دلالات تاريخية على صلب المسيح

\"\"
يعتبر صلب المسيح من أهم ركائز المسيحية. وهناك الكثير من الاثباتات والوثائق التاريخية التي تؤكد حتمية صلب المسيح، هذه الوثائق تنقسم الى اربع فئات منها:

1- الوثائق الوثنية: أهمية هذه الوثائق ان مؤلفيها وثنيون يضمرون العداء للمسيحية ويسخرون منها ولاسيما في الايام الاولى من نشوئها، معظم هذه الوثائق تعود الى القرن الاول والثاني للميلاد، ومن أبرز كتابها:
كورنيتيوس تاسيتوس (55-125م): كاتب روماني عرف بالدقة العلمية والنزاهة الفكرية، وعاصر ستة أباطرة ومن أشهر مؤلفاته "الحوليات والتواريخ". وردت في مؤلفاته ثلاث اشارات عن المسيح والمسيحية ابرزها ما جاء في حولياته: "وبالتالي لكي يتخلص نيرون من التهمة (حرق روما) ألصق هذه الجريمة بطبقة مكروهة معروفة باسم المسيحيين، ونكل بها أشد تنكيل، فالمسيح الذي اشتق المسيحيون منه اسمهم كان قد تعرض لاقصى عقاب في عهد طيباريوس على يد أحد ولاتنا المدعو بيلاطس البنطي.
ثثلوس (توفي 52م): من مؤرخي الرومان القدامى، وقد ضاع مؤلفه ولم يبق منه سوى شذرات في مؤلفات الآخرين وقد اقتبس فيها يوليوس الافريقي في سياق حديثه عن صلب المسيح والظلام الذي خيّم على الارض عندما استودع روحه بين يدي الآب السماوي.
وقد بنى يوليوس رفضه على اساس ان الكسوف الكامل لا يمكن ان يحدث في اثناء اكتمال القمر، لاسيما ان المسيح صلب في فصل الاحتفال بالفصح، وفيه القمر يكون بدراً مكتملاً. ولم يكن ثثلوس وحده هو من اثار هذا الظلام بل كثير من القدامى منهم الإمام الحافظ الذهبي ابن كثير المؤرخ الاسلامي في القرن الرابع عشر في كتابه "البداية والنهاية" (الجزء الاول ص182).
لوسيان اليوناني (القرن الثاني): كان يسخر من المسيحيين، ومن جملة ما قاله في مقالاته: "ان المسيحيين… ما زالوا الى هذا اليوم يعبدون رجلاً – وهو شخصية متميّزة استن لهم طقوسهم الجديدة وصلب من اجلها".
 سيتونيوس (120م): هو من جملة الذين ذكروا في مؤلفاتهم عن المسيح المصلوب بصورة مباشرة أو غير مباشرة، اذ اشار الى الاسباب التي أدت الى اضطهاد المسيحيين ومن بينها ايمانهم بصلب المسيح وموته وقيامته.
كاسيوس الفيلسوف: من الدّ أعداء المسيح. أيّد في كتابه "البحث الحقيقي" قضية صلب المسيح، وان سخر منها.
مارابار سيرابيون: قال في رسالة كتبها لابنه في السجن يعود تاريخها الى القرن الاول: "وأية فائدة جناها اليهود من قتل ملكهم الحكيم، لم يمت هذا الملك الحكيم الى الابد لأنه عاش من خلال تعاليمه التي علّم بها". ولا شك ان المقصود بالملك الحكيم هو المسيح.
2- الوثائق اليهودية: يوسيفوس  (37-97م): ذكر في كتابه "التواريخ" فقرة جاء فيها: "وفي ذلك الوقت كان هناك رجل حكيم يدعى يسوع… غير ان بيلاطس حكم عليه بالموت صلباً".
التلمود: نقرأ في النسخة التلمودية التي نشرت في هولندا عام 1943 وفي صفحة 42 ما يلي: "لقد صلب يسوع قبل الفصح بيوم واحد…".
هناك مخطوطة (
toledoth jesu) يهودية معادية للمسيحية لا تشير فقط الى المسيح بل ايضاً تشير الى قصة خيالية عما حدث لجسده بعد موته وهي ان تلاميذ المسيح حاولوا ان يسرقوا جسده. هذه المخطوطة، على ما فيها من عداء للمسيحية، هي اكبر شاهد على صلب المسيح وقيامته لانها شهادة من عدو موتور.
3- الوثائق الغنوصية (المعرفة): تأثرت الغنوصية بالنظرة الاسلامية في مفهومها لصلب المسيح. غير أن تعليم الشبه في الغنوصية كان يرمي الى غرض يختلف عما كان يرمي اليه الدين الاسلامي. فالغنوصية أو بعض فرقها على الاقل، رأت أن المسيح وهو إله متجسّد، لا يمكن أن يتعرّض للصلب لأن جسده يغاير أجساد البشر. لهذا يتعذر أن يكون المصلوب هو جسد المسيح. أما الاسلام فلا ينكر عملية الصلب، ولكنه ينكر أن المصلوب كان المسيح، ليس على أساس طبيعة جسده إنما على أساس أن المسيح لم يُصلب إطلاقاً بل رُفع الى السماء بقدرة الله قبل أن يتمكن أعداؤه من القبض عليه، وأوقع الله شبهه على آخر فحلّ محله.
الغنوصية توفر لنا أدلة على صحة رواية الانجيل عن صلب المسيح وقيامته، ولاسيما ما ورد في المؤلفات الغنوصية الاولى كمثل إنجيل الحق (135-160م) وإنجيل يوحنا الأبوكريفي (120-130) وإنجيل توما (140-200م) ومع أن هذه الاناجيل غير موحى بها من الله، فإنها كلها تتحدث عن الكلمة، وأن المسيح هو إله وإنسان. ونجد هذه الفقرة في إنجيل الحق:
"كان يسوع صبوراً في تحمله للآلام… لأنه علم أن موته هو حياة للآخرين… سمّر على خشبة، وأعلن مرسوم الله على الصليب، هو جرّ نفسه الى الموت بواسطة الحياة… سربلته الابدية. وإذ جرّد نفسه من الخرق البالية فإنه اكتسى بما لا يبلى مما لا يستطع أحد أن يجرده منه".
ونطالع ايضاً في كتاب غنوصي
The Secret Teaching of Christ وهو مؤلف من القرن الثاني ما ترجمته:
"فأجاب الرب وقال: الحق أقول لكم كل من لا يؤمن بصليبي فلن يخلص، لأن ملكوت الله من نصيب الذين يؤمنون بصليبي".
4- الوثائق المسيحية: الوثائق المسيحية دينية كانت أم أدبية أم تاريخية، هي سجل دقيق تعكس عمق ايمان آباء الكنيسة الاولى بكل ما تسلموه من الانجيليين من التقليد، أو عن طريق الكلمة المكتوبة. كذلك هي إثباتات قاطعة على صحة ما ورد في الاناجيل من أحداث وعقائد ولاسيما ما يختص بموت المسيح وقيامته. وكما أن هذين الحدثين يشغلان حيزاً كبيراً من العهد الجديد فإنهما ايضاً كانا المحور الاساسي في مؤلفات آباء الكنيسة الاولى.
وبالطبع فإن هذه الوثائق أو المخطوطات تنص على النبوات المتعلقة بموت المسيح وقيامته كما هو الحال في الكتاب المقدس الذي بين أيدينا. وأكثر من ذلك، إذا رجعنا الى مؤلفات آباء الكنيسة منذ العصر الاول الميلادي وجمعنا مقتبساتهم من العهد الجديد لوجدنا أنه يمكن إعادة كتابة العهد الجديد بكامل نصه باستثناء سبع عشرة آية فقط. وهذه النصوص لا تختلف عما لدينا من نصوص العهد الجديد الحالي، ومن جملتها ما جاء عن لاهوت المسيح وموته وقيامته.
أما مؤلفات آباء الكنيسة فهي:
-1 رسالتان من تأليف اكليمندس أسقف روما.
-2 رسائل أغناطيوس كان قد بعث بها الى الافراد والكنائس في أثناء رحلته من انطاكية الى روما حيث استشهد.
-3 رسالة بوليكاربوس تلميذ الانجيلي يوحنا الى أهل فيلبي.
-4 الديداكي أو تعليم الرسل، وهو كتاب يدور حول أمور عملية متعلقة بالقيم المسيحية ونظام الكنيسة.
-5 رسالة عامة منسوبة الى برنابا وفيها يهاجم بعنف ناموسية الديانة اليهودية، ويبين أن المسيح هو تتمة شريعة العهد القديم.
-6 دفاعيات جاستنيانوس، وقد أورد فيها جملة من الحقائق الانجيلية، ولاسيما ما يختص بشخص المسيح وحياته الارضية وصلبه وقيامته. هذا فضلاً عن مؤلفات أخرى وصلتنا مقتطفات منها كدفاع كواداراتوس الذي اقتبس منه يوسيبس الفقرة التالية:
"إن منجزات مخلصنا كانت دائماً أمام ناظريك لأنها كانت معجزات حقيقية، فالذين برئوا، والذين أقيموا من الاموات لم يشهدهم الناس عندما برئوا وأقيموا فقط بل كانوا دائماً موجودين (معهم). لقد عاشوا زمناً طويلاً. ليس فقط في أثناء حياة المسيح الارضية بل حتى بعد صعوده. إن بعضاً منهم بقوا على قيد الحياة الى وقتنا الحاضر.
-7 وكذلك مخطوطة راعي هرمس وقد دعيت بهذا الاسم نسبة الى أبرز شخصيات الكتاب. أما فحوى المؤلف فينطوي على مجموعة من الامثال والاوامر المختصة بالعقيدة.
 يوفر لنا تاريخ الكنيسة ايضاً بيّنات أخرى مهمة على ايمان مسيحيي القرون الاولى الوثيق بصلب المسيح وموته وقيامته، فقد تم العثور في سراديب روما واقبيتها على رسوم شعار الصليب ونقوشه، وهي أماكن كان يجتمع فيها المسيحيون سراً خوفاً من جواسيس الحكومة الرومانية الوثنية. كذلك عمد المسيحيون الى نقش شعار الصليب على أضرحة موتاهم تمييزاً لها عن أضرحة الوثنيين. فلو لم يكن هؤلاء المسيحيون على ثقة أكيدة من صلب المسيح لما أخذوا الصليب شعاراً لهم، ولاسيما أن الصليب كان رمز عار عند اليهود والرومان على حد سواء. أما الآن بعد صلب يسوع المسيح عليه أصبح رمز فخر وايمان. ولو لم يكن الصليب حقيقة متأصلة في ايمان هؤلاء المسيحيين لما تحملوا من أجله كل اضطهاد واستشهدوا في سبيله.
نقلاً عن "الجمل"، المصدر: النهار