الخَطيئَة الأصْليَّة كَيْفَ نفهَمْهَا اليَوم

الخَطيئَة الأصْليَّة

كَيْفَ نفهَمْهَا اليَوم

 

بقَـلم

الأبّ/عَـزيز الحَلاّق اليَسُوعيّ

 

طبعـة ثانية

موسوعة المعـرفة المسيحيّة

العـقيدة (3)

دار المشرق ـ بيـروت

 

 

 

 

  

المقـدّمة

يُعَدّ موضوع الخطيئة الأصليّة من المواضيع الشائكة التي يصعُـب فهمها، وغالبًا ما يُسبّب الصدمة الأولى التي نتلقَّاها في المرحلة المبكّرة من تعلمنا الدينيّ؛ فبعـد فرحة الأسبوع الأوّل من الخلق، وما يتجلّى خلاله من محـبّة الله الخلاّقة وعطاياه التي لا حدود لها، وخصوصًا ما منحه الله الإنسان من مكانة داخل الخليقة، تأتى ما نسمّيه " الخطيئة الأصليّة " فتسود تلك الصورة تاركة في الكثيرين شعورًا من الخيبة والمرارة والخوف: فالمسافة شاسعة بين صورة الله الخالق وصورة الله المعاقِب الذي يُنْزل بالإنسان أقسى العقاب بسبب ما يبدو لنا أنّه حادثة تافهة خلاصتها أنّ الإنسان الأوّل أكل إحدى ثمار الجنّة وهي في عُرف كثير من الناس ثمرة التفاح. وممّا يزيد الأمور تعقيدًا وعسرًا على الفهم أننا نحمل وزر هذه الحادثة حتّى يومنا هذا، والسؤال الملحّ الذي لا بدّ أنْ يُطرح هو: كف يمكن تحمُّل تبعة خطيئة ارتكبها إنسان فى غابر العصور؟ ألا يتحمَّل كلّ إنسان تبعة أعماله؟ أمّا إذا سألنا عيّنة من الناس عمّا علق في أذهانهم من موضوع الخطيئة الأصليّة، فمعظمهم يروي قصّة الإغراء بين آدم وحوّاء بسبب التفّـاحة، وقد يتصوّر البعض أنّ هنالك خطيئة جنسيّة تكمن وراء تلك القصة.

 

ممّا لا شكّ فيه أنّ اعتبار الخطيئة الأصليّة نقطة انطلاق لعلاقة الله بالإنسان هو خطأ تربوي ولاهوتي. لذلك ينبغي إعادة النظر في المكانة التي تشغلها هذه العقيدة في منهاج التعليم الديني. كما لا بدّ من العمل والتفكير لإعادة تقييم فهمنا هذه العقيدة للتحرّر ممّا علق بها من الأفكار المشوّهة. لذلك سنحاول، من خلال هذا الكتيّب، قراءة الفصول الأولى من سفر التكوين، التي يستند إليها التعليم الديني في عرضه للخطيئة الأصليّة، وخاصّة الفصل الثالث منه، ثم ننتقل إلى رسالة القدّيس بولس إلى أهل روما، التي يعتبرها اللاهوتيّون منطلق عقيدة الخطيئة الأصليّة في العهد الجديد، وبالتحديد الفصل الخامس منها. وأخيرًا سنجمع ما توصّلنا إليه من نتائج ومعلومات لنلقي من خلالها الأضواء على مفهوم الخلاص: البشارة المسيحيّة وأثر ذلك على حياتنا الروحيّة.

 

 

 

ما هي الرسالة التي تتضمّنها قصّة آدم وحوّاء؟

يروي الفصل الثالث من سفر التكوين قصّة معصية الزوج البشريّ الأوّل. فبعد أن وضع الله الزوجين الأوّلين في الفردوس وسخّر كل شيء لهما، إذ أعطاهما الحيوانات كي يسودا عليها والنباتات ليأكلا منها، " رأى الله جميع ما صنعه فإذا هو حسنٌ جدًا " (تك ا : 31). ولكن، قبل أنْ يخرج الله من الفردوس، ترك الوصية التالية: " وأمر الرب الإله الإنسان قائلاً: من جميع أشجار الجنّة تأكل وأمّا شجرة معرفة الخير والشرّ فلا تأكل منها، فإنّك يوم تأكل منها تموت موتًا " (تك 2: 16 – 17). هذه الوصيّة ستكون الأداة التي ستستخدمها الحيّة المجرّبة للإيقاع بآدم وحوّاء في شباك المعصية. وردّة فعل البعض عندما يقرأون النصّ قراءة سطحيّة هي التعليق والقول: لو لم تكن هنالك وصيّة لما كانت هناك خطيئة ! ويضيفون: لماذا أعطى الله مثل هذه الوصيّة؟ وهل ضاقت عينه بثمرة أكلها الإنسان؟ والسؤال الذي يفرض نفسه هو: ما هو دور الشريعة أو الوصايا؟ أهي لمصلحة الإنسان أم للإيقـاع به؟

 

 

دور الوصيّة

تُعْتبر الوصايا والشرائع من الدعامات الأساسيّة التي تقوم عليها كل حياة دينيّة ونجدها فى الأديان كافّة، لكن كثيرًا من الناس ينظرون إليها كعائق يُكَبّل حرّيّتهم ويمنعهم من التمتّع بمباهج الحياة، فيصبح الدين في نظرهم مرادفًا لكلمة " لا " والله يصبح ذلك القاضي المتربّص بالإنسان لكي يضبطه في المعصية. وبذلك تصبح الشريعة مصدرًا للمعاصي والخطايا. فمثل هذا الفهم للوصيّة يسيء إلى مَن أعطى الوصيّة ويشوِّه الغاية منها. هذا السؤال حول دور الشريعة يطرحه القدّيس بولس بدقّة وعمق في رسائله فيقول: " فماذا نقول، أتكون الشريعة خطيئة؟ " ولكنه يضيف فورا: " معاذ الله " (روما 7: 7)، ثمّ يقول مع أبناء آدم: " ولكنّي لم أعرف الخطيئة إلاّ بالشريعة " (روما 7: 7). وهنا لا بدّ من أنْ نطرح السؤال: هل العلاقة بين الشريعة والخطيئة هي علاقة سببيّة أم هي كاشف يبيِّن سلوك الإنسان؟ فعندما يأمر الله الإنسان " لا تقتل "، فمعنى ذلك أنّ لدى الإنسان القدرة والإمكانية على القيام بفعل القتل. وعندما نفهم العلاقة بين الشريعة والخطيئة كعلاقة سببيّة، تصبح الشريعة مصدرًا للخطيئة. إنّ معضلة العلاقة بين الشريعة والخطيئة تكمن في مَن يستخدم هذه الشريعة وفي غايته من استخدامها. والغريب أنّ الحيّة المُجَرّبَة هي أوّل من يتكلّم عن وصيّة الله، وكلماتها الأولى التي توجّهها إلى المرأة تتناول موضوع الوصيّة بالتحديد. " فقالت للمرأة: أيقينا قال الله: لا تأكلا من جميع أشجار الجنة؟ " (تك 3: 1). بالواقع أنّ الخطيئة تستعمل الشريعة لإغرائنا والإيقاع بنا. فالوصيّة وضعها الله أصلاً لحماية الحياة من عبث حرّيّتنا الوليدة ولوقايتنا من استعمال حرّيّتنا الخاطئ: " وقال الله من جميع شجر الجنّة تأكل، وأمّا شجرة معرفة الخير والشر فلا تأكل منها، فإنك يوم تأكل منها تموت موتّا " (تك 2: 16-17). فالوصيّة إذًا هي لإبعاد الموت عنّا، والسرّ وفقَ القدّيس بولس هو كيف تتحوّل الوصيّة من مصدر حياة إلى مصدر موت: " فإذا بالوصيّة التي هي سبيل إلى الحياة قد صارت لى سبيلاً إلى الموت " (روما 7: 10). لقد طرأ تبدّل على غاية الوصيّة وأصبحت سبيلاً إلى الموت، وهنا يكمن اللغز. وفكّ طلاسمه يبدأ بالسؤال: مَن يستخدم هذه الوصيّة؟ فبين الإنسان ووصيّة الله يدخل عنصر غريب هو الحيّة المُجَرّبة. وطبيعة المُجَرّب هي تشويه الحقيقة، فالمُجَرِّب يحتاج دومًا إلى قناع ليخفي مقاصده الحقيقيّة. فتحت ستار السعي إلى الخير، يدفعنا المجرِّب إلى ارتكاب الخطيئة، وهذا هو الخداع؛ فالغاية المعلنة شيء والنوايا الحقيقية أمر آخر، وقد وصفه يسوع في إنجيل يوحنا قائلاً:

" كان منذ البدء قتّالاً للناس ولم يثبت على الحقّ لأنه ليس فيه شيء من الحقّ، فإذا تكلّم بالكذب تكلّم بما عنده لأنّه كذّاب وأبو الكذب " (يوحنا 8: 44). فالمجرّب يستعمل كلّ الوسائل ليوقع الإنسان في حبائله، بما فيها الوصيّة، إذ يشوّه الغاية منها. وهذا العمل يسمّيه القدّيس بولس الإغراء والغواية: " ذلك بأنّ الخطيئة قد انتهزت الفرصة سبيلاً فأغوتني بالوصيّة وبها أماتتني " (روما 7: 11).

 

فليست العلّة في الوصيّة، لأنّها صالحة ومقدّسة: " الشريعة إذًا مقدّسة والوصيّة مقدّسة عادلة صالحة " (روما 7: 12)، ولكن العلّة، كل العلّة، في مَن يتذرّع بها تحقيقًا لمآربه: " فهل صار الصالح سببًا لموتي؟ معاذ الله! ولكن الخطيئة، ليَظْهَرَ أنّها خطيئة، أورثتني الموت، متذرِّعة بما هو صالح، لتبلغ الخطيئة أقصى حدود الخطيئة، متذرّعة بالوصيّة " (روما 7: 13). ويمكن القول إنّ الحيّة استخدمت الوصيّة للإيقاع بالإنسان في المعصية وإحداث القطيعة مع الله، فما هي الخطة التي استعملتها الحيّة المُجَرّبَة؟.

 

خطّة الحيّة

إن الوصف الذي ينسبه الكتاب المقدّس إلى الحية هو الحيلة، وكلّ حيلة تتضمّن خداعًا وتشويهًا للواقع، إذ تحاول إخفاء مقاصدها الحقيقيّة عندما تتظاهر بأنّها حريصة على مصير الإنسان المجرَّب. لذلك تأخذ التجربة دومًا قناع الخير، وكشف هذا القناع الذي تلبسه التجربة هو الخطوة الأولى للخلاص منها. وهذا يتطلّب معرفة الخطة التي تتبعها الحيّة، فما هي خطتها؟

 

تقترب الحيّة من المرأة قائلة لها: " أيقينًا قال الله: لا تأكلا من جميع أشجار الجنة" (تك 3: 1). لذلك ينبغي التساؤل: هل هذا الادعاء صحيح؟ بالواقع هذا الكلام دخل عليه التحريف والتزوير وما قاله الله يختلف عمّا قالته الحيّة! وما قاله الله بالحقيقة " من جميع أشجار الجنة تأكل.. وأمّا شجرة معرفة الخير والشر فلا تأكل منها " (تك 2: 16 – 17). نلاحظ أنّ الفارق بين كلام الله وكلام الحيّة هو كبير، إذ إنَّ الحية تضع " لا تأكل " في بداية الكلام. فالله يبدو للوهلة الأولى المحرّم الذي يمنع عن الإنسان خيراته، في حين أنّ البداية هي العطاء: " من جميع شجر الجنة تأكل ". الحية تشوّه الحقيقة، وتشوّه صورة الله. فالوجه المعطي يصبح وجهًا محرِّمًا، وكم من الناس خُدِعُوا بالحيّة وبقيت صورة الله مرتبطة في أذهانهم بصورة الذي يمنعهم من التمتّع بالحياة، وكلمة الله أصبحت تعني لهم " لا "، ويصبح الله هو النقيض الدائم في حياتهم والذي يحرمهم من الانطلاق بالحياة. إنّ تصوّر الله على هذا الوجه يشلّ ديناميّة الحياة الروحيّة وتطوّرها، فيُحلّ الخوف والشعور بالذنب مكان الانطلاق والفرح والرجاء.

 

إنّ صورة الله الحقيقية هي حياة وعطاء، ولا تستقيم العلاقة بين الله والإنسان إلاّ باكتشاف هذا الأخير لوجه الله كمنبع كلّ حياة وعطاء. وحوّاء تبدو لأوّل وهلة مدركة لهذا الأمر، إذ تعيد ما قاله الله في الأصل " من ثمر أشجار الجنة تأكل " (تك 3: 2). ولكن الحيّة المجرِّبة تخطو خطوة أخرى على طريق زعزعة الثـقة وزرع الشكّ بين الله والإنسان، وتتناول هذه المرة مقاصد الله وغايته من الوصيّة، فتقول للمرأة: " موتًا لن تموتَا فالله عالم أنّكما في يوم تأكلان منه تنفتح أعينكما وتصيران كآلهة تعرفان الخير والشرّ " (تك 3: 4-5 ). كلام الحيّة هذه المرّة يهدف إلى إثارة الشكوك في نوايا الله الحقيقيّة وفي موقفه من الإنسان الذي خلقه: فمقصد الله من الوصيّة ليس حماية الإنسان من الموت " كيلا تموتا " بل حماية الله من الإنسان، فالله يمتلك امتيازات ومعارف يريد إبعاد الإنسان عنها وعدم مشاركته فيها. إنّه يريد الاحتفاظ بها لنفسه. إنّ الله يريد منع آدم وحوّاء من أنْ "يصيرا كآلهة". فالغيرة والحسد يدخلان في العلاقة بين الإنسان والله: الله يحرص على ما يملك من امتيازات، والإنسان يشتهي ما عند الله، ويسعى إلى امتلاكه، وهذا ما يجعله يكذّب الله ولا يقول الحقيقة. فنتيجة المعصية ليست الموت كما يدّعى الله، بل المعرفة التي تجعله مساويًا له: " موتًا لن تموتا… وتصيران كآلهة ". فهل هذا الإدّعاء صحيح أمّ إنّ المجرّب " أبا الكذب " يُسقط على الله طبيعته بالذات؟ إذا عدنا إلى الفصل الأوّل من سفر التكوين نجد نقيض هذا الادعاء، إذ خلق الله الإنسان على صورته ومثاله: " فخلق الله الإنسان على صورته، على صورة الله خلقه، ذكرَا وأنثى خلـقهم " (تك 1 : 27).

 

إنّ الله لم يخلق الإنسان كسائر المخلوقات. فالإنسان مخلوق على صورة الله، خلقه ليكون شبيهّا به، وليعطيه حياته الإلهيّة

بالذات، هذه القرابة التي تحوّل الإنسان إلى شريك لله. هذا هو مشروع الله الأساسيّ: " فإنّ قدرته الإلهيّة منحتنا كلّ ما يؤول إلى الحياة والتقوى… لتصيروا شركاء الطبيعة الإلهيّة " (2بط 1 : 3- 4). فالله يدعونا إذًا لنصير شركاء معه. وهذه الشراكة ليست شراكة في خيرات أو ممتلكات، بل " بذاته الإلهيّة "، وتحقيق هذه الشراكة يبقى مشروع الله حيال الإنسان، واكتمال هذا المشروع هو غاية التجسّد. فالله، على حدّ ما يقول أحد آباء الكنيسة، " أصبح إنسانًا كي يجعل من الإنسان إلهًا " والله يذهب بمحبته للإنسان إلى أقصى الحدود الممكنة: " إنّ الذي لم يضنّ بابنه نفسه، بل أسلمه إلى الموت من أجلنا جميعًا، كيف لا يهب لنا معه كلّ شيء؟ "(روما 8: 32). لذلك يصيب ادّعاء الحيّة صميم الله فتتهمه بالبخل والسعي إلى الاحتفاظ لنفسه بصفات وقدرات ومعارف، مانعًا إيّاها عن الإنسان، في حين أنّ المحبّة تعطي ذاتها، ويصل هذا العطاء إلى ذروته في ابنه يسوع الذي يبذل ذاته من أجل أحبائه: " خذوا فكلوا هذا هو جسدي… إشربوا منها كلكم فهذا هو دمي " (متى 26: 26- 27).

 

جوهر الخطة إذا هو فقدان الثـقة والإيمان بكلام الله؛ والخطيئة هي تبنّي صورة الله المشوّهة كما يقدّمها المجرّب، وجذور الخطيئة الأصليّة كامنة في هذا الموقف، ومتى فُقدت هذه الثقة تفصم علاقة الإنسان بالله. وهذا هو الهدف الذي يسعى إليه المجرّب، وقد نجح في عمله هذا إلى حدٍّ بعيد عن طريق الخدع وتحريف الحقيقة وإيهام آدم وحوّاء أنّهما " يوم تأكلان منه تنفتح أعينكما وتصيران كآلهة تعرفان الخير والشرّ ". فما هى هذه المعرفة ؟

 

 

معرفة الخير والشرّ

إنّ المعرفة كمجهود إنسانيّ سعيًا للإحاطة بأسرار الكون واكتشاف قوانينه ليست أمرًا سيّئًا، ولا تُعتَبر بحدّ ذاتها خطيئة. ولكن كي نُدْرك الحقيقة الرمزية لـ " شجرة معرفة الخير والشّر " ينبغي النظر إليها في ضوء العلاقة بين الإنسان والله وطبيعة هذه العلاقة. لقد خلق الله الإنسان وأعطاه كلّ شيء حتّى ذاته، وإنْ وضع له الوصيّة، فذلك لكي يحمي حرّيّته البشريّة من الانزلاق في سبيل الهلاك والموت: "إنّني قد جعلت بين أيديكم الحياة والموت، البركة واللعنة، فاختَر الحياة لكي تحيا أنت وذرّيّتَك " (تثنية الاشتراع 30: 19). فالله يريد للإنسان الحياة، ومَنْ يختر سُبله يصل إليها، ومَن يطع وصاياه ويسمع لها يَحْيَ. فاختيار الحياة هو الثقة بكلام الله. لذلك يدعو الرب الإنسان إلى اتّباع صوته ومحبّته:" كُنْ محبًّا الربّ إلهك وسامعًا لصوته ومتعلّـقًا به لأنّه به حياتك وطول أيّامك " (تثنية 30: 20). فالخير الأوّل بالنظر إلى كلّ إنسان هو الحياة، ووصيّة الله بألاّ يأكل من شجرة معرفة الخير والشرّ هي كي لا يموت موتًا. والسؤال الذي يؤرق الإنسان هو: كيف نصل إلى الحياة ؟ بالحقيقة ما من شيء يُفقد الحياة مثل السعي إلى امتلاكها، لأنّ الحياة في طبيعتها هبة ونعمة، وليست متاعًا يُمتلك أو يُباع ويُشترى. وواهب الحياة هو الله، لذلك ترسم وصيّته سبيل الحياة، محدّدة طريق الخير وطريق الشرّ. وشريان الحياة هذا يمرّ عبر العلاقة بين الله والإنسان، والعلاقة الحقيقية بالله أساسها المحبّة، والمعرفة الحقيقية التي تقود إلى الحياة هي معرفة الله الآب كمعطي الحياة، " والحياة الأبدية هي أنْ يعرفوك " (يو 16: 3). هذه المعرفة تنبع من العلاقة المحبّة بين الله والإنسان، وكلّ معرفة عميقة للآخر تتطلّب المحبّة. أما معرفة الخير والشرّ فهي سعي الإنسان للتمييز بين الخير والشرّ. فهذا معناه التشكيك بوصية الله وصدقه كأنّ الإنسان لا يثق بكلام الله ويسعى إلى التحقّق، عن طريق الاختبار، من ماهيّة الخير والشرّ. هذه المعرفة تصبح اختبارًا لله، كأنّ سلوك آدم وحوّاء يقول لله: إنّني لا أثق بكلامك ولا بمقاصدك بل نريد أنْ نقرّر بأنفسنا ما هو الخير وما هو الشرّ، ونحدّد بأنفسنا مصيرنا! إنّ الغاية من وصيّتك هي حماية نفسك منّا لا حماية حياتنا! بهذا يسعى آدم وحوّاء للحلول مكان الله والإستغناء عنه. إنّ الإنسان يريد أنْ يكون مشرِّعًا لذاته والمرجع الأخير لها، وهذا هو طريق قطع الشركة والعلاقة بالله. إنّه الإكتفاء الذاتيّ والتقوقع على الذات الذي يُسبّب الموت. فالعلاقة الحقيقيّة تقوم على الإيمان والثقة لا على المعرفة، فالمعرفة المنطلقة من الأنا، لا من العلاقة، تحوّل الوجود والحياة إلى مادّة للاستملاك، والمعرفة الناتجة عن تناول ثمرة شجرة معرفة الخير والشرّ هي معرفة مبنيّة على الشكّ بالآخر وتحريف مقاصده. وعليه لا غرابة أنْ يؤدّي ذلك إلى انقطاع العلاقة بين الإنسان والله. فما هي عواقب فقدان هذه العلاقة؟ وما هي المعرفة الجديدة التي اكتسبها آدم وحوّاء؟.

 

 

ثمار المعصية

تُحْدث الخطيئة تبدّلاً وتغييرًا في الوجود الإنسانيّ، إذ تخلق وضعًا إنسانيًا جديدًا يحرِّفه عن وضعه الأصليّ، وهكذا ينقسم

زمن الوجود الإنسانيّ إلى زمنَين: زمن ما قبل الخطيئة وزمن ما بعدها، والفرق بين الزمنين هو ثمرة الخطيئة ، كما أنَّ هذا الفرق يُشير إلى أنّ الوضع البشريّ الحالي الخاطئ لم يكن عند انطلاق البشرية ولا يدخل في بنية الإنسان الأصليّة. لذلك يُمْكِن اعتبار عقيدة الخطيئة الأصليّة محاولة تفسيريّة لوجود الخطيئة والشرّ والموت في العالم، وتقول هذه العقيدة: إنَّ الشرور والخطيئة والموت حدثت بعد الأسبوع الأوّل من الخلق وأنّها نتيجة ممارسات الإنسان، الذى أعطاه الله الحرّيّة ووضع أمامه الموت والحياة حتّى يختار الحياة، لكنّ خياراته الخاطئة قادته إلى الحالة الحاضرة. وإذا سلّطنا الأضواء على هذه التغيّرات المُحدَثة، تتجلّى لنا آثار الخطيئة. فبعدما تناول آدم وحوّاء من الثمرة " انفتحت أعينهما فعرفا أنّهما عريانان " (تك 3: 7). وهذا العري يولّد الخوف " إنّي سمعت وقع خطاك في الجنة فخفت لأنني عريان " (تك 3: 10). إنّ حالة العُري هذه ليست جديدة، ولكن الخطيئة أحدثت تغيّرًا في نظرة الشريكين الأوّليين أحدهما إلى الآخر، وفي نظرتهما إلى الله : " وكانا كلاهما عريانين، الإنسان وامرأته وهما لا يخجلان " (تك 2 : 25). وأوّل ما يسرع الإنسان إلى فعله هو ستر عريه كي يحمي نفسه من الآخر: " فخاطا من ورق التين، وصنعا لهما منه مآزر" (تك 3 : 7).

 

لقد فقد الإنسان بفعل الخطيئة شفافيّته وعلاقة الألفة والصداقة بالله، وحلّ محلّها الخوف والإنطواء على النفس: فالعري ما قبل الخطيئة لم يكن مدعاة للخجل أو الاضطراب، لأنَّ النعمة كانت كساءٌ لهما، وحالة النعمة هي الوضع الطبيعي للإنسان، أي هي حالة الألفة والانسجام والانفتاح على الآخر. أمّا بعد الخطيئة فيظهر عري الإنسان، أي ضعفه ونقصه، عندما يفقد الألفة والاتّصال بمصدر وجوده، أي الله، والضعف يربك العلاقات الإنسانية ويدفع البشر إلى بناء حواجز دفاعيّة من الآخرين، وانتحال أقنعة مختلفة لستر هذا النقص الأساسيّ الناتج عن ابتعاد الإنسان عن مصدر حياته ووجوده، كما أنَّ الخجل هو تعبير عن حالة انطوائيّة، فيتقوقع الإنسان على ذاته باحثًا عن صورته في وجه الآخر بدلاً من أنْ يعكس له وجهُ الآخر صورة الله. إنّ العري هنا لا يقتصر على البعد الجنسيّ، بلّ يشمل كلّية الإنسان. فالإنسان المُخلّص هو الذي " يخلع عنه الإنسان القديم ويلبس الإنسان الجديد " (أفسس 4: 22- 23) " والإنسان الجديد الصاعد من المعمودية قد لبس المسيح " (غل 3: 27).

 

إنَّ العري الإنسانيّ يكشف درجة انخداع الإنسان وانطلاء الحيلة عليه؟ فالبون شاسع بين وعد الحيّة " بأنْ تصيرا كآلهة يعرفان الخير والشر " وحالة العري التي انفتحت أعينهما عليها. ولذلك فإنَّ أوّل خطوات الخلاص هي تعرية الخطيئة لكشف وجهها الحقيقيّ، أيّ الموت وهذا ما يكشفه صليب المسيح.

 

ومن تأثيرات الخطيئة أيضًا التعالي عن رؤيتها في الذات وإلقاء تبعتها دومًا على الآخر، فآدم يتهم امرأته ويمسّ اتّهامه اللة ذاته: " المرأة التي جعلتها معي هي أعطتني من الشجرة فأكلت " (تك 3: 12). إنَّه يتهم الله لأنّه أعطاه شريكة لحياته، والمرأة تتّهم الحيّة التي أغوتها. فحين لا يعترف الإنسان بخطيئته فإنَّه سيلقي تبعتها بالضرورة على الآخر، والباحث باستمرار عن القذى في عين أخيه هو المتعامي عن الخشبة التي في عينيه.

 

وتمتدّ عواقب الخطيئة لتشمل وظائف الرجل والمرأة الأساسيّة، فالمرأة تُصاب بوظيفتها الأساسيّة وهي نقل الحياة بالولادة: " فبالمشقة تلدين البنين " (تك 3: 16)؛ كما تصبح علاقتها بالرجل علاقة انقياد وسيطرة: " وإلى رجلك تنقاد أشواقك وهو يسودك " (تك 3: 16). وأمّا آدم، فيُمَسّ بوظيفته الأساسية وهي العمل. فالعمل ليس عقابًا على الخطيئة كما يتصوّر البعض، إذْ وُجد قبل الخطيئة: " وأخذ الرب الإله الإنسان وجعله في جنّة عدن ليفلحها ويحرثها " (تك 2: 15)؛ لكن العمل بعد الخطيئة يترافق بالمشقة والعرق: "فملعونة الأرض بسببك وبمشقة تأكل منها طول أيام حياتك، وشوكًا وحسكًا تنبت لك" (تك 3: 17 – 18).

 

إنَّ الرواية الرمزيّة التي يقصّها الكتاب المقدّس عن تجربة آدم وحوّاء لا تهدف إلى تصوير ما جرى من الأحداث في الماضي السحيق. فوراء هذه الصُوَر والرموز تكمن حقائق وأسئلة أساسيّة موجّهة إلى الإنسان. ذلك لأنَّ هذه الحقائق حاضرة في كلّ عصر ومكان، وإذا غابت عنّا التساؤلات التي تتضمّنها هذه الحقائق، فإنَّ القصة تتحوّل إلى تصوّرات طفوليّة لبدء الخليقة. وما نسعى إليه هو تجاوز هذه التصوّرات التي تتناسب مع عقول الأطفال وإدراكهم، لنكتشف معنى النصّ الحقيقي وما يتضمّن من التساؤلات والحقائق. بهذا يصبح هذا النصّ تفسيرًا للحاضر، لا رواية للماضي.

 

إنّ ما شغل ويشغل الأجيال المتلاحقة من البشريّة هو التساؤل عن مصدر الشرّ والخطيئة ولماذا الألم والموت. ولماذا العذاب والمشقّة. فالكتاب المقدّس يحاول الإجابة عن هذه التساؤلات المصيريّة، ويؤكّد أنَّ الله ليس مسؤولاً عن الخطيئة والموت والألم في العالم، لأنّه معطي الحياة، بلّ هو نصير للإنسان في صراعه مع قوى الموت والخطيئة. وإذا كان الله منزّهًا عن الخطيئة والموت، فمعنى ذلك أنَّ الإنسان مسؤول خاصّة عن ذلك. والكتاب المقدّس يربط بين الخطيئة وحرّيّة الإنسان: هذه الحرية هي فخر الإنسان وعظمته وفي الوقت نفسه بؤسه؛ إنّه في حالة اختيار ومدعوّ إلى اختيار الحياة، ولكن المجرّب قد يُضِلّه عن طريق الحياة بالخداع والحيلة فيدعوه إلى سلوك طريق الموت مغرِّرًا به تحت قناع البحث عن الحياة والمعرفة. فعلى الإنسان كشف هذا التزييف، والتمييز بين صوت الله وصوت المجرِّب واتّباع كلمة الله التي هي حقّ وحياة. إنَّ الإنسان انجرف إلى الخطيئة بتأثير من الحيّة المجرّبة. فمَن هي الحيّة؟ وما هو دورها؟.

 

 

الحيّة المجرّبة

تنسب بعض الديانات القديمة، كالمانويّة، وجود الشرّ في العالم إلى وجود مبدأين يقوم عليهما الكون: المبدأ الصالح، وهو إله الخير، والمبدأ الشرّير، وهو إله الشرّ. هذان المبدآن هما في حالة صراع مستمرّة ويتّخذان من الكون ساحة للصراع بينهما. ففي المخلوقات يختلط الشرّ بالخير، والخلاص يكون بالخروج من العالم المادّيّ للتحرّر من الشرّ والدخول في العالم الروحي، اللامادّيّ. لكن الكتاب المقدّس لا يعترف إلاّ بوجود إله واحد كلّيّ المحبّة والخير، ويفسّر الشرّ بوجود الحرّيّة والاختيار عنده. إنَّ الحرّيّة تفترض إمكانية الانزلاق نحو الشرّ وإلاّ لساد القهر والجبر أفعالَ الإنسان وتصرّفاته، وما دام الشرّ مرتبطًا بالحرّيّة والاختيار، فمعنى ذلك أنّه دخيل على العالم وليس أساسًا فيه. فالحرّيّة، كقوّة اختيار وتغيير، تنفي عن الإنسان مبدأ الضرورة في المجال الأخلاقيّ، ومثلما يقع الإنسان في الشرّ بسبب خيار خاطئ، فهو يستطيع الخروج منه بتصحيح الاختيار. لذلك لا يتمتّع الشرّ بصفة الوجود بحدّ ذاته، ولا ينتمي إلى بنْية الخلق الأساسيّة. إنّه متطفّل عليها، ولكن كما رأينا أنَّ الإنسان انزلق إلى الخطيئة بفعل الغواية، لذلك ليس مسؤولاً مئة بالمئة عن خطيئته، فهنالك التأثيرات الخارجيّة، والحيّة تلعب دور هذا المؤثر الخارجيّ، وهي تمارس تأثيرها بالحيلة والغواية: "الحيّة أغوتني فأكلت " (تك 3: 13 ). الحيّة كما رأينا تشوّه الحقائق وتزيّفها. إنَّها الحيلة والخداع، إنَّها بناء وهميّ يقوّضه النور، فلذلك تحبّ الظلمة. لكنّها تمارس عملها بالغواية المرتبطة بضعف الإنسان وسعيه الدائم لملء نقصه الأساسيّ، ككائن مخلوق، بالأشياء والممتلكات والملذّات، في حين أنَّ الذي يملأ هذا النقص هو الله. فالغواية هي إقناع الإنسان عن طريق الحيلة بأنَّ هناك أشياء يمكنها ملء هذا النقص الأساسيّ فيه عوضًا عن الله. والتجربة تستند إلى نفاد صبر الإنسان ومحاولته سدّ هذا النقص باللحظة الآنيّة. التجربة هي إلغاء للزمن وبالتالي إلغاء للوعد الذي تحمله كلمة الله، وهو الوعد الذي يفتح أفق المستقبل، في حين أنَّ وعد المجرّب هو وعد آنيّ يجعل من العلاقة بالآخر علاقة استهلاكيّة. أمّا العلاقة الحقيقيّة فتتطلّب احترام الآخر لذاته لا السعي لاستملاكه واستهلاكه. فالخطيئة هي ثمرة انزلاق الإنسان نحو علاقة استملاكيّة بالله والمخلوقات تحت تأثير غواية الحيّة. والانتصار على التجربة يمرّ بالتخلّي عن الطعام الآنيّ والبحث عن الحياة في كلّ كلمة تخرج من فم الله. فالحياة الحقيقيّة لا تنمو من التهام الغذاء، بل بسماع الكلمة التى تخرج من فم الله. إنَّ إبراهيم ومريم العذراء ها الأبوان الجديدان للإنسانيّة الجديدة لأنَّهما آمنا بوعد الله وبأنَّ ما قيل لهما من قِبَل الربّ سيتمّ. إنَّ الحيَّة تُبْقي نزعة شرّ خارجة عن الإنسان، ولكنّها لا تبلغ الوجود إلاّ من خلاله، إذ يعطيها إمكانيّة تجسّد في العالم؛ ولكن عندما يغلق الإنسان أذنيه وقلبه عنها، فهي تفقد صفة الوجود. لذا فإنَّ طبيعة الشرّ طفيليّة لا تعيش إلاّ بالاستيلاء على إرادة الإنسان وحرّيّته عن طريق الحيلة والخداع. أنها تحوّل قلب الإنسان إلى ساحة صراع فتخلق فيه الاضطراب والقلق وتفقده السلام الداخليّ. لكنَّ الله لا يترك الإنسان وحيدًا في هذا الصراع، والمخلّص جاء لينقذ الإنسان من هذه القوى، فينتصر عليها في نهاية المطاف. ويصوّر القدّيس يوحنّا في رؤياه هذا الانتصار بقوله: " ورأيت ملاكًا هابطًا من السماء بيده مفتاح الهاوية وسلسلة كبيرة، فأمسك التنّين، الحيّة القديمة، وهي إبليس والشيطان، فأوثقه لألف سنة وألقاه فى الهاوية" (رؤيا 20: 2- 3). وهذا الانتصار نرى جذوره في الوعد الذي أعطاه الله منذ لحظة السقوط، إذ تحلّ لعنة الربّ على الحيّة وحدها: " فأنت ملعونة من بين جميع البهائم وجميع وحوش الحقل " (تك 3: 14). كما أنَّ الصراع الذي يخوضه الإنسان مع الحيّة المجرّبة يحمل في طيّاته رجاء الانتصار، وتحمله البشريّة من جيل إلى جيل: " وأجعل عداوة بينكِ وبين المرأة، وبين نسلك ونسلها، وهو يسحق وأسك وأنتِ تصيبين عقبه " (تك 7: 15). فالجرح الذي يصيب الإنسان في عقبه له دواء، في حين أنّ رأس الحيّة المسحوق لا شفاء له. هذا الرجاء سيحققه آدم الجديد للإنسانيّة التي تنتظر تحرّرها من عبوديّة الخطيئة، كانتظار الولادة الجديدة التي تحمل في آلام مخاضها ساعة خلاصها: " فإنّنا نعلم أنَّ الخليقة جمعاء تئنّ إلى اليوم من آلام المخاض… وليست وحدها، بل نحن الذين لنا باكورة الروح نئنّ في الباطن منتظرين التَّبنِّي أي افتداء أجسادنا، لأنَّنا في الرجاء نلنا الخلاص " (روما 8: 22- 24). فإذا كان آدم القديم قد جمع البشريّة في الخطيئة، فإنَّ آدم الجديد يجمعها في الخلاص، لذلك فإنَّ قصة السقوط الأوّل ودخول الخطيئة إلى العالم، لا نُدْرك حقيقتها إلاّ في ضوء الخلاص الحقيقيّ الذي حقّقه يسوع المسيح. والولادة الجديدة هي الانتقال من حالة آدم القديم إلى حالة آدم الجديد، والله لا يخلّص البشريّة بمحو البشريّة القديمة، بلّ بإخراجها من البشريّة القديمة. فبين البشريّتَين يقف المسيح كجسر يدعو كلّ إنسان إلى العبور به. وقد عبَّر القدّيس بولس عن ديناميّة هذا العبور الخلاصيّ في العديد من رسائله، وخاصّة في رسالته لأهل روما. وسوف نستعرض أهمّ مقاطعها، التي وجد اللاهوتيّون فيها نقطة الارتكاز لعقيدة الخطيئة الأصليّة في العهد الجديد. ورُبَّ سائل يقول: كيف يمكن تفسير صمت الكتاب المقدّس عن الخطيئة الأصليّة بعد الفصل الثالث من سفر التكوين، ولماذا لا نجد لها ذكرًا بعد ذلك إلاّ عند القدّيس بولس؟.

 

 

 تجربة القدّيس بولس الخلاصيّة

إنَّنا لا نجد من خلال قراءة سريعة للعهد القديم، وحتّى لمعظم أسفار العهد الجديد، أي ذكر للخطيئة الأصليّة، ولكن معظم صفحات الكتاب المقدّس تُحدّثنا عن الخطيئة، خطيئة الإنسان أمام الله وخطيئته مع أخيه. فتجربة الخطيئة ترتبط ارتباطا عميقًا باختبار الخلاص، ويمكن القول إنَّ اختبار المغفرة والخلاص يترافق مع اكتشاف الخطيئة. كان الإنسان لا يكتشف واقعه البائس إلاّ أمام قداسة الله وعظمته: " إبتعد عنّى فإنّني رجل خاطئ " (لوقا 5: 8)، يقولها بطرس ليسوع في لقائه الأوّل له إثر الصيد الوفير، لأنَّ ظلمة الإنسان الحقيقية لا تظهر إلا أمام النور الإلهيّ، وكذلك لا تنكشف الخطيئة الأصليّة على حقيقتها إلاّ أمام الخلاص الأصليّ الذي حققه المسيح. لذلك لا نجد ذكرًا للخطيئة الأصليّة قبل تحقّق الخلاص الحقيقي: ذلك هو اختبار بولس الرسول، فلقاؤه نور المسيح على أبواب دمشق قلب حياته رأسًا على عقب، إذ انتقل من حالة مُضطهـِد المسيح إلى حالة مُبشِّر به وشاهد له. إنَّ اختبار بولس العميق هو اختبار خلاصيّ، وبشارته تتركّز على عمل الله الخلاصيّ، في البشريّة جمعاء بواسطة يسوع المسيح، ورسائله تدور حول شخصيّة محوريّة هي المسيح المخلّص. لكنّ اختبار الخلاص هذا لا تُدرَك أبعاده الحقيقية إلاّ عندما يُدْرِك الإنسان حالة الضياع والخطيئة التي يتخبّط فيها. ويصف القدّيس بولس حالة الضياع هذه فيقول: " لأنَّ الخير الذي أريده لا أفعله والشرّ الذي لا أريده إيّاه أفعل " (روما 7: 19). ويصرخ متسائلاّ عمن له القدرة على إنقاذه: " ما أشقاني من إنسان! فمَن ينقذني؟ " (روما 7: 24). هذه الصرخة يتردّد صداها في الأناجيل كصلاة يرفعها منتظرو الخلاص إلى يسوع المخلِّص: " يا يسوع ابن داود ارحمني ". وهذه الصرخة يعقبها عند بولس صلاة الشكر، صلاة مَن وجد مُنقذه: " الشكر لله بيسوع المسيح ربّنا " (روما 7: 25). فيسوع تجسّد ودخل عالم البشر بحثًا عن كلّ الهالكين: "لأنَّ ابن الإنسان جاء يبحث عن الهالك فيخلّصه" (لوقأ 19: 10). أمّا أولئك الذين يعدّون أنفسهم من الأصحّاء الصالحين، فلا حاجة لهم إلى طبيب أو مخلّص، فيضعون بذلك أنفسهم خارج حضور يسوع الخلاصيّ: " ليس الأصحاء بحاجة إلى طبيب بلّ المرضي " (متّى 9: 12)، تلك هي حالة الكتبة والفرّيسيّين. فالسلوك الفرّيسيّ حاضر في كلّ الأزمنة والعصور وهو قائم على أنَّ الإنسان يزكّي نفسه بالاعتماد على أعماله، ويتصوّر أنَّه يستطيع إنقاذ نفسه بذاته، وأنَّه ليس بحاجة إلى مخلّص. فالاختبار الصحيح للخلاص يمرّ عبر الإدراك الواعي لعمل قوى الخطيئة فينا وفي العالم، وأنَّنا لا نستطيع مواجهة هذه القوى دون العون الإلهيّ. لذلك عندما يحدّثنا القدّيس بولس عن الخلاص، يحدّثنا فى الوقت عينه عن الخطيئة، وعندما يذكر المسيح، آدم الجديد، لا بدّ له من العودة إلى آدم القديم. إلاّ أنَّ بين آدم القديم وآدم الجديد تمتدّ مسافة هي تاريخ الخلاص. ولكن من أين يبدأ القدّيس بولس قراءته هذا التاريخ؟

 

 

نقطة بـدء التاريخ الخلاصيّ عند القدّيس بولس

 

ثمّة طريقتان لسرد رواية ما: إمّا الانطلاق من الأحداث الفرعيّة للوصول إلى الحدث الأساسيّ المركزي في الرواية، أوالانطلاق من الحديث المركزيّ ثم الانتقال منه إلى الأحداث الفرعيّة بحثًا عن جذوره. لقد اختار القدّيس بولس الطريقة الثانية ليروي لنا تاريخ الخلاص: إنَّه ينطلق من حدث الخلاص الذي حققه يسوع المسيح بموته وقيامته ثم ينتقل إلى الأحداث الأخرى، لأنَّ هذه الأحداث لا تبلغ معناها الحقيقي إلاّ في ضوء حدث موت المسيح وقيامته. إنَّ هذا الحدث يستقطب ما قبله ويوجِّه ما بعده. فقراءة الكتاب المقدّس تنطلق من المسيح وتعود إليه، لأنَّه الألف والياء، البداية والنهاية. وبولس الرسول ينطلق من وضع البشريّة في عصره، بشريّة يصنِّفها يهود ويونانيّين. هذه البشريّة مدعوّة لاستقبال بُشرى الخلاص الموجّهة إلى الجميع: " فإني لا أستحي بالبشارة لأنَّها قدرة لخلاص كلّ مؤمن، لليهودي أوّلاً ثم لليونانيّ " (روما 1 : 16). فالحقيقة الأولى في نظر القدّيس بولس هي أنَّ المسيح يخلّص الجميع؛ ومنها ينطلق. وفي ضوء هذا الخلاص ينظر إلى حالة البشريّة الخاطئة، ويرى أنّ جميعهم مرّوا بحالة الضياع والخطيئة: " لقد برهنَّا أنَّ اليهود واليونانيّين همّ كلّهم في حكم الخطيئة " (روما 7 : 9). فاليهود والوثنيّون يرمزون إلى البشريّة جمعاء. ويقول: " بأنَّ جميع الناس قد خطئوا " (روما 3: 23) ولكنّ خلاصهم هو في البرّ الآتي من الله وليس من الشريعة. وهذا البرّ الذي يُعطى مَن آمن بيسوع المسيح دون تمييز " هو برّ الله وطريقة الإيمان بيسوع المسيح لجميع الذين آمنوا. لا فرق ". فوحده الإيمان على مثال إيمان إبراهيم يحقق الخلاص فينا: " لمّا بُرّرنا بالإيمان، حصلنا على السلام مع الله بربّنا يسوع المسيح " (روما 5 : 1). هذه هي منطلقات بشارة القدّيس بولس: إنَّه ينطلق من الخلاص مرورًا بجميع البشر الخاطئين، الذين يصلون إلى الخلاص بواسطة إيمانهم بيسوع المسيح. ثمّ يصل إلى الفصل الخامس من رسالته إلى أهل روما، التي يعتبرها اللاهوتيّون مرجعهم في الخطيئة الأصليّة في العهد الجديد. وفي الآيات 10- 21 من الفصل المشار إليه يجري الرسول مقارنة بين آدم والمسيح: هذه المقارنة تبيّن التعارض بين سلوك آدم وما ينتج عنه من نتائج، وسلوك المسيح وما ينتج عنه؛ فبسلوك آدم دخلت الخطيئة إلى العالم، وبالخطيئة الموت، وبسلوك المسيح أفاض الله برَّه ونعمته وحياته على الجميع. فالقدّيس بولس يقارن بين بداية الخطيئة التي تعود إلى شخص واحد وبداية الخلاص الذي يرجع إلى طاعة واحد. وكلا السلوكين لهما أثر تضامنيّ شامل، فالمعصية تحوِّل جماعة الناس إلى خطأة، في حين أنَّ الطاعة تحوِّل جماعة الناس إلى أبرار. في كلا الحالتين نجد جدليّة الواحد الذي يؤثّر في الكلّ، وإنْ كانت ديناميّة هذه الجدليّة تفوق في حالة البرّ جدليّة المعصية، لأنَّ التضامن في الخلاص يفوق التضامن في الخطيئة. إنَّ القدّيس بولس يستنتج شموليّة الخطيئة الأصليّة من اكتشاف القانون التضامنيّ للخلاص الذي يتجلّى في وجه المسيح . لذلك يصبح وجه آدم في نظره تعبيرًا عن شموليّة الخطيئة. لكن قبل البحث في قانون التضامن هذا لا بدّ من طرح السؤال: مَن هو السابق في تاريخ الخلاص: آدم أم المسيح؟

 

 

 

أوَّليّة المسيح

لقد تعوّدنا أنْ ننظر إلى الأمور التاريخيّة وفق تسلسل زمنيّ ينطلق مِن الماضي ليصل إلى الحاضر، ووفق هذا المفهوم سيكون تسلسل الأحداث عبر الزمن كالتالي: الخلق… الخطيئة… فالخلاص. في هذه الحالة يبدو أنَّ الخطيئة تسبق الخلاص: لقد خطئ آدم فأرسل الله مخلّصًا. هذه القراءة تبعدنا عن البشارة المسيحيّة بشكلٍ عامٍ وعن بشارة بولس بشكلٍ خاصٍّ، لأنَّها تنطلق كما ذكرنا من حدث موت المسيح وقيامته. فالأوّلية في نظر بولس هي للمسيح، ومنه نقرأ الزمن الذي يسبقه . إنَّ القراءة من الخطيئة إلى الخلاص تتجاهل الديناميّة التي تحرّك تاريخ الخلاص، والق تبدأ أصلاً بأبديّة المخلّص: " في البدء كانت الكلمة "، وحضوره يملأ الخليقة: " به كان كلّ شيء ". وعند امتلاء الزمن دخلت الكلمة طينة البشر وخضعت لقانون الزمان والمكان: " والكلمة صار جسدًا ". فالمستقبل الخلاصيّ كان حاضرًا منذ البداية قبل الخطيئة. والاَّ لكانت الخطيئة تفرض على الله سلوكيّته. وعليه فالمخلِّص يسبق المخلَّص، وملامح الإنسان الجديد تسبق الإنسان القديم، والخلاص يبقى هو الأصل. فالخلق خلاص، والخلاص المعطى بموت المسيح وقيامته هو خلق جديد. إنَّ القدّيس بولس يؤكّد أوّلاً على شموليّة الخلاص، وعلى شموليّة الخطيئة ثانيًا، وعقيدة الخطيئة الأصليّة هي تعبير عن هذه الشموليّة، التي تشير إلى وحدة الإنسانية وترابطها. فخطيئة الواحد تؤثّر في المحيط الإنسانيّ، مثلما يهدّد الجوّ الملوّث في بقعة ما جميع سكّانها. وهذه الشموليّة يمثّلها آدم مثلما هي متمثّلة في آدم الجديد أيّ المسيح الذي له الأوّليّة، لأنَّه " بكر كلّ خليقة " (قولسّي 1: 15). فمن هو آدم بالتحديد؟

 

 

مَن هو آدم؟

يُرجع الكتاب المقدّس أصل البشريّة إلى أبّ واحد وأمّ واحدة، هما آدم وحوّاء. هذا يعني أنَّ جميع الناس، مهما اختلفت أجناسهم وتنوّعت عروقهم، هم إخوة لأنَّهم ينحدرون من أسرة واحدة، ولأنَّهم أبناء آدم. فآدم هو الاسم الشائع لكلّ إنسان ويرمز إلى الإنسانيّة ككلّ، إذ يشير إلى ما هو مشترك بين أبنائها أكانوا رجالاً أمّ نساءً. آدم لا يمثل فردّا معزولاً، وإلاَّ تفقد الإنسانيّة وحدتها وتضامنها. وما يذكره الكتاب المقدّس عن آدم وحوّاء وسقوطهما، ليس القصد منه إعطاء تصوّر علمي عن الكون وتأريخ لنشوء الإنسان والكون، بلّ غايته أنْ يقدّم لنا رؤيته للكون من خلال نظرة إيمانيّة. إنّه يصف ماهيّة الإنسان الحقيقية: من أين أتى؟ وإلى أين يسير؟ فالإنسان هو خليقة الله. ومدعوّ إلى مشاركته في حياته بالرغم من حدوده وضعفه وسقوطه في الخطيئة. إنَّ النظريّات العلميّة حول نشوء الإنسان تتناول الموضوع من وجهة أخرى: إنَّها تنطلق من مادّيّة الكون وكيفيّة تطوّره ولا تستطيع أنْ تعطي معنى للحياة، لأنَّ منهجيّتها تقوم على السؤال التالي: كيف تحدث الأشياء؟ فلا تتطرق إلى السؤال:

 

لماذا الأشياء؟ إذًا ليس هنالك تناقض بين نظرة الإيمان ونظرة العلم. فمعطيات الإيمان لا تتناقض مع معطيات العلم، إذا ما أعطي لكلٍّ منهما مجاله، وفُسّرت الأمور على حقيقتها. وهذا بحث لا نتناوله الآن لأنَّه يتجاوز موضوعنا.

 

من المتّفق عليه اليوم أنَّ قصة آدم وحواء هي قصة رمزيّة، أيّ أنَّها لا تشير إلى حقيقة تاريخية محدودة في الزمان والمكان، بلّ تشير إلى حقيقة وجوديّة، حقيقة إنسانيّة، لا يُعبَّر عنها إلاَّ رمزيًّا. والتعبير الرمزيّ يحمل حقيقة موجودة فينا. فالرمز يستمدّ قوّة تعبيره من العلاقات الإنسانيّة المتشاركة، ويفقد معناه إذا خرج من دائرة هذه العلاقات. آدم وحوّاء ليسا حقيقة مجرّدة بعيدة عنّا: إنّهما موجودان في كلِّ منّا، وقصّة آدم وحوّاء في نهاية المطاف هي قصّة كلِّ واحدٍ منَّا. بذلك نستطيع أنْ نُدْرك أنَّ الخطيئة الأصليّة ليست مرضًا وراثيًا ينتقل من جيلٍ إلى جيلٍ على مثال الصفات الجسديّة التي تنتقل بواسطة المورثات، بلّ تشير إلى ما هو مشترك بين البشر جميعًا، أي نزعتهم إلى الانخداع وسلوك طريق المجرِّب الذي يريد إبعادهم عن الله. هذه النزعة تنمو وتترعرع بفضل ما يتراكم في البيئة الإنسانيّة من الشرور والخطايا. إنَّ وجه آدم يحمل ملامح الجنس البشري بأسره وفي الوقت عينه الملامح الشخصيّة لكل فرد. ففي الوجه الإنسانيّ يلتقي الواحد بالكلّ، إذ فيه سمات الإنسانيّة والصفات المميّزة لكل إنسان، وهذا هو سرّ وحدة الإنسانيّة وتضامنها.

 

ولكن حقيقة آدم لا تأخذ أبعادها الحقيقيّة، ولا تتجلّى ملامحها الأصيلة إلاَّ في ضوء المسيح لأنَّه " هو قبل كل شيء وبه قوام كل شيء " (قولسّي 1: 17). وإذا كان الإنجيليّون يؤكّدون على انتماء المسيح وانغراسه داخل الأجيال الإنسانيّة، فهو ابن الإنسان الذي يعود نسبه الإنسانيّ حتّى آدم "… بن آدم، بن الله " (لوقا 3: 38)، ذلك بأنَّ آدم ينتمي هو أيضًا إلى المسيح، وعليه لا تكتمل معرفتنا لذاتنا إلاَّ في ضوء النور الآتي من المسيح. فحقيقتنا هي عند آدم القديم مثلما هي عند آدم الجديد، لأنَّنا جميعًا أبناء آدم وأبناء الله. وإذا كان الأوّل يشير إلى ماضينا وحاضرنا، فالثاني هو مستقبلنا. ما هو التعليم الذي نصل إليه في نهاية المطاف، وما تأثير هذا التعليم في حياتنا؟

 

 

حقيقتنا بين آدم القديم وآدم الجديد

لقد رأينا أنَّ عقيدة الخطيئة الأصليّة تؤكّد لنا أنَّ وضع البشريّة الحالي ليس أمرًا طبيعيّا، بلّ هو نتيجة حادث سقوط، أيّ انتقال من حالة ساميّة إلى حالة أدنى. والخطيئة ليست نقطة انطلاق، لأنَّ الإنسان الخارج من يدَيّ الله هو حسنٌ في طبيعته. لذلك تعتبر الخطيئة حالة غير طبيعيّة دخلت العالم الإنساني من خلال الانجراف والانقياد للمجرّب. فمعنى كلمة خطيئة يشير إلى الانحراف عن المقصد الأساسيّ: ومَنْ أخطأ الطريق يعني أنَّه عدل عنه، والرامي الذي يخطئ الهدف يعني أنَّه لم يُصِبْهُ. فالخطيئة إذًا تعني الابتعاد عن المشروع والهدف الذي من أجله خُلِقَ الإنسان، أيّ أنْ يصبح شبيهًا بالله، على صورته ومثاله. أمّا كلمة " الأصليّة " فهي تشير إلى الأصول وتعطي الزمن مفهومًا تطوّريًا، أي أنَّ الزمن له بداية وافتتاح. لذلك فالخطيئة عنصر يجب إدراكه داخل الزمن البشريّ، والزمن البشريّ هو فسحة للتغيّر والتبدّل والاهتداء. فما يحدث داخل الزمن يمكنه أنْ يتبدّل وهذا التبدّل هو توبة. والحقيقة المعاكسة للخطيئة هي المحبّة، ومحبّة الله أزليّة، وهى خارج الزمن وداخله، ولذلك ليست عرضة للتغير والتبديل وليست مشروطة بسببيّة ما: " إنَّ الله قد دلّ على محبّته لنا بأنَّ المسيح قد مات من أجلنا إذْ كنا خاطئين " (روما 5: 8).

 

وإذا كانت الخطيئة الأصليّة هي حقيقة العالم اليوم، إلاَّ أنَّها مسقطة على بداية التاريخ البشري، وأنَّ بؤس البشريّة الحاضر هو حالة مُحدثة، فهي خاضعة للتبدّل والتغيّر، أي أنَّها حالة يمكن الخلاص منها. ويجب ألاَّ نفهم الخطيئة الأصليّة بالمعنى السببيّ الوراثيّ أي أنَّها تنتقل من جيلٍ إلى آخر على مثال الصفات الوراثية. فليس هناك من خطيئة دون مسؤولية شخصيّة. إنَّ خطيئة آدم هي خطيئة بالمعنى الافتتاحي: إن آدم يفتتح عصر الخطيئة. إنَّها الحلقة الأولى في سلسلة، كما افتتح قاين بقتله أخيه سلسلة من صبغت أيديهم بدماء إخوتهم، علمًا بأنّ قاين ليس مسؤولاً عن كلّ دمِ أخٍ يصرخ إلى الله. فنحن لسنا خطأة بسبب آدم ولكنّنا مثله، فهو البادئ ونحن اللاحقون. الخطيئة الأصليّة في نهاية الأمر هي تراكم الخطايا في العالم ممّا يلوّث الوضع البشريّ العام. إنَّها الخطيئة التي تسبق كلّ الخطايا، والتي يجدها الإنسان قبل ولادته والتي ندفعه نحو الانحراف والخطيئة. إنَّها الخطيئة التي هي في أصل كل الخطايا. لذا يجب التمييز في عالم الخطيئة بين مستويين ، مستوى عمودي يمسّ علاقة الإنسان بالله، وهو مستوى الخطيئة الأصليّة، ومستوى أفقي يمسّ علاقة الإنسان بأخيه الإنسان وهو مستوى الخطايا إلى القريب. فأيّ خلل في العلاقة بالله يقود حتمًا إلى تخريب علاقة الإنسان بأخيه، ويُمْكن القول إنَّ كلّ خطيئة تمتدّ جذورها في هذين البُعْدَين: " لقد خطئت إلى السماء وإليك " (لو 15 : 21) يقولها الابن الضال لأبيه. وإذْ قلنا إنَّ الخلاص هو كاشف الخطيئة الحقيقي، فالصليب، كخشبة الخلاص، يكشف هذين البعدين للخطيئة.

 

يمثل المصلوب مأساة الإنسان البريء الذي تنصبّ عليه الأحقاد والكراهية والعنف دون سبب: " لقد أبغضوني بدون سبب " (يوحنا 15: 25). فالصليب يكشف الظلم البشريّ بكلّ أبعاده، وفي دمّ المسيح تتجمّع كلّ دماء الأبرياء، من دم هابيل الصدّيق إلى دمّ زكريا " (متّى 23: 35). وفي آلام المسيح تلتقي كلّ آلام البشر وجراحهم التي يسبّبها البشر بعضهم لبعض. الصليب يكشف قسوة الإنسان على أخيه الإنسان. ولكنّ المسيح عاش صليبه وآلامه كعطاء للذات وقدّم حياته بكلّ حرّيّة لأبيه من أجل خلاص العالم: " ما من أحدٍ ينزعها مني ولكن أبذلها برضاي " (يوحنا 10: 18). لذلك في آلام المسيح وموته ينفكّ الارتباط بين الألم وفهمه كعقاب. فالصليب يُلغي مبدأ الجزاء والعقاب، لأنَّ الذي يتألّم عليه هو إنسان بريء، يحوّل آلامه إلى عطاء: " ليس لأحدٍ حبّ أعظم من أن يبذل نفسه في سبيل أحبّائه " (يوحنا 15 :13). أمّا البعد الآخر في الصليب، فهو رفض الله كما كشفه يسوع ومات لهذا السبب: إنَّه رفض لهذا الاقتراب الإلهي من الإنسان: " لأنّك وأنت إنسان تجعل نفسك الله " (يو 10 :33). لقد صُلب يسوع بتهمة التجديف، لأنَّه جسـَّـد الاتحاد العميق بين الله والإنسان. فحياته كانت اتحادًا مستمرًّا بالآب، وبذلك كشف للإنسان الطريق الذي إذا ما سلكه يحقق ذاته الحقيقية، أي الاتحاد بالله. ولكن الصليب هو نقطة التقاء بين بعدي الخطيئة: العموديّ والأفقيّ. فرفض حقيقة الله كما بيّنها يسوع، أي إخلاء لذاته وعطاء لها، يلتقي مع ظلم الإنسان وما يصبّه على أخيه من أحقاد وعنف " لأنَّ الذي لا يحبّ أخاه وهو يراه لا يستطيع أنْ يُحبّ الله وهو لا يراه " (يو 4: 20).

 

لقد صُلب المسيح بتهمة أنَّه إنسان يدّعي أنَّه ابن الله.

 

 

فهذه العلاقة الوثيقة الممكنة بين الله والإنسان هي لنا بمثابة دعوة لنصير " شركاء الطبيعة الإلهيّة " (2 بط 1: 4) وأبناءً لله. وهذا ما ترفضه العقليّة الدينيّة القائمة على الانغلاق والاكتفاء بالبرّ الذاتي، وهذا ما تحاول نفيه الحيّة المجرّبة مصوّرة الله على النقيض من ذلك. هذه العلاقة التي تحقّق حياة المشاركة بين الله والإنسان، عاشها يسوع في تجسُّـده، ويدعونا إلى أنْ نتبعه حتى نصير نحن أيضّا أبناءٌ لله وإخوة له. وهذه العقليّة ذاتها لا تؤمن بهذه المشاركة النابعة من محبّة الله المجانيّة لأنّها مسجونة داخل مبدأ الثواب والعقاب، لذلك ترفض ابن الإنسان الباحث عن الخاطئين والهالكين.

 

إنَّ يسوع يدخل في إنسانيتنا كي يشفيها من ظنونها القديمة. وإنَّ الله يريد أنْ يحتفظ لنفسه بامتيازات ومعرفة لا يريد أنْ نشاركه فيها، لذلك يمنعنا من الوصول إلى شجرة معرفة الخير والشرّ. إنّه بتجسّده واقترابه منّا يُخْلي ذاته ويتجرّد عنها، وهذا أصدق تعبير عن إيمانه المطلق بأبيه. ويصف القدّيس بولس ذلك بقوله: " فمع أنَّه في صورة الله، لم يعدّ مساواته لله غنيمة، بلّ تجرّدًا من ذاته، متّخذًا صورة العبد، وصار على مثال البشر " (فل 2: 6- 7)، في حين أنّّ آدم القديم يسلك الطريق المعاكس، فيرفض أنْ يكون إنسانًا ويسعى ليكون كالآلهة، حتّى يمتلك ما يمتلكه الله. إنَّه الحسد الأصليّ، حسد الإنسان لله. لذلك يشفي يسوع حسد الإنسان فيتخلّى عمّا يملكه، متجرّدًا من ذاته ليصير على مثال البشر، في حين أن آدم القديم أراد أن يملأ ذاته ليصير على مثال الله.

 

إنَّ آدم الجديد هو نقيض آدم القديم، فلقد أطاع حتّى الموت، الموت على الصليب حيث عصى آدم القديم. وحين أسكت يسوع المجرّب رافضًا إغراءاته ليحوّل الحجارة إلى خبز، في حين أنَّ آدم انقاد إليه فأكل من شجرة معرفة الخير والشرّ، فإنَّه حوّل الصليب إلى شجرة الحياة الحقيقية. إنَّه التصاق بإرادة الآب: " يا أبت، إن شئت فاصرف عنّي هذه الكأس… ولكن لا مشيئتي بل مشيئتك " (لو 42:22). فالمعصية تتحوّل في الصليب إلى طاعة حتّى الموت… وهذه هي البنوّة الحقيقية التي يخرج منها الإنسان الجديد. بهذه الطاعة يصبح الإنسان ابنًا لله وآدم الجديد، ومن هذه البنوّة يصبح أخًا لكثيرين. فالأخوّة لا تصل إلى عمقها الحقيقيّ ما لم تتأصّل في البنوّة، والرباط الأخوي، ينبع من رباط البنوّة الحقيقيّة. إنّني لا أستطيع أن أصبح أخًا ما لم أصير ابنًا، ولا أعرف ما هو الغفران الأخويّ، ما لم أختبر الغفران البنويّ. في بستان عدن أراد الإنسان أنْ يُصبح إلهًا بذاته من خلال الامتلاك لا المشاركة، معطّلاً بذلك مشروع الله الذي خلقه على صورته ومثاله كي يُشركه في حياته الإلهيّة في ذاته: " خذوا فكلوا هذا هو جسدي ". والموقف الإنساني الذي يتيح تحقيق هذه المشاركة هو موقف الاستقبال، لا موقف الاستملاك الذي اتخذه آدم القديم. لذلك يشفي يسوع نزعة الإنسان الاستملاكيّة، إذ يُخلي ذاته ويّصبح فقيرًا: " فقد افتقر لأجلكم وهو الغني، لتغتنوا بفقره " (2كو 8 : 9). بهذا يزعزع بنية الخطيئة ويميط اللثام عن حبائلها، إذ إنَّ الخطيئة تنمو وتزدهر في أجواء الشكّ وعدم الثقة بالله، فيندفع الإنسان إلى إزالة قلقه وتغطية نقصه بنزعة الاستملاك. إنَّه يريد أنْ يمتلك ما هو معطى له في الأصل بالمشاركة. فكلّ عملية استملاك هي فصم للشراكة، في حين أنَّ المحبّة تشارك بما عندها، تشارك حتّى بذاتها، وهذه هي محبّة الله، لأنّه في جوهره محبّة، وكلّ محبّة حقيقيّة تتأصّل في محبّة الله. لذلك تبدأ المحبّة الإنسانيّة باستقبال محبّة الله أوّلاً. هذا الموقف هو موقف الابن. والاستقبال الحقيقي هو مصدر كلّ مشاركة أخويّة صحيحة، لأنَّ المحبّة الإنسانيّة هي أنْ نشارك في ما أعطي لنا، وإلاَّ تتحوّل المحبّة الأخويّة إلى الادّعاء بغنى لا يصدر عنّا.

 

إنّ يسوع يُجرِّد ذاته على الصليب لكي يمنحنا مجده وحياته، وهذه المشاركة كانت حلم الله منذ إنشاء العالم. ولكن المجد والحياة مصدرهما الله الخالق، وأصِلُ إليه إذا قبلت وضعي كمخلوق، أي إذا أخذت موقف الابن، موقف الاستقبال؛ :كما يقول القدّيس إيريناوس: " إنّ مجد الله هو الإنسان الحيّ، والإنسان الحيّ هو أن يكون بالقرب من الله ".

 

بهذا الاعتراف تتجلَّى هويّة الله الحقيقيّة وهويّة الإنسان. وعندما أقبل هويّتي، فإنَّ كيان المتعطّش للحياة يجد أفقه اللامحدود في صورة الله، أي أنْ أكون مخلوقّا شبيها بالله وليس مساويًا له. بهذا الاعتراف يسري تيّار العطاء بين الله والإنسان وتتّخذ علاقة الإنسان بالله صورتها الحقيقيّة، علاقة الابن بأبيه. إذ ذاك نتحرّر من غربتنا، من ابتعادنا عن ذاتنا الحقيقيّة ونعود إلى أصالتنا وهذا هو جوهر " نعمة التبنّي بيسوع المسيح الذي أنعم بها علينا بالحبيب " (أفسس 1 : 5- 6). فيسوع بنى بطاعته البنويّة ما هدمته المعصية، فصار الابن الحبيب الذي يريدنا إخوة له. آنئذٍ يتحوّل الفارق بيننا وبين الله إلى فرصة تولّد تيّار المشاركة وتوحّدنا بالله حيث لم نكن نرى فيها سوى ثمرة نحسده عليها ونشتهي امتلاكها.

 

إن الخلاص الذي حققه يسوع المسيح (آدم الجديد) بصليبه يكشف فينا أصول الخطيئة ويهدم جذورها فينا ابتداء من آدم القديم وفي كلّ إنسان. فكلّ البشر قُدّر لهم التبنّي بيسوع المسيح، على الرغم من كونهم جميعًا خطـئوا، لأنَّ الخلاص بشموليتّه يزيل شموليّة الخطيئة.

 

إنَّ يسوع هو بكر الخليقة الجديدة، وما دام بكرًا فإنَّ له إخوة كثيرين يتبعونه: "وسبق فقضى بأنْ يكونوا على مثال صورة ابنه ليكون هذا بكرًا لإخوة كثيرين" (روما 8: 29). ومسيرة يسوع بدأت بعماده في نهر الأردنّ حيث أُعلنت بنوّته الحقيقيّة: " هذا هو ابني الحبيب الذي عنه رضيت " (متّى 3: 17). بهذه البنوّة يجابه المجرّب في البرّيّة وينتصر عليه، معطيًا آدم القديم إمكانية جديدة، هي أنْ ينتصر على المجرّب. ولكن البنوّة الحقيقيّة هي الطاعة لله. فيسوع أطاع حتى الموت … الموت على الصليب، لذلك لا تتجلَّى بنوّة يسوع العميقة إلاَّ على الصليب: " كان هذا ابن الله حقًا " (متّى 27 : 54)؛ هي شهادة قائد المئة عند أقدام الصليب. لذا فاعتماد يسوع على يد يوحنّا هي صورة مسبقة لمعموديته الحقيقيّة، أي موته وقيامته: " وعليّ أنْ أقبل معموديّة وما أشدّ ضيقي حتّى تتمّ " (لو 12 : 50). إنّ معموديتنا هي صورة لمعموديّة المسيح، أي إنَّها اشتراكنا في موته وقيامته: " أوتجهلون أننا، وقد اعتمدنا جميعًا بيسوع المسيح، إنّما اعتمدنا في موته، فدفنّا معه في موته بالمعموديّة لنحيا أيضّا حياة جديدة كما أقيم المسيح من بين الأموات بمجد الآب ؟ " (روما 3:6- 4). هذه المعمودية هي موت الإنسان القديم فينا، الذي انساق وراء المجرّب، لنلبس المسيح الذي يعطينا الحياة وقوّة الانتصار على الخطيئة. ففي سرّ المعمودية ننبذ الشيطان ونعلن إيماننا بالمسيح، وننزل في ماء جرن المعموديّة، الذي يرمز إلى موتنا مع المسيح وقيامتنا معه، لنخرج منه أبناء حقيقيين لله، ممتلئين بروحه، فننضمّ إلى إخوة لنا سبقونا على هذا الطريق، هم الكنيسة، جماعة المخلّصين. المعمودية هي سرّ خلاصنا، ومشروع حياتنا المسيحية، بها نتحوّل من آدم القديم إلى آدم الجديد. إنّها ولادتنا الثانية والسبيل الذي من خلاله نتبع المسيح على طريق الحياة الجديدة.

 

 

الخـلاصـة

في ختام هذا العرض اللاهوتي الكتابي، نختصر موضوع الخطيئة الأصليّه كسرّ وقضيّة، في النقاط التالية:

 

1-            عندما نتحدث عن الخطيئة الأصليّة نخلط عادة بين حقيقتين:

·  حقيقة الخطيئة القديمة التي حدثت أوّلاً، أي خطيئة الإنسان الأوّل، باختياره واتّباعه صوت المجرّب بحثا عن استملاك الحياة، في حين أنَّها عطية الله نتلقاها بالعلاقة الحميمة معه. هذه الخطيئة شكّلت البداية الافتتاحية لعصر الخطيئة.

·  وحقيقة الإنسان الذي ينزع إلى الخطيئة منذ مولده. لذا فإنّ الخطيئة الأصليّة لا تعنى فعلاً فرديًا معيّنًا، بلّ تشير إلى الواقع البشريّ العام الذي تراكمت فيه سلبيّات الخطايا عبر العصور، والذي يدفعنا إلى ارتكاب الخطايا نحن أيضًا، مثلما يؤثّر الجوّ الملوّث في صحة السكّان الذين يعيشون فيه. هذا الواقع لا ينزع إلى الانفتاح على صداقة الله ومحبّته والمشاركة في حياته… فالخطيئة ليست أصليّة بالمعنى التاريخيّ للكلمة، بقدر ما هي نزعة متأصّلة في الإنسان بإبتعاده عن الله وارتكابه المعاصي. فآدم الأوّل رمز إلى الوجه المشترك للإنسانية، إذ يرى كلّ منّا فيه ملامحه. إنَّه يعبّر عن البعد التضامنيّ للبشريّة. فإذا كان آدم القديم يشير إلى هذا التضامن ببعده السلبيّ، فالمسيح آدم الجديد يشير إلى بعده الإيجابيّ.

 

2-   ولكن يجب ألاَّ نعزل حقيقة الخطيئة الأصليّة عن الإطار العام للتاريخ الخلاصيّ، بجعلها حقيقة مستقلة قائمة بحدّ ذاتها ونقطة انطلاق لعلاقة الله مع الإنسان. بلّ يجب فهمها على ضوء الخلاص الذي حققه يسوع المسيح بموته وقيامته والذي كشف لنا محبّة الله اللامتناهية، التي تبقى هي الأصل. وهذا ما بيّنّاه مطوّلا في عرضنا اللاهوتيّ. لذا يجب إعادة النظر في مكانة هذه الخطيئة ضمن إطار التعليم المسيحيّ وإعادتها إلى حجمها الحقيقي، علمًا بأنَّ معطيات الكتاب المقدّس لا تذكرها بصريح العبارة، كما أنّ صياغتها العقائدية ظهرت في عصر متأخّر. ويجب الإشارة هنا إلى أنَّ ثمّة فارقًا في الأهميّة التي أعطيت للخطيئة الأصليّة بين الكنيسة الغربية والكنيسة الشرقية، فالأوّلى ابتداءً من أوغسطينس ركّزت كثيرًا عليها، في حين أنّ الثانية أعطت المكانة الأولى " للتألـُّه "، أي صيرورة الإنسان واكتماله على صورة الله. ولكن يجب فهم هذا الفارق من خلال الظروف اللاهوتيّة والتاريخيّة الخاصّة بكل من الكنيستين.

 

3-   من المؤسف ألاَّ نرى في تجسّد المسيح ورسالته الخلاصيّة سوى حدث ناتج عن الخطيئة الأصليّة، كأنَّ هناك علاقة سببيّة قائمة بين الخطيئة الأصليّة، خطيئة آدم، وحدث مجيء المسيح إلى عالمنا، وكأنَّ الخطية هي الحدث الأساسي الذي يفسّر ديناميّة سرّ الخلاص، في حين أنّ الحدث الأوّل الأصليّ هو حبّ الله الذي يتجلَّى في الخلق وفى الخلاص. فالمسيح هو كلمة الله التي كانت منذ البدء والتي بها كـُـوّن كلّ شيء. فالمحرِّك الأوّل لتاريخ الخلاص ليس السقطة الآدمية، بل مبادرة الله المُحِبّة التي تسبق الخطية وتتجاوزها.

 

4-   إنَّ الكتاب المقدّس لا يتحدّث عن دينونة إلهيّة لإنسان كُتبت عليه الخطيئة قضاءً وقدرًا، بلّ عن ثمار أعمال الإنسان المتولّدة عن اختياراته الحرّة. فوراء سرّ الخطية تكمن مسؤولية الإنسان ومأساة حرّيّته. والواقع أنَّ الكتاب المقدّس في أسفاره كافّة عندما يتكلّم على الخطيئة يذكر في الوقت عينه الدعوة إلى التوبة، كإمكانية مفتوحة أبدًا أمام الإنسان. فرحمة الله المُحِبّة هي اختيار متجدّد أمام الإنسان الخاطئ.والكتاب المقدّس لا يتحدّث عن خطيئة بالمعنى الوراثي للكلمة، بلّ عن تلوّث عام بالخطيئة ينتقل من جيلٍ إلى جيل. فخطيئة الأبناء لا يحدّدها سلوك الآباء، بل يضرس الأبناء بالمرارة التي تفرزها خطايا الآباء.

 

5-   أما في ما يتعلق بخطيئة الأطفال، فالنصوص الكتابية لا تتناول هذه الخطيئة، بلّ تتعرض لخطيئة بشر ناضجين مسؤولين (روم 3: 23) أخطأوا شخصيًا (روم 5: 12). فمن غير الملائم أنْ نرى في المعمودية، وفق منظور سلبي، محو الخطيئة الأصليّة. فالمعموديّة أوّلاً هي حلول النعمة التي تعطينا قوّة الولادة الجديدة، إذ نشترك مع المسيح في موته ليولد فينا الإنسان الجديد، كما أنّ هذه المعمودية هي مشروع للحياة المسيحية التي تنمو وتتطوّر حتى تبلغ كمالها لتصل إلى « ملء قامة المسيح ». ولكنّ هذا النموّ يعتمد على الجواب الشخصيّ والالتزام الناضج الحرّ للإنسان المعمَّـد كما أنّ المعموديّة هي دخول في الجماعة المسيحيّة، أي الكنيسة التي تُعدّ نفسها لاستقبال العريس. وإذا كانت المعموديّة تمحو الخطيئة الأصليّة فهذا يعني أنَّها تفتح أمام الإنسان أفقًا لحياة جديدة مع المسيح، إذ تعطيه القوّة ليتحرّر من قوى الخطيئة التي تحيط بالإنسان من لحظة دخوله في العالم. لذا يجب عدم حصر قيمة سرّ المعموديّة في محو الخطيئة الأصليّة، فالقدّيس يوحنّا فم الذهب، كان يتحدّث إلى مستمعيه عن المعموديّة ليلة الفصح، دون الإشارة إلى الخطيئة الأصليّة.

 

وفي النهاية يمكننا القول إنّ الخطيئة الأصليّة هي الجذر العميق الذي نجده في كلّ خطيئة، في كلّ مرّة نقول فيها " لا " لنعمة الله ومحبّته الفياضة، عندما يرفض الإنسان تلقّي حياته كهبة من الله، معتبرّا إيّاها غنيمة يستولي عليها. ومهما يكن فإنّ نعمة الله ومحبّته تبقيا هما جوهر العلاقة التي تربط الإنسان بالله والتي فاضت وتكاثرت، خصوصًا عندما كثرت الخطيئة.

 

 

محتويات الكتاب

·       المقدمة

·       ما هي الرسالة التي تتضمنتها قصة ادم و حواء؟

·       دور الوصية

·       خطة الحية

·       معرفة الخير و الشرّ

·       ثمار المعصية

·       الحية المجربة

·       تجربة القديس بولس الخلاصية

·       نقطة بدء التاريخ الخلاصي عند القديس بولس

·       أولية المسيح

·       من هو ادم؟

·       حقيقتنا بين ادم القديم و ادم الجديد

·       الخلاصة

  ·       بعض المصادر