شباب اليوم كنيسة الغد.. الرِّسالة الرَاعويَّة التاسعة

شباب اليوم كنيسة الغد.. الرِّسالة الرَاعويَّة التاسعة

  بقلم: بطاركة الشرق الكاثوليك

\"انقر

«كَتَبْتُ إلَيكُم، أَيُّهَا الشُّبَّانُ: إنَّكُم أَقوِيَاءُ، وَكَلِمَةُ الله مُقِيمَةٌ فِيكُم».. (1 يوحنا 14:2)
مـقـدّمــة
إلى الشبّان والشابّاتأبناء كنائسنا الشّرقيّة الأعزّاء.
1.     «كَتَبْتُ إلَيكُم، أَيُّهَا الشُّبَّانُ: إنَّكُم أَقوِيَاءُ، وَكَلِمَةُ الله مُقِيمَةٌ فِيكُم» (1 يوحنا 2: 14). نتوجّه إليكم بهذه الرسالة، أيّها الأحبّاء، لنعبّرَ لكم عن محبّتنا الأبويّة، ولنقول لكم إنَّنا نرى فيكم، وفي قوّتكم ووفائكم، حياةَ كنائسنا ومستقبلَها. إنَّنا نثق بكم ونثق بالدور البنّاء الذي تقومون به برعاية أساقفتكم ورعاتكم الأجلاّء. أنتم شهود لملكوت الله في كنائسنا وبلداننا، في هذه المنطقة التي تحتاج إلى مؤمنين ملتزمين وأقوياء ينادون بالحقّ والمحبّة والعدالة والسلام والمصالحة، ويعملون لها.«كَتَبْتُ إلَيكُم، أَيُّهَا الشُّبَّانُ: إنَّكُم أَقوِيَاءُ، وَكَلِمَةُ الله مُقِيمَةٌ فِيكُم» (1 يوحنا 2: 14). نتوجّه إليكم بهذه الرسالة، أيّها الأحبّاء، لنعبّرَ لكم عن محبّتنا الأبويّة، ولنقول لكم إنَّنا نرى فيكم، وفي قوّتكم ووفائكم، حياةَ كنائسنا ومستقبلَها. إنَّنا نثق بكم ونثق بالدور البنّاء الذي تقومون به برعاية أساقفتكم ورعاتكم الأجلاّء. أنتم شهود لملكوت الله في كنائسنا وبلداننا، في هذه المنطقة التي تحتاج إلى مؤمنين ملتزمين وأقوياء ينادون بالحقّ والمحبّة والعدالة والسلام والمصالحة، ويعملون لها.
وفيما نكتب إليكم هذه الرسالة، في لبنان وفلسطين والعراق، يعاني الإنسانُ صورةُ الله وكأنّه لم تَبقَ له أيّة قيمة، وذلك لتنفيذ مخطَّطات سياسيّة مسبقة. نكتب إليكم في هذه الظروف الصعبة التي نعيشها لنقول لكم إنَّنا سنواصل معًا شهادتنا للمحبّة وللحقيقة اللتَيْن تبدوان شِبهَ أمرٍ مستحيل في منطقتنا في نظر الكثيرين من أقوياء هذه الأرض.
هذه الرسالة التي نوجِّهها إليكم هي دليلُ تصميمِنا على السير معكم في الظروف التي تهزّ الشّرق، لنحمل، في وسط الموت والدمار، وحبِّ التسلُّط والانتقام، شهادتنا للمسيح وللحياة الوافرة التي جاء يفيضها على الجميع. نكتب إليكم ونقول لكم مع القديس بولس: «أنتُم رِسَالَتُنَا كُتِبَتْ فِي قُلُوبِنَا» (2 قورنتس3: 2).
2.     إنَّنانعيش في منطقة تحتاج دائمًا وبصورة مُلِحَّة إلى العمل في سبيل الحقيقة والحبِّ والسلام والفضائل التي جاء يسوع يعلِّمنا إيّاها. وإنّنا نرى في وجوهكم وجهَ يسوع الشاب، ابنِ الناصرة، ووجهَ مريمَ الشابةِ أُمِّه، ووجهَ يوسف العامل والمناضل والمكافح، ونتوسّم فيكم توقًا إلى البطولة، ومقدرةً على أن تقتدوا بهم، وتكونوا في إثر يسوع وعلى مثال مريم ويوسف، رُسل الكنيسة وحاملي شعلة بشارة الملكوت. وإنّنا لواثقون أنّكم تستطيعون أن تكونوا فعلاً سفراء المسيح الحقيقيّين (ر. 2 قورنتس 5: 20).
الكنيسة هي أنتم ونحن معًا. كلُّنا معًا نكوِّن شعب الله المعمّد، ونؤلّف جسد المسيح الواحد، جماعة واحدة، كلّ بحسب أوضاعه وحالاته وما نال من وزنات ومواهب منحه إيّاها الله لنموّ الجسد كلِّه. نريد أن نكلِّمكم على دعوتكم ورسالتكم التي تبحثون عنها لتحملوها إلى العالم العربي. لقد سلَّمكم الربّ يسوع مسؤوليّة كبيرة يوم ملأكم من روحه القدوس حينقبلتم المعموديّة والتثبيت، لتحملوا بشارة ملكوت الله إلى إخوتكم وأخواتكم، لتحقيق سعادتهم وإعطاء معنى لحياتهم.
أنتم شركاؤنا ونحن نثق أنَّكم أهل لحمل مسؤوليّتكم في العائلة والوطن والكنيسة والعالم. أنتم أهل ومؤهَّلون لذلك. أنتم الشباب، قادرون، أكثر من غيركم، على الإبداع، والإدراك والعمل، والإنجاز والبذل والعطاء. نوجِّه إليكم رسالتنا لنؤكّد لكم رغبتنا العميقة في التواصل المباشر معكم، لتكونوا شركاء حقيقيّين معنا في حمل الرسالة، فنصغي إليكم لندرك عمل الروح فيكم، وأنتم تصغون إلينا وتزدادون فهما لمضمون رسالتنا ومسؤوليّتنا، فنعمل معًا على استثمار الوزنات التي سلّمَنا إيّاها الربّ.
3.     إنكم، أيّها الشباب، تختزنون في أعماقكم طاقاتِ حبٍّ كبيرة وتطلّعاتِ خيرٍ واسعةً، إن أنتم أحسنْتم استثمارها. تنتظرون منّا أن نفهمكم، وأن نتفهَّمَ حاجاتكم وتطلّعاتكم، وأن نُوليَكم ثقتنا ونحترم أدواركم ومسؤوليّاتكم، التي تُغْنُون بها كنيستكم والعالم في مسيرتهما نحو الآب. وكذلك تستجيبون لقول البابا الراحل يوحنا بولس الثاني: «كثيرون هم الشباب المستعدّون للتطوّع في خدمة الكنيسة والعالم، شرط أن تُعرَضَ عليهم مسؤوليّة حقيقيّة أو أن يتَلقَّوْا تنشئة مسيحيّة متكاملة»[1]. إنكم تنتظرون بزوغ فجر جديد وقيامَ عالم أفضل، كما قال أيضًا قداسته عندما احتفل باليوبيل الكبير معكم: «مثل رقباء الصبح، إنهم يترقّبون فجر عهد جديد».
العالم جائع إلى خبز روحي وإلى كلمة الله وإلى حبّ ينعش فيه الحياة. وكثيرون هم الشابّات والشبّان الذين يسيرون إلى الهلاك، تقودهمإليه إغراءات هذه الدنيا وحضارة سمّاها يوحنا بولس الثاني «حضارة الموت». لكن، على الرغم من ذلك، فإنَّهم ينتظرون مخلِّصين ينقذونهم من الغرق ويقودونهم إلى الحياة. فإليكم، أيّها الشباب، إلى سخائكم في الحبّ والتضحيّة والعطاء نفوّض مهمّة الإنقاذ في أوساط شبابنا ومجتمعاتنا وكنائسنا الشّرقيّة. وإنّنا واثقون أنّكم قادرون على ذلك، بنعمة الربّ يسوع المسيح.واحفظوا هذا الشعار: كنيسة بلا شباب كنيسة بلا مستقبل، وشباب بلا كنيسة شباب بلا مستقبل.
4.     اعتدنا أن نوجّه رسالة راعوية، في كلِّ سنة، إلى أبنائنا تحمل إليهم، مع محبّتنا وأدعيتنا، توجيهاتنا بشأن مواضيعَ شتىَّ تتناول حياتهم والتحدِّيات التي نواجهها معًا، ومتطلَّبات إيمانِنا وبالتالي المواقفَ الواجبَ اتخاذُها. ولقد أردنا، هذه السنة، أن نخاطبكم أنتم، أيها الشبّان والشابّات الأعزّاء، مصدرَ سرورنا ورجائنا.
سنكلَّمُكم في الفصل الأوّل على أساس دعوتكم ورسالتكم أي المسيح الذي هو مثالكم، والكنيسة التي أنتم أعضاء حيّة فيها. وفي الفصل الثاني، سنتكلَّم على الشهادة التي عليكم أن تحملوها في الرعية وفي المجتمع في بلدان الشّرق الأوسط. وفي الفصل الثالث، سنتكلَّم على الرسالة المسيحيّة بصورة عامة، والبشارة الجديدة، والحوار مع الكنائس ومع الديانات ومع عالمنا العربي. وسوف نتطرَّقُ أخيرًا إلى بعض المواضيع التي تخصُّ حياتكم ومسؤوليّاتكم الاجتماعيّة، وهي الأسرة، والفقراء، والوطن، والهجرة، والثقافة، والرياضة ووسائل الإعلام والعمل في المجال السياسيّ والاجتماعيّ.
 
الفصل الأوّل
يسوع المسيح والكنيسة
«كَانَ النُّورَ الحَقّ… أمَّا َالَّذِينَ قَبِلُوهُ:
فَقَد مَكَّنَهُم أَن يَصِيرُوا أَبنَاءَ الله» (يوحنا 1: 9 و12).
 
5.     يتوق الشباب إلى الحقيقة والسعادة وإلى أن يكون لهم مثالٌ أعلى يقتدون به. فمنهم مَن يخطئ في خياره، ومنهم مَن يكتفي بمثالٍ بشريٍّ يسير، ومنهم أخيرًا مَن يقوم بأعمال عظيمة. وجوهٌ كثيرة قد تخلب عقول الناس، ولا سيّما الشباب. ولكن، على مدى ألفَي سنة وحتى الآن، لم يأتِ أحد بما فعله وعاشه وعلّمه يسوع، المثال الأعلى لكلِّ إنسان، من حقٍّ ومحبّة وجرأة ومقدرة ووداعة وطهارة وسلام، ومشاركة وتضامن، ولا سيّما مع الضعفاء والخطأة والمتألّمين.
مَن التقى يسوعَ وعرفه، رأى فيه وجهَ الله القدوس ورأى فيه الأخ والمعلّم والطبيب، فوقعَ أسير حبّه، إلاّ إذا كان مستعبَدًا لأمور الأرض وممتلِئًا من ذاته. «إنَّ فادي الإنسان يسوع المسيح هو قلب الكون والتاريخ والكنيسة[2]…. إنّه سيِّد الكون والتاريخ وسيِّد الزمن وهو بدؤه وانتهاؤه»[3].
نشأ يسوع، في طفولته وفي شبابه ملتزمًا عائلته الصغيرة في الناصرة، ثمّ العائلة الكبيرة التي في القرية، مع كل ما يحمله هذا الالتزام من أبعاد اجتماعيّة وروحيّة. فنراه «طَائِعًا لِوَالِدَيْهِ، يَتَسَامَى فِي الحِكمَةِ وَالقَامَةِ وَالحُظوَةِ عِندَ اللهِ وَالنَّاسِ» (لوقا 2: 52). وعاش مثل الناس، ما عدا الخطيئة، ومثلهم تحمَّل مشاقَّ الحياة وهمومها، منذ الولادة في مغارة بيت لحم إلى التشتُّت في مصر وعناءِ العمل في مهنة متواضعة… (ر. لوقا 2: 52). ولمّا كبر وأخذ يعظ ويعلِّم كانت حياته مُفعمَة بالتقوى والصدق والمحبّة والرحمة والإصغاء.
تحسّس معاناة الناس، في محيطه وبلاده. وعرف حاجاتهم ومدَّ إليهم يد المساعدة، وألقى إليهم تعليمًا ساميًا يقودهم إلى الآب. كان يقول دومًا إنّه جاء إلى الأرض وإنّ طعامه على الأرض هو أن يعمل بمشيئة أبيه السماويّ.
يسوع هو «الطَّرِيقُ وَالحَقُّ وَالحَيَاة» (يوحنا14: 6). «جَاءَ نُورًا لِلعَالمَ» (ر. يوحنا 46:12)، «وُلِدَ وَأَتَى إلَى العَالَمِ لِيَشهَدَ لِلحَقِّ» (ر. يوحنا 33:18)، وليمنح البشر «الحَيَاةَ الوَافِرَةَ» (يوحنا10:10). وبتجسّده جعل لحياتنا كرامة جديدة، لأنّه اتّخذ طبيعتنا البشريّة، فحرّرها وطهّرها ورفعها ومنحها البنوّة الإلهيّة الحقيقيّة، وبها قدّس الكون كلَّه.
كلَّمنا على ملكوت الله بأمثلة كثيرة، ووصف المجد المعَدَّ لنا في السماء، ذاك الذي قال فيه الرسول بولس: «مَا لَمْ تَرَهُ عَينٌ وَلا سَمِعَتْ بِهِ أُذُنٌ وَلا خَطَرَ عَلَى قَلبِ بَشَرٍ» (1 قورنتس 9:2).
جاءه يومًا شابّ غنيٌّ، حفظ الوصايا منذ صغره، وسأله عن الحياة الأبديّة. فنظر إليه يسوع وأحبَّه. وأوضح له أنَّ حفظ الوصايا لا يكفي، بل هناك ما هو أعظم لمن يرغب في الكمال: هناك المحبّة إلى درجة التجرّد عن كل شيء، المحبّة التي هي درب الكمال، بل هي الكمال، لأنّ «الله محبّة» (1 يوحنا 8:4). لذلك وجّهه إلى محبّة إخوته البشر المحتاجين، وطلب منه أن يُشرِكَهم في ما يملك. لكنَّ الشابَّ انصرف حزينًا، لأنّ قلبه كان متعلِّقًا بمال كثير (ر. مرقس 10: 17-22).
محبّة يسوع للشباب ولكلِّ البشر تعبّر عن محبّة الآب لهم. وهو يدعوهم إلى المشاركة في هذه المحبّة، لأنّ سعادتهم تقوم بها. فالله يُشرِك البشرَ أجمعين في حبّه وخيراته، خاصّة الشباب منهم، وهم، كإخوة فيما بينهم وأبناءَ للآب الواحد، يتناولونها ويتقاسمونها معًا بفرح وشكر.
 
6.     طلع يسوع على اليهود والعالم بنظرة جديدة إلى الحياة والملكوت. خالف علماء الشريعة في مفاهيمهم الخاطئة لمحبّة الله والإخوة. كانوا يعتبرون الشريعة حرفًا جامدًا، ويتعلّقون بعبادات وتقاليد بشريّة غيرِ جوهريّة، بينما كانوا يُهمِلون «العَدلَ وَالرَّحمَةَ وَالأمَانَةَ» (متّى 23:23). فكان يذكّرهم بأنَّ الله يُرِيدُ «الرَحمَةً لا الذَبِيحَة» (متّى 7:12)، وبأنَّ المقدَّسات هي لخدمة البشر، وأنَّ «السَّبتَ جُعِلَ لِلإنسَانِ، وَمَا جُعِلَ الإنسَانُ لِلسَّبتِ» (مرقس 27:2). وممّا قاله في العظة على الجبل: «سَمِعْتُم أَنَّهُ قِيلَ: أَحبِبْ قَرِيبَكَ وَأَبغِضْ عَدُوَّكَ. أمَّا أنَا فَأَقُولُ لَكُم: أَحِبُّوا أعدَاءَكُم وَصَلُّوا مِن أَجل ِمُضطَهِدِيكُم، لِتَصِيرُوا بَنِي أَبِيكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ، لأنَّهُ يُطلِعُ شَمسَهُ عَلَى الأشرَارِ وَالأخيَارِ، وَيُنـزِلُ المَطَرَ عَلَى الأبرَارِ وَالفُجَّارِ» (متّى 5: 43-45).
نظرته إلى الصغار والمرأة، وإلى المرضى وإلى الخطأة والأغراب والمنبوذين، لم تكن نظرة ازدراء أو دينونة، بل كانت نظرةً تُحرّر الإنسان وتُكسِبُه الشفاء وتعيد إليه صحة النفس والجسد، وترفع من كرامته. كلُّ إنسان في نظر يسوع مدعوٌّ إلى أن يكون ابنًا لله، وإلى أن يكون شريكًا في خلاص الإنسانيّة مع الربّ يسوع الفادي.
علّمنا يسوع أيضًا أن نصلّي. كان يحضّ تلاميذه وكلّ الشعب قائلاً: «ر. صلّوا ولا تملّوا» (لوقا 18: 1 ولوقا 21: 34) و«إذَا صَلَّيْتٌم فَلا تَكُونُوا كَالمُرائِين… لا تُكَرِّرُوا الكَلامَ عَبَثًا مِثلَ الوَثَنِيِّينَ» (متّى 6: 5 و7). ولمّا دنا إليه تلاميذه وسألوه أن يعلّمهم كيف يصلّون، علَّمهم تلك الصلاة الرائعة التي تصلّيها الكنيسة حتى اليوم، وتدعوها «الصلاة الربّية»: «أبانا الذي في السماوات، ليتقدّس اسمك، ليأت ملكوتك، الخ…» (ر. لوقا 11: 1-4 ومتّى 6: 9-13). تملأنا هذه الصلاة بالفرح والسرور إذ تؤكِّد لنا أنّ الله أبونا، وأنّه يدعونا إلى ملكوته وإلى العمل من أجله، وإلى تقديس ذواتنا. وإنَّها تقدِّم لنا أيضًا فرح المغفرة: يغفر الله لنا كما نغفر نحن بعضُنا لبعض.
حمل يسوع المسيح خطايا البشر وآلامهم. وقد دفعه حبُّه لأبيه ولنا إلى قبول الموت من أجلنا ليفتدينا من عبوديّة الخطيئة ونتائجها، ويقيمنا إلى الحياة الأبديّة والمجد.
جاء ليشهد للحقّ، وليمنح البشر الحياة الوافرة والمجد، هنا وما بعد هذه الحياة. وقد علّمنا أنَّ حياتنا هي هبة من الله، وهي هبة يجب أن نستحقَّها، بجهدنا وبتجاوبنا مع نعمته تعالى. ولذلك بيَّن لنا في مثل الوزنات ضرورة استثمار كلِّ ما وهبنا إيّاه الله من نِعَم.
ومن أجل أن يُبقِيَ حضوره وعمله الخلاصي مستمرَّيْن وفاعلَيْن فينا إلى آخر الأزمنة، دعا يسوع إليه بعض التلاميذَ الذين اختارهم وأقامهم جماعةَ محبّة ورسلا لإعلان بشرى الخلاص. أراد أن يكونوا شهودًا له، ونورًا للعالم، وخميرة تغيّر وجه الأرض. والذين رأوهم آمنوا بكلامهم وبمعلِّمهم الإلهي، ومجّدوا الآب السماوي. فأصبحوا على مثاله علامة وسرًّا للآب، كما أنّه هو علامة الآب وسرّه. وكوَّنوا جماعة كنسيّة تستنير بكلمته وتحيا بالأسرار المقدَّسة التي تمنح جميع الذين يقبلونها الحياة الإلهيّة، وتوحّدهم بالمسيح وفي ما بينهم.
 
7.     المسيح الربّ هو الكاهن، أي الوسيط الوحيد بين الله والناس، لأنّه جمع في ذاته بين الطبيعتين الإلهيّة والإنسانيّة. وهو النبيّ والمعلّم الذي حمل إلى العالم نور الحقيقة الشاملة عن الله والإنسان والكائنات. وهو أيضًا الملك، أي الراعي والمدبّر والخادم الذي أحبَّ خرافه فخدمهم وغسل أرجلهم وشفى مرضاهم وحنا على فقرائهم وغفر خطاياهم… وبذل نفسه حتى الموت من أجلهم.
لكنَّ هذا الوسيط الأوحد لم يشأ أن يتفرَّدَ بالعمل وحده. بل أراد أن يُشرِكَ البشر في عمل خلاصهم، فدعا تلاميذَ ومعاونين له، وأسّس جماعة المؤمنين ليعملوا معه من أجل خلاص العالم.
فالكنيسة، شريكة المسيح وجسدُه السرّيّ، تواصل حضوره وعمله عبر الأزمنة والأمكنة. ولأجل ذلك هي في طبيعتها ومهمَّتِها تقوم بأدوار المسيح الثلاثة: أي إنهّا تشاركه في كهنوته ونبوّته وملوكيّته. إنَّها تقوم بهذه الأدوار بنوع خاصّ في شخص الأساقفة والكهنة، لكنّها تحملها أيضًا وتمارسها بنوع عامّ في كلِّ مؤمن وجماعة من أبنائها الرهبان والراهبات والمكرَّسين والمكرَّسات والعلمانيِّين. فالكنيسة تعي جيّدًا ما لكلّ معمّد من حقوق وما عليه من واجبات، وتفرح عندما يقوم العلمانيّون برسالتهم جنبًا إلى جنب مع الرعاة وبرعايتهم.
 
8.     وصف المجمع الفاتيكاني الثاني هوّية العلمانيّين ورسالتهم في الكنيسة في الدستور العقائديّ في الكنيسة «نور الأمم»، قال: «إنَّهم المسيحيّون الذين ليسوا أعضاء في الدرجات المقدّسة، ولا في الحالة الرهبانيّة التي أقرَّتها الكنيسة، أي المسيحيّون الذين، منذ انضمامهم إلى جسد المسيح بالمعموديّة واندماجهم في شعب الله، جُعلوا شركاء، على طريقتهم، في وظائف المسيح الكهنوتيّة والنبويّة والملوكيّة. وهم يمارسون، في الكنيسة وفي العالم، الرسالة التي هي رسالة الشعب المسيحيّ بأجمعه. إنَّ الطابع الخاصّ الذي يتميّز به العلمانيّون هو الطابع الزمنيّ… فدعوتهم الخاصّة بهم هي أن يطلبوا ملكوت الله من خلال إدارة الشؤون الزمنيّة التي ينظّمونها بحسب مشيئة الله. إنّهم يعيشون في وسط العالم، وهم مرتبطون بمختلف واجبات العالم وأعماله كلّها، وببيئة الحياة العائليّة والمجتمع… ففي موضعهم هذا، دعاهم الله ليعملوا، مثلَ الخميرة في العجين، وبهَدْيِ الروح الإنجيليّة، لتقديس العالم، وليُظهِروا المسيح للآخرين ولا سيّما بشهادة حياتهم… ويوجّهوا جميع الحقائق الزمنيّة… حتى تَتِمَّ وتنمو باطِّراد بحسب روح المسيح، وتكون دائمًا لمجد الخالق والفادي»[4].
ترتكز إذًا دعوة العلمانيّين على انتمائهم الكامل إلى الكنيسة، فهُم شعب الله، وهم يشاركون على طريقتهم في وظائف المسيح الثلاث. وترتكز رسالتهم على الطابع الخاصّ لدعوتهم، أي إحلال ملكوت الله في الأمور الزمنيّة، لتقديس الناس وتطعيم النظام الزمنيّ بروح الإنجيل. وهم مدعوُّون بحكم رسالتهم إلى أن يقدّسوا أنفسهم، كما قال لهم معلِّمُهم: «كُونُوا أنتُم كَامِلِين كَمَا أَنَّ أَبَاكُمُ السَّمَاوِيُّ كَامِل» (متّى 48:5).
 
9.     للعلمانيّين دورهم في الكنيسة منذ نشأتها. والرعاة يقدّرون مكانتهم ورسالتهم في الجسد السرّي الواحد، ويعرفون جيّداً أنّهم مدعوّون جميعًا إلى المشاركة في إحياء هذا الجسد بنعمة الروح القدس. صحيح أنَّ هذا الدور قد تقلّص في فترة معيّنة من تاريخ الكنيسة، وانحسر بصورة شبه كلّيّة في الإكليروس. إلاّ أنّ الكنيسة ظلَّتْ دومًا تعي أهميّته ووجوب وجوده وتنشيطه واستعادة ما فُقِد. وقد تحقَّقَ ذلك في المجمع الفاتيكاني الثاني، وقبْلَه أيضًا وبَعده، على أيدي روّادٍ في رسالة العلمانيّين.
لا تنحصر الشهادة للمسيح إذًا في الإكليروس أو الأشخاص المكرَّسين. فالعلمانيّون أعضاء حيّة وفاعلة في جسد المسيح السرّيّ، وهم مسؤولون عن العيش بحسب إيمانهم وعن الشهادة له ونشره. موقعهم في الصفوف الأماميّة من المجتمع، في كل مجال، في العمل والتجارة والصناعة والتربية والصحّة والعلم والثقافة والسياسة والإعلام إلخ… إنّهم مسؤولون عن حمل الإنجيل إلى هذه القطاعات وتقديسها، ولو بدا الأمر لهم أحيانًا صعبًا، حتى ولو كان في هذه القطاعات أحيانًا عداء للإيمان والإنجيل. فعلى المؤمن الرسول أن يكون أمينًا لرسالته، مهما كلّفه الأمر من جهد وتضحيات، وأن يكون شجاعًا في جهاده صامدًا في وجه التيّارات المعارِضة.
والشهادة للمسيح تحتاج إلى نعمة من الله، يحصل عليها المسيحيّ بالصلاة والليتورجيا والإقبال على الأسرار، وتحتاج أيضًا إلى تثقيف دينيّ مستمرّ ومتكامل.
 
10.    في الكنيسة فئتان تكوِّنان جسدًا واحدًا، هو جسد المسيح السرّيّ وهما: أوّلاً الرسل وكلُّ الرعاة الذين سلّمهم الربُّ كهنوتَ الخدمة، وثانيًا المؤمنون الذين يحقّقون دعوتهم ورسالتهم في المواقع والحالات التي فيها يقيمون ويعملون. والفئتان متكاملتان، ولا توجد الواحدة دون الأخرى. فالرعاة المكرَّسون يختارهم الرب من بين العلمانيّين، وقد أُقيموا لخدمتهم الروحيّة وما تقتضيه هذه من خدمات زمنيّة، وقد قَبِلوا سرَّ الكهنوت. بينما يتمتّع العلمانيّون بالكهنوت العامّ الذي يمنحهم إيّاه سرُّ العماد المقدّس، لتحقيق دعوتهم والشهادة للإنجيل، برعاية الأساقفة والكهنة.
إنَّ رسالة العلمانيّين في الكنيسة والعالم تأخذ مثالها من يسوع المسيح ابن الله وابن الإنسان، وتتأصّل في عمله وتعليمه، أي في إنجيله المقدَّس، وتتمّ في الوحدة مع أعضاء جسده أي الكنيسة.
 
11.    أيّها الشباب، اعلموا أن السعي إلى الكمال يتطلَّبُ جهدًا وتخلّيًا عمّا هو دون أو سيّئ، لتتجاوزوه وتحصلوا على ما هو أفضل منه. هناك مع الأسف عددٌ من شباب عصرنا لا يقوى على الجهد والتجرُّد والالتزام. والأسباب كثيرة: إعلامٌ لا يأتي دائمًا بالحقيقيّة وأمثلةٌ غيرُ صالحة من كبارٍ ومسؤولين. بل ثمَّة تيّارات تضع في المرتبة الأولى الربح والسلطة والاستئثار، وتعزّز الإباحيّة والفساد، فتطبع حضارة عصرنا بطابع سلبيّ وتجرف في خضمِّها شبّانًا وشابّات عديدين. لأجل ذلك، لكي لا تنجرفوا ولا تنقسموا على ذواتكم، ولا تمضوا حزانى في مسيرة حياتكم، نناشدكم أن تكونوا أقوياء وألا تخافوا صعوبات هذه الحياة. فالربّ يسوع حاضر بينكم ومن أجلكم، ينظر إليكم بحبّ كبير ويدعوكم إلى البطولات وإلى القِمَم. لا تغرقوا في مياه المستنقعات الراكدة، بل سيروا بحزم إلى ينبوع الماء الحيّ.أيّها الشباب، اعلموا أن السعي إلى الكمال يتطلَّبُ جهدًا وتخلّيًا عمّا هو دون أو سيّئ، لتتجاوزوه وتحصلوا على ما هو أفضل منه. هناك مع الأسف عددٌ من شباب عصرنا لا يقوى على الجهد والتجرُّد والالتزام. والأسباب كثيرة: إعلامٌ
عالمنا اليوم ضائع وهائم يبحث عن خلاصه وسعادته. والعالم والكنيسة ينتظران شبابًا أسخياء أقوياء شجعانًا ومحبّين يندفعون للمساعدة. فلا تتردّدوا، ولا تتقوقعوا ولا تتهرّبوا من مسؤوليّتكم، ولا تكُنْ الشدائد أو الخجل أو المكاسب الرخيصة عائقًا دون سعيكم. أنتم أمل الكنيسة والعالم.
ويعرف المسيحيّ جيّدًا أنَّ «الطَّرِيقَ المُؤَدِّيَ إلَى الحَيَاةِ ضَيِّقٌ» (ر. متّى 14:7)، وأنَّ من أراد مجد القيامة عليه أولاً أن يحمل صليبه كما حمله يسوع قبْلَه (ر. لوقا 26:24). أليس أنَّ الشباب هم الأجدر في تحدّي الصعوبات وحمل الصليب والمثابرة حتى الوصول إلى القمّة؟ نعم، أيّها الأعزّاء، إنّكم قادرون على حمل الصليب لتقدِّموا يسوع، المخلِّص الوحيد، للشبيبة وللعالم، وللمؤمنين وغير المؤمنين على السواء. أيّها الشباب، أنتم الرُسل. فكونوا أقوياء وابذلوا نفوسكم في سبيل غيركم.
 
الفصل الثاني
الشهــادة المسيـحيّة
«فَلْيُضِئْ نُورُكُم لِلنَّاسِ، لِيَرَوْاأعمَالَكُم الصَّالِحَة،
فَيُمَجِّدُوا أَبَاكُم الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ» (متّى 16:5).
أولاً: كيف وعمَّاذا نشهد؟
12.    أيّها الشباب، قَبِلتم المسيح وآمنتم به. بالمعموديّة لبستموه، وفيه هو الابن الوحيد صرتم أبناء الله. فيجب عليكم أن تجدِّدوا باستمرار معرفتكم لإيمانكم ومقتضياته، لتعيشوا وفقًا لكرامة دعوتكم وتشهدوا في كل ظرف وحال للرب القائم من بين الأموات.
المعموديّة ولادة جديدة، فيها نلبس الابن، وفيها نصير أبناء الآب وهياكل للروح القدس. تضع المعموديّة فينا بذار النِعْمَة، بها نحيا وننمو ونعطي ثمارًا. إلاّ أنَّ هذه البذار تحتاج إلى غذاء وعناية. وقد هيّأ الله لنا، في كنيسته، الوسائل الكفيلة بذلك.
أوّل هذه الوسائل هو كلام الله المحيي الذي تحفظه الكنيسة وتقدّمه لنا. إنّه قصة خبرةٍ عاشها الإنسان مع الله، وهو بُشْرى الخلاص والمصير المجيد. إنه رسالة حبٍّ كتبها الله للإنسان. وهو كما قال الربّ: «نور وحقّ وحياة»، به يحيا الإنسان، وليس فقط بالطعام (ر. متّى 4:4)، به نعرف الله وتدبيرَه الخلاصيّ عبرَ الأجيال، وتجسُّدَ ابنه وفداءَه، وطبيعةَ الإنسان ودعوتَه ومصيره، ووصايا الله التي أعطاها للناس لينتصروا بها على الشرّ، في الخارج وفي داخل الذات، فيقوموا للمجد والحياة الأبديّة.
وكم من أبنائنا الشابّات والشبّان خلبت عقولهم وقلوبهم مبادئُُ ونظرياتٌ وفلسفات برّاقة وخدّاعة، لا تستطيع أن تعطيهم الحياة الحقيقيّة، فساروا وراء مظهر حياة يقودهم إلى الموت، لأنّهم بعيدون عن كلام يسوع المسيح ومثاله، هو وحده القادر على إعطاء الحياة، لأنه هو الحياة.
إنّ الذين قبلوا النور يبقون في جهلهم إن لم يسعوا كل يوم إلى النور ليزدادوا معرفة لسرّ المسيح وحبٍّا له واتّحادًا به. كلام الله مثل حبّة القمح، التي تحيا وتثمر عندما تقع في أرض جيّدة على شرط أن تتلقَّى العناية اللازمة بالإضافة إلى نور الشمس وماء المطر.
لذلك وجب على المسيحيّ، الساعي إلى الحياة، أن يتناول الكتاب المقدّس من يد كنيسته، فيتأمّل فيه ويلازمه ويتعرّف على سرّ الله وإرادته، وعلى أسرار الكون والإنسان والحياة. وعليه أيضًا أن يسعى بأمانة لأن يعيش بحسب الكتابِ لأنَّه كلام الله.
 
13.    إنّ الله يعرف الإنسان وحاجاته. فكما أعطاه وسائل طبيعيّة لحياة جسده، كذلك أراد أن يوفّر له الوسائل لحياته الروحيّة. لذلك أنشأ يسوع المسيح في كنيسته الأسرار المقدّسة وسائلَ تنطلق من الطبيعة، فتصير بالتقديس وسائل فائقة الطبيعة من أجل حياة فائقة الطبيعة. فالماء والزيت والخمر والخبز وما سوى ذلك ممّا نستخدمه في منح الأسرار المقدَّسة، هي أصلاً لحياة الجسد، ولكنَّها تتحوَّل بإرادة يسوع المسيح وتصير وسائلَ لحياة الروح.
إنّنا نجد مع الأسف مسيحيّين كثيرين من أبنائنا يجهلون معنى الطقوس وطبيعة الأسرار وضرورة تناولها وكيفيّة ممارستها. ونجد أيضًا من يستخفُّ بها. مع أنَّ الربّ يسوع المسيح تكلَّم بوضوح على ضرورة الأسرار لمَّا قال في المعموديّة: «فَمَن آمَنَ وَاعتَمَدَ يَخلُصْ، وَمَن لَم يُؤمِنْ يُحكمُ عَلَيهِ» (مرقس 16:16)، وقال في الإفخارستيا: «إذَا لَم تَأكُلُوا جَسَدَ ابنِ الإنسَانِ وَتَشرَبُوا دَمَهُ فَلَن تَكُونَ فِيكُمُ الحَيَاةُ» (يوحنا 52:6).
تَكمُن قيمة الطقوس والأسرار المقدَّسة في معناها ومفاعيلها. فهي تجعل حاضرًا الحدث الأساس الذي قام به المسيح لخلاص العالم. إنّها تجديد لسرّ التجسّد والفداء في كل مراحله، تجعله حاضرًا الآن وهنا، بحيث يعيشه المؤمنون اليوم كما لو كانوا يعيشونه في حينه. بذلك تصبح الأسرار وسائل فائقةَ الطبيعة فاعلةً ومقدِّسة.
في الطقوس والأسرار نأخذ أشياء الدنيا ونقدّسها، فتقدّسنا بدورها وترتفع بنا إلى قداسة الله ومجده. ولهذا لا يليق بنا اتخاذُ هذه المقدَّسات والانحدارُ بها إلى المستوى الأرضي، كما يفعل بعضنا في مناسبة الأعياد وقبول الأسرار، فبدلاً من أن يجعلوا الأعياد والأسرار ينابيعَ نِعَمٍ، فإنَّهم يحوّلونها إلى تقاليدَ ومناسبات دنيويّة.
الإيمان والعقل
14.    البشر على العموم، والشباب بنوع خاص، هم في سعي شبه دائم إلى معرفة الحقيقة، حقيقة وجود الإنسان وأصله ومصيره. لأنّ لدى الإنسان رغبة ملحّة في معرفة الله والاتّحاد به. عقله هو الموهبة العظمى التي تميّزه عن سائر المخلوقات، به يعرف الكون ونفسه والله. حاول الإنسان منذ بدء وجوده أن يكتشف هذا السرّ. والفلسفاتُ والأديان والفنون كلّها تعبّر عن هذا الشوق العميق إلى معرفة الله والاتّحاد به.
غير أنَّ عقل الإنسان، بسبب الخطيئة المعطِّلة، ليس قادرًا وحده على إدراك الحقيقة بكلّ تألّقاتها. فدنت الحقيقة منه، وأتت للقائه وتجلّت أمامه، وهذا ما نسمّيه بالوحي، به أظهر الله ذاته للإنسان من خلال مخاطبته بعض المختارين الذين صاروا ملهَمين وشهودًا. «وَلَمَّا تَمَّ الزَّمَانُ» (غلاطيه 4:4) ظهر في ابنه، الكلمة المتجسّد.
العقل إذاً هو الوسيلة التي بها يدرك الإنسان الله، وهو لا يدركه كما يليق إلاّ إذا أتى الإيمان إلى نجدته. فلا تَناقُضَ بين العقل والإيمان كما يدَّعي البعض، بل هما متعاونان متكاملان في مسيرة بلوغ الإنسان إلى غايته التي هي الله سبحانه وتعالى.
لا يمكن للعلم البشري أن يتخطّى حدود المادة والمكان والزمان والمقاييس… بينما الإيمان، يتناول، انطلاقًا من المحسوس، ما هو بعده وفوق المادة والزمان والمكان. في العِلم، يسأل العقل عن «كيفيّة الأمور»، كيف تجري أمور الكون والبشر. أما في الفلسفة والإيمان فالسؤال هو «لماذا»، ما الهدف من وجود الكائنات؟
في العالم نظريّات فلسفيّة تروّج لفكرةِ تناقُضِ العلمِ والعقلِ مع مقتضيات الإيمان، أو تعمل للفصل بينهما. وإنّنا لنرى شبّانًا وشابّات يبحثون بإخلاص عن الحقيقة، يقعون ضحيّة هذا المبدأ الذي يرفض الإيمان كطريق يؤدّي بالإنسان إلى نموّه وكماله وبلوغ غايته الأخيرة.
يقول البابا يوحنا بولس الثاني: «من بين الخدمات التي تؤدّيها الكنيسة للبشريّة خدمة تُلزِمُها بطريقة خاصة جدًّا: وهي خدمة الحقيقة»[5]. من أُولى واجبات الكنيسة أن تسعى لتكشف للعالم عن حقيقته وحقيقة الله وأن تقدّم له مُخلِّصَه، الذي قال عن نفسه إنه «الطَّرِيقُ وَالحَقُّ وَالحَيَاة» (يوحنا 6:14). «فالمسيح، نور الأمم»، ينير العالم وينير وجهَ كنيسته التي يرسلها «إلَى الخَلقِ أجمَعِينَ» (مرقس 15:16). «والكنيسة، شعب الله بين الأمم، والتي تعرف تحدّيات التاريخ الجديدة والجهود التي يبذلها البشر في البحث عن معنى الحياة، تعرض على الجميع الجواب النابع من حقيقة يسوع المسيح وإنجيله»[6].
العقائد وتعليم الكنيسة
15.    سَلَّمَ يسوع المسيح كنيستَه مسؤوليّةَ تعليمِ حقائقِ الإيمان وشرحِها للناس، وتوضيحِ القواعد للتصرّفات والعلاقاتِ البشريّة التي يجبُ أن تستنير بهذه الحقائق، فتَصِلُ بالإنسان وبالمجموعات البشريّة إلى السعادة الحقّة وإلى الكمال.
وتحدِّد الكنيسة العقائد المسيحيّة بدقّة ووضوح، لكي تكون للمؤمنين وسواهم دليلاً ونورًا لما يؤمنون به ويفعلونه، وضمانة لعدم انحرافهم في الضلال.
تعليم الكنيسة الاجتماعي والخلقي هو بمثابة تفسير صادق وشرعيّ للكتاب المقدّس، وقاعدة تطبيق عمليّ له في الحياة الحاضرة، في مواجهة المتغيّرات البشريّة والاجتماعيّة.
فتقدُّمُ العلوم المختلفة وتأثيرُها على حياة الإنسان وطبيعته وعمله وعلاقاته يضع الإنسان اليوم أمام تحدّيات جديدة في ما يتعلَّق بإيمانه ومعرفته لأُسس وجوده وحقيقة مصيره. فالنظريّات متعدّدة والانحرافات كثيرة، وهناك خلط كبير في مفهوم الحضارة نفسها يُفضي بالإنسان إلى حضارة الموت وحضارة الجهل والاستغلال والظلم.
لذلك فإنَّ الكنيسة، وهي الأمّ والمعلّمة، تحرص على إيمان أبنائها ومصيرهم، وعلى مسيرة الحقِّ والمحبّة والفضائل عند البشر. الكنيسة «تميّز علامات الأزمنة» وتقدّم للبشر النور الحقيقيّ لحياتهم ولمصيرهم الأبديّ، استنادًا إلى كلام الربّ الذي لا يَغشّ ولا يُغشّ، وهو «الَّذِي جَاءَ لِيَشهَدَ لِلحَقّ» (يوحنا 37:18).
ولدى الكنيسة أساليب متنوّعة لتنشئة المؤمنين تنشئةً مسيحيّة صالحة. فبالإضافة إلى التربية الدينيّة من خلال الليتورجيا والأسرار المقدّسة، هناك كلمة الله في الكنائس والمدارس، في الوعظ والإرشاد. وتستخدم الكنيسة وسائل الإعلام والإعلان الحديثة، واللقاءات المصغّرة لشرح الإنجيل المقدس. وتساعد العائلات في تربية أبنائها وبناتها، لتسلّم لهم حقائق الإيمان وتربّيهم على الالتزام في الكنيسة. وتولي اهتمامها للحركات الرسوليّة والأخويات والجماعات الكنسيّة التي ترافق المؤمنين، ولا سيّما الشباب والأولاد، والتي تعوّض عمّا ينقصهم من تنشئة مسيحيّة واسعة.
 
16.    الأرض معرّضة على الدوام للانحلال والدمار، عجينتها وملحها عرضة للفساد، ونورها للانطفاء. وتعليم الكنيسة عرضة للتشويه أو العداء. وعدد كبير من الناس يتشكّى ويتذمّر من الفقر والفساد في الأرض واضعًا الملامة على سواه، دون أن يفعل أحيانًا كثيرة ما عليه هو من واجب لتغيير ذاته أولاً من أجل تغيير العالم بعد ذلك. فمن يبدأ بالعمل؟
لقد حمّلَنا الربّ يسوع، نحن تلاميذَه، والمعمّدين جميعًا، مسؤوليّة الحفاظ على سلامة العالم والعمل دومًا ومن غير أن نستسلم لليأس لنسير بالعالم إلى الأفضل، عندما قال لنا: «أَنتُم نُورُ العَالَم، أَنتُم الخَمِيرَةُ فِي العَجِين، وَأَنتُم مِلحُ الأَرض…» (ر. متّى 13:5-14 و33:13).
على كلّ معمّد أن يكون أمينًا ليسوع المسيح وللشهادة له. وإنّنا نعرف أنَّ نقل البشارة يتمّ بالكلام والسماع، وهذا لا يتوفّر في كل الأحوال والأحيان. ولكنه يتمُّ أيضًا بشهادة الحياة، وهذا واجب في كل الأوقات والحالات. فالمسيحيّ لا يعيش إيمانه في الطقوس والأسرار فقط، بل يعيش إيمانه في عالمه، وفي وطنه، وفي مجتمعه، وفي عمله، وفي بيته ورعيّته. وأمّا الطقوس والأسرار المقدّسة فإنّها تؤهّله وتدفعه إلى عيش الإيمان بكلِّ موجِباته في العالم.
الفساد في الأرض كبير. والله بحاجة إلى كلِّ إنسان ليفيض نعمته على الأرض. كما أنَّ الإنسان بحاجة إلى الله ليتحمَّل مسؤولياته. المسيحيّ المؤمن صاحب عقيدة وملتزم بها، وهو مطيع لله وشجاع ومحبّ يحمل صليبه بفرح، متشبهًا بمعلّمه، قائمًا مقامه وعاملاً معه لخلاص العالم.
المسيحيّ يعيش في سلام وفرح لأنَّ فيه رجاء القيامة، ولأنّه لم يعد منقسمًا على ذاته، ولا منفصلاً عن الله والآخرين، ولأنَّ حضور الربّ يملأ كيانه ويرفعه إلى قداسة الله ومجده.
لقد نعتَ نيتشه، الفيلسوف الألماني، المسيحيّين بأنّهم أناس لا يبدو عليهم فرح الخلاص. قد يكون على حقّ بالنسبة إلى بعض المسيحيّين الذين عرفهم. أمّا المسيحيّ الذي يعيش فداء المسيح وخلاصه وقيامته، في جسده وروحه، فلا يسعه إلاّ أن يعيش بفرح وسلام إلهيَّيْن.
شباب مناضل من أجل حياة مسيحيّة لائقة
17.    للشبّان والشابّات المؤمنين رؤًى وطموحاتٌ ومُثُلٌ وقِيَم، ولديهم الشجاعة والطاقة ليواجهوا شتّى الصعوبات بعزم وثبات، ويعرفون كيف يتضامنون ويتعاونون من أجل الخير العام الأسمى.
أبناءنا الشبّان والشابّات، نحن نعرف وندرك جيّدًا جهادكم أنتم ورفقاءَكم، في بلداننا، في مواجهة التحدِّيات والصعوبات المعيشيّة والاجتماعيّة، من أجل حياة لائقة وكريمة. نعرف الضغوط الهائلة التي تتعرّضون لها في حياتكم الفرديّة والعائليّة والدينيّة، في المدن وفي الأرياف، بسبب البطالة والفقر والتهميش، والحروب والخوف من المستقبل… والتي ربّما أضعفت إيمان البعض منكم، فسعى إلى الهجرة أو إلى الانسحاب من الحياة العامة، أو إلى اليأس والحقد. إنَّنا نقدّر صمودكم في عيش إيمانكم ورجائكم بربّكم، وفي إخلاصكم لأوطانكم ومحبَّتكم لإخوتكم وأخواتكم، وفي مواظبتكم على العمل من أجل مجتمع أفضل، حتى ولو كلَّفكم ذلك أن تقعوا مثل حبَّة الحنطة في الأرض لتأتوا بثمر كثير.
في جهادكم لا تتخلّوا عن الصلاة وقبول الأسرار، ولا سيّما الاشتراك الواعي في القدّاس وتناول جسد الربّ الذي هو غذاء المؤمن وقوّته. فالصلاة والأسرار المقدَّسة هي سلاحكم وطريقكم إلى الله والبشر. لستم وحدكم في جهادكم. إنَّ الربَّ يسوع حاضر بينكم وهو سندكم. ومن دونه لن تقدروا على الخير وعلى النتائج التي ترجونها من خلال جهادكم لصالح بلادكم وكنائسكم.
 
18.    الحبّ، كلٌّ يتكلّم عنه ويصفه ويبحث عنه ويترنَّمُ به. وليس الكلّ يفهمه ويعيشه كما أراد الخالق. ننطلق في المسيحيّة، في مفاهيمنا وعقائدنا وتصرّفاتنا وعلاقاتنا، من محبّة الله للإنسان. هذا هو الحبّ الذي يجب أن يكون مرجعيَّتنا لندرك حقيقة الحبّ وعظمته عند البشر، ولا سيّما حبَّ المرأة والرجل.
كم من حبّ يجعله البعض مزيَّفًا في الأرض، وكم من حبّ مناقض للحبّ، لأنه حبّ أنانيّ للذات على حساب الآخرين. إنه لأمرٌ طبيعيّ وواجب أن يحبّ الإنسان نفسه ويؤكّد هويته ويحافظ عليها وينمِّيها. لكنَّ هذا الحبّ للذات يسيء إلى الإنسان وإلى علاقاته بالآخرين إذا كان منغلقًا على نفسه ولم يُفضِ إلى محبّة الآخرين. المحبّة الحقيقيّة المنفتحة على الآخرين تبني البشريّة والكون، بينما المحبّة المنغلقة تدمّرهما.
بين محبّة الآخرين ومحبّة الذات فرق دقيق وغير واضح لكثير من الشباب الذين لا يعرفون الحبّ معرفة كافية، لذلك كثر المخطئون وتعدّدت الضحايا. إنّنا نأخذ في الحياة لنعطي، فتنمو حياتنا وتَسعَدُ وتثمر. وعندما نأخذ ولا نعطي تختنق حياتنا وتموت. هذه سنّة الحياة والطبيعة: الأرض تعطي والشمس تعطي، والشجر يثمر، والمطر يُنمي وحبَّة القمح تتكاثر… والإنسان يجد في عطائه وحبّه سعادته وسعادة الآخرين.
إنَّ الله، الذي هو في جوهره محبّة، هو عطاء وبذلٌ للذات: ففي قلب الله، الآب يعطي ذاته كلّها للابن، والابن يعطي ذاته كلّها للآب، والروح هو هذا العطاء المتبادل. ولمّا خلق الله الكون والإنسان خلقهما بهذا الحبّ.
 
19.    في البدء، عندما خلق الله الإنسان رجلاً وامرأةً، كانت العلاقة بينهما نقيّة وعادية. ولمّا خطِئا، أفسدت الخطيئة هذه العلاقة وفسد الحبّ وفسد ما في الكون. لكنّ الله، بعد الخطيئة، عاد فعلّم البشر المحبّة بواسطة أنبيائه ورسله وقدّيسيه، إلى أن ظهر الابن الوحيد. فعاش بين الناس، وبحياته وبتعاليمه، علَّمَهم الحبّ، في أسمى تجلّياته، حتى بلغَ الحبَّ الأعظم، فبذل نفسه مطيعًا حتى الموت والموت على الصليب: «لَيسِ لأحَدٍ حُبٌّ أَعظَمُ مِن أَن يَبذِلَ الإنسَانُ نَفسَهُ فِي سَبِيلِ أَحِبَّائِهِ» (يوحنا 13:15). الحبّ إرادة وعمل من أجل خلاص الآخرين وإسعادهم، ولو كلّف ذلك تحمُّلَ التضحيات من أجلهم. بل التضحية في سبيل الغير هي العلامة الحقيقيّة للعطاء والحبّ. يكفي أن ننظر إلى والدِين محبِّين كيف يبذلون ما عندهم وأنفسهم في سبيل حياة أولادهم وسعادتهم.
ونتعلّم الحبّ أولاً في العائلة، فيها نولد ونعيش، وننمو ونكبر. والحبّ هو الذي يحيي الإنسان ويُنمِيه النمُوَّ الصحيح. وبهذا المعنى أيضًا قال الربّ يسوع: «لَيسَ بِالخُبزِ وَحدَهُ يَحيَا الإنسَانُ، بَل بِكُلِّ كَلِمَةٍ تَخرُجُ مِن فَمِ الله» (متّى 4:4)، وكلمة الله هي أولاً الحبّ المطلق.
 
20.    يقول البابا يوحنا بولس الثاني في الإرشاد الرسولي «رجاء جديد للبنان»: «إن الكنيسة تُعوّل على الشباب لإعطاء الحياة الكنسيّة والحياة الاجتماعيّة انطلاقة جديدة. ومن ثمّ فالجماعات المسيحيّة مدعوّة إلى أن تقدِّم لهم مجالاً أوسع للاندماج في كل نشاطاتها، فيغدون بذلك حاملي «البشارة الجديدة»، وزارعي الكلمة في نفوس غيرهم من الشباب، مجنِّدين حيويَّتَهم الخاصّة للتجدّد الكنسي. وهم مدعوّون أيضًا ليكونوا مشاركين، مشاركة كاملة، في بناء المجتمع. ولذا ينبغي أن يتلقَّوا تنشئة فكريّة وروحيّة متينة، تَروي عطشهم إلى المطلق والى الحقيقة؛ وحيثما يسلكون يجب أن يجدوا ما يحتاجون إليه من مواكبة روحيّة»[7].
ويقول البابا في مكان آخر: «إنّ للكنيسة أشياء كثيرة تقولها للشباب، كما أنَّ لهؤلاء أشياء كثيرة يقولونها للكنيسة. ومن شأن هذا الحوار المتبادل، الذي يجب أن يجري بمودّة كبرى وبصراحة وجرأة، أن يعزِّزَ اللقاء والعلاقات المتبادلة بين الأجيال، وأن يصبح مصدر ثروة وفتوّة للكنيسة وللمجتمع المدنيّ أيضًا»[8].
الالتزام في خدمة الكنيسة
21.    أمّا الشباب والتزامهم في الرسالة الكنسيّة، فمنهم المتوانون، وأنصار المجهود الأقل. ومنهم الساعون إلى المادّة واللذّة فلا يقيمون وزنًا لأمور الروح. ومنهم أصحاب هوايات رياضيّة أو فنّية أو غير ذلك يرتاحون إليها أكثر ممَّا يرتاحون إلى العمل في الكنيسة. وهناك الملتزمون في جماعات وأحزاب متعدّدة، والذين يعتبرون أنَّه لم يعد لديهم وقت يوظّفونه في قطاعات والتزامات أقلَّ فائدة وأهمّية في المجتمع. وهناك الخائفون من القيام بأيّ التزام يحرمهم بعض أوقاتهم ويحدّ من «حرّيتهم». وهناك أخيرًا الذين لا يحبّون رجال الدين ينعتونهم بالتسلّط فيبتعدون عنهم وعن الكنيسة.
لكنَّ عددًا لا يُستهان به من الشبّان والشابّات، وهو في نموّ وازدياد، يقوم اليوم بدور فاعل في كنائسنا وفي نشاطاتها ومؤسّساتها. يقومون بذلك بدافع من إيمانهم بالله ومحبّتهم للكنيسة ولخدمة البشر. هؤلاء الشباب هم ربيع الكنيسة ورجاؤها وفخرها.
مقابل ما يقوم به الشباب في الكنيسة، يظنّ بعض الكهنة الرعاة، أو بعض الرهبان أو الراهبات الذين يعملون في الحقل الرعوي، وهم قلّة، أنّ المسؤوليّة والقيادة في الكنيسة هي مسؤوليّة الإكليروس فقط، وأنّ أيَّ دور رسميّ يقوم به علمانيّون في الشؤون الرعويّة قد يقلّل من مسؤوليّتهم هم. فهم يعتبرون العلمانيّين قاصرين وغير مؤهَّلين. لكنَّ العددَ الأكبر من كهنة كنائسنا يولون دور العلمانيّ ومشاركته في جسد المسيح الواحد أهميّة كبيرة، كما يُشير إلى ذلك بولس الرسول (ر. 1 قورنتس فصل 12). ويعرفون كيف يتقرّبون من الشباب، فيُصغون إليهم، ويتعرَّفون على قضاياهم، ويشاركونهم أفراحهم وأحزانهم والصعوبات التي يواجهونها. ويساعدونهم على تنشئة أنفسهم في لقاءات صداقة وتضامن وفي أجواء من الاحترام والفرح والإفادة الروحيّة والإنسانيّة. وبفضل هذا التفهُّم وهذه الرعاية، يتوصَّل الشباب إلى معرفة دعوتهم ورسالتهم في الكنيسة.
يدرك الرعاة جيّدًا أنّ لدى الشباب طاقات مميَّزة، وأنَّ عندهم قدرة كبيرة على العمل والعطاء، وأن هناك أمورًا يجيدون القيام بها في خدمة الملكوت، أفضل ممّا يتوقّعون، وربما أفضل ممّا هم عليه قادرون. إنهم يعون أهميّة مشاركتهم في أيَّ عمل رسوليّ أو رعائيّ أو اجتماعيّ. والشباب من جهتهم، عندما يعرفون أنّهم محترَمون ومقدَّرون في كنيستهم فإنّهم يلبُّون مختلف الحاجات فيها ويقومون بواجبهم في خدمة ملكوت الله، بمجّانيّة وفرح[9]. ومع ذلك، إن لم يجد الشباب التفهُّمَ الكافي أو الرعاية اللازمة، فعليهم أن يدركوا أنَّهم يخدمون أولاً وآخرًا سيّدًا واحدًا هو الربّ يسوع المسيح الذي يرى ما في القلوب ويجازي كلَّ امرِئٍ حسب أعماله. ومن ثمّ يجب ألاّ يبتعدوا عن الكنيسة أو عن التزاماتهم فيها مهما حصل أو مهما كان سوء الفهم الذي قد يتعرَّضون له.
المجالس الرعويّة في الرعايا والمجالس الرعويّة على صعيد الأبرشيّة
22.    أمّا المجالات التي يمارس فيها الشابّات والشبّان رسالتهم ومشاركتهم في الحياة الرعويّة فهي تتوزّع على المحاور الآتية: مجالس الرعايا والمجالس الرعويّة الأبرشيّة، والحركات الرسوليّة.
هذه المشاركة بين الرعاة والعلمانيّين في الكنيسة تحتاج إلى تنظيم يحافظ على حسن سيرها وإلى أجهزة تنمّيها وتفعّلها. لذلك توصي الكنيسة بإقامة مجالس في الرعايا، ومجالس رعويّة عامة على صعيد الأبرشيّة. والهدف من إنشاء هذه المجالس هو النظر في القضايا والأنشطة الرعويّة، وإيجاد الحلول لها، وإنعاش حياة الرعيّة والأبرشيّة بتعاون الجميع، تحت رعاية الكاهن والأسقف[10].
يصعب على بعض الكهنة إنشاء مثل هذه المجالس لأنّهم يعتبرون أن التعاون مع العلمانيّين أمر شاقّ، وأنّ الهيئات الرعويّة عرضة للانقسامات والتحزّبات والسعي إلى المصالح الخاصّة والفئويّة، ممّا يسبِّبُ في الرعيّة شللاً في العمل وفقدانًا للمحبّة. فيفضّلون التعاون معهم بطريقة لا تقيّدهم بنظام أو التـزام.
قد يحدث أيضًا أنّ الحركات والجماعات الرسوليّة تعمل في بعض الرعايا أو الأبرشيّات بدون أيّة علاقة مع الرعيّة والأبرشيّة، وأنّ الرعيّة نفسها تفضِّل البقاء بعيدة عنها. ولا عجب إذّاك في أن ينتج عن هذا الوضع نشوء أخويات وجمعيّات بطريقة عشوائيّة وبدون مرجعيّة.
إنّنا نوصي أبناءنا العلمانيّين، ولا سيّما الشباب من بينهم، ونشجّعهم على التحلّي بالتجرّد والمحبّة اللازمة في عملهم الرعويّ لتقوية الوحدة في الرعيّة وفي الأبرشيّة بإشراف السلطات المسؤولة. لأنّ هذا هو الهدف من كل رسالة ومن إنشاء المجالس الرعويّة، وهنا نوصي أن يكون في هذه المجالس ممثِّلون عن جيل الشباب.
 
23.    الرعيّة هي جماعة من المؤمنين في كنيسة خاصّة وفي مكان محدود برعاية كاهن رعية وبإشراف الأسقف في الأبرشية[11]، تجتمع حول الإفخارستيا وكلمة الله. ويحُثُّ المجمع الفاتيكاني الثاني المؤمنين العلمانيين على أن يُظهِروا من جهة انتماءَهم إلى الكنيسة المحليّة بالمشاركة في النشاطات الرسوليّة فيها، وأن يُنَمُّوا في أنفسهم من جهة أخرى روحًا جامعة شاملة. وقد أوصى المجمع، كما ذكرنا، بإنشاء مجالس رعويّة على صعيد الرعيّة والأبرشيّة، وبمشاركة المؤمنين العلمانيّين فيها. ويضيف البابا يوحنا بولس الثاني: «إنَّ الشركة الكنسيّة، وإن كانت ذات بُعد كونيّ، فإنها تتجسّد في الرعيّة بطريقة مباشرة ومنظورة، لا تضاهى، لأنَّ الرعيّة هي الموقع الأخير لتمركز الكنيسة»[12].
ويقول البابا بولس السادس: «إنَّنا نعتقد أنَّ بِنيَةَ الرعيّة القديمة، والجديرة بالإجلال، تحمل رسالة تتلاءم جدًّا مع واقعنا الحاليّ، ولا غنى عنها، فهي التي يجب أن تُنشئَ الجماعة الأساسيّة للشعب المسيحي، وهي التي يجب أن تدرّبها على ممارسة الحياة الليتورجيّة، ممارسة طبيعيّة، وتوحّدها في الاحتفال بالليتورجيا، وإليها يعود الحقّ في الحفاظ على الإيمان وإنعاشه، لدى جماهير هذا العصر، وهي المكلّفة بأن تنقل إلى المؤمنين عقيدة المسيح الخلاصيّة، وعليها أن تمارس المحبّة بحرارة وتفانٍ، عن طريق النشاطات الخيريّة والأخويّة»[13].
«فمن الضروري إيجاد أماكن للِّقاءات، وصِيَغ حضور وعمل مختلفة، لإيصال كلمة الله ونعمته إلى مختلف الأوضاع الحياتيّة التي يعيشها البشر اليوم. فهناك، في شتَّى المجالات الثقافيّة والاجتماعيّة والتربويّة والمهنيّة وغيرها، إشعاع روحيّ ورسالة خاصّة بالبيئة، لا يمكنها أن تتمركز في الرعيّة أو أن تنطلق منها. ومع ذلك فالرعيّة نفسها اليوم تمُرُّ بعهد جديد مليء بالوعود»[14].
 
24.    المسيحيّون كلّهم فَعَلَةٌ في الكرم الواحد، وأعضاء في الجسد الواحد، وأزهار في حقل الربّ الواحد، وعازفون ومنشدون في الجوقة الواحدة. تتنوّع مواهبهم وأدوارهم وخدماتهم، وتتّسم روحانيَّتهم بميزات خاصة، تختلف باختلاف طبيعتهم وأوضاعهم، كأفراد وكجماعات، غير أنّها تتشارك وتتكامل في رسالة واحدة هي رسالة الخلاص[15].
هناك بعض الحركات، بدلاً من أن ترسِّخَ التزام أعضائها في الرعايا وبدلاً من أن تشارك المؤمنين دعوتَهم ورسالتهم في بيئتهم الرعويّة، تدفع بأعضائها إلى نوع من الاستقلاليّة، فيصبحون وكأنَّهم كنيسة منفصلة عن الرعيّة. فتؤدّي الحركة في هذه الحال إلى نتائج مناقضة لأهدافها نفسها، إذ تصبح سبب فصل وانقسام في الرعيّة، بينما الدعوة الأساسيّة لجميع المسيحيّين، ولجميع الحركات أيضًا، هي العمل على تقوية حياة الشركة في الرعيّة في جميع مظاهرها، ولا سيّما في الإفخارستيا. رعيّة واحدة وإفخارستيا واحدة: هذا هو الأساس الذي تبنى عليه جميع الحركات في الرعيّة.
لذلك فليحرص المسؤولون عن الحركات الرسوليّة، مع أمانتهم لما تتميّز به حركاتهم، على المحافظة على توجيهات الكرسي الرسوليّ وتوجيهات أساقفتِهم للانسجام مع عمل الرعيّة ومسيرتها. وليتنبَّهوا لضرورة التعاون مع كاهن الرعيّة ومع المؤمنين من أجل إنماء الرعيّة إنماءً صحيحًا ومتكاملاً. لأنّ الجميع مدعوّون إلى إغناء الحياة الرسوليّة والرعويّة لدى الجميع من خلال المواهب الخاصة بهم ومن خلال تعاونهم مع الجماعة المسيحيّة.
تهتمُّ الكنيسة بهذه الحركات، على اختلاف مواهبها، وترى فيها وسيلة صالحة وناجعة في خدمة رسالة الكنيسة. ولهذا فهي ترافقها وتزوِّدُها بالإرشادات اللازمة كي تحقّق رسالتها. ولكنّها ترى أنَّ رسالتها لا تتمّ إلاّ بروح التعاون فيما بينها ومع السلطات الكنسيّة المسؤولة. فلكي تكون الحركات الرسوليّة حركات كنسيّة، يجب أن تعترف السلطة بوجودها وتُقِرّ أنظمتها وتقبل بروحانيّتها وأهدافها وتبارك نشاطاتها، وتبقى على اطّلاع مستمَِرٍّ على أوضاعها وحسن مسيرتها.
كلُّ أسقف يقوم بهذه المهمّة في أبرشيّته. فهو المسؤول المباشر عن كل رسالة ونشاط في أبرشيّته. أما على صعيد الكنائس في بلداننا كافَّة، فهناك مجامع البطاركة والأساقفة، يضمّ الرعاة المسؤولين في مختلف الكنائس الكاثوليكيّة، وهو الذي يرعى أمور هذه الحركات والرعويّات، بشكل عامّ، ويعهد بها إلى لجان أسقفيّة مختصّة.
تقع أحيانًا في بعض الرعايا خلافات بين الحركات العاملة في الرعيّة. فليعلم المسؤولون عن هذه الحركات أنّهم يعملون في جسد واحد ومن أجل خير واحد. ومن واجبهم أن يتكاتفوا وأن يتكاملوا في خدمة الرعيّة والخير العامّ. فلا أحد يلغي أحدًا ولا أحد يحدث انقسامات في الرعيّة. وكاهن الرعيّة هو المرجع الذي يضمن تنسيق العمل الرعويِّ المشترك. ونأمل أن يكون كهنة الرعايا غير منحازين لهذه الفئة أو تلك، فهم الأب والراعي للجميع بالتساوي.
المرشدون
25.    إنَّ عددًا من الحركات والأخويّات والجماعات الرسوليّة في بلداننا تفتقر إلى مرشدين كنسيِّين يرافقونها. وإنّها تطلب من المسؤولين أن يجدوا لها المرشدين وأن يكلِّفوهم بمرافقتِها. لأنَّ وجود المرشد في الحركات أمر ضروريّ، فهو يساعد في تنشئة الأعضاء التنشئة المسيحيّة والرسوليّة اللازمة. ويزوّدهم بكلمة الله وبتعليم الكنيسة. ويرافقهم في قراراتهم ونشاطاتهم، ويساعدهم على الاندماج في عمل الكنيسة الرعويّ، ويضمن التنسيق بين جميع الحركات في الرعيّة الواحدة أو المنطقة الواحدة. وإنّنا ندعو إخوتنا الأساقفة وكهنة الرعايا إلى أن يولوا هذا الأمر الاهتمام اللازم، كما ندعو اللجان الأسقفيّة لرسالة العلمانيّينإلى الاهتمام الجدّيّ بهذه القضيّة والاستجابة لطلب الحركات. «إنَّ دور المرشدين الروحيّين، في الحركات وفي الجامعات، سواء أكانوا كهنة أم شمامسة أم رهبانًا أم راهبات أم علمانيّين، هو على جانب كبير من الأهمّية لتحقيق نموّهم ونضجهم الإنسانيّ والروحيّ، ولمساعدتهم على تبيُّنِ دعوتهم واكتشاف مكانتهم في المجتمع»[16]. ونحثُّ على تعزيز وضع المرشدين وتحضيرهم بالشكل الجيِّد للقيام بمهمَّتهم على أكمل وجه وذلك عن طريق دورات تدريبيّة في المجالات الروحيّة والرعويّة والإنسانيّة العامة.
العمل الرعويّ في كنائس الشّرق الأوسط
26.    تكلَّمْنا على الشركة الكنسيّة بين الرعيّة والأبرشيّة، وبين الكنيسة المحليّة والكنيسة الجامعة. وفي منطقتنا في الشّرق الأوسط، ونظرًا إلى تعدُّد كنائسِنا المحليّة، يجب أن نؤكِّد أيضًا على ضرورة الشركة بين مختلف كنائسنا المحليّة.
ففي أثناء انعقاد الجمعيّة السينودسيّة لكنيسة لبنان، عام 1995، «لفتت عدّة مداخلات الانتباه إلى دعوة الكنيسة الكاثوليكيّة وإلى رسالتها، وإلى ضرورة إقامة روابط أخويّة مع المسيحيّين وتعزيزها في الشّرق الأدنى والأوسط وتقويتها، وخاصّة مع الذين هم أحيانًا عرضة للإهمال… فبدافعٍ من هذه الروح، دُعي مجلس بطاركة الشّرق الكاثوليك إلى تقوية بُنياتِهِ، لِيُظهرَ بالفعل كاثوليكيّة الكنيسة في المنطقة ورسالتها الخلاصيّة لجميع سكّانها»[17].
ولهذا أنشأْنا في إطار مجلس بطاركة الشّرق الكاثوليك، أمانة عامة للشباب على مستوى الشّرق الأوسط، تتألَّف من شبّان وشابّات مع مرشديهم ورعاتهم، من كلّ الكنائس الكاثوليكيّة في بلدان المنطقة.
27.    تكلّمنا على دعوة العلمانيّين في الكنيسة ودورهم في بنيان ملكوت الله على الأرض، وذلك في شركة كاملة ومتكاملة مع جميع أعضاء الجسد السرّي. ونوَدُّ أن ننهي كلامنا في نهاية هذا الفصل على الدعوات الكهنوتيّة والرهبانيّة المنبثقة من الحركات الرسوليّة من بين العلمانيّين.
لكلِّ إنسان دعوة في الحياة، يدعوه الله إليها، ليكون عضوًا مُسهِمًا في بناء المجتمع. فعلى كلِّ شابّ وشابّة أن يتعرَّف على الدعوة التي يدعوهما الله إليها سواء في العائلة أم في الحياة المكرَّسة للكهنوت أو الحياة الرهبنة. ويدعوه الله إلى إتمام مهمّة خاصّة في الكنيسة والمجتمع. فإذا عرف الشباب دعوتهم، وجب عليهم أن يتزوَّدوا بالمؤهِّلات اللازمة في جميع المجالات، الصلاة والعلوم والمواقف الحياتيّة، ليتمكَّنوا من إتمام واجبهم في البنيان العامّ.
وغنيٌّ عن القول إنَّ المجتمع بحاجة إلى جميع أبنائه ليَتِمَّ بناؤه. وإنّه بحاجة بصورة خاصّة إلى من يكرِّس نفسه لله، ولخدمة الناس جميعًا من غير تفرقة، في حياة زهد وصلاة وعلم ومحبّة. المجتمع بحاجة إلى الكهنة وإلى الرهبان والراهبات والمكرَّسين والمكرَّسات يأخذون مكانهم في التضحيات اللازمة لاستقامته واستقراره.
وهناك الكثيرون من بين أبنائنا الكهنة والرهبان والراهبات والمكرَّسين والمكرَّسات، شبّانًا وشابّات، الذين عاشوا دعوتهم من قبل، ومارسوا رسالتهم المسيحيّة في حركات أو أخويّات أو جماعات روحيّة أخرى قبل أن يُقدِموا على تكريس أنفسهم في كهنوت الخدمة أو في تكريس الحياة الرهبانيّة. فجاءت دعوتهم نتيجة تبصّر وصلاة ونضج، وكانت، في معظمها، دعوات قويّة وفاعلة وثابتة، إذ جعلهم عطاؤهم كعلمانيّين يتذوّقون فرح الرسالة، وولّد فيهم الرغبةَ في الكمال في الالتزام الرسميّ والتكريس الشامل.
وبمثل هذه الدعوات، تجدِّدُ الكنيسة شبابها وتحافظ على نضارتها. إنَّها، على الرغم من خطايا أبنائها، كنيسة شابَّة بروح المسيح الذي يحييها. وإنَّ الربَّ يسوع دعانا جميعًا إلى القداسة عندما قال لنا: «كُونُوا أَنتُم كَامِلِينَ كَمَا أَنَّ أَبَاكُمُ السَّمَاوِيَّ كَامِلٌ» (متّى 48:5). ولماذا الخوف من بلوغ القداسة؟ إنّ القدّيسين العلمانيِّين الشباب في الكنيسة كثيرون. وقد أنجبت كنائسنا الشّرقيّة عددًا كبيرًا من القدّيسين تقدِّمُهم الكنيسة الجامعة اليوم مثالاً وبركة للعالم كلِّه.
ظهر يسوع ومريم العذراء في أرضنا والرسلُ الأوّلون والتلاميذ القدّيسون. وهذا الشّرق هو مهد المسيحيّة ولا بدّ من أن يستعيد إشعاعَه ودعوتَه إلى القداسة، ودورَه في الشهادة والرسالة. وعليكم أنتم الشباب أن تسهموا بسخائكم وببذلكم في هذه العودة إلى القداسة والإيمان في مختلف بلداننا، فتتأمّلون في مثال القدّيسين الذين عاشوا في هذا الشّرق سواء في العصور الغابرة مثل آباء الكنيسة أم في عصرنا الحديث، مثل القديس شربل، والقديسة رفقا، والقديس نعمة الله الحرديني من لبنان، والقديسة باخيتا في السودان، والطوباوية مريم ليسوع المصلوب في فلسطين، والطوباوي أغناطيوس مالويان في الكنيسة الأرمنيّة وغيرهم.
 
 
الفصل الثالث
الرسالة المسيحيّة
«اذهَبُوا فِي الأرضِ كُلِّّهَا، وَأَعلِنُوا البِشَارَةَ إلَى الخَلْقِ أَجمَعِينَ» (مرقس 15:16).
 
28.    أسّس يسوع المسيح الكنيسة وأرسلها إلى العالم كلّه، قائلاً لرسله: «اذهَبُوا فِي الأرضِ كُلِّّهَا، وَأَعلِنُوا البِشَارَةَ إلَى الخَلْقِ أَجمَعِينَ» (مرقس 15:16). فَهِم التلاميذ رسالتهم ووصيّة معلّمهم. وبعد أن حلّ عليهم الروح القدس يوم العنصرة وملأهم بمواهبه انتشروا في كلِّ الأقطار ينادون ببشارة الخلاص الذي أتى به الربّ يسوع المسيح، وحملوا إلى العالم الجالس في الظلمة والجائع إلى الحقِّ كلمة الحقِّ والحياة. «فَذَهَبَ أُولَئِكَ يُبَشِّرُونَ فِي كُلِّ مَكَانٍ، وَالرَّبُّ يَعمَلُ مَعَهُم وَيُؤَيِّدُ كَلِمَتَهُ بِمَا يَصحَبُهَا مِنَ الآيَاتِ» (مرقس 20:16).
شهدوا للربّ بكل حبّ. وبذلوا ذاتهم وكلَّ ما عندهم من أجل نشر ملكوته، غير مكترثين للصعوبات والمقاومات والاضطهاد والموت، حتى إنَّ معظمهم بذلوا حياتهم حبًّا للمسيح، فصارت دماؤهم بذارَ حياةٍ للكنيسة. ولعلّ أفضلَ تعبيرٍ عمّا كان يختلج في قلوبهم، هو كلام بولس الرسول: البِشَارَةُ فَرِيضَةٌ عَلَيَّ «وَالوَيلُ لِي إن لَم أُبَشِّرْ… وَفِي سَبِيلِهَا أُعَانِي المَشَقَّاتِ حَتَّى إنِّي حَمَلْتُ القُيُودَ كَالمُجرِمِ» (1 قورنتس 16:9 و2طيموتاوس 9:2).
29.    بشارة الإنجيل هي رسالة الكنيسة. وإنّه واجب عليها ومسؤوليّة تحملها لخلاص البشر، بناءً على تكليف من ربّها ومعلّمها. يقول البابا بولس السادس: «البشارة هي النعمة الموهوبة للكنيسة، ودعوتها الخاصّة، وهوّيّتها العميقة. وُجِدَت الكنيسة للبشارة بالإنجيل، أي لتَعِظَ وتعلِّم، وتصالح الخاطئين مع الله، ولتُبقِيَ ذبيحة المسيح دائمةً باستمرار، ذكرى لموته ولقيامته المجيدة»[18]. رسالة الكنيسة، كما أرادها يسوع المسيح، هي أن تكون في الوقت نفسه «سرًّا وعلامةً ووسيلةً لتحقيق الاتّحاد الحميم مع الله ووحدة الجنس البشريّ بأجمعه»[19].
الشباب رسل البشارة
30.    البشر، ولا سيّما الشبّان والشابّات الذين يبحثون عن معنى حياتهم وقيمتها ومصيرها ودورها في الخَلق، وكلُّ الذين يعيشون حياة ممزّقة ومنقسمة ومضطربة، هؤلاء كلُّهم ينتظرون الخلاص، ينتظرون مَن يحمل إليهم فرح الرجاء والخلاص. وتعرف الكنيسة أنَّها مرسَلَة ومكلَّفة بهذه المسؤوليّة. لذلك، قام، على مرّ العصور، شبّان وشابّات شجعان وكرماء النفوس قدّموا أنفسهم للبشارة بين شعوب غريبة وبلدان بعيدة وصعبة. فذاقوا الشدائد حتى الموت حبًّا لمعلّمهم ولإخوتهم الذين كلّفهم بمحبّتهم. هؤلاء الرُسُل هم القدّيسون الذين وَلَدُوا للمسيح والكنيسة جماعات وشعوبًا كثيرة.
الحاجات أمام الكنيسة كبيرة. الحصاد كثير. والمسيح الربّ يطلب منّا أن نسأل الآب أن يرسل عَمَلَةً إلى حصاده. فمن يتقدَّم ويقول مثل أشعيا: «هَا أَنَذَا، أَرسِلْنِي!» (أشعيا 8:6).
إنَّ حَمْلَ الرسالةِ إلى القريبين والبعيدين يقتضي تضحية وصدقًا ومحبّة وصلاة. ولا يحمِلُها إلاّ الأقوياء والكرماء. ومَن أقدَرُ على ذلك من الشابّات والشبَّان الملتزمين إيمانهَم وكنيستَهم؟ ومن أكرَمُ منهم في العطاء والبذل والمغامرة والرسالة؟ لِيُباركْكم الربّ يسوع، أيّها الشباب الأعزّاء، هو الذي أحبّكم فدعاكم إلى خدمة ملكوته.
ليس العلمانيّون في الكنيسة موعوظين فقط، يسمعون كلام الربّ على لسان الكهنة والأشخاص المكرَّسين، بل هم أيضًا، كما سبق وذكرنا، أعضاء كاملون في الجسد وأغصان حيّة في الكرمة. لذلك وجب عليهم هم أيضًا أن يعطوا ثمرًا. والنِعَم التي قبلوها لا يجوز أن يُبقوها في مخبإٍ لأنفسهم، بل يجب أن يستثمروها. يجب أن يتاجروا بالوزنات التي تسلّموها وأن يربحوا ويؤدّوا حسابًا إلى ربّ الكرم. في المعموديّة لبسوا المسيح ونالوا الروح القدس، لا ليَضعوا نوره تحت المكيال، بل ليكونوا شهودًا للملكوت أمام الناس أجمعين. وفي سرَّي المعموديّة والتثبيت أصبحوا رُسُلاً للكلمة المتجسّد ولإنجيله، إنجيل الحياة والخلاص. فالعلمانيّون هم أيضًا رُسُل البشارة. ولنا في الكنيسة، منذ عهدها الأول، أمثال على ذلك في أناس ورد ذكرهم في رسائل القديس بولس مثلِ أكيلا وزوجته بْرِسقلَِّة (ر. أعمال الرسل 18 وروما 3:16).
لقد حمل العلمانيّون، على مَرِّ الأجيال، البشارة إلى مختلف البيئات والقطاعات والشعوب، مع الكهنة والرهبان والراهبات والمكرَّسين والمكرَّسات. وما النشاط المفرح الذي نشهده في أيّامنا، يقوم به عددٌ متنامٍ من العلمانيّين، معظمهم من الشباب، في جمعيّات وأخويّات ومجالس وحركات رسوليّة في الكنيسة، إلاّ دليلُ وعيٍ عندهم لدورهم في الكنيسة واستعدادهم للقيام بما ينمّيها ويحقِّق رسالتها.
ولقد لفت هذا الأمرُ انتباهَ آباء المجمع الفاتيكاني الثاني، فأكّدوا «أنَّ الرعاة يدركون جيّدًا أهمّية مشاركة العلمانيِّين لخير الكنيسة كلّها»[20].
بشارة جديدة
31.    لا تتوجَّه البشارة في أيّامنا إلى غير المعمّدين فقط، بل إلى المعمَّدين أيضًا والذين آمنوا بيسوع المسيح ثم فقدوا حرارة الإيمان أو الإيمان كلَّه لأسباب عدّة، منها اللامبالاة الدينيّة والمبادئ المعارِضة للإنجيل، وروح العلمنة والإلحاد والوقوع تحت سيطرة المال والاستهلاك والغريزة والسلطة. وهناك أسباب أخرى كثيرة تضعف أيضًا إيمان أبنائنا مثل الفقر والبؤس والمرض والمظالم والكوارث والحروب…في وجه هذا التراجع في الإيمان نادى البابا يوحنا بولس الثاني «ببشارة جديدة»، تهدف إلى إعطاء الإنجيل إلى مَن هم أصلاً أبناء الإنجيل، ولكنّهم تخلًّوْا عنه. وقد أوصى قداسته أيضًا باتّخاذ وسائلَ وطرقٍ جديدة لذلك.
افتحوا أبوابكم للمسيح
32.    هذه البشارة المتجدّدة تقدِّم للمعمَّد ولغير المعمَّد، من جهة، القِيَم التي بها تَخْلُصُ البشريّةُ فتحيا، ومن جهة ثانية، تقدِّم شخصَ يسوع المسيح الذي هو «الطريق والحقّ والحياة».
ممّا لا شك فيه أنَّ الكنيسة التي هي من البشر، والمكرّسةَ لتمجيد الله، إنما هي للإنسان ولخدمته. صارَ ابنُ الله إنسانًا ليُكسِبَ الإنسانَ مجدَ الألوهية. وإنَّ المسيح، الإنسان الحقيقيَّ الكامل والأمثل، «لمَّا كشف عن سرّ الآب ومحبَّته، بيّن للإنسان حقيقة الإنسان في وضوح كامل، وبيَّن له سموَّ دعوته»[21]… فالكنيسة مدعوّة لخدمة الإنسان انطلاقًا من رسالتها الإنجيليّة، المتأصّلة أولاً في واقع التجسُّد العجيب والمذهل، والذي به «اتَّحد ابنُ الله نفسُه، على وجهٍ ما، بكلِّ إنسان»[22].
في عظةٍ افتتح بها البابا يوحنا بولس الثاني خدمته كراعٍ أعلى للكنيسة، في 22 تشرين الأول سنة 1978، وجّه إلى جميع أبناء العصر، النداء التالي: «لا تخافوا! افتحوا أبوابكم على مصراعيها للمسيح! افتحوا لقدرته المخلّصة حدود بلادكم، وأنظمتَكم الاقتصاديّة والسياسيّة، وحقولَ الثقافة والحضارة والتنمية الواسعة. لا تخافوا! إنَّ المسيح «يعرف ما في الإنسان» (ر. يوحنا 25:2). هو وحده يعرف. والإنسان غالبًا ما لا يعرف، في أيّامنا، ما يحمله في داخله، في قرارة نفسه وفي أعماق قلبه. ولهذا كثيرًا ما تساوره الشكوك في معنى وجوده على هذه الأرض. ثم يتحوّلُ الشكُّ لديه إلى إحباط ويأس. فأنا أدعوكم، بل أناشدكم، بكل تواضع وثقة، أن تسمحوا للمسيح بالتحدُّث إلى الإنسان. هو وحده، عنده كلام الحياة، نعم، الحياة الأبديّة»[23]. هذا نداءٌ موجَّهٌ إليكم اليوم أيضًا، أيّها الشبّان والشابّات الأعزّاء.
33.    تعيش الكنائس الكاثوليكيّة في الشّرق الأوسط في وسط مجتمع متعدّد الكنائس والأديان. ففي شرقنا المسيحيّ نشأت في الماضي نزاعات فكريّة وعقائديّة كثيرة، خلَّفَتْ كنائس متعدِّدة متنوِّعة ومنقسمة لأسباب دينيّة وقوميّة ولغويّة في الوقت نفسه. وهي قائمة حتى اليوم ونحن أبناؤها.
وفي الشّرق أيضًا نشأت ديانات التوحيد الثلاث الكبرى، اليهوديّة والمسيحيّة والإسلام، ولكلّ منها، في المنطقة، تاريخ عريق وأماكن عبادة مميّزة ترتبط بنشأتها ونموّها عبر العصور. واليوم يعيش أتباع هذه الديانات معًا. يعيشون بسلام ولكنّهم يتنازعون أحيانًا لأنّهم لم يبلغوا بعد في علاقاتهم المتبادلة التوازن المطلوب. ولقد عرفت هذه المنطقة في الماضي صراعات كبيرة باسم الدين ونزاعات دامية كانت تغذّيها أحيانًا كثيرة السياسات الإقليميّة والعالميّة.
إنَّ موقع هذه المنطقة حسّاس جدًّا. فمن الناحية الجغرافيّة والتاريخيّة تُعتبَر حلقةَ وصل بين قارّات ثلاث، وممرًّا برّيًّا وبحريًّا للتجَّارِ والغزاةِ والحجّاج. ومن الناحية الدينيّة هي مهد ديانات التوحيد الكبرى كما ذكرْنا. وهي من الناحية الثقافيّة مُلتقى حضارات تفاعلت فأكسبت سُكَّانها، عبر التاريخ، بُعدًا مسكونيًّا خاصًّا وثقافة واسعة. ومن ناحية الثروات الطبيعيّة فإنَّ ثرواتها هائلة، ولهذا تطمع فيها القوى العظمى فتحُدُّ من حرّيّتِها ومن حرّيّة أبنائها في التصرّف بثرواتها.
34.    نعترف في قانون إيماننا بكنيسة «جامعة» «كاثوليكيّة» (لفظة يونانيّة بالمعنى نفسه أي جامعة). لكن، كما ذكرنا سابقًا، انقسمت الكنائس وظلَّت كذلك حتى يومنا. قبل خمسين سنة تقريبًا، كان الكاثوليك والأرثوذكس والبروتستانت متباعدين بعضُهم عن بعض، وكان الاتَّصال بينهم يكاد يكون معدومًا. إلى أن عقدت الكنيسة الكاثوليكيّة مجمعها الفاتيكاني الثاني، في الستّينات من القرن الماضي. فإذا بنفحة جديدة من الانفتاح والتقارب تهبّ على الكنائس، فتبدأ مسيرة جدّية في الصلاة والحوار والعمل من أجل وحدة المسيحيّين، مهّدت للحوار اللاهوتيّ عبر حوار المحبّة.
الأُسُس التي يقوم عليها السعي إلى الوحدة هي: أولاً، الامتثال لإرادة المسيح الربّ، الذي أنشأ كنيسة واحدة، وصلَّى «ليكون تلاميذه بأجمعهم واحدًا»، على مثال الثالوث. ثانيًا، صدق الشهادة. فالربّ أراد أن تكون وحدة المؤمنين هي العلامة «ليؤمن العالم» (يوحنا 31:17). وثالثاً، إنَّ كلَّ معمَّد هو عضوٌ في جسد المسيح، ويحمل الاسم المسيحي، وهو في الربِّ أخٌ لكلِّ المعمَّدين.
أيّها الأبناء الأعزّاء! يسعدنا أنّنا، في شرقنا، خَطَوْنا خطوات كبيرة على طريق الوحدة. ومع ذلك، فما زالت أمامنا صعوبات علينا اجتيازُها بنعمة الربّ، في الحقِّ والمحبّة، وبتضحياتنا وتنازلاتنا عمّا ليس جوهريًّا ، إذ إنَّ الذي يجمعنا أكثر من الذي يفرِّق بيننا، كما قال البابا يوحنا بولس الثاني.
إنَّنا نحيّي ونشجِّع جميع الجهود الصادقة المبذولة في سبيل وحدة جميع المسيحيّين في الشّرق.
نحيِّي بصورة خاصّة الشباب، سواء كانوا علمانيّين أم مكرَّسين، من مختلف الكنائس، الذين يشاركون في شتّى الجماعات أو الحركات، والذين يعيشون إيمانهم في محبّة مثاليّة، ويسيرون في طليعة الساعين إلى الوحدة. إنَّنا نوصي الشباب بأن يفتحوا قلوبهم لاستقبال كلِّ أخٍ وأخت لهم في المسيح وبأن يعملوا بالمحبَّة، فهي الطريق السلطانيّ والناجع لتحقيق الوحدة. إنَّنا نقدّر محبّتهم وإخلاصهم وجهودهم، ونؤكّد لهم سعينا الحثيث في هذا الاتجاه، وهو موضوع صلاة المسيح وموضوع رغبتنا الحارّة. نسألهم أن يصلّوا معنا لكي يذلّل الله أمامنا الصعاب، ويعلّمنا جميعًا أن نحبّ كما أحبَّنا هو، فنبلغ بقوة هذا الحبّ، كلُّنا معًا، إلى الحقيقة التي توحِّدُنا.
الحوار
35.    الحوار الحكيم الصادق لا خوف فيه على إضعاف هوّية أيِّ واحد من أطراف الحوار، لأنَّ الحوار لا يدعو أحدًا إلى التنكّر لمعتقداته، بل يثبّت المؤمن في إيمانه ويضعه في تفاعل مع المؤمن الذي يحاوره، حتى يصل كلاهما إلى معرفةٍ أفضل للذات وللآخر، وحتى يتمكَّنا من السير نحو الاتّزان المنشود في العلاقات على صعيد الحياة اليوميّة في مجتمعنا التعدُّدي، بينما يَنجُمُ عن غياب الحوار بقاءُ الأفكارِ المسبقة والجهلُ المتبادَلوازديادُ التعصُّب. وقد يؤدّي التعصُّب إلى العنف وإلى خلق النزاعات والأزمات في المجتمع. قلنا في رسالتنا الراعويّة الثانية: «إنّ الفرق شاسع بين المؤمن والمتعصّب. فالمؤمن يستخدمه الله، أمّا المتعصّب فإنّه يستخدم الله… المؤمن يعمل بمشيئة الله، أمّا المتعصّب فيضع مشيئته مكان مشيئة الله»[24].
لذلك نهيب بأبنائنا الشباب أن يسلكوا طرق الحوار وأن ينبذوا كلّ تعصّب وعنف، وأن يُجسّدوا في حياتهم تعليم الإنجيل الذي يدعوهم إلى السلام واحترام الآخر، وإلى النشاط والثقة، وأن يقتدوا بالمسيح الربّ الذي لم يكن يومًا عنيفًا أو ضعيفًا، بل قويًّا ومحبًّا في تعليمه وتعامله مع الناس.
في زمن يشتدُّ فيه الصراع بين أتباع الديانات أو الحضارات المختلفة، تغذّيه عقائد متطرّفة ومصالح الدول الكبرى المستغِلّة للدول الفقيرة، تعي الكنيسة أنَّ لها رسالة خاصَّة في هذه الفترة من التاريخ. عليها أن تشهد أمام الجميع، لا بتعاليمها وحسب، بل بتصرّف أبنائها أيضًا، لحضور الله في هذا العالم، وعليها أن تبيِّنَ أن جوهر كلِّ ديانة هو محبّة الله ومحبّة جميع أبناء الله.
تعيش الكنيسة اليوم «بين أناس يمارسون ديانات مختلفة. فجميع العلمانيّين المؤمنين بالمسيح، ولا سيّما هؤلاء الذين يعيشون في وسط شعوب وديانات مختلفة، سواء أكانوا في بلدهم الأصليّ أم في بلد هاجروا إليه، يجب أن يكونوا، لسكّان هذا البلد، علامة حضور الربّ وكنيسته، بالأسلوب الذي يلائم ظروف الحياة في كل بلد. إنّ الحوار بين أتباع الديانات هو في المرتبة الأولى من الأهميّة، لأنّه يقود إلى المحبّة والاحترام المتبادل، كما يقضي على الأحكام المسبقة ألدى أتباع الديانات المختلفة، أو يخفّف، على الأقلّ، من حدّتها، فيما يعزّز الوحدة والصداقة بين الشعوب»[25].
في العالم العربي
36.    تعيش كنائسنا في مجتمع عربيّ مسلم ومسيحيّ. وقد يريد البعض أن يخلط بين العروبة والإسلام. إلاّ أنَّ الحضور العربيّ المسيحيّ يزيل هذا الالتباس مبيِّنًا أنَّ الوطن الواحد يحتضن جميعَ أبنائه، وجميعُ أبنائه يبنونه معًا، المسيحيّون والمسلمون على السواء. «إن المسيحيّين في الشّرق هم جزء لا ينفصل عن الهويّة الحضاريّة للمسلمين. كما أنّ المسلمين في الشّرق جزء لا ينفصل عن الهوّية الحضاريّة للمسيحيّين»[26].
مع المسلمين نحمل تراثًا مشتركًا، كانت فيه فترات مجد وحضارة، وكانت فيه أيضًا حروب ونزاعات مميتة، في الداخل والخارج. وقد عشنا معًا أيضًا فترات ظلم خارجيّ واستعمار ما زال بعضه قائمًا حتى اليوم في كثير من بلداننا.
في الوقت الحاضر، بسبب موقع العالم العربيّ الجغرافيّ والسياسيّ، وبسبب غنى موارده الطبيعيّة، وتعدّديّة حضاراته وطوائفه، يواجه العرب، مسيحيّين ومسلمين معًا، ضغوطًا إقليميّة وعالميّة على الصعيد السياسيّ والاقتصاديّ والأخلاقيّ. فعلى الصعيد السياسيّ، ما زالت بعض بلداننا خاضعة للاحتلال الأجنبيّ. وعلى الصعيد الأخلاقيّ فإنّ ظاهرة العولمة، بالإضافة إلى نواحيها الإيجابيّة، تتصدّى للقيم الدينيّة والأدبيّة والتقليديّة لمجتمعاتنا. وإلى جانب هذا الغزو الخارجيّ، لا بدَّ من أن نذكر أيضًا مظاهر تطرُّف داخليٍّ في بلداننا يهدِّد باسم الدين مجتمعاتنا والعالم كلَّه بموجة عمياء من الإرهاب. ولهذا فنحن مدعوّون إلى اتّخاذ مواقف تتلاءم مع دعوة كلِّ ديانة وتعاليمها، للوقوف بشجاعة وحكمة وثبات في وجه الظلم السياسيّ والاقتصاديّ الخارجيّ، وفي وجه الغزو اللاأخلاقيّ كما في وجه خطر التطرّف الداخليّ. معًا يجب أن نجاهد في سبيل الحفاظ على قِيَمِنا، مثل احترام الحياة، والعائلة وكرامة الإنسان، والاستعداد لإقامة الحوار البنّاء والثبات فيه، والمفهوم الصحيح للسلام والعدل المبنيَّيْن على المساواة في كرامة الأفراد والشعوب.
للشباب دور فعّال في مسيرة أوطانهم ومصيرها. والشباب المسيحيّ خاصّة مسؤول مع كلِّ الشباب. لهذا يجب أن يعرفوا إيمانهم ويعيشوه، ويجب أن يتعرَّفوا أيضًا على ديانة سائر المواطنين، ليتمكّنوا من التعاون والعمل معًا. يجب عليهم أن يعيشوا قِيَم الإنجيل ويبيِّنوا أنَّه يمكن أن تكون هذه القِيَم أساسًا لإسهام فعَّال في بناء مجتمعاتنا وتحريرها.
بناء حضارة السلام والمحبة
37.    يقول البعض اليوم بمبدأ تصادم الحضارات، ويحرّضون على المواجهة بين الديانات. وفي الواقع فإنَّ التطرُّف الديني والإرهاب باسم الله آخذ بالازدياد. وبينما تندِّد الشعوب بالإرهاب وتقاتله، يرى الكثيرون أنَّ أحد أسباب الإرهاب المباشرة هو النظام العالميّ الحاليّ المبنيّ على المصلحة القوميّة الخاصّة، واستغلال ثروات الشعوب الأخرى والاحتلال العسكريّ المفروض على بعض الشعوب.
إنَّ للمسيحيّين العرب دورًا فريدًا في ترسيخ السلام والتقريب بين الحضارات والأديان، ولا سيّما بين الغرب والشّرق. إلاّ أنّ هذا يقتضي وعيًا وإدراكًا لدعوتهم الخاصّة ورسالتهم. قلنا في رسالتنا الثالثة عام 1994: «في مجال التلاقي الإسلاميّ المسيحيّ، على الصعيد العالميّ، يحدّد المسيحيّون موقفهم بكل وضوح. فهم مع العرب المسلمين أبناء أوفياء لأوطانهم وأبناء حضارة عربيّة واحدة بجميع مقوّماتها في ما يحقِّق خير الإنسانيّة جمعاء. وهم في الوقت نفسه مسيحيّون، ومع جميع المسيحيّين في العالم، مؤمنون بالسيّد المسيح، كلمة الله الأزلي. ومن هذا المنطلق، يرَون أنّ لهم دورًا في تقريب المواقف بين العالم المسيحيّ والعالم الإسلاميّ، وفي تحويل الصراع إلى تعاون إيجابيّ مبنيّ على الاحترام المتبادل.
وهم يقولون للعالم الغربيّ إنّ الإسلام ليس العدوّ، بل هو أحد أطراف الحوار الذي لا يمكن الاستغناء عنه في بناء الحضارة الإنسانيّة الجديدة. ويقولون القول نفسه للمسلمين في الشّرق: إنّ المسيحيّة في الغرب ليست عدوًّا بل هي طرف أساسيّ في حوار لا بدّ منه لبناء عالم جديد.
يتطلّع المسيحيّون في العالم العربيّ إلى أن يكونوا جسور حوار وتفاهم بين هذين العالمّيْن المتقابلَيْن. فالقرابة الحضاريّة التي تجمعهم بالمسلمين في الشّرق، والشركة الإيمانيّة التي تجمعهم بالمسيحيّة في كل مكان، تؤهّلهم أحسن تأهيل ليقوموا بهذا الدور الحضاريّ»[27].
القوى المتصارعة في العالم جبّارة، وليس من السهل صدّها أو إقناعها بتبديل مواقفها. ومع ذلك فإنَّنا نؤمن أنَّنا نقدر أن نبني حضارة السلام والمحبّة، وأنَّ ملكوت الله آتٍ. هذا ما نسأله في صلاتنا الربّية كل يوم. ومن جهة أخرى، إنّ في كنائسنا، مؤمنين، أقوياءَ وقادرين على بناء السلام، ولا سيَّما بين الشباب.
الحوار المسيحي اليهودي
38.    إنَّنا نعيش في هذه المنطقة أيضًا مع المؤمنين بالديانة اليهوديّة. وإنَّنا نقيم معهم حوارًا انطلاقًا من الوثيقة المجمعيّة في الحوار بين الأديان وسائر الوثائق التي تبعتها. وموضوع حوارنا هو الواقع الذي يعيشه جميع المؤمنين اليوم، يهودًا ومسيحيّين ومسلمين في المنطقة وفي الأرض المقدَّسة حيث أراد الله مع تطوّر التاريخ أن يجمع المؤمنين من الديانات الثلاث. موضوع حوارنا مع المؤمنين من الديانة اليهوديّة هو مصير الإنسان اليوم، ضحيّةِ الصراع السياسيّ الطويل بين العالم العربيّ وإسرائيل. الصراع شأن سياسيّ. ولكنَّه أيضًا وقبل كلِّ شيء شأن إنسانيّ، إذ تُنتهَك فيه وبصورة مستمرّة كرامة الإنسان والمؤمن، اليهوديّ والمسيحيّ والمسلم. ولهذا يجب أن يدرك جميع المؤمنين حقًّا بالله أنَّهم يتحمّلون مسؤوليّة هذا الصراع. إنّنا ندعو إلى حوار بين المؤمنين وإلى تفكير صادق في واقع الاحتلال العسكريّ الإسرائيليّ وجميع المظالم وأعمال العنف التي تنجم عنه لجميع الأطراف. معًا أمام الله، ماذا يقول لنا إيماننا بالله لنضع حدًّا لواقع الاحتلال السياسيّ وللشر الناجم عنه والذي يسحق الإنسان والمؤمن في الديانات الثلاث؟ ماذا يقول لنا إيماننا لخلق مجتمعات يسودها السلام والأمن للجميع، يعترف فيها كلُّ واحد بالآخر ويحترمه؟ ولوضع حدٍّ لكل مظاهر الظلم والعنف يجب أن نسلِّمَ أولاً بصدق وشجاعة بالمساواة بين الأشخاص والشعوب. إنّ إيمانًا صادقًا بالله ووقفة صادقة في حضرته الإلهيَّة من شأنهما أن يسيرا بنا إلى الحوار الذي يتطلَّبه الوضع الإنسانيّ الصعب الذي نعيشه اليوم في هذه المنطقة.
 
39.    في البدء خلق الله الإنسان كائنًا اجتماعيًّا، وأراد أن تكون العائلة الخليّة الأولى والأساس لكلّ مجتمع. وأرادها جماعة صغيرة متّحدة، ومتعاونة ومتحابّة، يحييها العطاء المتبادل لتُثمِر في الأرض بنين وبنات يعمّرونها ويبنون فيها ملكوت الله.
العائلة الصالحة التي يسكنها الله وتعيش في جوٍّ من المحبّة والمشاركة والاحترام والخدمة المتبادلة، بإمكانها أن تخدم المجتمع الخدمة الفضلى وأن تبنيه البنيان الصالح. في العائلة تنتقل من جيل إلى جيل الأفكار والعادات والأعمال والمواقف، السيِّئة منها والصالحة، مثل الأنانيّة والبغضاء وروح الانتقام أو العطاء والحبّ. لذلك نعتبر أنَّ الاهتمام الحثيث بعائلاتنا، من أجل أن تكون حقًّا مسيحيّة، يُفضِي حتمًا، إلى المساهمة في تكوين مجتمع صالح وغنيّ بالقِيَم والفضائل.
العائلة مؤسَّسة على الزواج، وقد أراد الله أن يكون الزواج عهدًا والتزامًا وعطاءً متبادلاً بين رجل واحد وامرأة واحدة، عطاء كاملاً لا تجزئةَ فيه ولا رجوعَ عنه. فيه يتعاون الرجل والمرأة بحُبٍّ في جميع أمور الحياة.
تَعتبِرُ الكنيسةُ العائلةَ «كنيسةً بيتيَّة» وتبذل كلَّ طاقاتها لتصير كذلك بالفعل، فتنمو في العائلة المسيحيّة الملتزمة الفضائل وتصبح خليّة للمواهب المسيحيّة المختلفة من أجل خدمة الكنيسة والمجتمع. وتصبح أيضًا منبعًا للدعوات الكهنوتيّة والرهبانيّة وطريقًا للقداسة، ولو توجَّب على أعضائها أن يحملوا صليبهم وأن يواجهوا صعوبات الحياة العديدة. لهذا وجب أن يكون الزواج المسيحيّ سرًّا من أسرار الكنيسة، أي علامة أكيدة لحضور الله في قلب الزوجَيْن وفي العائلة.
فيا أبناءنا الشابّات والشبّان الأعزّاء، انظروا ما أعظم دعوتكم. إنّ الله يدعوكم لتشاركوه حبّه الأعظم ولتصبحوا معه خالقين. ولهذا يجب أن يكون حبّكم، بعضِكم لبعض، طاهرًا نقيًّا مثل حبّ الله. في مجتمع أصبح فيه الحبُّ هزيلاً، ليحافظْ كلُّ واحد وواحدة منكم على نفسه وجسده. حافظوا بعضكم على بعض لتكونوا دومًا أبناء أبيكم الذي في السماء وإخوةً ليسوع المسيح، فتُضيئوا بنور الروح القدس، مثل الكواكب في السماء.
مخاطر تهدِّد العائلة
40.    إنَّنا نَعي أوضاع العائلات في شرقنا، وما تحمل من قِيَم وفضائل. فهي على وجه الإجمال محافِظة على الأخلاق والدين ومتماسكة في أعضائها، وما زالت مرجعًا أمينًا لكلِّ فرد من أفرادها. لكنَّها تتعرّض لأخطار جدّية وصعوبات كثيرة. وقد ذكرنا في رسالة لنا سابقة في العائلة[28] بعض هذه المصاعب، منها اقتصاديّة ومنها أخلاقيّة، مثل الانحرافات وبعض البرامج الإعلاميّة أو الإعلانات، ومنها علميّة، في مجالات علوم الحياة والجهل الدينيّ. هذه كلّها من شأنها أن تؤثّر على العائلة وتساعد في تقويض الروابط العائليّة. وقد اقترحنا أيضًا خطّة رعويّة، مع اقتراحات لبعض الحلول، ولوسائل عمليّة للقيام بهذه الرعويّة.
إنّنا نحثُّكم، أيّها الشبّان والشابّات الأعزّاء، أن تَعوا جيّدًا أهميّة العائلة، وأن تدافعوا عنها، وتحافظوا على وحدتها وطهارتها. صونوا أنفسكم وأجسادكم من فساد الأخلاق المتفشّي، والذي يقدِّمه البعض اليوم وكأنّه حضارة جديدة، وما هو إلاّ حضارة الموت. عيشوا الحبَّ الصحيح في العائلة. وتبيَّنوا دعوتكم، إمّا لإنشاء عائلات، تكون مكانَ سكنى لله وسرورٍ للبشر، وخميرةً صالحة وفاعلةً فيهم، وإمّا لتكريس أنفسكم في الكنيسة، العائلة الكبرى، لخدمة المحبّة والبشارة والرسالة.
الفقراء والمحرومون
41.    تَعتبر الكنيسة نفسها خادمةً للبشر على مثال معلِّمها الإلهيّ. فقد كان يسوع بين تلاميذه كالخادم الذي جاء كما قال «ليَخدِم لا ليُخدَم» (مرقس 45:1). وقد غسل أرجلهم. وأخيرًا بذل حياته لأجل فداء العالم. وتريد الكنيسة أن تمارس مثل «السامريّ الصالح» أعمال الرحمة والحنان والمحبّة مع الفقراء والمرضى وذوي العاهات والمظلومين والمهمّشين والخطأة.
الكنيسة خادمة بصورة خاصّة للبشر الأقل حظًّا، لأنّها تحاول أن تعيش تعليم معلّمها وأن تطبّقه في حياتها ورسالتها. ففي مَثَل لعازر الفقير والغنيّ (لوقا 19:16-31) بيَّن يسوع المسيح الطريق التي يجب سلوكُها. ولمَّا قال: «كُلَّمَا صَنَعْتُم شَيئًا مِن ذَلِكَ لِوَاحِدٍ مِن إِخوَتِي هَؤُلاءِ الصِّغَارِ فَلِي قَد صَنَعْتُمُوهُ» (متّى 40:25)، «وَطُوبَى لِلرُّحَمَاءِ فَإنَّهُم يُرحَمُونَ» (متّى 7:5)، فقد عنى بذلك جميعَ الناس ولا سيّما الفقراء والصغار.
فالكنيسة لا تعتبر نفسها بعيدة أو غريبة عن أيِّ شيء يهمّ الإنسان ويطاله. وإنَّ رسالتها الاجتماعيّة والزمنيّة لا تنتقص في شيء من رسالتها الروحيّة، بل تتكامل كلتاهما في خدمة الله والقريب. «الفرح والرجاء، وحزن أبناء هذا الزمان وشِدَّتهم، ولا سيّما الفقراء منهم وسائر المرهقين، إنما هو فرح تلاميذ المسيح وأملهم، وحزنهم وشِدَّتهم، وليس هناك شيء إنسانيّ في الحقيقة إلاّ وله صدى في قلوبهم»[29].
لذلك نجد الكنيسة، منذ نشأتها، تمارس في بعض مجتمعاتها، حياة مشتركة يتقاسم المؤمنون فيها ما عندهم من أموال . أعمال الرسل 42:2-47). وقد بذلت الكثير عبر تاريخها في سبيل الفقراء والمساكين، وأنشأت الجمعيّات والأخويّات والرهبانيّات لخدمة ذوي الحاجات المتنوّعة. وإنّها تطالب الأغنياء بالعطف على الفقراء، وتنادي بالعدالة الاجتماعيّة[30] وتقف إلى جانب المظلومين، هدفها احترام كرامة الإنسانِ، صورةِ الله. تريد أن تسنده في سيره نحو خالقه، لأنّ «حياة الإنسان هي مجد الله»، بحسب تعبير القديس إيريناوس[31]. فالكنيسة، ببشارة الإنجيل وبخدماتها المتعدِّدة، ترفع من كرامة الإنسان، لأنّها تشركه على الأرض في حياة الله، وتُعِدُّه للحياة الأبديّة. ومن هنا نحثّ الشباب والشابّات، ذوي القلوب الكبيرة، على الاندماج بصورة خاصّة في رسالة الكنيسة لخدمة الفقراء، إمّا عن طريق الانتساب إلى الجمعيّات الخيريّة المعروفة، وإمَّا بالتفرُّغ مدّة فترة من حياتهم للعمل التطوُّعيّ.
التنمية الاقتصاديّة
42.    قد يسعى الناس إلى السعادة عن طريق وفرة المال والممتلكات والوسائل التي توفَّر لهم اللذَّة والراحة. غير أنَّ الربّ حذّرنا وقال إنّ وفرة المال لا تضمن السعادة للإنسان: «لأنَّ حَيَاةَ المَرءِ، وَإنْ اغتنى، لا تَأتِيهِ مِن أَموَالُهُ» (لوقا 15:12).
إنَّ إنماء الاقتصاد وتوفير الحياة اللائقة لكلِّ إنسان وتأمين فرص العمل، كلُّ هذا من واجب الأفراد والمجتمعات والدول. ولكن يحصل مع الأسف أنّ الأفراد والجماعات والدول تعمل على تكديس الخيرات في مكان واحد وفي أيدي قِلَّةٍ من الناس، بينما تهمل الاهتمام بالبؤساء والفقراء. ولذلك نجد تفاوتًا اقتصاديًّا وثقافيًّا شاسعًا بين الناس. فهناك أكثريّة ساحقة من المعدَمين والفقراء، على الصعيد الماديّ والاجتماعيّ والثقافيّ والأخلاقيّ والدينيّ. وبالمقابل، هناك أقليّة من الأغنياء والمتخَمين، المغتَنين على حساب فقر أولئك، وهم غير مبالين بمصير غيرهم.
إنّ النموّ الإنسانيّ الصحيح والواجب «لكلِّ إنسان وكلّ الإنسان»، كما تفهمه الكنيسة وتعلّمه، لا يقوم فقط في غنى «ما نملك» بل في غنى «الذات». لأنّ «الإنسان عندما يعمل لا ينحصر عمله في تغيير الأشياء والمجتمع، بل يكمّل ذاته أيضًا. إنّه يتعلّم أمورًا كثيرة، ويُنَمِّي مواهبه وطاقاته، ويمتدّ إلى خارج ذاته وإلى ما فوق ذاته. هذا الانطلاق، إذا فُهم على حقيقته، فاق بقيمته كلّ ما يمكن جمعُه من الثروات الخارجية. لأنَّ قيمة الإنسان بما هو أمام الله وأمام الإنسان أعظم بكثير من قيمة ما يملك»[32].
قال البابا يوحنا بولس الثاني في رسالته العامة «الاهتمام بالشأن الاجتماعيّ»: «إنَّ الفرق بين «الامتلاك» و«الإنسان الذي يمتلك»، والخطر الذي يهدّد قيمة «الإنسان» من جرّاء الاستزادة من الممتلكات أو استبدالها لمجرّد الاستزادة والاستبدال، يجب ألا يتحوّل بالضرورة إلى وضع تناقضيّ. فإنّه من أكبر مظالم العالم المعاصر، وجودُ قلّةٍ نسبيّة من الناس تملك الكثير، بينما الكثرة تكاد لا تملك شيئًا. وهذا هو الظلم الناجم عن الخلل في توزيع الخيرات والخدمات للجميع.
هذه هي اللوحة: من جهة، قلّة من الناس تملك الكثير وهي عاجزة في الوقت نفسه عن تحقيق ذاتها بوجه صحيح لانهماكها في عبادة «ما تَملِك» ولانعكاس سُلّمِ القيَمِ عندها. ومن جهة أخرى، أغلبيّة تملك القليل أو لا تملك شيئًا وهي عاجزة عن تحقيق غايتها الإنسانيّة الأساسيّة، بسبب حرمانها الخيرات الأوّليّة.
ليس الشرّ في «ما نملك» في حدّ ذاته، ولكن في الطريقة التي نملك بها والتي لا تراعي قِيَمَ الخيرات ونوعيّتها ونظامها، لأنّ الخيرات هي في خدمة الذات»[33].
في وجه التخلُّف الاقتصاديّ
43.    إن التخلّف الاقتصاديّ الخطير في بلداننا وفي العالم، يؤدّي عند القسم الأكبر من البشر إلى التخلّف الإنسانيّ، ولا يمكن معالجته بالخدمة الفرديّة فقط، مع أنَّ هذا النوع من الخدمة واجب ومُهِمّ. فهو يحتاج إلى تضافر الجميع ولا سيّما أصحاب المال والسلطة، وذلك من خلال تنظيم مؤسّسات وتعاونيات، تمكّنهم من التغلّب على الصعوبات، وتكسبهم فضيلة المشاركة والمحبّة وفرح التعاون والعطاء. وإنَّ كثيرًا من المآسي الاجتماعيّة لا حلول لها إلاّ بتعاون الدول ولا سيّما الغنيّة منها، والتي عليها أن تَعي مسؤوليَّتها عن جزء كبير من التخلّف الاقتصاديّ والإنسانيّ الذي يطال شعوبًا بكاملها، ولا سيّما في القسم الجنوبيّ من الأرض.
تعبِّر الكنيسة عن حبّها للناس وعن رغبتها في مساعدتهم، في التزامها العدالة الاجتماعيّة وعيشها والمطالبة بها والدفاع عن المحرومين منها. وإذا تناولنا تعاليم المجامع أو رسائل الأحبار تَبيّنَلنا عطفُها وحرصها على ضرورة تأمين العدالة الاجتماعيّة في شتّى ميادين الحياة الخارجيّة منها والداخليّة.
لم يعِ كلّ أبناء الكنيسةدائمًا، أفرادًا وجماعات ودولاً، هذا الواجب الخطير في التمثُّل بالمعلّم الإلهيّ، وفي التحلّي مثله بروح الفقر والعطف وبممارسة فضيلة المحبّة العظمى. فانحرف بعضهم عن المسار الصحيح، وتصرَّفوا مع الفقراء كما تصرَّف الغنيُّ مع لعازر المسكين في المثل الإنجيليّ من دون اكتراث لهم. إلاّ أنَّ قدّيسين كثيرين رسموا بحياتهم الوجه الصحيح لكنيسة المسيح، وأظهروا جهودها للتشبُّه به.
ولا شكَّ في أنّ المجتمعات المدنيّة، في مجملها، وبعد أن تطوَّرت ونمت، أخذت الكثير عن الكنيسة في هذا المضمار. فأقامت مؤسّسات إنسانيّة خيريّة، وسنّت القوانين للدفاع عن المظلومين وتوطيد العدالة وخدمة المعوَّقين والمرضى، والمساجين، وحتى فَعَلَةِ السوء والمعارِضين. وأصبحت هذه المواقف منتشرة ومشتركة عند الكثير من الدول والشعوب.
تثق الكنيسة في عملها الاجتماعيّ بالشباب الذين، إذا التزموا، قاموا بالتزامهم بشجاعة وإخلاص، ومحبّة وسخاء. وإذا جاهدوا لم يهابوا الصعوبات والأخطار. وإننا لنجد في حركاتنا الرسوليّة وجمعيّاتنا الخيريّة ومؤسّساتنا التربويّة والصحيّة والاجتماعيّة شبّانًا وشابَّات رائعين في خدمتهم للمحتاجين والضعفاء والمعوَّقين والمسنِّين والأطفال، وفي شهادتهم أمام الجميع لمحبّة المسيح الفاعلة فيهم وفي كنيستهم. إننا نعرب لهم عن تقديرنا ومحبّتنا وثنائنا.
الوطن
44.    الوطن أكثر من أرض وشعب يسكنها. هو مجموعة من الناس يسكنون في بلد ما، يَعون أصولهم وتاريخهم وتقاليدهم المشتركة، ويأتمرون بأمر حاكم واحد، ويهدفون إلى مستقبل أفضل لوطنهم ولكل فرد منهم. في الوطن يولد الإنسان وينشأ وفيه يجد الحِمَى لنفسه ولمصالحه، ويتعلَّم التضامن والعمل في سبيل إنماء الفرد والجماعة، عن طريق خدمة الخير العام.
يدرك المسيحيُّون دورهم في المجتمعات والأوطان، ويقومون بواجباتهم على أفضل وجه، لكي يحقّقوا بنيان الجماعات البشريّة، بحسب روح الإنجيل الذي هو بشارة الخلاص والحياة. وهم يؤمنون بالمساواة الجوهريّة بين المواطنين كما بين البشر، لأنَّ الجميع إخوة وأخوات وأبناء لأبٍ واحد. ومن المفروض أن يتميّزوا بفضائلهم التي يضعونها كلّها في خدمة الخير العام.
في نصٍّ قديمٍ جدًّا عن المسيحيّين، نقرأ ما يلي: «لا يتميَّز المسيحيّون عن سائر الناس، لا في البلد ولا في اللغة ولا في العادات… ويتكيّفون مع العادات المحليّة في ما يتعلّق بالكساء والغذاء وباقي مقتضيات الحياة… ولكنَّهم يسلكون في نمط عيشتهم قواعد غريبة وفوق طبيعة الإنسان»[34].
العلمانيّون المؤمنون بالمسيح في أوطانهم هم كسائر المواطنين: لهم حقوق وعليهم واجبات. والذي يجب أن يميّزهم هو كيفيّة القيام بواجباتهم على ضوء الإنجيل، فهم الخميرة في العجين.«إنّهم على الصعيدَيْن الوطنيّ والدوليّ وكلاء الحكمة المسيحيّة. ويجب أن يدركوا، بخدمتهم المتفانية للوطن، وبتتميم واجباتهم القوميّة بكل أمانة، أنَّهم مُلزَمون بالعمل في سبيل الصالح العام الحقيقي»[35].
ومن واجبهم المشاركة في حياة المجتمع العامَّة ولا سيّما في الانتخابات التي يختارون فيها ممثّليهم في ممارسة السلطة. ومن واجبهم أن يختاروا لذلك مَن هم الأفضلون، وأن يحاوروهم فيما بعد ويحاسبوهم ويطالبوهم بسنّ القوانين المراعية للآداب وكرامة الإنسان والمصلحة العامَّة. كذلك يكونون مشاركين حقيقيّين في المسؤوليّة ويتعاونون مع سائر المواطنين لتوطيد الحقِّ والعدل والسلام وسائر الفضائل.
وهنا لا بدّ من التنويه بأنَّه تقع على عاتق الشباب مسؤوليّة كبرى في هذه المجالات، لأنّ الشباب هم الأكثر قدرة على تغيير أنفسهم وتغيير مجتمعاتهم، نظرًا إلى ما عندهم من طموح وثقة ونشاط وتطلُّع إلى مستقبل أفضل. هم القادرون على الوقوف في وجه التخلّف والفساد والتشتُّت والتفاوت الاجتماعيّ، ولا سيّما في الأوطان والمجتمعات التي تضمّ، إلى جانب بعض الفئات المحظوظة، فئاتٍ كبيرةً من المهمَّشين أو المعدَمين.
معرفة البلد وخدمته
45.    ومن واجب الشباب الاطّلاع على أوضاع بلادهم وإمكاناتها وتاريخها وحضارتها،، ليتمكّنوا من معرفة السُبُل لخدمتها وإنمائها. كذلك من واجبهم الحصول على معرفة أوسع للأنظمة والسياسات والنشاطات الدوليّة ولما يجري في العالم ولكل حادثٍ ينعكس أثرُه على بلدهم ومجتمعهم، لأنّنا نعرف أنّ معضلات كلِّ بلدان العالم تغدو، يومًا بعد يوم، أشدّ ارتباطًا في ما بينها.
لذلك لا بدّ من خلق تيّار يدعم التماسك بين الشعوب، في المجالات الاقتصاديّة والصحيّة والثقافيّة وسواها، في وجه الانقسامات واستغلال الكبار والأقوياء للصغار والضعفاء. ويجب على العمل الرسوليّ المسيحيّ أن يركّز اهتمامه على التآخي بين الدول والجماعات والأفراد، ولا سيّما من خلال مؤسّسات وجمعيّات لها امتدادها الدوليّ، ومن خلال العلاقات بين الدول.
في الإرشاد الرسوليّ الذي وجّهه البابا الراحل يوحنا بولس الثاني إلى اللبنانيّين، عام 1997، قال: «أوصي باهتمام خاصّ بالشبّان والشابّات الذين هم أعظم ثروة لبلدهم. فعليهم أن يتلقّوا تنشئة مهنيّة، وتربية إنسانيّة أخلاقيّة وروحيّة ممتازة. ويجب أن يكون لهم نصيبهم في القرارات التي تُلزِم الأمّة، وأن يشعروا بأنَّهم مقبولون ومدعومون في اندماجهم المهنيّ والاجتماعيّ، وبأن يستفيدوا من تدريبات تتيح لهم مواجهة مستقبلهم الشخصيّ بصفاء، وإنشاء أسرة لهم. وبما أنَّ تطوير الهيكليّات رهنٌ بتبديل القلوب، فليحرص الجميع على المشاركة في الحياة العامّة وعلى احترام العدالة الاجتماعيّة»[36].
46.    السياسة هي فنّ خدمة الشخص والمجتمع. هدفها تأمين الخير العام والعمل على صيانته وإنمائه، وإحلال العدالة الاجتماعيّة، والدفاع عن الحرّيات والعمل على أن تكون تعبيرًا، في الحقّ والمحبّة، عن نزعة الإنسان الطبيعيّة إلى تحقيق ذاته وبلوغ كماله وتأمين خير مجتمعه. فالعمل السياسيّ، في هذا المفهوم، عمل يليق بالإنسان وينمّيه، وتعاطي السياسة أمرٌ ليس فقط مستحبًّا بل هو أيضًا واجب.
غير أنَّ السياسة، في كثير من الأحيان والأمكنة، تتّخذ معنًى آخر، ينحرف بها عن غايتها، التي هي خدمة «الآخر»، ويعود بها إلى خدمة «الذات». أي إنَّها تمسي سعيًا إلى المصلحة الشخصيّة وتخلّيًا عن الخير العام. فمن البديهيّ، في هذه الحال، أن يبتعد كثيرون عن السياسة ويفقدوا اعتبارهم لأربابها.
الشابّات والشبّان مدعوّون إلى الدخول في مجال السياسة لخدمة الخير العامّ. يدعوهم إلى ذلك الإنجيل المقدّس، لأنَّه يدعو إلى الخدمة والمحبّة. تفشِّي الفساد أو الخوف من الفساد يجب ألاّ يكون ذريعة لازدراء هذا المجال وترك العمل فيه لآخرين. إن كان في هذا المجال فساد أو كان فيه فراغ، فلا بُدَّ من مصلحين يملأون الفراغ فيخدمون كما يجب أن تكون الخدمة. المسيحيّ مدعوّ دائمًا إلى الشهادة للحقّ والمحبّة. والعلمانيّون المؤمنون بالمسيح يحملون هذه الشهادة لكلَّ إنسان وللمجتمع كلِّه. فهم الخميرة التي لا تبقى منزوية، بل توضع في عجينة النظام الزمنيِّ لتخمّره بروح الإنجيل.
والعمل السياسيّ لا يكون إلاّ جماعيًّا وتضامنيًّا. لذلك تنشأ التجمُّعات السياسيّة والأحزاب.
المواقف والنشاطات السياسيّة متعدّدة ومتنوّعة. ومن ثمّ لا بُدَّ من سلطة تضبطها، مبنيّة على مبدأ احترام الحرّيات، قادرة على التنسيق بين الجميع لخدمة الخير العام. وليس من المحتَّم أن تكون العلاقة بين رجال السياسة وبين الأحزاب المختلفة علاقة صراع يحول دون تحقيق الصالح العام. بل يجب أن تكون علاقة منافسة شريفة من أجل الخدمة وخير جميع المواطنين.
السلطة خدمة. ولا يجوز لمن أراد أن يتولاّها أن يستعمل، لبلوغها أو للاحتفاظ بها، وسائل غير شريفة وطرقًا غير شرعيّة. فالغاية الصالحة لا يمكن بلوغها بوسائل ملتوية وفاسدة، لأنَّ الغاية لا تبرِّر الوسيلة. ولأنَّ الوسيلة جزء من الغاية، ولا يمكن الفصل بينهما. ويسوع قال إنَّه الغاية والوسيلة معًا لمَّا قال إنّه الحقّ والحياة، وإنّه أيضًا الطريق إلى الحق والحياة.
العلمانيّون المسيحيّون شهود للمسيح ولكنيسته. وإذا تعاطَوْا السياسة ومارسوا السلطة بروح الإنجيل فهم يحملون مسؤوليّة تصرُّفاتهم دون أن يُلزِموا الكنيسة. لأنَّ الكنيسة تعانق كلَّ أبنائها في أيّة جماعة أو حزب كانوا. هي نفسها ليست حزبًا ولا ترضى بأن تحصر نفسها في أي حزب كان. وتريد أن تكون للمسيحيّين الملتزمين في حقل السياسة أو في ممارسة السلطة، بمثابة الضمير الذي ينبِّه والذي يوجِّه إلى الفضائل والقِيَم التي يجب أن تحكم تصرُّفاتهم ومسؤوليّاتهم.
إنَّ قيام الجمعيّات أو الأحزاب السياسيّة أمر صالح وضروريّ. وكلُّ مسيحيّ علمانيّ مدعوٌّ إلى الانخراط فيها أو إلى دعمها بالوسائل المناسبة.
السياسة فنّ ومسؤوليّة، وبالتالي تحتاج إلى تنشئةٍ مناسبة للقيام بها على أفضل ما يكون. لأجل ذلك نحثّ أبناءنا الشبّان والشابّات على إعداد أنفسهم الإعداد المناسب لها. ومن جهة أخرى، يجب أن يتابعوا تطوَّر الأحداث الوطنيّة والدوليّة، ليعمِّقوا معرفتهم وفهمهم للأمور، قبل أن يصدروا الأحكام في الأشخاص أو الأوضاع السياسيّة عامّة. وعندما تحين الساعة، يجب أن يكونوا مستعدّين لتحمُّل المسؤوليّات السياسيّة إذا ما دعاهم الواجب إلى خدمة مجتمعهم ووطنهم.
الدفاع عن الحرّيّة والأرض
47.    قد يتساءل الشّباب عن واجباتهم في الأزمات، مثلاً في الموقف من الاحتلال المفروض على شعب ما أو يسألون عن واجب الدفاع عن الحرّيّة والأرض. إنَّ المثال الأول للحياة المسيحيّة هو يسوع المسيح وكلُّ ما علَّم يسوع المسيح. وقد يواجه المسيحيّ ظروفًا معقَّدة يتساءل فيها كيف يمكنه أن يعيش روح الإنجيل وهو واقع تحت ظلم الناس أو تحت المظالم السياسيّة المختلفة؟
لا بدَّ للمسيحيّ من أن يقبل بالمبادئ المسيحيّة التي تنظِّم العلاقات بين الأفراد والشعوب، في أيِّ ظرف كان، في زمن السلام أو الحرب أو الاحتلال. روح الوداعة والسلام هي ميزة المسيحيّ. ولكن هذا لا يعني أن يتنازل المسيحيّ عن أيِّ حقٍّ له. فعليه أن يجد الوسائل المناسبة التي تمكِّنه من الجمع بين روح المسيح ووداعته وسلامه وتحصيل الحقوق، ولا سيَّما إن كانت حقوقًا للجماعة مثل الحقوق القوميّة والحرّيّة والأرض.
عظة يسوع على الجبل هي الهادية في جميع الظروف مهما تعسَّرت:«طوبى لِفُقراءِ الرُّوح فإِنَّ لَهم مَلكوتَ السَّمَوات. طوبى لِلوُدَعاء فإِنَّهم يرِثونَ الأَرض. طوبى لِلْمَحزُونين، فإِنَّهم يُعَزَّون. طوبى لِلْجياعِ والعِطاشِ إِلى البِرّ فإِنَّهم يُشبَعون. طوبى لِلرُّحَماء، فإِنَّهم يُرْحَمون. طوبى لأَطهارِ القُلوب فإِنَّهم يُشاهِدونَ الله. طوبى لِلسَّاعينَ إِلى السَّلام فإِنَّهم أَبناءَ اللهِ يُدعَون» (متّى 3:5-9).
ومع هذه الروح، يعتمد المسيحيّ القوانين الدوليّة والقوانين الأخلاقيّة الإنسانيّة العامّة[37].
ونقول إنَّه من واجب كلِّ إنسان أن يقاوم أيَّ شرٍّ يُفرَض عليه بما في ذلك الاحتلال. ولا يحوز له أن يقبل بأن يجرِّده غيره من حرّيّته، لسببين واضحين، أولاً حرّيّته جزء من حرّيّة الشعب كلِّه، فإذا هو تنازل عنها أضعف الشعب كلَّه في مطالبته لحرّيّته. وثانيًا لأنَّ حرّيّته هبة منه تعالى، ومن ثمَّ يجب أن يحافظ عليها ويدافع عنها ويعمل كلَّ ما في وسعه لاستردادها إذا ما جرَّده أحدٌ منها.
ولهذا فإنّ المقاومة واجب الشعب كلِّه، ولا يحوز لأيِّ أحد أن يبقى متفرِّجًا. بل يجب أن يكون كلُّ واحد فاعلاً ومستعدًّا لكلِّ التضحيات، ولكن كلٌّ بحسب موقعه في المجتمع: فالبعض بالعمل السياسيِّ المباشر، والبعض بمتابعة عمله اليوميّ المفيد والضروري لاستمرار الحياة في المجتمع الواقع تحت الاحتلال، والبعض في المشاركة الواعية في مشقَّات الحياة اليوميّة المتأتّية عن الاحتلال، وتقبُّلِها من غير شكوى أو تذمّر.
ومن ثمَّ، طريق المسيحيّ في المقاومة هي طريق المقاومة اللاعنيفة المنظَّمة والصابرة حتى يصل إلى تحقيق الهدف أي وضع حدٍّ للاحتلال وإزالة الظلم عنه وعن الشعب كلِّه. إنَّ استعمال العنف هو مع الأسف اليوم أمر واقع ويلجأ إليه المعتدِي والمعتدَى عليه، والقويّ والضعيف على السواء. ووصيّة الله تقول للجميع على السواء: لا تقتل. على البشريّة أن تبدأ فترة جديدة في تاريخها تترك فيها العنف جانبًا. وهي قادرة على ذلك إن شاءت. إنما يتطلَّب ذلك طبعًا تثقيفًا وتهذيبًا للنفوس، للمواطنين وللقادة معًا. ويبدأ التثقيف في التربية البيتيّة والمدرسيّة وفي جميع وسائل الإعلام، ولا سيّما في التربية الدينيّة، حتى يبقى الإيمان في قلب الإنسان عامل سلام وعدل ومصالحة، وبذلك يحافظ كلُّ إنسان على كرامته وكرامة أخيه وعلى جميع حقوقه وحقوق أخيه.
الهجرة
48.    إنَّ عددًا من شباب كنائسنا يهجرون بلدانهم، أو يفكّرون ويسعون إلى هجرها، لجوءًا إلى بلدان أخرى طلبًا للعلم أو المال أو الحريّة والسعادة، لأنّ الكثيرين من بينهم يرون أنْ لا مستقبل لهم في بلدانهم التي لا تؤمّن لهم، في نظرهم، ما يطمحون إليه في هذه الحياة.
يعزّ علينا حقًّا أن تفقد كنائسنا وبلداننا عناصر شابّة وقادرة بإمكانها أن تسهم إسهامًا فاعلاً في الحفاظ عليها وبنيانها وإنمائها ورفع مستواها.
إنَّنا ندرك خطورة الدوافع التي تحمل شبابنا على الهجرة، ونتمنّى لهم من كلِّ قلوبنا مستقبلاً لائقًا ومكانة رفيعة في كل مجتمع هاجروا إليه، وأن يحقّقوا طموحاتهم التي نحترمها ونؤيِّدها. ونعرف أيضًا أنَّ الكثيرين منهم، أو بعضهم، إذا ابتعدوا عن وطنهم، يمكنهم أن يكونوا رسلاً له حيثما حلّوا، وأن يواصلوا خدمة قضاياه في الخارج. لكنَّنا في الوقت عينه نتحسّس في العمق أوضاع بلداننا وكنائسنا عندما نراها تفرغ شيئًا فشيئًا من عناصرها الفتيّة والشابّة. إنَّ مجتمعًا يضعف فيه وجود الشباب لهو مجتمع معرّض للسقم.
أمام هذا الواقع، إنَّنا نناشد أبناءنا الشباب ألاّ يتسرّعوا في اتِّخاذ قرار الهجرة، وألاّ يغادروا بلادهم إلاّ لأسباب قاهرة، لا لبعض المتاعب الثانويّة، أو طمعًا في المغامرة والأمل في كسب الأموال… أمّا إذا كانت الأسباب قاهرة فليعقدوا العزم، قبل سفرهم، على العودة إلى بلادهم حالما تنتفي الأسباب التي حملتهم على الهجرة. إنَّ خدمتهم لكنيستهم ووطنهم، هنا، أفضل من خدمتهم لها من بعيد. وإنَّ لوطنهم وكنيستهم عليهم حقوقًا، فهنا وُلِدوا وهنا نشأوا وهنا كسبوا وأخذوا كل ما لَهم الآن.
الثقافة
49.    أيها الشبّان والشابّات الأعزّاء، إنّ بلدانكم بحاجة إلى شبيبة مثقّفة وملتزمة للنهوض بها واتخاذ مكانها بين سائر البلدان، لتتمكّن من العمل معها في سبيل خير الجميع، والإسهام في دفع البشريّة إلى التقدّم والسعادة والسلام.
لا تقوم الثقافة فقط بتحصيل علوم ومعارف كثيرة، وفي المهارة في تدبير أمور الحياة والحصول على مال وخيرات للتنعّم بها وحسب، ولا هي في القدرة على الاتصالات الكثيرة، عبر وسائلها الحديثة، مثل الخلويّ أو الموبايل والكومبيوتر والإنترنت وسواها. ولا تقوم في معرفة إنشاء الأبنية الفخمة والنوادي العصريّة والفنادق المتعدِّدة النجوم وغير ذلك من المؤسّسات. كلّ هذا حسن وضروريّ. إنما الحضارة الحقيقيّة، والمطلوب منكم أن تسهموا في صنعها، هي التي تؤهّلكم للبناء. هي ثقافة العقل والقلب والإنسان بجميع طاقاته ومواهبه، أي الثقافة التي تطبع الحياة، وتلهم الأفكار والأفعال، وتصقل المواهب، وتجعل الإنسان أهلاً للإسهام مع أترابه، لتكوين ثقافة جماعيّة تنمو وتكتمل يومًا بعد يوم، لا لخدمة الذات وحسب، بل لخدمة المجتمع والبشريّة كلِّها. وفي وجه العولمة الغازية إنَّنا نوصي أعزّاءنا، الشباب والشابّات، أن يأخذوا كلَّ ما هو جيّد وإيجابيّ من جميع حضارات العالم، مع المحافظة في الوقت نفسه على قِيَم حضارتنا الشّرقيّة، فلا يسيرون في طريق تقليد سهل لا يميِّز بين الضارِّ والنافع في أنماط معيشيّة مختلفة، منها ما هو تقدُّمٌ حقيقيّ ومنها ما هو تخلُّفٌ أخلاقيّ وتدمير للقيم.
تكون الثقافة أصيلة بقدر ما ترتكز على السعي إلى الحقيقة وإلى المقدرة على قبولها، وعلى الانفتاح الصادق على الكون والإنسان والثقافات الأخرى وعلى الذات وعلى الله. كلُّ ثقافة، وكلُّ حضارة، لا تستلهم إرادة الله وتصميمه صائرة إلى الزوال. قال أحد المفكّرين: «بإمكاننا أن نبني العالم بدون الله، لكنَّنا، في هذه الحال، نبنيه حتمًا ضدّ الإنسان». وأنتم تعرفون ما يطلبه الله منكم بقوَّة كلمته المقيمة فيكم. فاستلهموا الإنجيل لتنمية ثقافتكم، واجعلوه ينير أفكاركم وأحاسيسكم ورغباتكم ومشاريعكم وأعمالكم، فتُحقِّقوا بذلك ما طلبه منكم الربُّ يسوع وهو أن تكونوا «نُورَ العَالَمِ وَمِلحَ الأرض».
الرياضة
50.    الرياضة قديمة العهد عند الشعوب، ومنها الألعاب الأولمبيّة عند اليونان الأقدمين. ولها اليوم أهميّتها في العالم كلِّه، وقد زادتها وسائل الإعلام انتشارًا وأهميَّة في جميع المجتمعات البشريّة. فأصبحت المباريات العالميّة لحظات لقاء وشركة عامّة يعيشها العالم كلُّه معًا مدَّة أيّام وأشهر.ومن ثمَّ أصبحت وسيلة لتوحيد البشريَّة على اختلاف مشاربها وحضاراتها ودياناتها. والشباب بصورة خاصّة يعشقونها وهم من بين المشجِّعين والمعجبين بالأبطال والنجوم الذين يظهرون في المباريات المختلفة.
الرياضة البدنيّة تمرين نافع ونظام صالح في سبيل صحّة الإنسان الجسديّة والعقليّة، بحسب المثل الدارج القائل: «العقل السليم في الجسم السليم». إنَّها تمنح من يزاولها حيويَّة ونشاطًا، وجاهزيّة للخدمة ولتحمّل مسؤوليّات الحياة. قال القديس فرنسيس الأسيزي: «عليّ أن أعتني بجسدي ليكون جاهزًا للخدمة الصعبة، خدمة النفس».
عند ممارسة الرياضة ضمن فريق، فإنّها تخلق في أعضاء الفريق روح نظام وانضباط وتعاون وعمل مشترَك، وروح تضامن ومسؤوليّة. ولذلك يكون النجاح أو الفشل نجاحًا أو فشلاً للفريق كلِّه، وليس لأيّ فرد فيه فقط. ولروح الجماعة هذه نتائج إيجابيّة في حياة الأفراد وعلاقاتهم في المجتمع.
ولا بدَّ من تنشئة روح رياضيّة وأخلاقيّة صالحة للشباب، لتبقى الرياضة مصدر ترفيه وفائدة معنويّة وجسميّة لهم. لأنّه في الرياضة أيضًا يمكن أن توجد الانحرافات. ويمكن أن يتحقَّق النجاح بطرق ملتوية وفاسدة، فتَلحق من جرّاء ذلك إساءةٌ بالرياضة وبالرياضيّين. لذلك لا بدّ من تصويبٍ لهذه الممارسات.
أحبَّ البابا يوحنا بولس الثاني الرياضة. فأنشأ هيئة حبريّة لشؤون الشبيبة والرياضة. فشجَّعت هذه الهيئة وبيَّنت منافع الرياضة للشبيبة وللمجتمعات البشريّة. وتكلَّمت على القِيَم الإنسانيّة والمسيحيّة اللازمة لخلق ثقافة رياضيّة تعمل على تربية الإنسان لخدمة السلام والأخُوَّة بين الشعوب.ولكنّها تطرَّقت أيضًا إلى الانحرافات الممكنة في هذا المجال مثل المخدِّرات والعنف ودعت لمعالجتها ووضع حدٍّ لها.
أراد البابا أن تكون هذه الهيئة التي أسماها «الكنيسة والرياضة»، بمثابة مرجع في الكنيسة لكلّ المنظّمات الرياضيّة، الوطنيّة والدوليّة. كان ذلك بدءًا لرعويّة الرياضة في العالم، وقد تجاوبت معها بعض كنائسنا في بلداننا الشّرقيّة. ونحن نرجو لها النجاح في تشجيع شبابنا على ممارسة هذا النشاط الإنسانيّ وفقًا للقِيَم الإنسانيّة والمسيحيّة معًا.
الإعلام والإعلان
51.    لا أحدَ ينكر ما لوسائل الإعلام والإعلان، في أيّامنا، من تأثير على الناس، ولا سيّما على الأولاد والشباب. فمعرفةُ هذا القطاع ودورِه وأساليبِه وكيفيّةِ الإفادة منه أمرٌ مفروض عليهم وعلى الجميع.
وسائل الإعلام بإمكانها أن تهدم وأن تبني، بحسب ما تحمل من مضامين وبحسب الوسائل التي تستخدمها. وظيفتها أن تعلن الحقيقة، من أجل إنماء الإنسان ومجتمعه، ومن أجل تحقيق الخير العامّ. ولا يكفي أن يكون مضمونها جيّدًا، بل الوسيلة التي تستخدمها للوصول إلى غايتها، يجب أن تكون هي أيضًا صالحة، لا تُناقِضُ الآداب والأخلاق، ولا تستغلُّ خصوصًا الإنسان وكرامته وجسده للدعاية والتجارة والربح.
أيّها الشباب الأعزّاء! قد تُقدَّمُ لكم عروض كثيرة على أنّها لإنمائكم وسعادتكم. فعليكم أن تتيقّظوا وتكونوا قادرين على الحكم في الأشياء وعلى تمييز الصالح من الرديء. لستم بعد أولادًا يقف إلى جانبكم من يفكّر عنكم أو يقرّر مكانكم. في عالم يتنامى فيه الغش والاستغلال، في عالم الاستهلاك الذي فيه نعيش، إنّ قدرتكم على التمييز النيّر وعلى صياغة الأحكام الصائبة والسليمة، هذا ما يجب أن يميّز حياتكم، فلا تكونون شبابًا موجَّها ومنقادًا، في مجتمعات مصيرها الدمار والموت. تجدون في الإنجيل وتعاليم الكنيسة المبادئَ السليمة التي تؤسّس أحكامكم. بها تحفظون أنفسكم ومجتمعاتكم من الفساد، وتنهضون بها إلى مستوى حياة كريمة ولائقة بالإنسان.
إنّنا ندعوكم إلى الحذر من الانقياد وراء الإعلام الموجَّه والمشوَّه والمشوِّه للحقيقة من قبل أيدولوجيات معيّنة، وبالتالي ندعوكم إلى التصرّف بذكاء وحكمة في حالة سماع خبر ما، مع الاحتفاظ بروح التحرّي والنقد قبل إصدار الأحكام. بل ندعوكم إلى الانخراط في العمل في مجال الإعلام لما له من الأثر الحاسم في توجيه المجتمعات وبنائها.
توجد في شرقنا اليوم وسائل إعلام كنسيّة لها مكانتها وتأثيرها على الكثيرين من أبنائنا، كما يستفيد غير المسيحيّين أيضًا من برامجها. إننا نحيّي هذه المؤسّسات الناجحة ونذكر بصورة خاصَّة «نورسات» و«صوت المحبّة». ونحثّ الجميع، ولا سيّما الشباب، على متابعتها والإفادة منها لمعارفهم وسلوكهم وإيمانهم وعبادتهم، كما نشجّعهم على دعمها بالوسائل المتاحة لتواصل رسالتها وخدمتها للمؤمنين وللإنسان عامّة في الشّرق.
 
 
52.    أيّها الشباب الأعزّاء، كتبنا إليكم هذه الرسالة لأنّكم مستقبل كنائسكم ومجتمعاتكم. بلداننا تمرُّ بمرحلة نضوج سياسيّ واقتصاديّ وبأزمات كثيرة متلاحقة.وفي داخل مجتمعاتنا أيضًا لم نبلغ بعد التوازن المطلوب في العلاقات بين المواطنين وبين الديانات. والحرّيّة وممارستها ما زالت هدفًا نسعى إليه. بل ما زالت الحرّيّة وحرّيّة الشباب خاصّة تخيف الحكَّام والمسؤولين. ولا بدَّ من القول إنَّنا، أفرادًا وجماعات، ما زلنا بحاجة إلى أن نتعلَّم كيف نمارس حرِّيّاتنا بحيث لا تتحوّل إلى اعتداء على حرِّية الآخرين.
ونحن، كنائسَ ومؤمنين، نستشعر ونعيش نقاط الضعف التي في مجتمعاتنا. مع أنّ كنائسنا وإيماننا مصدرٌ نستمدُّ منه الحياة والطاقات الروحيّة التي تساعدنا لنسهم مع إخوتنا في مواجهة المرحلة التاريخيّة الراهنة بغية الوصول إلى مستقبل أفضل. بناء المجتمع أمر مشترك بين جميع المواطنين. والمسيحيّ كمسيحيّ عليه التزام وواجب في هذا الواجب العامّ. منحه الله مواهب يجب أن يستثمرها. والتزام المسيحيّ في مجتمعه لا يعني أن يتّخذ مواقف طائفيّة أو مواقف تزمُّت دينيّ أو تعصُّب. إنّما نقول بكل بساطة إنَّ الطاقة الروحيّة التي يستمدّها المسيحيّ من إيمانه، ورؤيته في الحياة المبنيّة على المحبّة والحياة الوافرة للجميع، هذا ما يجب أن يضعه في خدمة الجميع.
بدأْنا رسالتنا فقدَّمْنا لكم يسوع المسيح مثالاً والرؤيةَ الجديدة التي أتى بها للبشريّة. والعالم اليوم ومجتمعاتنا بحاجة إلى هذه الرؤية الجديدة. وعليكم أنتم، أيّها الشباب، أن تتمِّموا هذه المهمّة. وقدرتكم على تنفيذ المهمّة متوقِّفة على مدى الجدِّيّة التي تنظرون بها إلى إيمانكم وتعيشون بموجبه.
كلَّمناكم على رسالة العلمانيّين، ومن ثمَّ على رسالة الشباب في الكنيسة. ورسالتكم هي مشاركة في مختلف نشاطات الكنيسة وفي مختلف نشاطات المجتمع. بل إنَّ المشاركة في حياة الكنيسة وبصورة خاصَّة في حياة الرعية تؤهِّلكم للمشاركة في حياة المجتمع. العبادة الحقيقيّة والسجود الحقيقيّ هو الذي يضعكم أولاً في حضرة الله ثم يُرسِلكم خارجَ رعيّتكم وكنيستكم إلى المجتمع كلِّه. في العالم أنتم شهود بحياتكم أولاً، وبحياتكم الممتلئة بحياة الله وبحضوره بين الناس، وبهذا الحضور تكونون خميرة في العجين. إنّ مقدرتكم على إشراك الغير في هذه الحياة الإلهيّة التي تحملونها هي التي تميِّز إسهاكم في البناء. لقد منحكم الله نعمته، ولهذا أنتم مُرسَلون: كلُّ من يمنحه الله هبة يمنحه إياها لنفسه ولغيره. وأنتم مرسَلون إلى جميع المجالات كما ذكرْنا: الأسرة والهجرة ووسائل الإعلام والرياضة والسياسة والاقتصاد والسلام والحرب والعدالة. في كلِّ مكان وفي كلِّ مجال، تحملون الحياة مع الله والقيم الإنسانيَّة التي تنجم عنها، للتغلُّب على المواقف الفرديّة والأنانيّة والخلل في التوازنات القوميّة والدوليّة. وهناك أمر هامّ آخر يجب أن تتنبَّهوا له: ما دامت الصعاب مستمرّة، وما دامت فترة النضوج في تاريخنا تُعرِّضُنا للأزمات، تقوم مهمَّتكم بأن تُبقُوا الأمل حيًّا، فتتداركون الإحباط ولا يخرجُ أحد من الصفوف خاذلاً الجماعة في مسيرتها وجهادها. قال القديس بطرس في رسالته الأولى: «كُونُوا دَائِمًا مُستَعِدِّينَ لأن تَرُدُّوا عَلَى مَن يَطلُبُ مِنكُم دَلِيلَ مَا أَنتُم عَلَيهِ مِنَ الرَّجَاءِ» (1 بطرس 15:3).
ننهي رسالتنا برفع نظرنا إلى سيِّدتنا مريم العذراء لنتأمَّل فيها. هي مثالٌ للمرأة ولكلِّ إنسان يعيش مع الله ومع الناس. هي الممتلئة نعمة. هي الممتلئة بالحياة الوافرة التي منحها إيّاها الله لترافق يسوع كلمته الأزليّ المتأنّس. هي أمُّ يسوع وأمُّنا. تأمّلوا في بهاء النعمة فيها. واقتدوا بطهارتها وبقداستها وباستقامتها في الحياة. واطلبوا شفاعتها. وفيما تتأمَّلون في قداستها، تذكَّروا وصيَّة بابا الشباب الراحل، يوحنا بولس الثاني: «لا تخافوا من السير نحو القداسة. كلُّكم مدعوُّون إلى أن تكونوا قدّيسين». مع مريم العذراء سوف تكون لكم القوّة لمتابعة الطريق نحو القداسة، في حياتكم الشخصيّة وفي إسهامكم في بناء كنائسنا ومجتمعاتنا.
وإنّنا بشفاعة العذراء الكلّيّة الطوبى والطهارة نمنحكم بركتنا الأبويّة باسم الآب والابن والروح القدس الإله الواحد. آمين.
+ أنطونيوس نجيب، بطريرك الإسكندرية للأقباط الكاثوليك.
+ نصرالله بطرس صفير، بطريرك أنطاكية وسائر المشرق للموارنة.
+ غريغوريوس الثالث، بطريرك أنطاكية وسائر المشرق والإسكندرية
والقدس للروم الملكيين الكاثوليك.
+ أغناطيوس بطرس الثامن عبد الأحد،بطريرك السريان الأنطاكي.
+ عمانوئيل الثالث دلّي،بطريرك بابل على الكلدان.
+ نرسيس بدروس التاسع عشر،كاثوليكوس بطريرك كيليكيا
للأرمن الكاثوليك.
+ ميشيل صبَّاح،بطريرك القدس للاتين.
 
 
صدرت هذه الرسالة باللغتين العربية والفرنسية في عيد الميلاد 2006، عن منشورات الأمانة العامة ، بكركي 2006
 
ملاحظة: الاقتباسات من الكتاب المقدسة أُخِذَت من الترجمة اليسوعية، طبعة 1989
 
بعض المصادر
وثائق من المجمع الفاتيكاني الثاني
الكنيسة نور الأمم، دستور عقائدي في الكنيسة، 21/11/1964.
– فرح ورجاء، دستور راعوي في الكنيسة في عالم اليوم 7/12/1960.
– النشاط الرسولي، قرار في رسالة العلمانيين 18/11/1965.
 
الرسائل البابويّة العامة للبابا يوحنا بولس الثاني
– فادي الإنسان، 4/3/1979.
– الاهتمام بالشأن الاجتماعي، 30/12/1987.
– تألـُّق الحقيقة، 6/8/1993.
– الإيمان والعقل، 14/9/1998.
 
رسالة للبابا يوحنا بولس الثاني
– في بداية الألفيّة الجديدة، 6/1/2001.
 
إرشاد رسولي في إثر انعقاد سينودس الأساقفة
– بشارة الإنجيل، للبابا بولس السادس، 8/12/1975.
– المؤمنون المسيحيّون العلمانيّون، للبابا يوحنا بولس الثاني، 30/12/1988.
– رعاة القطيع، للبابا يوحنا بولس الثاني، 16/10/2003.
– رجاء جديد للبنان، للبابا يوحنا بولس الثاني، 10/5/1997.
 
نداء للبابا يوحنا بولس الثاني
– في اليوم الخامس والعشرين العالمي للسياحة 30/5/2004 (السياحة والرياضة).
رسائل راعوية لمجلس بطاركة الشّرق الكاثوليك
– الحضور المسيحيّ في الشّرق، شهادة ورسالة، 1992.
– معًا أمام الله، 1994.
– سرّ الكنيسة، 1996.
– العائلة مسؤوليّة الكنيسة والدولة، 2005.
 
مجموعة القوانين الكنسيّة الشّرقيّة 18/10/1990
 
مجموعة أعمال الكرسي الرسولي
AAS 1976, 687
AAS 1978, 70 (947(
AAS vol 47, p.232.
 



1. رعاة القطيع، 53.
2. فادي الإنسان،1.
3. إطلالة الألف الثالث، 4 و10.
4. الكنيسة نور الأمم، 31.
5. الإيمان والعقل، 2.
6. تألق الحقيقة، 1. راجع أيضًا الكنيسة نور الأمم، 1.
7. رجاء جديد للبنان، 51.
8. العلمانيّون المؤمنون بالمسيح، 46.
9. سرّ الكنيسة، 59.
10. ر. مجموعة قوانين الكنائس الشّرقيّة، ق 272 و295، والعلمانيّون المؤمنون بالمسيح، 27.
 11. تعليم الكنيسة الكاثوليكيّة، رقم 2179.
12. العلمانيّون المؤمنون بالمسيح، 25 و26.
13. بولس السادس، خطاب للإكليروس الروماني (24 حزيران 1963):
 AAS. 55 / 1963 / 674.
14. العلمانيّون المؤمنون بالمسيح، 26.
15. العلمانيّون المؤمنون بالمسيح، 55 و56.
16. رجاء جديد للبنان، 51.
17. رجاء جديد للبنان، 82.
18. بشارة الإنجيل، 14.
19. الكنيسة نور الأمم، 1.
20. المرجع السابق، 30.
21. فرح ورجاء، 22.
22. المصدر نفسه.
23. AAS. 70 (1978)947
24. الحضور المسيحيّ في الشّرق – شهادة ورسالة، 47.
25. العلمانيّون المؤمنون بالمسيح، 35.
26. الحضور المسيحيّ في الشّرق – شهادة ورسالة، 48.
27. معًا أمام الله، 40.
28. العائلة مسؤوليّة الكنيسة والدولة.
29. فرح ورجاء، 1.
30. تجدر قراءة الرسائل البابويّة في الشؤون الإنسانيّة والاجتماعيّة.
31. ردّ على الهراطقة.
32. فرح ورجاء، 35. ر. أيضًا خطاب بولس السادس إلى السلك الدبلوماسي 1965، في أعمال الكرسي الرسولي، مجلّد 47، صفحة 232.
33. الاهتمام بالشأن الاجتماعي 28.
34. الرسالة إلى ديوغنيتس، 8، 5 في المصادر المسيحيّة 33، باريس (1965)، ص. 70.
35. قرار «في رسالة العلمانيين»، 14.
36. رجاء جديد للبنان، 96.
37. تعليم الكنيسة الكاثوليكيّة رقم 2263- 2267 و2302- 2317.