نزيف هجرة المسيحيين العرب

نزيف هجرة المسيحيين العرب

  بقلم: البطريرك نرسيس الـ19 – الأمير طلال بن عبدالعزيز

ننشر كلمة الافتتاح التي ألقاها بطريرك الأرمن الكاثوليك في المؤتمرالـ16 لبطاركة الشرق الكاثوليك الذي يحمل عنوان "الكنيسة وأرض الوطن" المنعقد بين 16 و 20تشرين الاول 2006، في دير بزمّار بلبنان.. وللمناسبة ننشر مقالاً للأمير السعودي طلال بن عبدالعزيز يحذّر فيه، ككلمة البطريرك، من نزيف هجرة المسيحيين..
الحضور المسيحي في الشرق شهادة ورسالة
بقلم البطريرك نرسيس بدروس التاسع عشر
"إن الحضور المسيحي في الشرق شهادة ورسالة"، .. "ليست هجرة المسيحيين ظاهرة حديثة، انه واقع عرفه الشرق منذ القديم وعلى مدى القرون. وليست الهجرة التي يعانيها شعبنا منحصرة في المسيحيين وحدهم، بل هي ظاهرة طبيعية لدى جميع الشعوب. غير أن الرغبة في الهجرة لدى مسيحيي الشرق هي أقوى نسبة لغيرهم من الشعوب بسبب شعورهم كأنهم غرباء وهم في أوطانهم. وهذا الشعور هو نتيجة إحساس المسيحيين بانتقاص في انتمائهم الوطني في عرف بعض الدول العربية، وأيضاً بسبب نظرة دونية لهم من بعض المتزمتين، ومعاملتهم كأهل ذمة، وبسبب التشكيك في انتمائهم العربي واتهامهم الباطل بالتعامل مع الأجنبي. زد على ذلك الاعتداءات المتكررة والمبرمجة على المسيحيين وكنائسهم ومصالحهم، وافتعال الفتن لاستدراجهم الى المواجهة القسرية مع اخوانهم المسلمين او لدفعهم الى الهجرة. ويتلاقى هذا الشعور بالغربة في الوطن مع التسهيلات للهجرة من قبل الدول الغربية. هذه الاسباب وتفاقمها في الآونة الاخيرة تدفعنا، كنائس وحكومات، الى العمل الجدي لوقف هذا النزف البشري. فهجرة الشباب والمفكرين والمثقفين والمتمولين تنعكس سلبا على المجتمع سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وفكريا. ان تضاؤل المسيحيين في الشرق او انحسار دورهم هو خسارة للحضارة المسيحية في العالم عموما وفي الشرق العربي خصوصا . كما ان احياء الحضور المسيحي الفاعل وتعزيز دور المسيحيين في حياة المنطقة يغني الاوطان في كل المجالات، لأن تراثنا الانساني والروحي ليس ملكا لكنائسنا وحدها، بل هو إرث عربي وعالمي وهذا ما يدفعنا الى العمل لمعالجة جدية وفعالة لموضوع الهجرة".
.. "لا نود ان نكتفي بالنظرة السلبية الى الهجرة، بل نتطلع بأمل الى الاستفادة من ايجابياتها. تفتخر كنائسنا وبلادنا بأبنائها المقيمين في مختلف أقطار العالم. لقد حمل المنتشرون في الشتات ايمانهم بالله ومحبتهم لوطنهم وتعلقهم بكنيستهم بكل اعتزاز مع تمسكهم بتراثهم وعاداتهم. لقد حافظوا على شعائرهم الدينية يوم لم تكن الكنيسة قادرة على مواكبتهم روحيا او اجتماعيا. لقد وعت كنائسنا اليوم أهمية التواصل مع المنتشرين من أبنائها، فسعت ضمن امكاناتها الى اقامة الابرشيات وتأسيس الرعايا حيث دعت الحاجة، ووفرت لهم الطاقات الروحية من كهنة ورهبان وراهبات. لقد شكل الاغتراب المسيحي غنى للكنيسة وللوطن على حد سواء، مما دفع المسؤولين الى توطيد العلاقة بين المغتربين والمقيمين وبين كنيسة الانتشار والكنيسة الأم. غير ان مسعى الكنائس في هذا المجال صادف بعض الصعوبات القانونية، نذكر منها على سبيل المثال مسألة امتداد سلطة البطاركة خارج الرقعة البطريركية وعدم قبول الكهنة المتزوجين في بعض بلاد الانتشار. بيد أن هذه الامور وغيرها، والتي نعمل على معالجتها، لا تشكل في الواقع عقبة أساسية أمام تأمين الخدمة الراعوية المطلوبة للمغتربين (…).
ان النازحين قوة الكنيسة في استمراريتها وتجددها. وعليه، فالكنيسة مدعوة كالحكومات الى التفكير في السبل الآيلة الى تعزيز هذه العلاقة ومد الجسور وتأمين التواصل".
نقلاً عن "النهار": كلمة الافتتاح في مؤتمر بطاركة الشرق الكاثوليك (الاثنين 16 ت1 2006 – بزمّار، لبنان)

 

المسيحيّون العرب وقلق الهجرة

بقلم الأمير طلال بن عبدالعزيز
يتعرض العالم العربي لنزيف بشري واجتماعي وثقافي وسياسي واقتصادي على جانب كبير من الخطورة: هجرة العرب المسيحيين التي لم تنقطع منذ أعوام عدة. انه واقع صعب ستخرج عنه آثار بعيدة على مصير عالمنا العربي وسيغيّر من طبيعة المنطقة ومن أسس ازدهارها وسلامها واستقرارها الداخليين إن لم يتخذ العرب، مسلمين ومسيحيين، على السواء قرارا بالتصدي لهذه الظاهرة.
وكما في زمن الأزمات الكبرى كالتي يعبرها العالم عموما والعالم العربي خصوصا اليوم، لا بد من وقفة للمراجعة مع أسباب هذه الهجرة القاتلة للنسيج العربي.
لقد شكَّل العرب المسيحيون إحدى ركائز البناء العربي القديم والحديث على السواء. ففي فجر الإسلام كانوا ركناً ثقافياً وسياسياً وعسكرياً من الدولة العربية التي توسعت شرقا حتى بلاد السند وغرباً حتى إسبانيا وكانوا أحد عناصر القوة الدافعة التي حملت الإسلام إلى خارج جزيرة العرب وبلاد الشام والتي شكلت أحد العناصر الحاسمة في توسع هذه الدولة ونموّها وسيادتها على معظم العالم القديم.
في عصر النهضة الممتد طوال القرنين التاسع عشر والعشرين لم يغب العرب المسيحيون عن دورهم في إعادة إحياء معالم العروبة ومضمونها الحضاري الجامع والمنفتح على الحضارات الأخرى الناهضة في مرحلة التراجع العربي. شكلوا حلقة وصل واتصال، وعمقاً ثقافياً أصيلاً في العروبة ومتقدما في العصرنة والحداثة.
كان العرب المسيحيون ولا يزالون نتيجة لثقافتهم المتنوعة المناهل، يخلقون تحدياً مستمراً في الثقافة والفكر، وهجرتهم تلغي هذا المعنى باعتباره تنوعا غنيا وتسلخ فئة كبرى عن أصولها العرقية والثقافية الأصيلة.
عندما نتحدث عن وجود المسيحيين في العالم العربي نعني بقاءهم فيه. فهم من عناصر التكوين الأولى التي يمنع بقاؤها قيام بيئة تفترش التعصب والتطرف وبالتالي العنف المؤدي إلى كوارث تاريخية.
بقاؤهم هو الرد بالفعل لا بالقول على مقولة إسرائيل في دولة الدين الواحد، والعرق الصافي، والشعب المختار. وكسر لأسس الفكر الصهيوني في نتائجه المعروفة والقائمة على الحديد والنار والدماء والدموع. والأهم من ذلك كله على فكرة إلغاء الآخر.
بقاؤهم ترسيخ للدولة العصرية المتعددة العنصر والمتنوعة في وحدتها ونفي قاطع لعنصرية الدولة.
بقاؤهم قوة لقضايا العرب في اتصالهم مع الغرب المسيحي اجتماعياً، ثقافياً واقتصادياً. أما هجرتهم فقوة معاكسة وعرضة لاستغلال بيئة تضيِّق مناخات الحوار والتواصل.
بقاؤهم خيار عربي باعتماد الديموقراطية وانتهاجها في الاحتكام إلى الإنسان والمواطن والعقل والحق والحرية والإبداع وتاليا انه ميل مؤكد لاغناء النسيج الاجتماعي العربي والدولة العربية العصرية، وهو خيار حاسم بتدمير منطق الحروب الأهلية كما حدث في لبنان في الأعوام 1840 و1860 و1975 . وكما هو حاصل في السودان وكما يُخشى أن يحصل في مصر.
بقاؤهم، أخيراً وليس آخراً، هو منع لاستنزاف قسم مهم من الطاقات العلمية الثقافية والفكرية الخلاقة في العالم العربي، وهو أيضاً حرص أكيد على عناصر قوة اقتصادية في التجارة والصناعة والمال والتخصص المهني.
باختصار، إن هجرة العرب المسيحيين في حال استمرارها هو ضربة عميقة توجه إلى صميم مستقبلنا.
مهمتنا العاجلة منع هذه الهجرة، ترسيخ بقاء هذه الفئة العربية في شرقنا الواحد، والتطلع إلى هجرة معاكسة إذا أمكن.
نقلاً عن جريدة "المحرر العربي" / السبت 2 شباط 2002