنّنا نحن أيضًا قد نعتبر الكنيسة واقعًا اجتماعيًا، فنقع في روح الطائفية. والثاني هو ادِّعاء مقاومة تيَّار الطائفية ومحاولة تجميع المؤمنين بيسوع المسيح في أخُوَّةٍ تغلب عليها النزعة الروحانية المتطرفة غيرُ المتجسِّدة في واقع البشر. في كلتا الحالتين ينقسم المسيح ويخرج سرّ الوحدة والمشاركة من تاريخ الناس.
24. بداية السرّ بمجيء الابن
"فلَمّا تمَّ الزَّمَان، أَرسَلَ اللهُ ابنَهُ" (غلاطية 4:4). ومنذ تلك اللحظة دخلت الحياة الإلهية في التاريخ، وبدأت وحدتها ومشاركتها مع الناس. إنّ الله ينفِّذ تدبير محبته في شخص الكلمة المتجسِّد من خلال كل ما يقول وما يعمل، وبقوَّة الروح القدس. وتدبير محبَّته يقوم بتحرير الإنسان من الخطيئة والموت، أعني من كل نقيض لحياة الشركة. وقد تمَّ ذلك بقوَّة موت ابنه وقيامته. هذا هو الفصح المحرِّر، وهو الحدث التاريخي الوحيد الذي لا ينقضي: حدث مرَّة واحدة، ثم بقي وما زال يعمل في التاريخ، ولاسيما في "الأسرّار" وفي "الكلمة".
كيف يمكن أن يكون يسوع المسيح حاضرًا وفاعلاً في تاريخ الناس مع أنّه لم يعد خاضعًا لحدود الزمان والمكان كما كان إبّان حياته الأرضية؟ هناك طريقة جديدة للوجود والعمل عبر طبيعته البشرية الممجَّدة بالقيامة، وهي الطريقة الأسرّارية. وهذا يعني أنّه حيٌّ لدى الآب، وأنّه في الوقت نفسه قريب مِنّا ومن بشريتنا الفانية عن طريق الأسرّار، وأنّه منذ صعوده إلى الآب وحتى عودته المجيدة يبقى حاضرًا في الكنيسة وفاعلاً في العالم بقوَّة الروح القدس وبواسطة الكنيسة والأسرّار. هذا هو معنى العبارة "جسد المسيح السرّي" الذي هو الكنيسة.
25. سرّ الافخارستيا سرّ الشركة
ولهذا ندعو العشاء الأخير "العشاء السرّي"، لأن يسوع وهب رسله في أثنائه "سرّ الشركة" هذا: في جسده المبذول وفي دمه المراق من أجل الجميع، منح الناس وبصورة كاملة هبة الشركة الإلهية، هبة الحُبّ حتى الموت، حَتَّى أقصَى حُدُودِ الحُبّ (راجع يوحنا 13 :1). إنّ الحدث الفصحي الذي فيه تّمَّ إشراك الناس في الحياة الإلهية يستمرُّ في الأسرّار، وفيها يبذل يسوع نفسه بصورة "سرّية". فمن الآن وصاعدًا وإلى أن يأتي (راجع 1 قورنتس 11 :26)، يرمز سرّ القربان الأقدس إلى الحدث الفصحي ويؤكِّد استمراره، ويفيضه في كلِّ من "لَبِسَ" المسيح بالمعمودية والتثبيت. ولا يتكرَّر فصح الربِّ الإلهي، إنما السرّ يجعله حاضرًا، وبذلك يكون فصحُ الرأس فصحًا للأعضاء أيضًا. وفي الواقع عندما تحتفل الكنيسة بالإفخارستيا، فإنّها تحقِّقُ كيانها، أعني أنها جسد المسيح (راجع 1 قورنتس10: 1). بالإفخارستيا يتَّسع الحدث الفصحي ويصبح كنيسة. فالكنيسة واقع إفخارستي بمعنى الشركة وبمعنى الشكر الذي ترفعه الجماعة الإفخارستية إلى الآب بالابن في الروح القدس.
26. الروح القدس في سرّ الكنيسة
وفيما نحاول أن نجدِّد فهمنا لسرّ الكنيسة، يجب أن نجدِّد أيضًا معرفتنا ومحبَّتنا للروح القدس. فهو دائمًا مرسَل مع الابن، في تدبير محبَّة الله الآب. وُلِدَت الكنيسة لمّا منح يسوع المسيح القائمُ من بين الأموات رسلَه الروحَ القدس. فهي أيضًا مرسَلَة بقوَّة الروح نفسه (راجع يوحنا 20 :21ـ 22). هو الذي يفيض فينا الإيمان بالمسيح، وهو الذي يَلِدُنا ولادة جديدة فيُشركنا في حياة الآب ويجعلنا أغصانًا حيَّة في المسيح، ويفيض مسحته التي لا تمحى في كلِّ كياننا. هو الذي يذكِّرنا في ليتورجية الكلمة بتعاليم المسيح، ويجعل كلمته مصدر حياة فينا. هو الذي نبتهل إليه في الصلوات الإفخارستية، فيحوِّل قرباننا إلى قربان المسيح نفسه. هو روح الشركة ومصدرها (راجع 2 قورنتس 13:13)، إليه نتضرّع في بداية الأنافورات الإفخارستية، فيشرك في جسد المسيح جميع الذين يشتركون في الخبز الواحد والكأس الواحدة. هكذا تظهر الكنيسة في حقيقتها أنّها سرّ الوحدة والمشاركة الثالوثية وبها يُقِيمُ الله مَعَ النَّاسِ (رؤيا 21: 4).
الفصل الثالث: التعدّد والوحدة في حياة الكنيسة
1 ـ الكنيسة هي سرّ شركة ووحدة 
27. لماذا يجب أن تكون الكنيسة واحدة ؟
هذا التأمُّل في سرّ الكنيسة الذي هو سرّ شركة يُمَكِّنُنا من أن نفهم، في ضوء الإيمان، أنَّ الوحدة والتعدُّد أمران لا يتنافيان، بل يقتضي الواحد منهما الآخر، ولا يمكن فصل أحدهما عن الآخر، كما هو الواقع في تجربة حياتنا الكنسية.
حتى نفهم لماذا يجب أن تكون الكنيسة واحدة، مع أنّ كنائس متعدِّدة تأسَّست في أنحاء العالم انطلاقًا من كنيسة القدس الأولى، يجب أن نبعد عن أذهاننا مفهومَين مغلوطَين. المفهوم الأول يعتبر أنّ الكنيسة الواحدة هي مجموعة الكنائس متَّحدةً في نوع من الفدرالية المسيحية العالمية. وهذا المفهوم هو وجه آخر للطائفية ولا يستطيع أن يبين سرّ الكنيسة. لأن الفدرالية هي تنظيم سوسيولوجي وسياسي: فلا يستطيع أن يعبر عن سرّ الشركة الإلهي. ومن ثَمَّ تبقى الكنائس أجسامًا مختلفة ومنقسمة، ولا يأخذ بالاعتبار أنّ الكنيسة هي في جوهرها سرّ.
والمفهوم الثاني هو نقيض الأول ويتصوَّر أن الكنائس هي بمثابة دوائر محلية لقيادة عامة مركزية. وهذه صورة مشوَّهة ذات طابع قانوني لا تعبِّر هي أيضًا عن سرّ الشركة.
هذان المفهومان ينظران إلى الكنيسة الواحدة والكنائس المتنوِّعة بحسب مفاهيم عددية. والحقيقة أنّنا نتعامل مع سرّ، وهو سرّ الله الذي يختلف عن مفاهيمنا كلَّ الاختلاف. إذ ليس في الله عدد أو حساب. ولا يمكن أن ننظر إلى وحدته التي تفوق إدراك العقل بحسب مفهوم عددي، حيث الواحد هو نصف الاثنين والثلث هو جزء من ثلاثة. لقد أوحى الله إلينا في يسوع المسيح بسرّ وحدته الحيَّة. هي كمال الوجود المتساوي في الجوهر وغيِر المنقسم: هي شركة الآب والابن والروح القدس.
28. سرّ الوحدة والكنائس الخاصة
والكنيسة هي سرّ رامز ودالّ وفاعل لهذه الشركة. إنّ "أعضَاءَ الجَسَدِ كُلَّهَا عَلَى كَثرَتِهَا لَيسَت إلا جَسَدًا وَاحِدًا… فإنَّنا اعتَمَدنَا جَمِيعًا في رُوحٍ وَاحِدٍ لِنَكُونَ جَسَدًا وَاحِدًا" (1 قورنتس 12: 12 ـ13). عندما نتناول جسد المسيح في الإفخارستيا نحن عديدون. ولكن حين يتناول كل واحد منّا جزءًا من خبز الإفخارستيا، فإنّه لا يتناول جزءًا من جسد المسيح، بل يتناول المسيح كاملاً. ولهذا "فَنَحنُ عَلَى كَثرَتِنَا جَسَدٌ وَاحِد، لأنَّنا نَشتَرِكُ كُلُّنَا في هَذَا الخُبزِ الوَاحِد" (1 قورنتس 10: 17). وكذلك القول في كلِّ كنيسة من كنائسنا: فكلُّ كنيسة خاصة ليست جزءًا من الكنيسة المنتشرة في العالم، بل هي رمز ودلالة وتحقيق لسرّ الكنيسة. ومن ثَمَّ فالكنيسة كلُّها هي حاضرة في كلِّ كنيسة خاصة.
29. الكنيسة رسولية وجامعة
يبقى علينا الآن أن نبيِّن ما هي الشروط الأساسية المطلوبة لتكون كلُّ كنيسة سرًّا دالاً ورامزًا وفاعلاً للشركة بين الله والناس مع تعدُّد الكنائس وتنوُّعها.
هناك شرطان أساسيان، نعترف بهما كلّما احتفلنا بالأسرّار المقدَّسة وتَلَوْنا قانون الإيمان النيقاوي القسطنطين: الكنيسة الواحدة والمقدَّسة يجب أن تكون "جامعة ورسولية". فإذا فهمنا معنى هاتين الصفتين "جامعة ورسولية"، وإذا استطعنا أن نعيش حياتنا الكنسية بحسبهما، استطعنا أيضًا أن نتعلَّم كيف نعيش بصورة أفضل الوحدةَ في التعدُّد.
30. الكنيسة رسولية
أوَّلاً يجب أن تكون كنيستنا "رسولية"، لأنها هكذا كانت منذ يوم العنصرة. ولكن ما معنى "رسولية"؟ قد يذهب البعض بفكرهم إلى الرسل الذين أسّسوا الكنائس، ولاسيما في الشرق. وهذا الفهم صحيح ولكنه لا يكفي. فالمفهوم الصحيح للصفة "رسولية" هو ما يلي: كنيسة الرسل نفسها يجب أن تكون حاضرة في كلِّ كنيسة من كنائسنا. الكنيسة الرسولية هي الكنيسة التي أسَاسُهَا الرُّسُلُ وَالأنبِيَاءُ، وَحَجَرُ الزَّاوِيَةِ فِيهَا هُوَ يَسُوعُ المَسِيحُ نَفسُهُ. وهو الذي يرسل كل كنيسة: "كَمَا أرسَلَنِي الآبُ أُرسِلُكُم أَنَا أيضًا" (يوحنا 20: 21). وهذا يعني أنّ كلَّ كنيسة من كنائسنا يجب أن تقدِّم لنا اليوم بصورة سرّية رامزة وفاعلة، في مكان وزمان معيَّنين، كنيسة الرسل التي أقامها الروح القدس يوم العنصرة. هي ضمان الاستمرار غير المنقطع للجسد الواحد والروح الواحدة. كذلك يجب أن تكون كل كنيسة من كنائسنا استمرارًا غير منقطع للفصح الذي حدث مرَّةً واحدة فقط، والذي يتحقّق الآن في الإفخارستيا. فالكنيسة لا تقسَّم إلى أجزاء، بل هي كرمة الآب الواحدة تنمو وتحمل ثمرًا.
31. مقياس الوحدة هو المشاركة في وديعة الإيمان الرسولي الواحد
وإذا أردنا أن نترجم ذلك في الواقع المعاش، فإنّ هذا الكلام يعني أنّ كنائسنا لا تستطيع أن تحقِّق الوحدة فيما بينها، إلا إذا ظلَّت أمينة لوديعة الإيمان أعني التقليد الرسولي المشترك، وهو تقليد حيّ تسلَّمناه من الرسل، ويتضمَّن أسرّار الإيمان وخاصّة سرّ الخلافة الرسولية، والشركة في المحبَّة، ولا سيما على مستوى جماعة الأساقفة التي تمثِّل اليوم بصورة سرّية جماعة الرسل الاثني عشر. إنّ مقياس الحقيقة والوحدة في تقاليدنا الكنسية المتعدِّدة والمتنوِّعة هو مقدار المشاركة في التقليد الرسولي الواحد.
حتى تكون رسالة كنائسنا في الشرق وفي المهجر زاخرة بالحياة والاندفاع، يجب أن تنهل من التراث الحي والمقدّس الذي يقدِّمه لنا الروح القدس من خلال تقاليدنا الأصيلة والمتجدِّدة دائمًا في ظروف دائمة التبدُّل، مع أمانتها لوديعة الإيمان الرسولي. ومضمون هذه التقاليد هو كلمة الله، كما فسرّها الآباء بتنوير الروح القدس، بحسب حضارتنا وثقافاتنا. ثم هي الأسرّار المقدَّسة التي نحتفل بها بِلغَتنا وبخبرتنا الخاصَّة بنا، والتي تمنحنا الحياة الجديدة التي أتانا بها يسوع المسيح. وهي "الجَمُّ الغفيرُ من الشهود" والشهادة الروحية التي أدَّاها العديد من الرجال والنساء، والذين نستطيع بفضلهم أن نحدِّقَ بعيوننا إلى مُبدِئِ إيمَانِنَا وَمُتَمِّمِهِ، يَسُوعَ المسيح (راجع عبر 12 :1 ـ2). وهي أخيرًا الحياة الرعوية بأصالتها الشرقية، والتي يقول فيها المجمع الفاتيكاني الثاني، وبصورة رسمية " إنّ كنائسنا لها الحقّ والواجب أن تدير نفسها بحسب أنظمتها الخاصة بها".
32. الكنيسة جامعة
وعندما نكون حقًّا كنيسة رسولية، يمكننا أن نكون أيضًا كنيسة جامعة أي كاثوليكية، بحسب المفهوم الأصيل لهذه اللفظة اليونانية الواردة في قانون الإيمان النيقاوي ـ القسطنطيني. أوَّل من نصَّر هذه اللفظة هو القديس أغناطيوس الأنطاكي، وتعني حرفيًا: "بحسب الكلّ أو بمشاركة الكلّ"، اعني أنَّ "الكلَّ" يوجد في كلِّ جزء، مثل النفس في الجسد الحيّ.
فما معنى إذاً الكنيسة "الكاثوليكية أو الجامعة"؟ قد يفهم البعض بهذه اللفظة انتشار الكنيسة في المسكونة كلِّها. إلا أنّ كنيسة القدس، وكذلك كنيسة إنطاكية، لم تكونا مُنتَشِرَتَين في المسكونة كلِّها، ومع ذلك فكلٌّ منهما كانت "كاثوليكية". فليس انتشار الكنيسة في الأرض كلِّها هو الذي يضفي إذًا صفة الكاثوليكية أي الجامعية على الكنائس، كما أنّ الكنائس العديدة ليست أجزاء عديدة في كنيسة واحدة. فإنّ سرّ الكنيسة بكامله حاضر في كلِّ كنيسة، إن كانت حقًّا رسولية، كما ذكرنا سابقًا. ولهذا فالكنيسة التي تقول إنّها كنيسة "جامعة أي كاثوليكية" يجب أن تُظهِر بصورة فعلية شركتها مع سائر الكنائس الأمينة لوديعة الإيمان الرسولي.
33. سرّ الأسقفية ضمان الجامعية
وعمليًا، كيف نتعامل في حياة كنائسنا مع هذه الهبة، هبة "الكنيسة الجامعة" أي الكاثوليكية؟ تُبيِّن لنا تجربة الشركة بين الكنائس في القرون الأولى أنّ تقليد الرسل لم يعتبر الكنائس مثل أوراق ميتة مُصفَّفة جنبًا إلى جنب، بل كان يرى في كلٍّ منها حيويَّة واحدة خلاّقة. وكان هذا المفهوم يظهر بطريقتين.
أوَّلاً، كانت الكنائس بتقاليدها المتنوِّعة تعترف بعضُها ببعض، وكانت كلُّ واحدة ترى في الأخرى سرّ الكنيسة الواحد، مع بقاء الخصوصيات المشروعة لكلِّ كنيسة.وكان هذا الاعتراف المتبادل يُبنَى على أساس وديعة الإيمان الرسولي، كما سبق أن قلنا. وهذا الاعتراف المتبادَل لا يمكن أن يعاش إلا بحسب مفهوم الإيمان، لا بحسب مفهوم الطائفية. صفة "الجامعية أي الكاثوليكية" في الكنيسة تتطلَّب القداسة، ولا تُعطَى إلاّ "لأطهارِ القلوب" (متى5: ).
ثانيًا، يشهد الرسل أنفسهم أنّ سرّ الأسقفية هو الذي يضمن الشركة في الكنيسة الواحدة وبين الكنائس. فصفة "الجامعية أي الكاثوليكية" الصحيحة مرتبطة بصورة مرئيَّة بالشركة القانونية بين الأساقفة، وهذه تفرض المشاركة في المسوؤلية. وكانت المجامع منذ نشأة الكنيسة هي الطريقة التي اعتمدتها الكنيسة لضمان هذه المشاركة. وقد عرفت هذه الظاهرة المجمعية انطلاقة جديدة بعد المجمع الفاتيكاني الثاني، وذلك في المجامع الأسقفية التي أصبحت مؤسسة كنسية تُعقَد بانتظام للنظر في شؤون الكنيسة الجامعة.
سرّ الكنيسة إذًا الذي نُدعَى إلى العيش بموجبه هو في جوهره شيء جديد ومختلف بالنسبة إلى مفهوم الطائفة. وسوف نرى الآن كيف يمكننا أن نعيشه في داخل كلِّ كنيسة من كنائسنا السبع، ثم في علاقاتنا بكنيسة روما خادمة الشركة والوحدة المبنيتين على المحبَّة، وبجميع الكنائس الكاثوليكية في العالم أجمع، وبسائر الكنائس التي لسنا بعد في شركة كاملة معها.
2 ـ التعدّد والوحدة في كلٍّ من كنائسنا
34. الكنيسة الخاصة
إنَّ الكنيسة الخاصة هي الأبرشية التي يعرِّفها المجمع الفاتيكاني الثاني بقوله: "الأبرشية قسم من شعب الله وُكِلَ أمرُ رعايته إلى أسقف بالتعاون مع مجلسه الأبرشي بحيث يرتبط براعيه، وبه يجتمع في الروح القدس، عن طريق الإنجيل والإفخارستيا، كنيسةً خاصَّةً تكون حاضرةً حقًا وعاملةً فيها كنيسة المسيح الواحدة، المقدَّسة، الجامعة، الرسولية". فالكنيسة الخاصة هنا، كما تظهر في هذا النص، واقع إيماني. هي هبة الثالوث الأقدس، تتغذَّى بالإنجيل والإفخارستيا، وتتجلَّى في جزء من شعب الله الموكول إلى أسقف يرعاه بالشركة مع جميع الكهنة، وسرّ الكنيسة فيه حاضر حضورًا كاملاً.
وتظهر أسمى تجلِّيات الكنيسة الخاصة في الاحتفال الإفخارستي حول الأسقف. يقول المجمع الفاتيكاني الثاني في هذا الصدد: "يجب اعتبار الأسقف كاهن رعيته الأكبر الذي تصدر عنه وتتعلَّق به نوعًا ما حياة مؤمنيه في المسيح. لهذا يجب على الجميع أن يقدّروا كل التقدير الحياة الليتورجية في الأبرشية حول الأسقف، ولا سيما في الكنيسة الكاتدرائية: ليقتنعوا أنَّ أهمَّ مظهر للكنيسة هو الاشتراك الكامل والفعَّال لشعب الله المقدَّس كله في هذه الاحتفالات الليتورجية نفسها، خاصة في الإفخارستيا الواحدة، والصلاة الواحدة، حول المذبح الواحد حيث يترأس الأسقف وحوله كهنته ومعاونوه"
35. العديدون هم واحد في شركة الله
حين نقول "عديدين" في كل كنيسة خاصة، نفكر في عدد الأشخاص، والفئات، والخِدَم، والدعوات، والرعايا وغير ذلك. والسؤال هو: كيف يستطيع العديدون في كل كنيسة خاصة أن يكونوا فعلاً واحدًا مع تنوُّع خدماتهم ودعواتهم؟ كيف نعيش في كل كنيسة خاصة هبة الوحدة وغنى التعدُّد، وكلاهما متأصِّل في شركة الله الثالوثية؟
وهنا نعود ونقول إنّ الكثرة لا تناقض الوحدة، والوحدة لا تلغي الكثرة: "فَنَحنُ عَلَى كَثرَتِنَا جَسَدٌ وَاحِدٌ" (1قورنتس 10: 17). فالكثرة هي خدمات متعدِّدة، ومواهب متعدِّدة، وأعمال متعدِّدة (راجع 1 قورنتس 12: 4ـ). والوحدة هي وحدة الروح و "الخير العام" و"البنيان" المشترك (راجع 1 قورنتس فصل 12، 13، 14). إنّ جميع الأشخاص المتعدِّدين خَلقٌ جَدِيدٌ في المَسِيحِ (راجع 2 قورنتس 5: 16ـ17). وقد منح الله كل شخص معمَّدٍ في المسيح، ومختومٍ بختم الروح القدس، مواهب عديدة، تؤهِّله للقيام بدور لا يقدر أحد غيره أن يقوم به محلَّه في الرعية والأبرشية. ولهذا، إذا أردنا أن تكون هذه الشركة في كل كنيسة خاصة فاعلة، يجب استثمار هذه المواهب وتفعيلها ولا يجوز "طَمرُهَا في التُّرَابِ" (متى 25: 14ـ30). وإذا أردنا لهذه الشركة أن تكون مُوَحِّدَة فيجب استثمار هذه المواهب بالاتحاد مع الجسد كله.
36. المواهب متعدّدة ومتنوعة وأمّا الروح فواحد
يجب أن ننظر بجِدّيّة في ما قاله الرسول إلى كنيسة قورنتس: "إنَّ المَوَاهِبَ عَلَى أَنوَاع وأَمَّا الرُّوحُ فهو هو، وَإنّ الخَدَمَاتِ عَلَى أنوَاعٍ، وَأمّا الرَّبُّ فهو هو، وَإنّ الأعمَالَ عَلَى أنوَاع وَأمَّا الله الَّذِي يَعمَلُ كُلَّ شَيءٍ في جَمِيعِ النَّاسِ فهو هو. كُلُّ وَاحِدٍ يَتَلَقَّى مَا يُظهِرُ الرُّوحُ لأجلِ الخَيرِ العَامِّ" (1 قورنتس 12 :4 ـ7). هذا هو "النموذج الكنسي" الذي تريد هذه الرسالة الراعوية أن تضعه أمام أعيننا. فلكلٍّ من كنائسنا يقول القديس بولس: "لا تُخمِدوا الرُّوح" (تسالونيقي 5: 19). كلُّ خادم مكرَّس، الأسقف والكاهن والشمَّاس، مدعوٌّ "لأن يُحيِيَ الهِبَةَ الَّتِي مَنَحَهُ إيَّاهَا الله بِوَضعِ اليَدَين" (2 طيموتاوس 1: 6). ويجب أن يدرك كلُّ معمَّد دعوته الجديدة: "أنتُم جَسَدُ المَسِيحِ وَكُلٌّ واحدٍ مِنكُم عضوٌ مِنهُ" (1 قورنتس 12 :27). وهذا يعني أنّ كلَّ واحد يجب أن ينمُوَ ويتقدَّم "فِي جَمِيعِ الوُجُوهِ نَحوَ ذَاكَ الَّذِي هُوَ الرَّأسُ، نَحوَ المَسِيحِ: فَإِنَّ بِهِ إِحكَامَ الجَسَدِ وَالتِحَامَهُ" (افسس 4: 15 ـ16).
37. الجماعة الأولى هي "النموذج الكنسي" لكلّ كنيسة خاصة
لقد وصف كتاب أعمال الرسل، حين تكلَّم على كنيسة أورشليم الأولى، كيف تكون الشركة في الكنيسة، حيث تتفاعل في نفوس الجميع المواهب والَخَدمات والإمكانات. تبقى لنا هذه الجماعة الأولى "نموذجًا كنسيًا" واقعيًا ودائمًا: "وَكَانُوا يُواظِبُونَ عَلَى تَعلِيمِ الرُّسُلِ وَالُمشَارَكَةِ، وَكَسرّ الخُبزِ وَالصَّلَوَاتِ". وعليه، فمع كوننا عديدين، نستطيع أن نعيش الوحدة في كلِّ كنيسة خاصة بالطرق التالية:
أ ـ تسليم إيمان الرسل: هو من متطلَّبات التراث. وكلُّنا نتحمَّل مسؤولية هذا التسليم، كلٌّ بحسب مكانه ومكانته ودعوته في الكنيسة، وفي الأسرّة (وهي الكنيسة البيتية)، وفي الرعية حيث نسلِّمه للبالغين، لا فقط للأولاد والشباب. ونستمرُّ في تغذية الشركة الأساسية فيما بيننا بالإصغاء إلى كلمة الله وبالتأمُّل فيها ومقاسمتها مع الاخوة.
ب ـ الأمانة للشركة الأخوية: وهذا يعني أن تكون الرعية أكثر من جهاز إداري. بل يجب أن تكون جماعة حيَّة، حيث يعرف المؤمنون والرُّعاة بعضُهم بعضًا، ويسهرون على الوفاق في الأذهان والقلوب، ويتعاونون في حاجاتهم المادية والروحية، ويَسعَون معًا في خدمة مواطنيهم، لأنَّ "كيانهم الجديد" يقوم على أن يكونوا علامة محبَّة أمام الجميع. 
ج ـ كسرّ الخبز أو الإفخارستيا: وهي قِمَّة الشركة، إذ إنّها تحتوي حادث الخلاص، وفيها تُقرَّبُ ذبيحةُ محبَّةِ المسيح. وهي التي تصنع الشركة بين الأعضاء. ولهذا فإنّ الاحتفال بالإفخارستيا والحياة الليتورجية بكاملها في الرعية يقتضي مشاركة حقيقية من قِبَلِ الجميع، فلا يبقى أحد متفرِّجًا أو مستمعًا فقط، بل يشارك الجميع فيها مشاركة فعلية وبصورة جماعية.
د ـ الأمانة للصلوات التي تجمع بين أعضاء الأسرة الواحدة وبين الجماعات المختلفة في الرعية: وهذا يعني أن يكون كلُّ واحد مقتنعًا بما قاله يسوع المسيح، وهو أنَّه يجب أن نصلي دائمًا "من غير ملل" (لوقا 1:18). ولكن من يُعلِّمُ أبناءَ الله أن يصلُّوا الصلاة الحقيقية الصادرة من القلب؟ إنَّ تقاليدنا هي كنوز روحية في هذا المجال، والرعاة والمؤمنون أنفسهم الذين قبلوا مواهب الروح القدس هم المدعوُّون إلى الاغتناء بها وإلى دعوة الجماعة لمقاسمة خيراتها.
هـ ـ مقاسمة الخيرات أو الدياكونيا: نشأت مؤسسة الشمّاسية من أجل تطبيق وصيَّة المحبة في مجال الحياة المادِّية (راجع أعمال 6). ثم شملت الدياكونيا مختلف المجالات في حياة الجماعة المؤمنة الروحية والثقافية والمادِّية. وما زالت في كلِّ كنيسة اليوم خدمات عِدَّة، تحاول أن تستجيب لحاجات المؤمنين المتنوِّعة. وإنّ مستقبل كنائسنا بحاجة إلى تفعيل هذه الخدمات. إلا أنَّ هذا المستقبل نفسه يقتضي التنسيق وتوحيد الخدمات بين الكنائس المختلفة. لأنَّنا جميعًا نتعرَّض للقضايا نفسها وللمصير نفسه. ومجال النمُوِّ المادِّي نفسه بحاجة إلى تنظيم بين المؤمنين بحيث يكون كلُّ واحد خادمًا لأخيه، ومشاركًا له في همومه، ومعاونًا له في نُمُوِّهِ. مع العلم أن النمُوَّ المادِّي نفسه، بحسب رؤية الكنيسة وبحسب رؤية وصيَّة المحبَّة، يحتاج أيضًا إلى نمُوٍّ روحي سليم، ومن ثَمَّ إلى نضج في الانتماء الكنسي، يشعر معه كلُّ واحد أنَّه عضو في جسد المسيح الواحد، وفيه يلتقي جميع اخوته في الحياة الإلهية الواحدة.
و ـ الشهادة المشتركة: قلنا إنَّ الكنيسة هي شركة من أجل الحياة. والجماعة المسيحية تقبل الحياة لتعطي الحياة. فإذا كانت الجماعة المسيحية "قلبًا واحدًا ونفسًا واحدة"، تمكَّنت من أداء "الشهادة لقيامة الرب يسوع" (أعمال 4: 32ـ 35). وهذه هي الشهادة التي جعلت المؤمنين "يَنَالُونَ حُظوَةً عِندَ الشَّعبِ كُلِّهِ" (أعمال 2: 47)، أعني أنّهم كانوا على قلَّة عددهم يَلقَون قبولاً وتقديرًا في مجتمعهم الرافض لرسالتهم.
38. ظروفٌ صعبة
يجب أن ننظر بجدِّية إلى هذا "النموذج الكنسي" التي تقدِّمه لنا كنيسة أورشليم الأولى. فنتأمَّل فيه، ونسأل أنفسنا هل نعيش اليوم بموجبه في رعايانا وأبرشيَّاتنا، لعلَّه يبعث فينا حنينًا خلاصيًا، ورغبة في التوبة، وديناميَّةً روحية وجماعية وكنسية لحمل البشرى، فيزيدنا، بدلاً من اليأس، رجاءً وتواضعًا وواقعية.
لم تعش كنيسة الرسل الأولى "في عصر ذهبي" من تاريخ الكنيسة. يتكلَّم كتاب أعمال الرسل، وكذلك رسائل القديس بولس، على خبرة واقعية للكنائس المحلِّية في العصور الأولى، حيث نجد ظروفًا صعبة تشبه ظروفنا اليوم. ونجد في هذه الخبرة الماضية للكنائس الأولى أمرَين يجب التركيز عليهما لنتمكَّن من أن نعيش بحسب "النموذج الكنسي" الذي تقدِّمه لنا كنيسة الرسل.
الأوَّل هو ضعف الناس وحدودهم وخطاياهم وميلهم إلى الشرّ. ويظهر هذا الواقع في الجماعة الأولى في أورشليم وإنطاكية وقورنتس الخ… قد نتخيَّل أنّ الأوضاع كانت كلُّها مثالية، وهذا خطأ. وكذلك يجب ألا نَدهَشَ أمام ما نجده اليوم في كنائسنا: كلُّنا من طينة بشرية واحدة، مثلُ آبائنا في الإيمان. ومع ذلك يجب ألا نيأس. فهذا الواقع يثبت لنا أنّ ما هو جديد ومميَّز في الكنيسة "لا يأتي من الناس بل من الله"، كما قال ذلك جملائيل (راجع أعمال 5 :38 ـ39). فالانقسامات الداخلية التي تحول دون الشركة في الرعية أو الأبرشية هي حوافز تدعونا إلى أن نرتدَّ بقلوب متواضعة وصادقة إلى الله أبينا. بهذا الارتداد المستمرِّ تتنقّى عقليتنا من روح الطائفية ومن حُبِّ الظهور والسيطرة. كلُّ كنيسة هي جماعة من الخطأة المدعوّين دومًا إلى المصالحة مع الله بالمسيح (راجع 2 قورنتس 5 :18 ـ20). هي نعمة الله وحدها التي تجعل الكنيسة "مقدَّسة وواحدة". ولهذا هو الله الذي أراد لها أن تكون منذ البداية "رسولية".
والأمر الثاني الذي يجب أن يستوقف انتباهنا هو أنَّنا نحمل هبة الله المدهشة، هبة الشركة والوحدة، في "إناء من خزف" (2 قورنتس 4 :7)، هو إناء ضعفنا البشري. ولهذا فإنّ خادم الوحدة وحافظها هو ربُّنا يسوع المسيح. وهذا ما يدعونا إلى عدم الخوف وعدم الاستسلام لليأس بسبب مظاهر ضعفنا.
39. سرّ الرسامة الكهنوتية في تحقيق النموذج الكنسي
لقد أراد يسوع المسيح أن يُظهر بصورة واضحة طابع الخدمة في المحافظة على الوحدة، حين غسل أقدام التلاميذ في العشاء السرّي. ولهذا فإنّه يَكِلُ "وظيفة الخادم" لكل من يرسلهم (راجع يوحنا 13: 16). ولهذا فإنّ الرسل وخلفاءهم يقومون حقيقة، ولو بطريقة الأسرّار، في وسط الجماعة الملتئمة حول الإفخارستيا مقام يسوع الذي جاء ليكون خادمًا.
سرّ الكهنوت هو سرّ الخلافة الرسولية، به تصبح كلُّ كنيسة من كنائسنا رسولية حقًّا. وبه تصبح كنيسة الرسل حاضرة وفاعلة في كنائسنا. لهذا بالنعمة المعطاة للأساقفة والكهنة والشمامسة، تستطيع الكنيسة المحلِّية أن تحقِّق، رغم ضعفها البشري، "النموذج الكنسي" للشركة التي عاشتها كنيسة أورشليم الأولى. ولا يمكن أن تكون هناك شركة كنسية في إيمان الرسل وفي الأسرّار والمحبَّة من غير الأسقف ومعاونيه. سرّ الكهنوت هو العلامة وهو الضامن والخادم للوحدة في كل كنيسة مع تعدُّد أفرادها.
40. مهامُّ الأسقف
قَبِلَ الأسقف الروح القدس، بوضع يد أساقفة آخرين، ليبشِّر بإنجيل الخلاص بأمانة، وليترأس الإفخارستيا، وليبعث الحياة في كنيسته بأسرّار الإيمان، وأخيرًا ليكون ضامنًا للوحدة بين مواهب المؤمنين المتنوِّعة، حتى يحملوا معًا رسالة الكنيسة. ولكن هناك مسؤوليات أخرى عديدة تُفرَضُ عليه ولا تتَّصل مباشرة بمهامِّه الأسقفية، ولا هي بحاجة إلى سرّ الرسامة الأسقفية. والمؤمنون يعرفون ذلك، وبعضهم يريدون ذلك، في حين أنّ غيرهم ينتقدون، أو يتغاضَون عن الأمر أو يلجأون إلى الصمت والابتعاد عن الكنيسة. والسؤال هو: ماذا يعمل المؤمنون لمساعدة أسقفهم في تحمُّل مسؤولياته المترتِّبة على الرسامة الأسقفية؟ وماذا يعملون لكي يتحمَّلوا هم أيضًا المسؤوليات التي عليهم تحمُّلها، بدلاً من إلقائها على عاتق أسقفهم؟ لأنّ الشركة في الكنيسة لا تعني علاقة باتجاه واحد، فالجميع مشاركون في الإيمان الواحد ومن ثَمَّ في بناء كنيسة الله معًا.
لم يتسلَّم الأسقف في رسامته العِلمَ المنزل الذي يمكِّنه من أن يُلِمَّ بجميع الظروف الراعوية في أبرشيته، أو من أن يكون خبيرًا في جميع القضايا وقادرًا على إيجاد جميع الحلول. ولهذا يوصي المجمع الفاتيكاني الثاني بإنشاء مجلس راعوي استشاري للأسقف، يتألَّف من كهنة وشمامسة ورهبان وراهبات ومؤمنين علمانيين. فهل يهتمُّ الرعاة والمؤمنون لوجود هذا المجلس وفعاليته في بناء الكنيسة بناءً كنسيًا وإنسانيًا متكاملاً، أم يتركَّز اهتمامهم فقط على الوجوه الذين يمثِّلون الطائفة في المجالات المدنية والسياسية والاجتماعية ؟
41. كاهن الرعية والشمامسة
كاهن الرعية هو خادم الكلمة والأسرّار وشركة المحبَّة في الرعية التي أوكله بها الأسقف. وتدعوه الكنيسة إلى القيام بها بغيرة ومحبَّة، على أن تُوَفَّرَ له شروط حياة ملائمة، فلا يلجأ لتأمين معيشته إلى مهنة أخرى قد تعيق رسالته الكهنوتية الأصيلة. المؤمنون العلمانيون والرهبان هم أيضًا مسؤولون مع كاهن رعيتهم. فماذا يصنعون لمساعدته حتى يتمِّم خدمته التي أُرسِلَ من أجلها، وحتى يخففِّوا عنه الأعباء التي لم يُرسَل من أجلها؟ ولهذا فإنَّ مجموعة قوانين الكنائس الشرقية توصي بإنشاء مجلس للرعية لإبداء المشورة والمساعدة في القضايا الراعوية والاقتصادية، لما فيه خير المؤمنين.
وعلينا أن نعيد النظر في أهميَّة الشمَّاسيَّة في جميع أبرشياتنا، وذلك بناء على المفهوم نفسه أعني مشاركة كلِّ واحد في تحمُّل المسؤوليات، كلِّ واحد بحسب المواهب المعطاة له. تُعتبَر الشمَّاسية اليوم، إلا ما ندر، محض مرحلة تسبق الكهنوت. وفي الواقع لا تقوم هذه الموهبة الخَدَمِيَّة لما وُضِعَت له. وقد دعا المجمع الفاتيكاني الثاني إلى إعادة الشمَّاسية الدائمة. وحاجات الرسالة اليوم تدعو إلى تلبية هذا النداء وفقًا للتقاليد الشرقية العريقة. لأنَّ مجالات الخدمة الشمَّاسية كثيرة في مختلف دوائر الأبرشيات وفي الرعايا، مثل مجال التعليم وخدمة كلمة الله، وإحياء الليتورجية والخدمات الرسولية والاجتماعية والإنسانية والإعلامية. لا يكفي منح الرسامة الشمَّاسية لرجال بالغين وناضجين، بل يجب إعدادهم قبل ذلك إعدادًا يتميَّز عن خدمة الكهنة، ولكن أيضًا يتَّسِم بالجدِّيَّة نفسها التي بها يتِمُّ إعداد الكهنة[2][2][2][2].
42. العلمانيون
العلمانيون المؤمنون بالمسيح هم جزء لا ينفصل عن جسد المسيح الواحد، بفضل عمادهم وختم الميرون واشتراكهم في سرّ الإفخارستيا. في هذا الجسد لهم كرامتهم، ولهم رسالتهم في الكنيسة وفي العالم على جميع المستويات، انطلاقًا من موقعهم ودعوتهم في كنيسة الله المقدسة. إنّ الكنيسة الخاصة التي لا يشترك العلمانيون في حياتها ورسالتها مشاركة فعَّالة تظلُّ مبتورة لا تحقِّق المعنى التامّ لسرّ الكنيسة. وهذه هي المشاركة التي يدعو إليها المجمع الفاتيكاني الثاني والوثائق الكنسية اللاحقة، على أنّها اليوم إحدى السمات البارزة في الكنيسة.
يقول المجمع الفاتيكاني الثاني في العلمانيين: "واحد هو شعب الله الذي اختاره هو: "فَلَيسَ إلا رَبٌّ وَاحِدٌ، وَإيمَانٌ وَاحِدٌ، وَمَعمُودِيَّةٌ وَاحِدَةٌ" (أفسس 4: 5). ومن ثم فمُشترَكة كرامة الأعضاء بفعل ميلادهم الثاني في المسيح، ومُشترَكة نعمة التبني، ومُشتَركة الدعوة إلى الكمال. فليس إلا خلاص واحد، ورجاء واحد ومحبَّة واحدة لا تتجزأ. فليس إذن في المسيح وفي الكنيسة أيُّ تفاوت ينجم عن العرق، أو عن الأمَّة، عن الوضع الاجتماعي أو عن الجنس، لأنّه "لَيسَ يَهُودِيٌّ وَلا يُونَانِيٌّ، لَيسَ عَبدٌ وَلا حُرٌّ، لَيسَ ذَكَرٌ وَلا أنثَى: فَلَستُـم جَمِيعُكُـم إلا وَاحِـدًا في المَسِيحِ يَسُوع" (غلاطية 3: 28، وراجع قولسي 3: 11).
وفي ختام هذه الأفكار عن التعدّد والوحدة في كلٍّ من كنائسنا، المهمّ هو أن نبقى متنبِّهين "لِلقِيَامِ بِالخِدمَةِ لِبِنَاءِ جَسَدِ المَسِيحِ، فَنَصِلَ بِأَجمَعِنَا إلَى وَحدَةِ الإيمانِ بِابنِ الله وَمَعرِفَتِهِ" (افسس 4: 12 ـ13)، نحن "الحِجَارَةَ الحَيَّةَ" (1 بطرس 2: 5) في كنيستنا، "وكُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا أُعطِيَ نَصِيبَهُ مِنَ النِّعمَةِ عَلَى مِقدَارِ هِبَةِ المَسِيحِ"(افسس4: 7).
3 ـ التعدّد والوحدة في العلاقات بين الكنائس الكاثوليكية
43. وحدة كاملة بين كنائسنا
في الشرق اليوم وفي البلدان حيث تتواجد كنائسنا الكاثوليكية السبع، تتداخل حدود أبرشياتنا ورعايانا، ولا سيَّما في المدن. والأمر نفسه يحصل في المهجر أحيانًا. وإنَّ كنائسنا في شركة تامّة قانونية في ما بينها، ومع كنيسة روما، ومع الكنائس الكاثوليكية في العالم، نشترك جميعًا في الإيمان الواحد والأسرّار نفسها. والسؤال الذي نطرحه على أنفسنا هو: كيف تعبِّر كنائسنا، مع تعدُّدها، عن وحدتها الفعلية على الصعيد الوطني والمحلي؟ كيف نجعل تقاليدنا المتعدِّدة مصدر تعاون ومحبَّة بدلاً من أن تكون مبدأ انقسامات؟
يتأسَّسُ النموذج الكنسي للعلاقات بين كنائسنا على ما قيل سابقًا على الشركة "الجامعية والرسولية". إنَّ الطرق التي نعبِّر بها عن الشركة بين كنائسنا هي في الأساس الطرق نفسها التي نعبِّر بها عن وحدتنا ضمن الكنيسة الجامعة. ولكن هناك أيضًا عنصران جديدان: من جهة، كلُّ كنيسة من كنائسنا هي حقًّا كنيسة. ومن جهة أخرى، ضمان الوحدة وخادمها بين كنائسنا هو الأسقف، وذلك بسبب مشاركة جميع الأساقفة في الخلافة الرسولية. وهكذا فإنّ كلَّ أسقف هو الراعي المسؤول عن أبرشيته، وجميع الأساقفة مسؤولون معًا عن الشركة الفعلية في أبرشياتهم.
44. كل كنيسة هي واحدة بمقدار ما هي جامعة
من الواضح أنّ الوحدة في التعدّد في كنائسنا الشرقية لا تعني استيعاب كنيسة لأخرى. فإنّ تسلُّط كنيسة على أخرى لا يمتُّ إلى سرّ الكنيسة الواحدة بصلة. ومن الواضح أيضًا أنّ احترام التعدّد لا يبني الوحدة، إذًا اصطفَّت كلُّ كنيسة إلى جانب الأخرى، وبقيت كلُّ واحدة في عزلتها من غير أن تلتقي: كلُّ كنيسة هي واحدة بقدر ما هي كاثوليكية أي جامعة. والنموذج الكنسي الوحيد الذي تعرضُه علينا كنيسة الرسل هو الشركة. وإنّنا نجد في التقليد الرسولي نفسه القواعد التي تمكِّننا من تحقيق الوحدة بجميع متطلَّباتها. وأهمُّ هذه القواعد هي: "الشركة الأسقفية".
45. الشركة الأسقفية
الشركة الأسقفية حول أسقف روما تحقِّق الشركة والوحدة التي كانت تجمع بين الرسل الاثني عشر مجتمعين حول بطرس. هذه الشركة الهيراركية والقانونية، أعني القائمة على تسلسل السلطة وعلى القوانين الكنسية، لازمة وضرورية لأنّها هي التي تُخضِع التعدُّد لخدمة الوحدة. وليست الشركة الأسقفية شأنًا عاطفيًا أو نظريًا، بل هي واقع يفترض تطبيقات عملية. هي مشاركة الأساقفة في المسؤولية في الظروف المشتركة بينهم، وأوَّلها البرنامج الراعوي المحلِّي والوطني.
كان السينودس منذ عهد الرسل هو التعبير التقليدي عن هذه المشاركة في المسؤولية. قبل أن تنعقد المجامع المسكونية، كان أساقفة المنطقة الواحدة يجتمعون للتشاور ولاتخاذ القرارات في قضاياهم المشتركة. كانت المجامع متنوِّعة بحسب تنوّع المناطق والقضايا. وأمّا القاعدة التي كان الأساقفة يمارسون بموجبها مسؤوليتهم المشتركة فكانت دائمًا واحدة: كان هناك "أسقف مترئس بين أساقفة متساوين"، ليكون العلامة والخادم للشركة بين الجميع. من غير حياة سينودية لا شركة فعلية بين الكنائس المتواجدة في المنطقة الواحدة مهما ضاقت أو اتّسعت. ويبيِّن لنا تاريخ كنائسنا في الشرق أن غياب الحياة السينودية هو الذي سبّب الانقسامات الكثيرة، أو حال دون شفائها. فمن الضروري إنعاش سينودس أساقفة الكنيسة البطريركية ومجالس البطاركة والأساقفة.
46. السينودس البطريركي ومجالس البطاركة والأساقفة
تُمارَس الحياة السينودية بمعناها الحصري في كنائسنا الشرقية اليوم، على مستوى البطريركيات. فيجتمع السينودس المقدَّس مرَّة في السنة ويحصر أعماله في القضايا المشتركة المتعلّقة بالأبرشيات في الشرق وفي المهجر. وهدفه العام هو دعم الشركة الكنسية ضمن التقليد الواحد والكنيسة نفسها والاستجابة للحاجات الراهنة، أعني تعليم المؤمنين وتجديد الحياة الليتورجية والتقليد الروحي واللاهوتي والحياة النسكية والرسولية، والرسالة، وإعداد الكهنة وتنشئتهم المستمرَّة.
تدخل العلاقات مع سائر الكنائس ضمن هذا الهدف العام أيضاً، إلا أنّ السينودس لا ينظر عادة في قضية مشتركة بين أبرشية من أبرشياته وأبرشية تابعة لبطريركية أخرى. وهذه القضية تواجه في الواقع جميع كنائسنا البطريركية حيث تتجاور أبرشيات البطريركيات المختلفة، داخل حدود البلد الواحد. ولهذا نشأت بعد المجمع الفاتيكاني الثاني مجالس البطاركة والأساقفة الكاثوليك في كلِّ بلد. لا يشكِّل هذا البناء الجديد سينودسًا مقدَّسًا خاصًّا بالكنائس البطريركية المشارِكة فيه، ولا مؤتمرًا أسقفيًا على غرار مؤتمرات الكنائس اللاتينية. ولكنَّه طريقة عملية ومرنة تمكِّن الكنائس الأعضاء من أن تواجه معًا القضايا المشتركة في البلد الواحد. ونرجو أن تُطَوَّرَ هذه المجالس بحيث يكون لها فعالية أكبر في اتخاذ القرارات وتحديد المواقف الكنسية المشتركة.
ومن الضروري أن يتناول سينودس أساقفة الكنيسة البطريركية أو مجلس البطاركة والأساقفة في البلد الواحد بقراراتهما وتوصياتهما حياة الأبرشيات والرعايا الخاصَّة، حيث يعيش شعب الله رسالته النبوية والكهنوتية والملكية، بالاتحاد مع الأسقف والكهنة والشمامسة. ومن الضروري أن يشملا أيضاً القضايا المشتركة الناجمة عن تشابك العائلات والرعايا والأبرشيات، ومن ثَمَّ قضية العلاقات بين الكنائس الكاثوليكية المختلفة. لأنه لا بد من الاستجابة لحاجات الرسالة الراهنة في البيئة الواحدة.
47. الشركة الكنسية في الأبرشيات والرعايا
وقد تتطلَّب القضايا المحلية المشتركة معالجةً وحلولاً محلِّية، وذلك ضمن الكنائس المحلِّية المعنية نفسها، حيث تتميَّز العلاقات بالطابع الشخصي. ومن ثَمَّ فإنّنا ندعو إلى ضرورة تعميق الشركة الكنسية والاستجابة لمقتضياتها والتنسيق بين جميع الكنائس المتواجدة في المكان الواحد، وعلى جميع المستويات وفي جميع الظروف، في مختلف الأبرشيات وفي مختلف الرعايا سواء كانت في الريف أو في المدن الكبيرة، لأن كنيسة الله تُبنى بين البشر على غرار شركة الله مع الناس.
وقد يكون من المفيد إعادة تفعيل السينودسات الإقليمية التي كانت متَّبَعة في الألف الأول، بحسب مقتضيات الظروف المعاصرة الجديدة. يكفي أن يتّفق الأساقفة المعنيُّون في البيئة الواحدة على أن يجتمعوا بصورة منتظمة. ويمكن أن يشارك في هذه الاجتماعات كهنة ومؤمنون وشمامسة ورهبان وراهبات لهم علاقة بالقضايا المطروحة. وهكذا يجد كلُّ واحد نفسه مسؤولاً عن رسالة الكنيسة المحلِّية ويلتزم بها.
وإذا ما تَمَّ تعميق الشركة الكنسية بين جميع كنائسنا، لن يبقى الآخر خصمًا بل يصبح أخًا نقَدِّرُ تراثه الخاصَّ به، مع أمانتنا لتراثنا الخاصِّ بنا. الشركة مبدعة وخلاقة. هي المِيزة الجديدة للحُبِّ الذي به أحبَّنا الله الآب في المسيح. بل هي "شركة الروح القدس" نفسه (2 قورنتس 13:13).
48. مع سائر الكنائس الرسولية
يدعونا سرّ الكنيسة، وهو سرّ الوحدة والمشاركة، إلى تجديدٍ جذريٍّ لعلاقاتنا داخل كنيستنا الخاصة، كما وبسائر الكنائس الكاثوليكية. ويدعونا أيضًا إلى إعادة النظر في علاقاتنا بسائر الكنائس الرسولية التي ليست في شركة كاملة معنا. ونقصد هنا كنائس الشرق الأدنى وكلُّها رسولية حقًّا، وتشترك معنا في الإيمان والأسرّار الواحدة وفي سرّ الكنيسة الرامزة والدالَّة على شركة الثالوث الأقدس، كما تسلَّمنا ذلك من الرسل.
يجب أن نقوم بهذه المراجعة العميقة مع الأمانة للتقليد المشترك بيننا، وهو ظاهر اليوم ظهورًا مدهشًا "بنفحة نعمة الروح القدس" في "الحركة المسكونية". ويجب أن نعترف مرَّة أخرى أنّ العوائق التي يضعها المسيحيون أمام هذه الحركة هي من نتاج الروح الطائفية. فنحن مدعوّون إلى التوبة وإلى ارتدادٍ جذريٍّ في عقليتنا. يجب أن ننتقل من الطائفية التي تتحكّم بجميع مواقفنا إلى روح جديدة تحييها شركة الروح القدس. نعم "مَن كَانَ لَهُ أذُنَانِ فَليَسمَع مَا يَقُولُ الرُّوحُ لِلكَنَائِسِ". إنَّ القاعدة الذهبية للحركة المسكونية هي العمل "للحقّ بالمحبة" (افسس 4: 15). هكذا يُبنَى جسد المسيح، وهكذا يشفي الروح كل انقسام فيه. وسوف نعود إلى التأمل في هذه العلاقات المسكونية في رسالة لاحقة إن شاء الله.
الفصل الرابع: آفاق وتوجّهات راعوية
49. من الرؤية الإيمانية إلى الممارسة الراعوية
لقد تأمّلنا وإياكم، أيّها الأبناء والاخوة والأخوات الأعزاء، في سرّ الكنيسة من زوايا مختلفة. والسرّ كنز ثمين وكلَّما تأمَّلنا فيه اكتشفنا فيه أوجهًا جديدة من جماله وغناه. ولقد ركَّزنا في تأمُّلنا بشكل خاص على جانب أساسيٍّ لسرّ الكنيسة، ألا وهو سرّ الشركة. ومما لا شكَّ فيه أنّ هذا الوجه من سرّ الكنيسة له انعكاسات راعوية مُهمَّة ومتعدِّدة، لا بل إنّه كفيل بأن يعطي وجهًا جديدًا لعملنا الراعوي. لأنّ كل ممارسة راعوية هي امتداد وترجمة لفهمنا الإيماني لسرّ الكنيسة. 
نودّ في هذا القسم الأخير من الرسالة أن نلفت انتباهكم، أيها الأبناء والاخوة والأخوات، رعاة ومؤمنين، إلى بعض أوجه الحياة الراعوية التي تستدعي اليوم التجديد في ضوء سرّ الشركة. إنّ هذه المراجعة الراعوية ضرورة مُلِحَّة كي نعمل معًا على بناء "نموذج كنسي" نحوِّل به هبة الشركة، التي تسلمناها من الله، إلى حياة وممارسة. إنّ هذه الهبة الإلهية تبقى مرجعًا دائمًا نعود إليه ونهتدي به لينيرنا ويلهمنا، ويقيّم جهودنا، ويخصب حياتنا الراعوية وعملنا الكنسي في جميع المجالات. لقد أشرنا في الصفحات السابقة إلى بعض هذه التوجُّهات الراعوية، ونريد في هذا الفصل أن نجمع أهمَّها تحت ثلاثة عناوين، وهي التنشئة على الروح الكنسية الحقيقية (من الطائفة إلى الكنيسة)، وسبل تعزيز المشاركة في الكنيسة (من الشركة إلى المشاركة)، وروحانيّة التعامل مع تقاليدنا المتنوعة وتعدُّديتنا الكنسية (من الانغلاق إلى التواصل).
1 ـ من الطائفة إلى الكنيسة – التنشئة على الروح الكنسية
50. الروح الطائفية
إنّ الارتداد الأوّل، الذي يدعونا إليه هذا التأمُّل في سرّ الكنيسة، هو الارتداد من الروح الطائفية إلى الروح الكنسية الأصيلة. إنّ الكنيسة آية من آيات الله المعطاة لنا، ونحن فيها "خلق جديد" (2 قورنتس 5: 17). ولقد رأينا، في كل خطوة خطوناها في ضوء النور الصادر عن سرّ الكنيسة، أنَّنا نحمل هذه الآية وهذا السرّ في "آنية من خزف" (2 قورنتس 4: 7). ومن بين نقاط الضعف الكثيرة فينا، تَبيَّن لنا أنّ الروح الطائفية هي العائق الأكبر دون إدراك سرّ الكنيسة ودون تصرُّفنا ككنيسة.
قد يظنُّ البعض أنّ تجاوز مفهوم الطائفة والروح الطائفية يعني إلغاء ما في كنائسنا من تاريخ وتراث وميزات أو هو تنكُّرٌ لها، أو التغاضي عمَّا لهذه الكنائس من حقوق وما عليها من واجبات في المجتمع المدني، أو التنازل عن دورنا في بناء الحياة العامة في جميع مجالاتها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية. ليس هذا المقصود، لأنَ الكنيسة واقع مغروس في الزمان والمكان وهي متجسِّدة في العجينة البشرية وهي فيها بمثابة الخميرة والنور. وإنما المقصود هو التسامي فوق كل السلبيات التي علقت بواقع تجسُّدِنا، والتي تأتينا من الروح الطائفية، وهي مفهوم غريب عن سرّ الكنيسة، كما أوحى به الله في كتبنا المقدسة، وعن تقاليدنا الحيّة والعريقة.
51. التغلب على الروح الطائفية أمر ممكن
ولقد حاولنا، طيلة هذه الرسالة، أن نعي الآثار الناجمة عن هذه الروح على جميع المستويات لنلفت انتباهكم إليها، كي نتغلّب عليها ونبدِّلها. وتبديلها متوقِّف على عمل الروح القدس فينا، وعلى مدى استجابة كل واحد مِنّا لعمل الروح فينا، والدخول في طريق القداسة الضيِّق المؤدِّي إلى الحياة (راجع متى 7: 13ـ14). إنّ عودتنا إلى "حَقِّ المَسِيحِ" (2 قورنتس 11: 10) هو الذي يحرِّرُنا من روح العالم: "أيُّهَا الأحِبَّاءُ، لا تَركُنُوا إلى كُلِّ رُوحٍ بَل اختَبِرُوا الأروَاحَ لِتَرَوا هَل هِيَ مِن عِندِ الله" (1 يوحنا 4: 1). فإذا صلَّينا وطلبنا ذلك بتواضع وثبات، فإنَّ الروح يستجيب لصلاتنا، ويُفهمنا أنّ أوّل مقوِّمات هويَّتنا، نحن تلامذة يسوع المسيح، هو أن نعيش به وفيه، فنكون "كنيسة" لا طائفة. وكلُّ واحد مدعُوٌّ إلى أن يبدأ مسيرة توبة وارتداد في ذاته، فيتحرَّر من الطائفة بما فيها من حدود ومن الروح الطائفية بما فيها من سلبيات، ويتجدَّد بقوَّة الروح العامل فيه وفي الكنائس. عندها تجمعنا نعمة الله ونلتقي في المسيرة نفسها، فنجد أنفسنا أقوياء بمحبة بعضنا البعــض: "مَـن كَـانَ لَـهُ أذُنَـان فَليَسمَع مَا يَقُولُ الرُّوحُ لِلكَنَائِسِ" (رؤيا 3: 6).
52. الروح الكنسية
أن "نكون كنيسة" يفترض أن نُنَمِّيَ فينا "حِسًّا كنسيًّا" يرشدنا في جميع مواقفنا. وتعني هذه العبارة، في كتابات آبائنا في الإيمان، ملكة في النفس تجعل "جَمَاعَةَ الَّذِينَ آمَنُوا قَلبًا وَاحِدًا وَنَفسًا وَاحِدَة، لا يَقُولُ أحَدٌ مِنهُم إنَّهُ يَملِكُ شَيئًا مِن أموَالِهِ، بَل كان كُلُّ شَيءٍ مُشتَرَكًا بَينَهُم" (أعمال الرسل 4: 32). هذا هو النموذج الكنسي الذي وجدناه لدى جماعة المؤمنين الأولى في سفر أعمال الرسل، والذي يبقى قدوة لنا. وهذا ما يريد روح يسوع أن يَهدِيَنا إليه.
يسعى المعلّم الإلهي أن يُنَمِّيَ فينا هذه الروح من خلال الحياة الليتورجية، ولاسيما في سرّ الإفخارستيا. فعندما نعترف بإيماننا نقول:"نؤمن…"، وعندما نصلِّي نقول "أبانا…"، وفي جميع الصلوات الليتورجية تغلب العبارة "نحن" الدّالّة على الروح الكنسية، وعلى الشركة في الثالوث الأقدس. فما نحتفل به في المسيح يجب أن نعيشه في ما بعد في حياتنا وعقليتنا. وهذا لا يعني أنَّ "الأنا" أو الذات تُذَوَّبُ بهذه الشركة في جماعة مُبهَمة لا هوية لها. بل تزداد هويتنا وضوحًا لأنّ سرّ شخصيتنا لا يكتمل إلا في سرّ الشركة على "صورة الله ومثاله". هي الشركة نفسها التي توحِّدُنا، في يسوع الابن الحبيب، مع الله أبينا ومع جميع اخوتنا.
تتحلّى الروح الكنسية بالبساطة، وينعشها الروح القدس الذي ألَهَم التطويبات (راجع متى 5: 1ـ12)، ومنه تستمدُّ القوَّة. الروح الكنسية تبقى ساهرة في الصلاة، وتكتشف تجارب الانفرادية المضلِّلة وتهرب منها، سواء كانت الأنانية الشخصية أو الطائفية. وهي تتحلَّى بالتواضع والصبر وتعرف ضعفها ورحمة الله الفادي، فتمتلئ بحنان الآب ومحبَّته لجميع الناس. وتتحلَّى بالحرية وبرحابةَ محبة المسيح والكنيسة. ويبيِّن لنا القديس بولس هذه المحبة والرحابة حين يقول: "أتِمُّوا فَرَحِي بِأن تَكُونُوا عَلَى رَأيٍ وَاحِدٍ وَمَحَبَّةٍ وَاحِدَة وقّلبٍ وَاحِدٍ وَفِكرٍ وَاحِد. لا تَفعَلُوا شَيئًا بِدَافِعِ المُنَافَسَةِ أوِ العُجب، بَل عَلَى كُلٍّ مِنكُم أن يَتَوَاضَعَ وَيَعُدَّ غَيرَهُ أفضَلَ مِنهُ. وَلا يَنظُرَنَّ أحَدٌ إلى ما له بَل إلى ما لِغَيرِهِ. فَليَكُن فيما بينكم الشُّعُورُ الَّذِي هُوَ أيضًا في المَسِيحِ يَسُوعَ" (فيلبي 2: 2ـ5).
53. تنشئة المؤمنين على الروح الكنسية الأصيلة
الكنيسة هي علامة المحبَّة في كل مكان تحمل فيه رسالتها. وهي مدعُوَّة إلى أن تكون الشَّاهد الحيَّ لها. وهي أيضًا خادمة المحبة، جماعةً وأفرادًا، لأنّ جميع المؤمنين، سواء في الزواج أو في الحياة المكرَّسة، في حياة العزوبة أو في الترمُّل، وكذلك جميع المرسومين، الأساقفة والكهنة والشمامسة، الجميع، مهما كان سنُّهم أو وضعهم الصحي أو قدراتهم، يستقون من روح واحد، ويستطيعون أن يسهموا في نموِّ جسد المسيح الواحد.
لا بدَّ من تنشئة جميع أعضاء الكنيسة على الروح الكنسية انطلاقًا من المفاهيم التي تبيَّنت معنا من خلال كل ما تقدَّم في هذه الرسالة. ويجب أن تكون التنشئة شاملة منذ بدايتها، ثم تستمرُّ في جميع مراحل الحياة، بحسب تنوُّع المواهب والظروف التي يعيشها جميع أعضاء كنائسنا. وتشمل هذه التنشئة الرجال والنساء والأولاد والشباب والمسنّين، لأنّ تعليم الإيمان والمحبَّة لا حدود له من حيث السن. ويشمل بصورة خاصة هؤلاء الذين لهم مهمّة خاصة في خدمة الجماعة المسيحية، أعني الأساقفة والكهنة والشمامسة والرهبان والراهبات والمؤمنين المسؤولين في الحركات الرسولية والنشاطات الاجتماعية والثقافية وفي خِدمة المحبة.
54. التنشئة بالكلمة
تقتضي الروح الكنسية في الرعاة والمؤمنين صياغة جديدة لجميع جهودنا التربوية في الإكليركيات، ودور التنشئة الرهبانية، وفي المؤسسات التعليمية، وكتب التربية الدينية، وفي المواعظ، وفي جميع وسائل الإعلام المتوفِّرة. إنّ تجديد الخطاب الكنسي، على جميع الأصعدة، ضرورة لا بديل لها، إذا أردنا أن يُحدِثَ ارتدادًا في حياتنا الكنسية وفي علاقاتنا المتبادلة. يجب أن نعود إلى ينابيع الإيمان الأصلية، إلى يسوع المسيح والرسل وآبائنا في الإيمان. وكم يجدر بنا أن نعود إلى وثائق المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، مع جميع امتداداته في الوثائق الكنسية اللاحقة، كي نجد فيها مصدرًا موثوقًا لهذا الخطاب الجديد. يجب أن نقتنع أنّ التنشئة على روح الشركة والوحدة هي من الشروط الأساسية التي يقتضيها تجديد كنائسنا. لن نجني شيئًا إذا ما بقينا نشتكي من المساوئ والسلبيات في كنائسنا، وإن لم نهتمَّ نحن أنفسنا بتجديد ذواتنا بحسب غنى مفهوم سرّ الكنيسة.
55. التنشئة بالعمل
لا تقتصر هذه التنشئة على القول فقط، بل تتِمُّ أيضًا من خلال الممارسة والعمل. لا يكفي أن نطوِّر خطابًا كنسيًا جديدًا، كما ولا يكفي أن نقدّم صورة مثالية لحياتنا في الكنيسة، بل يجب أن نعطي الفرصة لأعضاء الكنيسة لكي يعيشوا هذا الخطاب وهذا المثال على أرض الواقع. وهذا يدعونا إلى أن نوفِّر لجميع مؤمنينا، على اختلاف فئاتهم وأعمارهم، مجالات يعيشون فيها خبرة كنسية ضمن جماعات صغيرة، متعدِّدة الأشكال، تهيؤهم للدخول في الجماعة الكنسية الواسعة. إنّ الانخراط العملي في حياة الكنيسة ورسالتها والمشاركة فيها هو أفضل مدرسة لاكتساب هذا الحسّ الكنسي. عندما نضع أيدينا على المحراث، ونعمل مع اخوتنا وأخواتنا فإنّنا نكتشف شيئًا فشيئًا سرّ الكنيسة وفرح الانتماء إليها والمشاركة في بنائها.
وكي تكون هذه الخبرة خصبة يجب أن نعيشها دائمًا في حضرة الله، وأن نقابلها باستمرار مع كلمته المحيية، فتزداد بذلك تنقية وتنمو وتسمو. تكون الروح الكنسية فينا عندما نكون "كنيسة معًا" في كل ما نقول وما نعمل. ومما لا شكَّ فيه أنّ هذه الخبرات لا بدَّ من أن تمرَّ بأزمات وصعوبات. ولكن إذا عشناها بروح الارتداد والتوبة والنموّ الروحي، فإنّها تسهم في إيقاظ حسٍّ كنسي يتأصّل وينمو ويتطوَّر عبر السير والعمل معًا.
2 ـ من الشركة إلى المشاركة – سبل تنمية الشركة
56. من الشركة إلى المشاركة
الشركة هي هبة الله لكنيسته. وإذا ما قبلنا هذه الهبة فإنَّها تؤدّي إلى المشاركة الفعلية والملموسة. وإلا فإنّها تبقى مفهومًا مجرَّدًا وأمنية جميلة. تأتي المشاركة في حياة الكنيسة كتعبير عن هذه الشركة من جهة، وكوسيلة لتنميتها من جهة أخرى. إنّنا نلاحظ اليوم رغبة قوية في التلاقي بين البشر. وهذه علامة من علامات الأزمنة. وهي الرغبة التي نلاحظها أيضًا بين كنائسنا منذ سنوات. وهذا الاتجاه يجب تشجيعه وتطويره كي يصبح واقعًا دائمًا وثابتًا في حياة كنائسنا.
ولهذه المشاركة أشكال متعدِّدة بحسب دعوة كل واحد في الكنيسة، وبحسب المواهب التي حباه بها الرب. فليس المطلوب أن تكون اليد رِجلاً، والعين أذنًا. ولا تستطيع الرجل أن تقول: لست يدًا، فما أنا من الجسد، والأذن لست عينًا فما أنا من الجسد. وكذلك، "لا تَستَطِيعُ العَينُ أن تَقُولَ لِليَد: لا حَاجَةَ بِي إلَيكِ، وَلا الرَّأسُ لِلرِّجلَيِن: لا حَاجَةَ بِي إلَيكُمَا، لأنَّه لَو كَانَت كُلُّهَا عُضوًا وَاحِدًا فَأينَ الجَسَدُ؟ وَلَكِنَّ الأعضَاءَ كَثِيَرةٌ وَالجَسَدَ وَاحِدٌ" (1 قورنتس 12: 12ـ29). وأخيرًا، لا يستطيع أحد أن يحسب نفسه صغيرًا أو ضعيفًا أو زائدًا، فكل عضو له كرامته ودوره ومساهمته في بناء الجسد. بهذه الروح تتمُّ المشاركة في الوحدة في حياة الكنيسة، ويصبح البنيان متينًا وجميلاً بمشاركة الجميع في بنائه.
57. هيئات الشركة
لكي تجد هذه المشاركة طريقها إلى حياة المؤمنين، على اختلاف دعواتهم وخدماتهم، فلا بدَّ من إنشاء هيئات للمشاركة في كنائسنا. ولقد أشار المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني إلى العديد من هذه الهيئات (مجلس الأساقفة، مجلس الكهنة، المجالس الراعوية…)، كما وأشرنا نحن أيضًا في رسالتنا هذه إلى بعض منها وفق تقليدنا الشرقي.
إنّنا بحاجة إلى هيئات مشاركة على جميع المستويات والأصعدة: على مستوى الأشخاص (الأساقفة، والكهنة، والرهبان والراهبات، والعلمانيين)، والأمكنة (على مستوى الرعية، والأبرشية، والمنطقة)، والكنائس المختلفة (بين جميع كنائسنا محليًا وإقليميًا). إنّ مثل هذه الهيئات تتيح اللقاء بين أشخاص ضمن الفئة الواحدة، وبين الأشخاص ضمن الفئات الكنسية المختلفة، وبين جميع الكنائس والمناطق. واللقاء يؤدي إلى التعارف، والتعارف إلى الأخُوّة، والأخُوَّة إلى التنسيق والتعاون. ونكون بذلك قد عشنا خبرة شركة حقيقية وترجمنا السرّ إلى واقع ملموس.
"وأخيرًا يجب الاهتمام بالمجامع الأبرشية. فيها يوجِد الأسقف شركة خاصة بين الكهنة والرهبان والعلمانيين، ويدعو الكنيسة الخاصة إلى التفكير والصلاة والاهتمام بالشؤون الراعوية، حتى يتمكّنَ من مواجهة القضايا التي تنجم عن إعلان الإيمان وشهادة المحبَّة في أوضاع محدَّدة وواقعية في عالم اليوم". إنّ التغيُّرات المتسارعة في عصرنا تقتضي أن نفعِّل هذه المؤسَّسة المعبِّرة عن التقليد الكنسي للشركة والوحدة بين المؤمنين.  
58. شروط المشاركة
ومما لا شكَّ فيه أنَّ جميع هذه الهيئات تُصاب بالضعف إذا لم تستند إلى مواقف روحية تتناسب والهدف الذي وضعت من أجله. فإذا تحكَّمت أعمال الجسد، مثل "العَدَاوَاتِ وَالخِصَامِ وَالحَسَدِ وَالسُّخطِ وَالمُنَازَعَاتِ وَالشِّقَاقِ وَالتَشَيُّعِ" (غلاطية 5: 20)، بهذه الهيئات فإنّها تنحرف بها عن غايتها المنشودة. أمّا إذا أحيتها أعمال الروح، مثل "المَحَبَّةِ وَالفَرَحِ وَالسَّلامِ وَالصَّبرِ وَاللُّطفِ وَكَرَمِ الأخلاقِ وَالإيمَانِ وَالوَدَاَعَةِ" (غلاطية 5: 22)، فإنّها تخصب وتأتي بالثمر الكثير. إنّ المصالح الخاصة للأفراد والفئات وروح التحزُّب والكبرياء والعداوات الشخصية وغيرَها تفسد أيَّ توجُّه نحو العمل المشترك، بينما تضمنه وتنميه روح العمل الجماعي والخير العام والبنيان المشترك ونكران الذات والإصغاء والحوار والتواضع والوداعة والمحبَّة. وهذه كلها تشكِّل قاعدة روحيَّة تجعل حياة الشركة ممكنة.
59. وماذا عن دور العلمانيين في كنائسنا ؟
بودِّنا أن نلفت الانتباه إلى الأهمية المتنامية لدور العلمانيين في الكنيسة، وقد خصّه المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني بعنايته، كما ذكرنا سابقًا. وتظل الوثيقة المجمعية "رسالة العلمانيين"، بالإضافة إلى كلّ ما يتعلّق بالعلمانيين في أعمال المجمع وإلى الوثائق الكنسية اللاحقة، علامة مضيئة على طريق التجدُّد الكنسي في عصرنا. وهذا ما كان له صدى في كنائسنا في الشرق حيث شهدت العقود الماضية نهضة حقيقية في هذا المجال. وهي نهضة تحتاج إلى مواصلة الجهود لتوضيح أشكالها ومضامينها في جميع مجالات حياتنا الكنسية.
وهنا لا بدَّ من القول إنّ مشاركة العلمانيين في حياة الكنيسة تدعو الإكليروس والعلمانيين على حدّ سواء إلى ارتداد في العقليات، إذا أردنا أن يأخذ هذا الجانب من سرّ الشركة مساره الصحيح ويصبح أسلوب حياة دائم وفاعل في كنائسنا. اعتاد الإكليروس على الانفراد في العمل الراعوي وإدارة شؤون الكنيسة في الأبرشيات والرعايا وفق نموذج كنسي هرمي يعتبر العلماني خاضعًا أكثر منه مشاركًا. وهذه هي العقلية التي تحتاج إلى تغيير على مستوى الفكر اللاهوتي والممارسة الراعوية والتوجُّه الروحي بحيث يُنظَرُ إلى العلماني كعضو كامل العضوية في الكنيسة، هذا من جهّة.
ومن جهّة ثانية فالعلمانيون، هم أيضًا، بحاجة إلى ارتداد مماثل. كثيرًا ما يقترب العلمانيون من الكنيسة من زاوية طائفية أو عشائرية أو من زاوية حسابات مادِّية وبشرية غريبة عن سرّ الكنيسة. وهذا كلُّه يضع العراقيل أمام مشاركتهم في حياة الكنيسة مشاركة حيّة وفاعلة وحقيقية. وهذه الارتدادات هي التي تجعل الإكليروس والعلمانيين ينظر بعضهم إلى بعض، لا من منطلق "نحن" "وانتم"، وكأنَّ الفئتين متقابلتان ومتخاصمتان، بل من منطلق "نحن معًا"، أي أعضاء في جسد المسيح الواحد، كلٌّ بحسب دعوته ورسالته في الكنيسة. وفي هذا المجال لا يسعنا إلا أن نشيد بهؤلاء العلمانيين الذين يتنامى عددهم يومًا بعد يوم، والذين اكتشفوا سرّ الكنيسة وراحوا يمارسون رسالتهم فيها بروح الإيمان والانتماء الحقيقي إلى جسد المسيح. وتجد مشاركة العلمانيين في حياة الكنيسة ترجمتها العملية في المجالس الراعوية، التي يدعو المجمع الفاتيكاني الثاني إلى إنشائها في كل أبرشية.
3 ـ من الشركة إلى التواصل والتعاون – روحانية الشركة
60. الأصالة والانفتاح
لقد أشرنا في الفصول السابقة إلى غنى تقاليدنا الكنسية. وهذا كلُّه اليوم موضع بحث ودراسة وتنقيب، لبعثه ووضعه في متناول جميع المؤمنين. وهنا نشير إلى الروحانيّة التي يجب أن نتعامل من خلالها مع هذا التراث الخاص بكل كنيسة. ويمكن أن نلخِّص هذه الروحانية بكلمتين: الأصالة والانفتاح. فمن جهة، من الطبيعي أن ترى كل كنيسة في تقليدها مرجعًا فكريًا وروحيًا تدأب على المحافظة عليه وإحيائه وتطويره ونشره. فكلُّ هذا علامة أصالة ومعين لمسيرتها وحافز على نموِّها. ومن حقِّ كل كنيسة أن تفخر بتراثها وتعتز به، وكذلك تفخر به وتعتز الكنيسة جمعاء.
ومن جهّة ثانية، كما قلنا، يمكن أن تتسرّب إليه الروح الطائفية التي تعزّز الانعزال والابتعاد عن الكنائس المسيحية الأخرى. لأنّ الأصالة الكنسية لا تعزل ولا تقيم الحواجز ولا تعزِّز الانقسامات ولا تُعاش بروح التعصُّب والمنافسة والمخاصمة بل تُعاش في الانفتاح على الآخرين وعلى ما لديهم هم أيضاً من غنى في تراثهم. فليست تقاليدنا المتعددة مبدأ انقسامات بيننا، بل مصدر شركة ومن ثم مصدر تعاون ومحبة.   
61. تراث كل كنيسة تراثنا جميعًا
إنّ تراث كنائسنا، بما فيه من تنوُّع وغنى فريد، هو تراث للكنيسة جمعاء. فكم بالأحرى هو تراث لنا جميعًا في الشرق. إنّ تراث كل كنيسة، في جميع تعبيراته الفكرية والروحية والطقسية، هو تراث لنا جميعًا، يغذِّينا ويحيينا وينمينا. فمع تجذُّر كل كنيسة في تراثها الخاص، فإنّها مدعوَّة إلى أن تغتني أيضًا بتراث الكنائس الأخرى. وهذا ما يدعونا إلى وضع التراث الشرقي بكل تعبيراته موضع دراسة في معاهدنا الإكليركية كي يتمكَّن الإكليروس من التعرُّف عليه واستيعابه، مما يساعد على التقارب والتقدير المتبادل.
إنّ الجهود التي تبذل ومختلف المبادرات، من مؤتمرات ولقاءات ومنشورات ومؤلّفات مختلفة، لإحياء التراثات الكنسية في الشرق وتعميمها، لهي جديرة بالثناء والتشجيع. ولا يسعنا هنا إلا أن نشير مرة أخرى إلى "التراث العربي المسيحي"، الذي اشتركت جميع كنائسنا في خلقه وبلورته وتطويره، بحيث أصبح تراثًا مشتركًا لنا جميعًا. كم يجدر بنا أن نولي هذا التراث جلَّ عنايتنا، ليكون نورًا وهديًا لنا في حاضرنا ومستقبلنا. فنحن ندعو مؤسساتنا العلمية إلى الاهتمام بهذا التراث وإلى التعاون على إحيائه ودراسته وتدريسه.
62. تجسيد الإنجيل في الحياة الحاضرة
إنّ إحياء تراثنا يأخذ ملء معناه عندما يكون زادًا روحيًا لحاضرنا، وعندما يكون عونًا لنا في توجُّهنا نحو العالم الذي نعيش فيه شهادتنا ورسالتنا. ليس التراث تحفة فنية قديمة نتغنَّى بها، بل هو رصيد فكري وروحي يحتفظ بأهميته الحالية عندما نتوجَّه إلى عالمنا الحاضر، وهو فيه بمثابة الخميرة في العجينة البشرية، وفيه القدرة على الاستجابة لحاجاتها وهمومها وصعوباتها وتطلُّعاتها. يُقَوَّمُ التراث بمقدرته على مساعدتنا على مخاطبة إنسان اليوم في هذه البقعة من العالم الذي أرادنا الله فيها، وفي هذه الفترة من تاريخنا الذي يدعونا الرب إلى الإسهام في صنعها والعيش فيها. 
لا يتوقَّف التراث في كل أمَّة وشعب ولا يتجمَّد، بل يتكَوَّن ويزداد غنى بكل ما تُمِدُّه به الأجيال المتعاقبة. وينطبق القول نفسه على تقاليدنا الكنسية، لأن الإنجيل يتجسَّد في كل بيئة وفي كل زمن وحضارة. فكما تجسَّد في الزمن الماضي وتكوَّنت فيه تقاليدنا الأولى كذلك يتجسَّد في حضارتنا اليوم. فإن لم يستمر تجسيد الإنجيل في البيئة الحاضرة انقطع عن مسيرة الحياة التي لا تتوقَّف، وأصبح التقليد حرفًا ميتًا وعبودية تخنق الحياة ولا تستجيب لمتطلباتها، وكان ذلك أحد أسباب ابتعاد المؤمنين عن الكنيسة.
فهل تعي كنائسنا الشرقية هذا الخطر المحدق بها، إذا هي جمَّدت تقاليدها وحالت دون تجسيدها في واقع مجتمعاتنا وحضاراتها الراهنة والمتطوِّرة من غير توقُّف؟ هل تعي كنائسنا أنه عليها أن تعلن البشارة بلغة العصر وعقليته؟ هو سؤال خطير نطرحه على أنفسنا وعلى معاونينا وعلى جميع مؤمنينا؟ وجوابنا هو أن إنجيل سيدنا وربنا يسوع المسيح يخاطب كل زمان ومكان. ولهذا يجب أن يَتِمَّ تجسيده في بيئتنا الحاضرة، وذلك في ضوء كلمة الله نفسها وهدى تقاليدنا وتعاليم الكنيسة، فلا يكون بين الماضي والحاضر تناقض أو تشادّ، بل تكامل وتطوير سليم للتقاليد.
63. التعارف المتبادل
إنّ تعدُّد التراثات يردُّنا إلى تعدُّد الكنائس، بما في كل منها من نظام خاص وإدارة مستقلة وعمل راعوي. لا يجوز أن يُبقي هذا الواقع كل واحد مِنَّا منغلقًا على ذاته، في عزلة همومه الخاصة وجهله للآخر، فيفكِّر كل واحد في نشاطاته ومبادراته، ويُبقِي الآخر مَنسِيًّا لأنه آخر. فالقضية ليست التعدُّد بل عدم الانتباه إلى وجود الآخر. وهي التجربة التي قد تتعرَّض لها المدارس الكاثوليكية والحركات الرسولية والرهبانيات المتعدِّدة، إذ تُحَلُّ قضية تعدُّد الانتماء الكنسي بتجاهل التعدُّد والتنوُّع، وباللجوء إلى فرض المساواة بين الجميع، أعني تذويب جميع الانتماءات الكنسية في انتماء كنسي واحد. كان الجهل في الماضي سبب انقسامات كثيرة وأدّى إلى ثمار مرّة. ولهذا فالمعرفة اليوم هي أولى الخدمات التي تتطلَّبها الشركة.
ولوسائل الإعلام في هذا المضمار دورٌ هام. فهي من الوسائل التي يجب أن تظهر الحسّ الكنسي في جميع مؤسساتنا ومجالات شهادتنا. نسعى من خلالها إلى إظهار سرّ يسوع المسيح المخلص والبشرى السارة التي يحملها إلى العالم أجمع، بدلاً من الاهتمام بإظهار الوجه البشري لكنائسنا في مختلف مؤسَّساتها ونشاطاتها.
قال القديس بولس في رسالته إلى أهل قورنتس: "لا أريد أن أعرف شيئًا بينكم إلاّ يسوع المسيح وإيّاه مصلوبًا" ( 1 قورنتس 2: 2). ليس أمامنا سوى خيار واحد، وهو ألاّ نُفضِّل شيئًا على معرفة ومحبّة يسوع المسيح، رأس الكنيسة وربّنا وإلهنا. ويذكّرنا بذلك القديس اغناطيوس الأنطاكي، هو الذي كان أوّل شاهد لنشأة التقاليد الكنسية: "بالنسبة إليّ، سجلاّتي هي يسوع المسيح. سجلاّتي التي لا يقدر أحد أن يَنفذ إليها وأن يعتدي عليها هي صليبه وموته وقيامته والإيمان الذي وهبني إيّاه".
64. التواصل والتعاون
إنّ الشركة التي تجمعنا تدعونا إلى التواصل في ما بيننا وإلى التنسيق والتعاون الراعوي في جميع المجالات. عندما نلقي نظرة إلى الواقع الراعوي في كنائسنا، نلاحظ الكثير من المبادرات الفردية التي تُخلَق دونَ هَمّ التنسيق ممّا يؤدّي إلى ازدواجية، فتُهدَر الطاقات المادية والبشرية، وقد تصل إلى حد التنافس العقيم أو حتى المخاصمة والعداء والإساءة المتبادلة، الواعية وغير الواعية. وهذا ما نجده في جميع مجالات العمل الراعوي، من مدارس وتعليم مسيحي وإعلام وحركات ومؤسّسات ومبادرات مختلفة. أضف إلى ذلك أنّ هنالك خدمات راعوية مهمَّة مجمَّدة بسبب نقص في الأشخاص والوسائل، مع أن هناك في كل كنيسة خاصة من السخاء والتضحية والطاقات ما يفي بالحاجة.
إنّنا ندعو جميع كنائسنا، على مستوى الأبرشيات والرعايا، إلى التنسيق والتعاون وتبادل الخبرات والأشخاص، في سبيل توفير الكثير من الطاقات والأشخاص والوسائل، وضمان أداء أفضل في شتّى الخدمات. ومن الطبيعي أن يتِمَّ التنسيق والتعاون في جوٍّ من احترام خصوصية كل كنيسة. إنّ اللجوء إلى التسوية العامة من غير الانتباه إلى الهوية التراثية الخاصَّة بكل واحد، مؤدّاه الفوضى بين الكنائس، وهو للمؤمنين فقدان هويتهم الكنسية وعملية استئصال وضياع. يجب أن نواجه معًا قضايا كنائسنا، والحاجات الجديدة التي يجب أن تستجيب لها في أداء رسالتها. بذلك تقوى الشركة والوحدة بينها. "أنَا الكَرمَةُ وَأنتُمُ الأغصَان. فَمَن ثَبَتَ فِيَّ وَثَبَتُّ فِيهِ فَذّاكَ الَّذِي يُثمِرُ ثَمَرًا كَثِيرًا، لأنَّكُم، بِمَعزِلٍ عَنِّي لا تَستَطِيعُونَ أن تَعمَلُوا شَيئًا" (يوحنا 15: 5).
خاتـمة 
الكنيسة منفتحة على اللامتناهي وعلى العالم أجمع، وتقبل في أحضانها كلَّ الذين يُقبلون إليها بدون نظر إلى عرق أو جنس أو لغة، في حين أنَّ الروح الطائفية منغلقة على ذاتها ولا تقبل في أحضانها غير الذين يدينون بمبادئها وتقاليدها وعاداتها، ويسهمون في تحقيق أهدافها، بدون نظر إلى شؤون الروح.الكنيسة ينبوع ينهل منه المسيحيون ماء الحياة الأبدية بفضل سيدنا يسوع المسيح (راجع يو 4: 14)، بالأسرّار التي يتقبّلونها فيها، والمساعدات الروحية التي يتلقَّونها، وبشفاعة العذراء مريم والقديسين. في حين أنَّ الروح الطائفية، تجعل الكنيسة كيانًا متجمِّدًا روحيًا، يسعى في سبيل المحافظة على ما اكتسب من امتيازات ترفع من شأن الطائفة الدنيويّ.
الكنيسة تَلِدُ الناسَ بالماء والروح وتقودهم إلى الله الذي هو غايتهم الأخيرة، في حين أنَّ الروح الطائفية تسعى إلى غايات زمنية وإلى تعزيز الشؤون الزمنية لأفرادها وفئاتها. الكنيسة هي جسد المسيح وهو رأسها، والطائفة إذا تجردت من روح الكنيسة يمكن أن تصبح مجموعة من الناس تربط بينهم عصبيَّات ومصالح لا تمتّ إلى شؤون الروح والكنيسة بأيّة صلة. الكنيسة مصدر حيوية متجدِّدة وطاقات تمكِّنُنا من مواجهة جميع التحدِّيات معًا. وأمّا الطائفية فإنّها ترمي بيننا بذار الشقاق والتناقضات، وتضعفنا جميعًا في مواجهة قضايا العصر وفي الاستجابة للنداءات والحاجات الملحّة. 
نسأل الله معكم، أيُّها الاخوة والأخوات والأبناء الأعزّاء، أن يمنحنا نعمة الانتماء الحقيقي إلى الكنيسة الواحدة الجامعة المقدسة الرسولية. إنّنا ندعوكم إلى الأمانة لتراثكم وكنيستكم، وإلى الانفتاح في الوقت نفسه على تراث كلِّ كنيسة أخرى، وإلى محبَّة جميع اخوتكم المؤمنين مع جميع تراثاتهم الخاصَّة بهم. هذا هو شعار ومسلك كلِّ تلميذ للمسيح: الأمانة للذات ومحبَّة الأخ المختلف عنه في تراثه بل وفي معتقده ودينه.
فندعوكم إلى عمل كل ما بوسعكم لكي تتجاوزوا جميع العقبات التي تضعها روح الطائفية دون التئام جسد المسيح الواحد، وإلى اتخاذ كلّ المبادرات الحكيمة لتقريب أواصر الأخُوَّةِ وتوطيدها، وإلى تفعيل جميع طرق التعاون بين جميع كنائسنا، لنتمكَّن من النموِّ معًا في الإيمان، وفي سائر مجالات حياتنا الاجتماعية الواحدة. فيكون إيماننا، وتكون كنائسنا مصدر انفتاح ومحبَّة لجميع من دعانا الله إلى بناء مجتمعنا معهم.
ونودّ أن ننهي بكلمة رجاء. ورجاؤنا لا يعتمد على البشر بل على الله. كان الله حاضرًا بيننا في الماضي وهذا ضمان حضوره بيننا اليوم وفي المستقبل. إنَّ كنائسنا هي كنائس رجاء، والروح يعمل فيها، ويبعث فيها وعيًا لكيانها وهويتها ودعوتها ورسالتها. ولا يسعنا إلا أن نصغي لما يقوله الروح اليوم لكنائسنا في الشرق، فتستمدُّ منه حياة جديدة وتواصل حِجَّتها الأرضية، مستجيبةً لدعوتها ولنداءات العالم الذي تعيش فيه.
نسأل أمَّنا وسيدتنا مريم العذراء، أمَّ الكنيسة "وآية اليقين والرجاء والتعزية لشعب الله على الأرض"، أن تأخذ بيدنا، في طريق الأمانة لتراثاتنا وفي طريق المحبة لبعضنا البعض ولجميع اخوتنا المختلفين عنا. وبشفاعتها القديرة، نسأل الله أن يحفظكم وأن يمنحكم بركته الإلهية هو "الَّذِي يَستَطِيعُ، بِقُوَّتِهِ العَامِلَةِ فِينَا، أن يَبلُغَ مَـا يَفُـوقُ كَثِيرًا كُلَّ مَا نَسألُـهُ أو نَتَصَوَّرُهُ، لَـهُ المجَدُ فـي الكَنِيسَةِ وَفِي المَسِيحِ يَسـوعَ عَلَـى مَدَى جَمِيعِ الأجيَالِ وَالدُّهُـورِ. آمِين" (افسس 3 :20 ـ21).
اسطفانوس الثاني غطّاس، بطريرك الإسكندرية للأقباط الكاثوليك.
مكسيموس الخامس حكيم، بطريرك إنطاكية وسائر المشرق والإسكندرية وأورشليم للروم الكاثوليك الملكيين.
أغناطيوس انطون الثاني حايك، بطريرك إنطاكية للسرّيان الكاثوليك.
نصرالله بطرس صفير، بطريرك إنطاكية وسائر المشرق للموارنة.
روفائيل الأول بيداويد، بطريرك بابل للكلدان.
يوحنا بطرس الثامن عشر كسباريان، بطريرك قيليقية للأرمن الكاثوليك.
ميشيل صبّاح، البطريرك الأورشليمي للاتين.
صدر عن مجلس بطاركة الشرق الكاثوليك
في عيد الميلاد المجيد،
25 كانون الأول (دسمبر) 1996