مَنْ هُوَ الله؟للأبّ رامي إليَاس اليَسُوعيّ

مَنْ هُوَ الله؟

بقَـلم

الأبّ رامي إليَاس اليَسُوعيّ

 

موسوعة المعـرفة المسيحيّة

العـقيدة (4)

دار المشرق ـ بيـروت

 

 

الكاتب

الأبّ رامى إلياس اليسوعيّ متخصّصٌ فى علم النفس والتحليل النفسانيّ، وهو مسؤول عن مراكز التربية المسيحيّة فى دمشق وضواحيها، ومدير مركز تأهيل المربّين المسيحيّين فى المدينة نفسها.

 

 

 

 

 

مقـدمة

مَنْ هو الله؟ موضوع الله موضوع أساسيّ ومُهِمّ، لأنَّه في الحقيقة يعني موضوع الإنسان أيضًا. ففي كل مرّة يَطرَح فيها الإنسان السؤال حَوْل ذاتِه، مصدرِه، جذورِه، معنى وجودِه، يطرح في الوقت نفسه السؤال حول وجود الله، أو حول المطلق، وذلك إمَّا لكي يؤكِّد هذا الوجود وإمَّا لينفيه.  وهذا أمر ذو أهمّيّة كُـبرى، لأنَّه يُبَيّن لَنا مَدَى الترابط القائم بين الله والإنسان حتّى إنَّه لا يُمْكِننا التحدّث عن الواحد دون الآخر. لا بلّ أكثر من ذلك فإنَّ الاثنين مدعوَّان ليعيشا وحدة متماسكة لا تنفصل، على مثال المسيح الذي نعرفه بأنَّه إله وإنسان معًا. أفلم يقل المسيح : " كلَّمَا صَنَعْتُم شَيْئًا لِوَاحِدٍ مِنْ إِخْوَتِي هَؤُلاء اَلصْغَار فَلِي قَد صَنَعْتِمُوه " (متى 25/40)؟.

 

إنَّ موضوع الله مهم لأنَّه بمثابة المفتاح الذي يمكّننا أنْ نفهم الأمور الأخرى. أو بالأحرى نحن ننظر إلى جميع الأمور من خلال هذا المنظار الذي نسميّه الله، لأنّنا ننظر إلى مجمل الأمور ( الأشياء والآخرين ) انطلاقًا من الإيمان. فمفهوم الإيمان ونظرتنا إلى الله هما اللذان يحدّدَان لنا بقيّة المفاهيم. لهذا السبب، سنسعى، من خلال هذا الكتاب، إلى تصحيح نظرتنا ومفهومنا لله، وبالتالي لباقي الأمور الحياتيّة التي تهمّنا. بوجه عامٍّ لدينا مفاهيم متعدّدة ومختلفة وفي أغلب الأحيان متناقضة في شأن الله ( الله المحبّ والله الرحيم، والله الحاكم والديّان، والله الذي يريد الذبائح إلخ…) بالإضافة إلى أننا نصيغ الله بالوجه وبالطريقة التي تناسبنا، فنُسقط عليه رغباتنا وميولنا وأمنياتنا وأحلامنا، علَّه يحققها لنا. وبهذا المعنى، فإنَّ بعض الانتقادات التي وُجّهَت إلى المسيحيّة تتّهم هذه بأنَّها تؤمن بإله يريد أن يبقى الإنسان طفلاً غير مسؤول، فيتّكل في كلّ شيء على الله. وهناك انتقادات أخرى تقول بأنَّ الله هو من نتاج الإنسان، أيّ بأنَّ " الإنسان هو الذي أوْجَدَ الله ". قد نرفض هذه الانتقادات باسم الإيمان والدفاع المتعصّب الأعمى عن الدين. ولكنْ علينا الاعتراف بأنَّ فيها الكثير من الحقيقة، لأنَّنا غالبًا ما نعيش الله على أنَّه كذلك. فهو الذي يُميت: " الله أخذه، هي إرادة الله إلخ ". وهو الذي يجرّب الإنسان: " إنَّ الله يجرِّب محبّيه ". ولكن هذه العبارة ليست من العهد الجديد، بلّ من العهد القديم. ونقول بأنَّ الله هو الذي " يَبْلِي ويُعين ". نقبل هذا الأمر لأنَّه يُريحنا ويرفع عنَّا المسؤوليَّة. من المريح لنا أنْ يعود كلّ شيء إلى الله. ولكن في ذلك هروبًا من العالم ومن المسؤوليَّة التي تقع على عاتقنا نحو العالم والإنسان: أفلم يقل الله للإنسان: " اِنْموا واَكْثُروا وأمْلأُوا الأَرضَ وأَخضِعوها وَتَسَلَّطوا "(تك 1/28)؟ لكنَّنا نرفض ذلك، عندما يعاكس رغباتنا وأمنياتنا: " شو عملتلك يالله… وينو الله…؟".

 

معرفتنا لله نابعة، في الكثير من الأحيان، من تصوّرات وأفكار ورثناها منذ القدم، وهذا ما يدخل في نطاق ما سمَّاه المحلِّل النفسي المعروف يونخ " اللاوعي الجماعيّ ". عند جميع الناس، نلاحظ هذه التصوّرات نفسها، ولكنْ بدرجاتٍ متفاوتة. وهذا يعني أنَّ معرفتنا لله لا تنبع من معرفتنا للكتاب المقدّس، بلّ تأتي، في أفضل الأحيان، من التعليم المسيحيّ الذي تربَيْنا عليه دون أن نحاول تطويره والتعبير عنه بلغة اليوم، مع كلّ ما حملته لنا العلوم التطبيقيّة والإنسانيّة.

 

فنحن مدعوّون إلى التفكير في هذا الموضوع على ضوء الكتاب المقدّس لنكوّن صورة صحيحة، إلى حدٍ ما، عن الله والإنسان معًا. وَرَدَ في الكتاب المقدّس " إنَّ الله حبّ " وهو " ليس إلاَّ حبًّا " على حدِّ قول اللاهوتيّ الفرنسي فرنسوا فاريون. وهذا يعني بالطبع أنَّ الله لا يمُكنه أنْ يقوم بأعمال مخالفة " للحبّ " أو، بمعنى آخر، خارجًا عن الحبّ، لا يستطيع الله شيئًا، لأنـَّه خيّر وكلّي الخير. إنَّ الله لا يُجَرِّب الإنسان، بل التجربة هي جزء لا يتجزَّأ من حياة الإنسان، لأنـَّه خُلِقَ حرًّا. فلا وجود للتجربة بدون الحريّة والعكس صحيح.

 

هذا ما يحملنا على التوقّف عند كلّ وجه من وجوه الله محاولين أن نتعرَّف إليه عن كثب ونتركه يكشف لنا وجهه الحقيقي من خلال كلامه الذي نقرأه ونتلقّاه من الكتاب المقدّس بوجهٍٍ عام ومن العهد الجديد بوجهٍ خاصٍّ.

 

مواضيعنا ستكون إذًا على النحو التالي:

الله المحرّر: إنَّ أوّل اختبار لإنسان العهد القديم كان اختبار الله الذي يُحرّر محبِّيه. ولكن من ماذا يُحرّرنا الله؟ من كلّ ما يمنعنا أنْ نكون بشرًا أحرارًا، على صورته كمثاله. كان هذا المفهوم غير واضح في العهد القديم، ولكنَّه أخذ في المسيح معناه وأبعاده الحقيقيّة: الله يُحرّرنا من الخطيئة، وهي أساس جميع أنواع العبوديّات التي يعيشها الإنسان.

 

الله الخالق: بعد القيام باختبار الله المُحرّر، اِخْتَبَرَ إنسان العهد القديم الله الخالق، الله الذي يصنع شعبًا ممَّا لم يكن شعبًا. فاستخلص من ذلك أنَّ الله هو القادر على كلّ شيء: فَبِإمْكانه أنْ يخلق من العدم. إذًا هو الله الخالق. خالق الكون. وما فيه، خالق الإنسان.

الله المخلّص: أخذ اختبار التحرّر في العهد الجديد، في المسيح، معنى آخر، منحًى آخر، عمقًا: فالله المحرّر أصبح الله المخلِّص. إنَّ تاريخ الله مع الإنسان يُعَبَّر عنه بتاريخ الخلاص. واختبار الخلاص مرتبط بأمرَين مهمَّين: الخلاص من الخطيئة، ومن نتيجتها وهو الموت. نحن نقول إنَّ المسيح يخلّصنا من الخطيئة، وهذا صحيح، ولكن علينا أنْ نعلمْ كيف يتمّ ذلك. ثمّ نقول إنَّ المسيح تجسَّد لكي يخلّصنا من الخطيئة، وهذا ما علينا أن نعدّله، لأنَّ هذا المنطق يعني أنَّ التجسّد فُرِضَ على الله بسبب الخطيئة، وهو أمر لا يتطابق مع جوهر الله المحبّ. فنحن نقول اليوم إنَّ الكلمة تجسَّد وسكن بيننا واتّحد بنا لأنـَّه يحبّنا: " فالله تزوَّج البشريّة " كما ورد في الكتاب المقدّس. وباتّحاده هذا يحرّرنا ويخلّصنا من الخطيئة. إذ التجسّد مستقلّ تمامًا عن موضوع الخطيئة، وإنْ كان، في الوقت نفسه، يُحرّرنا منها. فلو لم يكنْ هناك من خطيئة، لتجسّد المسيح أيضًا



الله المتجسّد: لا يمكننا أن نفهم كما يجب الخلاص المسيحيّ إلاَّ في ضوء مفهومنا للتجسّد. فالتجسّد ليس حدثًا عابرًا، كما نعتقده في أغلب الأحيان. إنَّ التجسّد حدث تمَّ مرَّة واحدة في شخص المسيح، ولكنَّه يتمّ أيضًا بوجهٍ عام وشامل بين الله والبشريّة، بمعنى أنَّ الله يرغب أنْ يتّحد بالبشريّة كلّها، وهذا هو الملكوت، كما كتب القدّيس بولس: " حيث يُصْبِحَ الله الكلّ فِي الكلّ ". نعلم من الكتاب المقدّس بأنَّ الإنسان الحقيقيّ هو إنسان متألِّه وبأنَّ الله الحقيقيّ هو إلزامًا إله متأنّس.

 

الله المتألّم: تألّم المسيح ومات على الصليب حبًّا لنا. لمْ يعشْ آلامه من باب الواجب ولا من باب تنفيذ برنامج مسبق، كما نعتقد، وهو لم يتألم مكاننا، بلّ تألّم المسيح لأنـَّه يحبّنا فأراد أنْ يعيش كلّ ما نعيشه، بما فيه الألم. أراد أنْ يعيش كلّ ما يعيشه الإنسان، كلّ ما يجعل الإنسان إنسانًا. لم يبحث المسيح عن الصليب، بلّ قبله لأنه يحبّ، يحبّ الإنسان حتى الموت.

 

الله المائت: وهذا شأن المسيح مع الموت. مات المسيح حبًّا لنا وذهب إلى موته بكلّ حرّيّة. قال المسيح في مثل الراعي الصالح : " إنَّ الآب يُحِبّني لأنِّي أبْذُل نَفْسِي لأنالها ثانيةً. مَا مِنْ أَحَدٍ يَنْتَزِعْهَا مِنِّي. ولَكنِّي أَبْذُلها برضاي. فلي أنْ أبذلها ولي أنْ أنالها ثانيةً ". ذهب المسيح إلى الموت بكلِّ حرّيّة ولم يرفضْ الموت. وعبَّر يوحنَّا الإنجيليّ عن هذه الحرّيّة عندما ذكر كيف أنَّ الجنود الذين أتوا للقبض على يسوع " وَقَعُوا إِلَى اَلأَرْضِ " أمام هذه الحرّيّة العظيمة التي قادته إلى الموت.

 

الله القائم من الموت: لأن المسيح ذهب إلى الموت بكلِّ حرّيّة، لأنـَّه تخلَّى عنْ ذاته، أيّ كان حرًّا حتَّى توجيه نفسه، أقامه الله من بين الأموات: " هو الَّذي في صُورةِ الله، لم يَعُدَّ مُساواتَه للهِ غَنيمَة، بلّ تَجرَّدَ مِن ذاتِه مُتَّخِذًا صُورةَ العَبْد وصارَ على مِثالِ البَشَر، وظَهَرَ في هَيئَةِ إِنْسان، فَوضَعَ نَفْسَه وأَطاعَ حَتَّى المَوت مَوتِ الصَّليب. لِذلِك رَفَعَه اللهُ إِلى العُلى، ووَهَبَ لَه الاَسمَ الَّذي يَفوقُ جَميعَ الأَسماء. كَيما تَجثُوَ لاسمِ يسوع، كُلُّ رُكبَةٍ في السَّمَواتِ وفي الأَرْضِ وتَحتَ الأَرض. ويَشهَدَ كُلُّ لِسانٍ أَنَّ يسوعَ المسيحَ هو الرَّبّ تَمْجيدًا للهِ الآب. " (فل 2/6-11).

الله المحـرّر

في العهد القديم، صور متعدّدة ومختلفة، وأحيانًا متناقضة، عن الله. لأنَّ الله يكشف عن نفسه من خلال التاريخ، فتتطوّر صورة الإنسان عن الله مع مسيرة التاريخ الإنسانِيّ، أقدم هذه الصور في الكتاب المقدّس هي صورة الله المحرّر، صورة الله الذي يُحرّر شعبه. لهذه الصورة أهمّيّة كبرى، لأنَّها تُمهّد وترمز إلى فكرة الله الذي يُحرّر من الخطيئة، فكرة الله المخلّص. فإنَّ فكرة التحرّر أو فكرة الله المحرّر هذه هي الاختبار الأوّل الذي قام بها إنسان العهد القديم عن الله.

 

قدّ نعتقد بأنَّ الكتاب المقدّس هو كتاب متسلسل، وُضع بشكل تسلسليّ من البداية إلى النهاية. في الحقيقة، ليس الأمر كذلك، لأنَّ قصّة الخلق كُتِبَتْ في النهاية وأتت كاستنتاج عقليّ، إلى حدٍ ما، كاستنتاج مبنيّ على الاختبار الأساسيّ، على اختبار الله المحرّر. قبل أنْ يتدخّل الله، لم يكن هناك من شعب، بلّ كانت هناك قبائل متفرّقة لا علاقة لبعضها ببعض. وبفضل تدخّل الله فيها، تحوّلَت إلى شعب استنتج أنَّ الله هو إله خالق، لأنـَّه خلق شعبًا ممَّا لم يكن شعبًا، أيّ أنـَّه قادر على أنْ يخلق من اللاشىء. من العدم.

 

الله في وسط شعبه: يعني هذا أنـَّه إله التاريخ: " أَنا إِلهُ أَبيكَ، إِلهُ إِبْراهيم وإِلهُ إِسحق وإِلهُ يَعْقوب " (خروج 3/6). وهذا أمرٌ مهمٌّ جدًّا، وهو أساس سرّ التجسّد الذي نتوقَّف عنده في ما يلي. إله التاريخ، هذا ما يميِّز الإيمان المسيحيّ، وهو يعني أنَّ الله دخل تاريخ الإنسانيّة فصار تاريخه وتاريخها واحدًا. في نظر الكتاب المقدّس، يكشف الله عن نفسه من خلال التاريخ، من خلال الأحداث اليوميّة، البسيطة منها والمهمَّة التي يعيشها الإنسان، لأنَّ الله يسكنها. وبهذا المعنى يقول لنا الكتاب المقدّس إنَّ " اللهَ ما رآهُ أَحدٌ قطّ، لأَِنَّه لا يَراني الإِنْسانُ وَيحْيا " (خر 33/20 ويو ا/ 18). نرى ذلك أيضًا بوجهٍ أوضح في زيارة مريم لنسيبتها أليصابات. فإن أليصابات قالت لمريم : " مِنْ أَيْنَ لِي أَنْ تَأتِنِي أُمّ رَبّي ". علمًا بأنَّها تجهل حمل مريم. يعني ذلك أنَّ أليصابات اكتشفت وجود الله الكلمة من خلال هذه الزيارة المجانيّة، إذْ إنَّ الله يكشف عن ذاته من خلال التاريخ الإنسانِيّ ومن خلال عدّة وساطات، أهمّها المسيح، لا بلّ هو الوساطة بالذات، أو، كما كتب بولس الرسول " الوسيط الحقيقيّ، صورة الله ". فليس الله بعيدًا عن الإنسان، بلّ يعيش بالقرب منه، يعيش معه. فكلّ محور العهد القديم يدور حول رغبة الله أنْ يسكن في وسط شعبه، أيّ في وسط الإنسانيّة جمعاء، لأنـَّه يحب الإنسان، يحبّه حتّى إنـَّه يموت حبًّا له: " لَيْسَ لأحدٍ حبٌّ أَعْظّم مِنْ أنْ يَبْذُلَ نَفْسَه في سبيل أحبّائه " و " إفرحي وتهلّلي يا ابنة صهيون فإنَّ إلهك سيكن في وسطك " (ترمز ابنة صهيون إلى البشريّة كلّها).

 

نعلم من العهد القديم بأنَّ الله يُعطى الإنسان هذا الوعد، وعد الإقامة معه وعدم التخِلِّي عنه. لكنَّ الإنسان يخونه باستمرار لعدم ثقته الكافية به. أمَّا عدم الثقة هذا فهو عائد جزئيًّا إلى أنَّ الإنسان يريد أنْ يكون الله كما يريده هو. أيّ مُلَبـِّيًا لرغباته وحاجاته. وبالمقابل، يبقى الله أمينًا لوعده. وعد الحبّ الذي يكمن في المشاركة في حياة الإنسان، كمشاركة الزوج في حياة زوجته، أيّ الاتّحاد بها واستمراريَّة هذا الاتّحاد في " السرّزاء والضرّاء ".

 

وهذا الحضور، حضور الله فى وسط شعبه، هو حضور مُحرِّر، لأنَّ الله يقود الإنسان من خلال هذا الحضور، ويقوّيه ويسنده ويشجّعه في مسيرته الإنسانيّة والإيمانيّة. وهذه المرافقة أضفت على الله، في العهد القديم، صورة القائد الذي يُرشِد الشعب، ويناضل معه، ويحارب معه ومن أجله، ويجعله ينتصر على أعدائه. فنرى إنسان العهد القديم يطلب إلى الله أنْ ينتقم له ويسنده للتغلّب على أعدائه. بمعنى آخر، يُسقط الإنسان على الله مشاعره الإنسانيّة، ممَّا "شوَّه" إلى حدٍ ما، صورة الله في بعض أسفار العهد القديم. وهذه الصورة الناقصة، في الناضجة، أو هذا المفهوم غير الصحيح لله، قيّد إنسان العهد القديم في مفهومه لله، وعسَّر عليه قبول المسيح كما عاش وكما نراه من خلال العهد الجديد، إذْ إنـَّه يُخالف الصورة المألوفة التي كوّنها عن الله. ( نرى ذلك في مطلع قصّة أيوب، حيث يصغي الله إلى صوت الشيطان، ويسمح، بناء على طلبه، أنْ يُجرِّب أيّوب ). ولا يريد التخلِّي عن هذه الصورة، لأنَّها تنسجم مع رغباته وحاجاته المباشرة التي يعتقد بأنها حقيقيّة.

 

إنَّ تلك النظرة إلى الله جعلت شعب العهد القديم يعتقد بأنَّ الله هو إلهه وحده، إله شعب معيّن ومرتبط بأرض معيّنة. ولكننا نرى في الوقت نفسه أنّض هناك صراعًا يسكن العهد القديم وهو صراع بين العامّ والخاص، أي صراع بين أن يكون الله مرتبطًا بشعبٍ معيّن وأنْ يكون إله الجميع، إله البشر، إله الأمم، كما يسمّيهم الكتاب المقدس: " تَوَجّهُوا إِلَيّ فتَخْلصوا، يَا جميع أقاصي الأرْض، فإنِّي أنا الله ولَيْسَ مِنْ إلَه آخر. بِذَاِتِي أقْسَمْتُ ومِنْ فَمِي خَرَجَ البِرّ، كَلِمَةٌ لا رِجُوعَ عَنْهَا. ستَجْـثُو لِي كلَّ رُكْبَةٍ ويُقْسِم بِي كلّ لِسَانٍ " (أش 45/22-24).

 

يُعَبِّر عن حضور الله في تاريخ الإنسان بوجه مبدئيّ ورمزيّ، من خلال عملية الخلق، حيث يضع الله من روحه في الإنسان. فقد ورد في الكتاب المقدّس (تك 2/7): " ونَفَخَ فِي أنْفِه نَسْمَةَ حَيَاةٍ، فَصَارَ الإِنْسَان نَفْسًا حَيَّة ". ثم من خلال إعطاء الشريعة – وهي كلام الله – ( والمسيح هو كلمة الله ). ومن بعد ذلك، أتى الأنبياء وكانوا يذكّرون الشعب دائمًا بإرادة الله، فكانوا بمثابة صوت الله الحيّ، بمثابة حضور الله، إنْ صحَّ التعبير، في وسط الشعب. وأخيرًا تمَّ هذا الحضور بوجه كلّيّ من خلال المسيح -الكلمة المتجسِّد. فقد سكن الله في وسط مريم ( الأحشاء ) وسكن في وسط الشعب، بحضوره الشخصيّ المتجسِّد، عن طريق كلمته.

 

وفي العهد الجديد0 نرى الله وقد سكن فعلاً في وسط شعبه، من خلال شخص المسيح، الكلمة المتجسِّد. ولقد فهم العهد القديم أنَّ الله يحرّره "مادّيًـا"، إنْ صحَّ التعبير، تحريرًا من الآخر، من العدوّ، من جميع مشاكله الماديّة والمعنويّة، النفسيّة والاجتماعيّة (ونحن اليوم لا نزال ننظر إلى الله وكأنـَّه يحلّ المشاكل ويزيل الصعوبات في الحياة ). أمَّا العهد الجديد فقد أضفى على فكرة التحرّر معناها الحقيقي، فأخذت معنًى روحيًا، وإنْ غير مجرّد. فعندما نقول: " روحيّ " نعني أنَّ له انعكاساته المادّيّة الملموسة. وبمعنى آخر، أنا أعمل وأعيش حياتي " المادّيّة "، انطلاقًا وفي ضوء هذه المعطيات الروحيّة التي يهبها لي المسيح من خلال كلامه الحيّ. وهذا يعني أيضًا أنَّ الله لا يقوم بالعمل مكانِي أنا، بلّ أنا مسؤول، وعليّ أنْ أمارس هذه المسؤولية، والله يساعدنِي من خلال حرّيّتي ومسؤوليّتي. إنَّ الله لا يعمل بالرغم منّي، بلّ من خلال حرّيّتي المسؤولة. وهذا ما يزعجنا، لأنّنا نريد أنْ نستريح ونترك الله يعمل مكاننا.

 

فكرة التحرّر كما فهمها إنسان العهد القديم جعلت من الصعوبة بمكان أن يقبل مسيحًا مصلوبًا، لأنـَّه كان ينتظر إلهـًا محاربـًا ومنتصرًا على أعدائه، وهذا ما جعل التلاميذ أنفسهم يشعرون بالفشل أمام الصليب: " كُنَّا نًحْنُ نَرْجُو.أنـّه هو الذي سيفتدي إسرائيل ". هذا ما قاله تلميذا عمّاوس للقائم من بين الأموات، معبِّرين عن شعورهم بالفشل الذريع أمام آلام المسيح وموته.

 

كيفه يحرِّر الله الإنسان وممَّا يحرِّر؟ إنَّ الله يحرِّرنا بحبِّه لنا. ونحن بالمقابل نستطيع أن نعيش هذا التحرّر بمقدار ما نعيش ونقبل هذا الحبّ. فالمشكلة كلَّها تكمُن في الثقة بهذا الحبّ. منذ الأزل يطرح الإنسان على نفسه هذا السؤال: هل الله معه أم لا؟ وهل هو يحبَّه أم لا؟ وهل هو محبوب أم لا؟ في العهد القديم تظهر لنا تجربة عدم الثقة هذه، وهي التي دفعت الشعب إلى عبادة العجل الذهبيّ، وتخزين المنّ الذي أعطاه الله، مع أنَّ الله وعد باستمرار هذه العطيّة. وما قصة تجربة الحيّة سوى تعبير واضح عن هذا الأمر، حيث إنَّ حذر الإنسان أمام حبّ الله له دفعه إلى السعي للقبض والسيطرة على الحياة والخلود بقواه العضليّة، بدَل أنْ يثق بالله ويتقبّل الحياة والخلود كعطيّة من الله. الله يريد المحرّر أن يكون الإنسان حرًّا من كلِّ شيء، من كلِّ ما يسلب إرادته ويجعله عبدًا، حرًّا ممَّا يمنعه أن يكون إنسانًا: " إن المسيح قد حرّرنا تحريرًا. فاثبتوا إذًا ولا تدَعوا أحدًا يعود بكم إلى نير العبودية " (غل 5/1).



فالتحرّر الذي يأتي به الله مرَّ إذًا، كما تلاحظون، بتطوّر كبير بين العهدين القديم والجديد: من التحرّر من عبوديّة مادّيّة خارجيّة سبَّبها الآخر، إلى التحرّر من عبوديّة أكثر عمقًا، مرتبطة بِي شخصيًا وتعود إلى إرادتِي، إنْ صحَّ التعبير. لأنَّ الحرّيّة المسيحيّة لا تكْمُن فقط في التحرّر من العبودية التي يمارسها الآخر عليَّ، وهذا أمر مهمّ جدًا، بل إنَّ جوهر هذه الحرّيّة يكمن في الحرية الباطنيّة التي تعنيني، بالإضافة إلى العبوديّة التي أمارسها أنا على الآخر. عندما أكون حرًّا من الداخل، أكون حرًّا فعلاً، وعدم الحرّيّة الخارجيّة لم يعدْ ذا مكانة كبرى. بوجهٍ عامٍ، نختبئ وراء الحرّيّة الخارجيّة، ولكن مَنْ مِنَّا حرّ أمام ما يفرضه علينا المجتمع والتقاليد – أتمنَّى أنْ لا أكون على خطأ – فأنا لا أقاوم التقاليد ولا المجتمع، بلّ السؤال هو التالي: هل أعيش ذاتِي وقناعتي؟ أمّ أعيش كما يريد الآخرون أن أكون؟ ( أذكر يومًا طُلِبَ إليَّ فيه أن أتحدّث عن الحرّيّة إلى مجموعة من الفتيات. في بداية الحديث، قَدّمْن لي لائحة طويلة يعرضن فيها الممنوعات المفروضة عليهنّ كفتيات شرقيّات، وهذا أمر صحيح، ولكن، عندما سألتهن: من مِنْكُنَّ على استعداد أن تشترك في سهرة ما، دون أن " تَتَمَكْيَج " أو دون أن تلبس " على الموضة "؟ فلم يكن هناك من جواب سوى الصمت ). أنا لا أقاوم " الموضة " ولا الماكياج. بلّ أتساءل: إلى أيّ حدٍّ أنا حقيقي وأعيش ذاتِي؟ هناك أيضًا موضوع الهديّة: مع الأسف الشديد، فقدت الهديّة بُعْدَها الرمزيّ وحلّ محلّه البعد المادّي. إذا قُدّمَتْ لي هديّة بعشر ليرات، أشعر بأنه علي أن أقدّم هديّة بعشرين ليرة. فالهديّة لم تعدْ تعبيرًا عن الحبّ، بلّ أصبحت وسيلة للتفوّق ولتملّك مَنْ أهديه، فضلاً عن وجود عدد من الناس اضطروا إلى تخفيض علاقاتهم مع الآخرين، لأنَّه ليس بإمكانهم أن يقابلوهم بالمثل على هذا الصعيد.

 

في أثناء صلب المسيح. تتّضح لنا اللعبة ذاتها إلى حدٍ ما: فإنَّ أغلبية الحاضرين في أثناء محاكمة يسوع والذين اشتركوا في المطالبة بصلبه هم من الذين " استفادوا منه ". لقد اتّخذوا هذا الموقف لأنـَّه لم يكن لديهم الجرأة للتعبير عن قناعاتهم واختباراتهم مع يسوع. فلقد انساقوا تمامّا في محاكمة مزوّرة وطالبوا بإطلاق لصّ مقابل البريء، في حين أنَّ الذين اختبروا بالعمق التحرّر عن يد المسيح لم يخافوا من إعلان إيمانهم به.كما هو حال المولود أعمى في إنجيل يوحنّا الفصل 9. إنَّ الحرّيّة المسيحيّة تجعلني في النهاية حرًّا حتى أمام ذاتِي. وهذه الحرّيّة هي الوحيدة التي تمكّنني أنْ أكون إنسانًا أوّلاً وخلافًا ثانيًا (هناك مَنْ يُصاب بمرض الرشح، وينشلّ عن الحركة ويصبح سجين موقف المشتكي، وهناك مَنْ يُصاب بمرض السرطان ويتابع عمله ونشاطه حتى آخر رمق من حياته ). فإنَّ العبوديّة الأهمّ، العبوديّة الوحيدة، هي في النهاية عبوديّة الذات. عندما أبحث عن الملكيّة، وعن المركزيّة، وعن المادّة، أفعل كلّ ذلك من أجل ذاتِي، لا سيّما وأنِّي أعيش هذا الأمر على أنَّه " مفروض " عليّ إلى حدٍّ ما، وأبرّره بأنَّه لخيري،وهذا ما لا يمكنني أنْ أكون حرًّا تجاهه. فالمسيح عاش هذه الحرّيّة شخصيًّا في أثناء وجوده التاريخيّ الأرضيّ: فقد كان يأكل مع الخاطئين بالرّغم من أصابع الاتهام التي كانت توجّه إليه في هذا الشأن، أيّ بمعنى آخر، لم يكن المسيح متمسّكًا " بسمعته " بلّ كان حرًّا تجاه هذا الموضوع، ممَّا مكّنه أنْ يكون مع الجميع ومن أجل الجميع، وهذا ما مكّنه أنْ يكون خلاَّقًا. على الصليب أيضًا، لم يفكّر المسيح في ذاته، بلّ في الآخرين: فكر في صالبيه: " يَا أَبَتَاه اِغْفِرْ لهمُ لأنَّهم لا يَعْلّمُون ماذا يَفْعَلُون " (لو 23/ 34)، وفي لصّ اليمين: " اَلحَقّ أقول لَكَ، اَليّوْمَ تَكُون مَعِي في الفَرْدُوس " (لو 23/43).

فالحرّيّة هي الخلاَّقة. والله هو خلاَّق لأنَّه حرّ ومُحَرِّر.



ولقد خلقنا أحرارًا حتى إنَّنا نستطيع أنْ نقول له: لا. وبالمقابل فهو يحترم رفضنا هذا، كما أنَّه، بتحريره إيَّانا، يخلقنا مرَّة أخرى ويجعلنا خلاَّقين. ونحن أيضًا، إنْ استقبلنا هذا التحرّر المُعطى لنا من قِبَل الله، نستطيع أن نحرّر الآخرين معنا. عندما يحرّرنا الله من ذواتنا، يصبح الآخر محور حياتنا بدل أنْ نَكُون منغلقين على أنفسنا، ممَّا يؤدّي بنا إلى الموت الحتميّ.

 

 

 

الله الخالق

رأينا أنَّ اختبار الله المحرِّر، الله الذي يستطيع أنْ يخلق شعبًا ممَّا لم يكن شعبًا، حمل إنسان العهد القديم إلى أنْ يستنتج أنَّ هذا الإله هو خالق. أنَّه الخالق. وإذا كان هو الخالق، فإنَّه يخلق عن محبّة: لكي يحرِّر الإنسان. لا بدّ أنْ يحبّه. وإلاَّ لمِا ساعده على الوصول إلى الحرّيّة، لِما ساعده على أنْ يكون إنسانًا. فماذا يعني، بالنسبة إلينا، في حياتنا اليوميّة، أنْ يكون الله هو الخالق؟ كيف يمكننا أنْ نفهم قصّة الخلق كما يرويها لنا الكتاب المقدّس؟ وعلى أيّ أساس تمَّتْ عمليَّة الخلق هذه؟.

 

ملاحظة أولى لابدّ منها، قبل أنْ نبدأ بقراءة قصّة الخلق، وقد تبدو هذه الملاحظة لبعضهم بديهيّة: إنَّ قصّة الخلق في الكتاب المقدّس لا تروي لنا بالتفصيل ما حدث في أثناء الخلق، بلّ هي قصّة رمزيّة (أسطورة ). وكلمة أسطورة لا تعني خرافة على ما يعتقده الكثيرون. فالأسطورة هي أسلوبٌ أدبيٌّ رمزيّ يُخْبِرنا عن حقيقة أصل الإنسان والآلهة والعلاقة بينهما، ونحن مدعوّون إلى قراءة هذه الرموز للوصول إلى الرسالة التي تريد أن تنقلها إلينا. فإذا دقّقنا قراءتنا لقصّة الخلق، نلاحظ ما يلي:

 

أوّلاً، كانت الأرض " خَاوِيَة خَالِيَة " (تك 1/1)، أيّ لم يكن لها شكل محدّد وواضح، لم يكن فيها حياة. ثمّ تبدأ عمليّة الخلق عّنْ يدِ الله، أيّ تبدأ الحياة بالظهور على هذه الأرض. فعندما يخلق الله، يخلق بالاختلاف: الليل والنهار، السماء والأرض، المياه واليبس وأخيرًا الرجل والمرأة. وهذا يعني أوّلاً أنَّ لا وجود لخلق، لا وجود لحياة من دون الاختلاف.

 

ثانيًا، نلاحظ أنَّ الله، عندما يتكلّم عن ذاته، فإنَّه يتكلّم مرّة بالجمع ومرّة بالمفرد: " وَقَال الله: لِنَصْنَع الإِنْسَان عَلَى صُورَتِنَا كَمِثالنا " (تك 1/26). نرى هنا بوادر عن فكرة الثالوث، إذْ إنَّ الله يتكلّم عن نفسه في صيفة الجمع. ولا يتكلّم من باب التباهي. فهذا يتضمّن، فِي رأيي، ولو بوجهٍ غير واضح وغير مباشر، فكرة الله الثالوث، وهذه الفكرة، التي تتوضّح إلى حدٍ ما من خلال العهد الجديد، في المسيح الابن الذي سيعرّفنا الآب بوحيٍ من الروح القدس. فالله متعدّد بالاختلاف إذًا وواحد معًا (آب وابن وروح قدس ). وهنا يطرح علينا السؤال حول مفهوم الثالوث ( أتحدّث عنه بعد قليل ). ثمّ يتابع نصّ الكتاب المقدّس فيقول: " فَخَلَقَ الله الإنْسَان عَلَى صُورَتِه، عَلَى صُورَةِ الله خَلَقَه، ذَكَرًا وَأُنْثَى خَلَقَهُم " (تك 1/27). فالإنسان هو على صورة الله كمثاله، أيّ أنَّه متعدّد بالاختلاف وواحد أيضًا ( ذكرًا وأنثى )، واحد بما أنهما مشتركان في الجوهر أيضًا، أيّ الإنسانيّة. إنَّ جوهر الإنسان هو التعدُّد بالاختلاف على مثال الله. فالرجل وحده ليس هو الإنسان ولا المرأة وحدها هي الإنسان، بل الاثنان معًا. وأفضل صورة للثالوث، هي في رأيي، صورة الرجل والمرأة. والتعدُّد بالاختلاف ليس هو فقط بين الرجل والمرأة، بلّ بين كلِّ إنسان وآخر، حتى ولو كان من الجنس عينه.

 

الله يخلق بالكلمة: " كن فكان ". والخلق بالكلمة هذا يعني المسيح، بما أنَّه هو كلمة الله. وبهذا المعنى يفتتح يوحنّا إنجيله قائلاً: " فِي اَلبِدْء كان الكَلِمَة والكَلِمَة كان لدى الله والكلمة هو الله. به كان كلّ شئ، وبِدُونِه لمّ يَكُنْ شّيء ".



وإذا كان الله يخلق لأنَّه يُحبّ، فكيف يمكننا أن نفهم أنَّ الله منع الإنسان عن المعرفة: " مِنْ جَمِيع أشجار الجَنَّة تأكل، وأمَّا شَجَرة مَعْرِفّة الخّيْر والشَرِّ فَلا تَأكلْ مِنْهَا، فَإِنَّك يَوْمَ تَأكُل مِنْهَا تَمُوتَ مَوْتًا " (تك 2/16-17)؟ إنَّ الله وضع للإنسان شريعة للحفاظ على حياته: لأنّ منع الأكل من شجرة المعرفة يهدف إلى حماية الإنسان من الموت، لأنّ الله يريد الحياة للإنسان، لا الموت: " أمَّا أنا فقد أَتَيْتُ لتَكُونَ اَلحَيَاة لِلْنَاسِ، وَتَفِيضُ فِيهُم "، يقول المسيح في مثل الراعي الصالح (يو 10/10) إلى جانب أهمّيّة الشريعة بوجه عام في حياة الإنسان، فلا وجود لإنسان من دون شريعة: فعلى الصعيد النفسيّ مثلاً، هذه الناحية مهمّة جدًا وتظهر في مرحلة ( الأوديب ) من مراحل النموّ النفسيّ للطفل. في هذه المرحلة يكون الصبي متعلّقًا بأمه والفتاة بأبيها. وكلّ واحدٍ منهما يريد الزواج من الآخر ( الصبي من أمّه والفتاة من أبيها )، وهما يعبّران عن هذا الأمر إمّا بالكلام وبشكلٍ واضحٍ في بعض الأحيان، وإمَّا بالتصرّف، إذْ يبقى الصبي مرتبطًا بأمِّه ولا يريد أنْ يَتْرُكْها ولو لحظة، إلى جانب شيء من الرفض للأبّ، لأنَّه يُعْتَبَر منافسًا له. وللأبّ هنا دورٌ ذو أهمّيّة بالغة، إذ عليه أن يفصل بين الأمّ والصبي والفتاة وأبيها، وإلاَّ فالنتيجة كارثة. وهذا ما ظهر لنا دور الشريعة وأهمّيّتها في حياة الإنسان…

ماذا يجري في الواقع؟ في الواقع، نسعى دائمًا لإلغاء هذا التعدُّد بالاختلاف الذي نجده بين البشر. كلُّ واحد منَّا يسعى لأنْ يكون الآخر مثله، صورة عنه. فالرجل يريد أن تكون زوجته كما يريدها هو أنْ تكون، أي مثله، والمرأة تريد زوجها بالمثل، والصديق صديقه إلخ… ولهذا السبب، لا تدوم العلاقات طويلاً إلاَّ ما ندر، ولهذا السبب أيضًا، نحن لسنا بخلاَّقين، بلّ نعيش " من قلّة الموت "، كما نسمع في أغلب الأحيان على أفواه الشبَّان. في كلّ مرّة نحاول فيها أن نُلغي الاختلاف، نسعى إلى الموت، نتراجع إلى ما قبل الخلق، إلى تلك الأرض " الخاوية الخالية ". فنحن مدعوّون إذًا إلى احترام الاختلاف، لا بلّ إلى تقويته وتغذيته في حياتنا. نحن مدّعوّون إلى السهر من أجل الحفاظ على هذا الاختلاف وجعله مصدر حياة وخلق، مصدر غنى، ولكننا نحوّله في أغلب الأحيان إلى مصدر خلاف ( الرجل يقول إنَّ المرأة بنصف عقل، والمرأة تقول إنّ الرجال وحوش إلخ.. ).

 

في الحوارات التي قد نسمعها بين الناس، نرى كلّ واحد منهم في موقف الدفاع، يحاول أن يُقنع الآخر برأيه، يقنعه بأنَّه على حقٍّ، بأنَّه يملك الحقيقة، أيّ بأنَّ الآخر هو على خطأ. ولكن مَنْ مِنَّا هو على حق؟ مَنْ مِنَّا يملك الحقيقة؟ منطقتنا غنيّة بالاختلافات: ( اختلافات الأديان، اختلافات اجتماعيّة، اختلافات في التقليد )، ولكنّنا نجعل من هذه الاختلافات مصدر خلافات وانتقادات. فإذا كان الله قد خلق الإنسان متعدّدًا بالاختلاف، فهذا يعني أنَّه علينا جميعًا أنْ نحافظ على هذه الميزة الفريدة لأنَّها هي مصدر الحياة. فلا يحقّ لي أنْ أفرض رأيي على الآخر. إفتحوا الإنجيل، تلاحظوا أنَّ المسيح لم يقل أبدًا: " عليكم أنْ تتبعونِي "، بلّ كان دائمًا يقول: " مَنْ أراد أن يتبعني ". بهذا المعنى نجد نصًا رائعًا في سفر تثنية الاشتراع، يقول الله فيه للإنسان ما يلي: " أُنْظُرْ، إِنِّي أَعْرِضُ عَلَيْكََ اَليَوْمَ اَلحَيَاة وَاَلخَيْرَ، وَالمَوْتَ والشَرّ. إِذَا سَمِعْتَ إِلَى وَصَايَا اَلرَبِّ إِلَهَك، سَائِرًا فِي سُبِلِه وَحَافِظًا وَصَايَاه وَفَرَائِضِه وَأَحْكَامِه، تَحْيَا وتَكْثُر ويُبَارِكَكَ الربّ إِلَهَك فِي الأرْضِ اَلتِي أَنْتَ دَاخِلٌ إِليْهَا لِتَرِثْهَا. وإِذَا تَحَوّلَ قَلْبَك وَلمَّ تَسْمَعْ وِابْتَعَدْتَ وَسَجَدْتَ لآَلِهَةٍ أُخْرَى وَعَبَدْتَهَا، فَقَدّ أُعْلِن لَكُم اَليَوْم أَنَّكُم تَهْلَكُون هَلاكًا (….) فَاخْتَر اَلحَيَاة لِكَيّ تَحْيَا أَنْتَ وَنَسْلَك مِنْ بَعْدَك ". فالله يعرض والإنسان يختار بكلِّ حرّيّة.



هنا يأتِي موضوع مهمّ جدًا، لا يمكننا المرور عليه " مرور الكرام ". هذا الموضورع هو موضوع الدينونة. فإذا كان الله يعرض والإنسان يختار، فكيف يمكن الله أنْ يُدين؟ للإجابة على هذا السؤال، علينا أنْ نعلم أوّلاً بأنَّ الله " رحيم "، فلا يعاملنا " بالعدل "، وإلاَّ لهلكنا جميعًا ( مَثَل عَمَلَة الساعة الخامسة في متى 20/1-16). في الواقع، لا يدين الله أحدّا، بلّ الإنسان هو الذي يُدِين نفسه. الإنسان يختار بحرّيته الظلمه بدلاً من النور والموت بدلاً من الحياة. وهذا ما سمعناه في نصّ تثنية الاشتراع. فِي إنجيل يوحنّا، هذا الموضوع واضح جدًا، لأنَّ المسيح يقول: " فإنَّ الله أَحَبّ اَلعَالمَ حَتَّى إِنَّـه جَادَ باِبْنِه اَلوَحِيد لِكَيّ لا يَهْلَكْ كُلّ مَنْ يُؤْمِنَ بِه، بَلّ تَكُون لَهُ اَلحَيَاة اَلأَبَدِيَّة. فَإِنَّ الله لمَّ يُرْسِلْ اِبْنَه إِلَى اَلعَالمَ لِيُدِينَ العَالمَ، بَلّ لِيُخَلّصَ بِه اَلعَالم. مَنْ آَمَنَ بِه لا يُدَانْ وَمَنْ لمَ يُؤْمِنْ بِه فَقَد دِينَ مُنْذُ الآن لأَنَّه لمَ يُؤْمِنْ بِاسْم اِبْن الله اَلوَحِيد. وإِنَّمَا اّلدَيْنُونَة هِي أَنَّ النُور أّتَى إِلَى العَالم فَفَضَّلّ النَاس الظَلام عَلَى النُورِ " (يو 3/16-19). وقال فني مكانٍ آخر: " إنْ سَمَعَ أَحَدٌ كَلامِي وَلمَ يَحْفَظَهُ فأنَا لا أُدِينَه، لأنِّي ما جِئْتُ لأدِينَ اَلعَالمَ، بَلّ لأُخَلِّصَ العالم. مَنْ أَعْرَضَ عَنِّي وَلمَ يَقْبَل كَلامِي، فَلَهُ مَا يُدِينَه: اَلكَلام اَلّذِي قُلْتَه يُدينَه فِي اَليَوْمِ الأَخِيرِ " (يو 12/ 47-48). فما قلناه في شأن إلغاء الاختلاف يوضّح لنا أيضًا هذه الناحية على أفضل وجه: فالإنسان، بمحاولته إلغاء الاختلاف بينه وبين الآخرين، يختار الظلمة والموت، في حين يعتقد ويقتنع بأنَّه يختار الحياة " والنصيب الأفضل "، مثل الطفل الصغير الذي يتعلّم المشي: في البداية، يستند إلى الكرسي أو إلى طاولة صغيرة أو يتمسّك بيد إنسان بالغ. كل هذه الوسائل هي متينة، ولكن، إن بقي يستند إليها، فلن يتعلّم المشي ولن يصبح إنسانًا مستقلاً. فعليه، لكيّ ينمو في هذه الناحية، أنْ يثق بكلام الإنسان البالغ الذي يناديه " تعال ولا تخف ". ونحن أيضًا نعتقد بأنَّ الملكيّة والمركزيّة، والمادّة واهتمام الآخرين، هي التي ستعطينا الحياة والفرح والسعادة، في حين نكون في الواقع على عتبة أختيار الظلمة والموت، لأنَّ الحياة هي هبة من الله، ونحن نتلقاها منه ولا نملكها.

 

فالإنسان هو الذي يدين نفسه، لأنَّ الله لا يدين، وليس بإمكانه أنْ يدين، لأنَّه محبّة وليس هو " إلاَّ محبَّة " كما سبق وقلنا. فالله عاجز عن أنْ يقوم بأعمال تخالف الحبّ. بهذا المعنى نقول إنَّ الله غير عادل، بلّ هو رحيم. لا ألغي الدينونة، بلّ أقول إنَّ الدينونة هى بيد الإنسان وليست بيد الله، لأنَّ الله " أتى ليبحث عن الهالك ويخلّصه "، فلم يأت ليدين، والأ أصبح الله متناقضًا في جوهره. فكيف يمكننا أن نفهم أنَّ الله غفر الخطايا أو أنَّه لم يحكم على المرأة الزانية، علمًا بأنَّها لم تَطْلُب منه المغفرة؟.

 

فالمغفرة هي من جوهر الحبّ. ولذلك هي خلاَّقة، لأنَّها تُحرِّر الإنسان من الذنب الذي يكبّله ويجعله أسيرًا لهذا الشعور. كلّنا نعلم إلى أيّ حدٍّ نبقى مكبّلين، إنْ كُنّا نعيش تحت وطأة الشعور بالذنب. فالمغفرة إذًا هي خلاَّقة، لأنَّها تُحرِّر الإنسان، تخلقه مرَّة أخرى. وهكذا فإنَّ الله يخلق من خلال المغفرة، من خلال مغفرته خطايانا: " قُمْ فَاِحْمِل فِرَاشَك واِذْهَبْ إِلَى بَيْتَك "، يقول يسوع للمقعد بعد أنْ قال له : " يا بُنَيَّ، غفرت لك خطاياك ". ولكننا، بوجهٍ عامٍ، نحكم على الأخرين، ولكي نريح ضمائرنا،نسقط هذا الشعور على الله ونجعل منه حاكمًا ديّانًا.

 

وبكلمةٍ واحدةٍ نقول إنَّ الله محبّة. وإذا كان محبَّة، فلا بُدّ أنْ يكون متعدِّدًا بالاختلاف في جوهره، لأنَّ المحبّة تفترض وجود علاقة، والعلاقة تتطلّب وجود أكثر من واحد. والمحبّة في جوهرها خلاَّقة، لأنَّها خروج مستمرّ من الذات ( خَرَجَ الزَّارِعُ لِيَزْرَع، خَرَجَ ربُّ عَمَل ليبحث عن عَمَلَة إلخ …). والله خلق الإنسان على صورته، أي متعدِّدًا بالاختلاف،لأنَّه حياة. وإذا كان الله قد ارتاح في اليوم السابع للخلق، فهو لم يتعب من الخلق لكي يرتاح، بلّ ما يراد من النصّ هو أنَّ الله سلّم الكون إلى الإنسان " إنموا واكثروا..". وعليه هو الآن أنْ يخلق الكون، إنْ صحّ التعبير، بمعنى أنَّه على الإنسان أنْ يسيطر على الكون ويؤنسنه. ويجعله إنسانيًا. وهذا ما يتمّ بمقدار ما يُصبح الإنسان أكثر إنسانيَّة، أكثر إنسانًا. ولكن عدم الثقة الكافية بالله، عدم الثقة بحبّ الله له، يدفع بالإنسان إلى رفض الحياة الموهوبة له من قِبَل الله، ويسعى للوصول إليها بطرقه الخاصّة… وهذه هي الخطيئة – الموت – الذي يسعى الله باستمرار لأنْ يخلصنا منه. فكيف ومن أيّ شيء يخلصنا الله؟ هذا ما سزاه في ما يلي.

 

 

الله المخلّص

إنَّ موضوع الخلاص موضوع أساسيّ في الايمان المسيحي. وفكر بولس الرسول ينطلق من الخلاص: فقد اكتشف أنَّ جميع البشر خطئوا وبالتالي هم هالكون. وهذا ما جعله يكتشف أهمّيّة الخلاص المُعطى لنا بالمسيح ومجانيته، إذْ إنَّ الشريعة لا تستطيع أنْ تُعْطينا الخلاص، فضلاً عن أنَّ الإنسان، نظرًا إلى وضعه الخاطئ، لا يستحقّ الخلاص. فكيف ومِنْ أيّ شيء يخلّصنا المسيح؟ هذا هو السؤال الذي سأحاول الإجابة عليه.

 

لقدّ اعتدنا أنْ نربط موضوع الخلاص بالخطيئة ( الأصليّة )، وفي هذا شيء من الصحّة. ولكن الخلاص هو أهمّ وأوسع وأقدم بكثير، إنْ صحَّ التعبير، من الخطيئة. إنَّ كلمة خلاص كلمة " غشّاشة" لأنَّ معناها يقيّدنا. فلنحاول أن نكتشف الوجه الآخر لمعناها. عندما أخلص، فأنا أخلص من شيء ما. وبالمقابل يُعْطَى لي شيء آخر أفضل. فعندما أخلص من مشكلة ما، أحصل على الفرح. فالخلاص من الخطيئة يعني الخلاص من نتيجة الخطيئة: الموت. وعندما أخلص من الموت، تُعطى لي الحياة. فالخلاص يعني إذن هبة الحياة. فإنْ قَبِلْنا بهذا التعريف، تصبح عملية الخلاص الأولى عملية الخلق ذاتها، حيث أعطى الله الحياة للبشر. فالخلاص هو أوسع بكثير من موضوع الخطيئة، وإنْ كان يشمل أيضًا الخلاص من الخطيئة. لكن هذا يأتِي في مرحلة أخرى وكتجديد للعطيّة الأساسيّة التي رفضها الإنسان بسبب الخطيئة.

 

من المألوف أنْ نقول إنَّ المسيح تجسّد وسكن بيننا ليخلّصنا من الخطيئة. هذا يعني أنَّ الخطيئة هي التي فرضت تجسُّد المسيح، فلو لم تكنْ هناك خطيئة لما تجسَّد المسيح. لكن الكتاب المقدّس بوجهٍ عامّ، والإنجيل بوجهٍ خاصّ، يُخْبرنا بأنَّ المسيح تجسَّد لأنَّه يُحِبُّنا. ومَنْ يحبّ يتّحد بالحبيب، وهذا هو الزواج، وقد سبق لنا وقلنا إن " الله تزوّج البشريّة ". هذه هي الصداقة الحقيقيّة التي يتّحد فيها الصديقان بالروح الواحد الذي يجمعهما. مَنْ يُحبّ يريد ويسعى أن يشارك المحبوب في كل ما يعيشه من فرح وحزن، ومن فقر وغنى، في السرَّاء والضرَّاء كما يقولون. والمسيح أتى " وسكن بيننا " لكي يشترك معنا فِي كلِّ شيء، فِي كلِّ ما يعيشه الإنسان، فِي كلِّ ما يجعله إنسان، أي إنَّ المسيح أتى ليتضامن معنا ويشاطرنا " وضعنا الإنسانيّ ". وهذه الفكرة سنتوقف عندها لاحقًا.

 

يوصلنا ربط الخلاص بالخطيئة إلى ما تعلمناه في الماضي، ألاَّ وهو أنَّه كان علينا أنْ نموت بسبب خطيئتنا، وأنَّ الله، لكونه رحيمًا، فضَّل أنْ يموت ابنه مكاننا لكي يخلّصنا ويصالحنا معه. ولكن هذا المنطق لا يتناسب مع الله المحبّ. فقد سبق وقلّنا إنَّ الله عاجز عن أنْ يقوم بأعمال منافية للحبّ. فلا يُمْكِن الله أنْ يُفَكّر يومًا في أن يُمِيتنا. لكي نفهم كما يجب موضوع الخلاص، لا بُدّ لنا أنْ نفهم أوّلاً ما هي الخطيئة.

 

تنبع الخطيئة من عدم ثقة الإنسان بالله. وهي مرتبطة بحرّيّة الإنسان. وعدم الثقة يعني عدم الثقة بحبّ الله لنا. ولهذا السبب يسعى الإنسان -كما سبق ورأينا – للحصول وحده على الحياة، بأعماله وبعيدًا عن الله. هذا ما يجعل الإنسان يسعى إلى التسلّط وإلى استغلال الآخرين، لكى يُثْبِت لنفسه أنَّه محبوب. يسعى إلى الملكيّة، إلى المركزيّة والمحوريّة، وكلّنا نعلم بأنَّه، في الظاهر، يحبّ الناس الأغنياء. وعندما تزول تلك الملكيّة يجد نفسه وحيدًا. والزواج في أيامنا، ومع الأسف، أصبح مَبْنِيًّا على هذه الأسس، بدل أنْ يُبنى على الحبّ.

 

المسيح يخلّصنا من الخطيئة، أي يخلّصنا مِنْ كلِّ ما يمنعنا أنْ نكون بشرًا. من جميع أنواع العبوديّات التي تسخّرنا وتسلب إرادتنا وحرّيّتنا. وأخيرًا فإنَّ المسيح يخلّصنا من الموت. كيف يتمّ ذلك، لا سيّما وأننا نعلم بأنَّ الموت لا يزال قائمًا ونتألمّ منه الكثير؟.

 

الإنسان هو عبارة عن جملة من الصراعات: صراع بين الممنوع والمرغوب، بين القانون وواجباته، بين الوعي واللاوعي إلخ… ومّنْ يقول: صراع، يقول: عنف وانقسام وانشقاق. فالعنف هو في داخل الإنسان ولا بدّ منه لكي يصل إلى تحقيق ذاته. فالإنسان في صراع مع الطبيعة (كوارث، أمراض… ) ومع المجتمع (كلّ فرد يَعْتَبِر نفسه مغبونًا من قبل المجتمع، إنْ لم يعامله بطريقة مميّزة ). وأخيرًا وليس آخرًا، فالإنسان هو في صراع مع ذاته، وقد أثبت التحليل النفسيّ لنا ذلك من خلال الصراع بين الوعي واللاوعي، بين نزوات الموت ونزوات الحياة. وهذا ما عبَّر عنه القدّيس بولس عندما قال: " إِنَّ الخَيْر الّذِي أُرِيدَه لا أَفْعَلَهُ، وَالشَرُّ الّذِي لا أُرِيدَه فَإِيَّاهُ أَفْعَل " (روم 7/ 16) . والصراع متجدّد ومستمرّ.

 

يعني هذا أنَّ الإنسان، خلافًا لما نعتقد، لم يصبحْ، حتّي اليوم، إنسانًا بكلَّ معنى الكلمة. فما دام فِي البشريّة تصرّف واحد غير إنسانِيّ، فذلك أنَّ الإنسان لم يصل إلى الأنسنة حتى اليوم. فالإنسان مدعوّ إلى أنْ يُصْبِحَ إنسانًا. وهذه مسيرة لا تنتهي. وهذا يعني أيضًا أنَّه لم يُصْبح حتّى اليوم على صورة الله. ونلاحظ، إلى جانب ذلك، أنَّ جميع تصرّفات الإنسان هي تصرّفات غامضة: فالمساعدة والخدمة والحبّ هي كلها تصرّفات لها، في الوقت نفسه، خلفية لاواعية، قد تهدف إلى تملّك الآخر. فالهديّة مثلاً لم تعدْ تعبّر عن الحبّ بقدر ما تعبّر عن شيء من التفوّق على مَنْ يتلقّاها. وهذا يعني أنَّه لا وجود لتصرّف إنسانِي صافٍ مئة بالمئة، وأنَّه لا يحقّ لنا في أن " نقدّس تصرّفاتنا ". فأحيانًا ما يكون لأعمالنا الجيّدة والإيجابيّة نتائج سلبيّة لا تتعلّق بحرّيّتنا. ولكن هناك شرًا يتعلَّق بحرّيّتنا إلى حدٍ كبير وهو الخطيئة.

 

وكثبرًا ما نستعمل حرّيّننا استعمالاً غير صحيح؟ وكما رأينا، نختار الموت بدلاً من الحياة ( الوسائل المزيَّفة، الطفل الذي يتعلّم المشي ). وقد أثبت التحليل النفسيّ وجود صراع مهمّ داخل الإنسان: صراع بين نزوات الموت ونزوات الحياة، أيّ أنَّه عند الإنسان نزعة إلى التخريب والتهديم، نزعة إلى العدم. لا بلّ يمكننا التحدّث عن " لذّة التهديم ": لإثبات قدرتنا واظهار حرّيّتنا، أسهل علينا أنْ نهدم من أنْ نبني، من أنْ نخلق. لهذا السبب، لا نشعر بالكفاية ولا نعيش نموّنا الإنسانِيّ على أنَّه مرتبط بشكلٍ قويٍّ جدًا بنموّ الآخرين، ولا يُمْكِنُنَا أنْ نعيش على صورة الله وأنْ نكون خلاَّقين إلاَّ إذا أفسحنا المجال للآخرين في أنْ ينموا. وهذا من صميم الحرّيّة الباطنيّة التي تحدَّثْنا عنها. ونحن مدعوّون إلى أنْ نعيش ذلك بالنسبة إلى المسيح وبالنسبة إلى الآخرين، وهذا هو الحبّ الحقيقيّ الذي يقتضي الموت عن الذات من أجلهم، لكي ينموا.

 

إنَّ الإنسان يعمل دائمًا لكي يكون، ولا يمكنه التخلِّي عن هذه الرغبة في الوجود، فهي مكتوبة في عمق أعماقه. إنْ صحَّ التعبير. ولكنّه، فِي أغلب الأحيان، يسعى للوجود على حساب الآخرين، مُعْتَبِرًا إيَّاهم مُجَرَّد وسيلة مفيدة أو ضارة لتمجيد نفسه. هذا هو الشرُّ الأخلاقيّ أو الخطيئة. فالفصل 3 من سفر التكوين، الذي وردت فيه قصّة الخطيئة الأصليّة، لا يحدّثنا عن بداية الخطيئة وتاريخ دخولها في التاريخ، بلّ يكشف لنا ما يختبئ وراء كلِّ خطيئةٍ، يكشف لنا عن أصلِ الخطيئة. فالخطيئةِ والشرِّ دخلا من بابِ الحرّيّة الإِنسانيّة.

وهذا يعني أنَّ لا وجود لزمن مثاليّ في بداية البشريّة، حيث كان الإنسان يعيش في العدالة والصداقة. لا وجود لهذا " العصر الذهبيّ " وراءنا، بلّ أمامنا. وبما أنَّ الفصل 2 من سفر التكوين يصف لنا، بشكلٍ رمزيٍّ، مشروع الله من أجل الإنسان، فهذا يعني أنَّ النصّ يحدثنا عن إنسان المستقبل (آخر الأزمنة )، الإنسان الذي نحن مدعوّون إلى أنْ نُصْبِحَ إيَّاه. وما هو معطى لنا هو الإمكانيّة بأنْ نُصْبِح هذا الإنسان الذي يصفه لنا الكتاب المقدّس. وبهذا المعنى نقول: لا وجود لجنّة مفقودة، بلّ هناك جنّة موعود بها، جنة الإنسانيّة الواحدة، دون إلغاء التعدّد منها، على صورة الله الواحد والمتعدّد (الثالوث).

 

في الكتاب المقدّس، يبدأ تاريخ البشرية خارج جنّة عدن، وبجريمة قتل: قَتْل هابيل عن يد أخيه قاين. أوليست الجريمة مستمرة؟ هكذا يُحَمِّل الكتاب المقدّس الخطيئة مسؤولية جميع الانقسامات التي تمزِّق التاريخ البشريّ. فكلّ خطيئة تؤدّي إلى القتل: ( سَمِعْتُمْ أنَّه قِيلَ للأوّلِين: لا تَقْتُلْ، فَإِنَّ مَنْ يَقْتُل يَسْتَوْجِب حُكْمَ القَضَاءِ. أمَّا أنَا فَأَقٌولُ لَكُمّ: مَنْ غَضَبَ عَلَى أَخِيهِ اِسْتَوْجَبِ حُكْمَ القَضَاءِ، وَمَنْ قَالَ لأَخِيهِ: يَا أَحْمَق، اِسْتَوْجَبَ حُكْمَ المجلسِ، وَمَنْ قَالَ لأَخِيهِ: يَا جَاهِل، اِسْتَوْجَبَ نَار جُهَنَّمِ " (متّى 5/ 21-22).

 

من أين تأتي الخطيئة؟ من عدم الثقة بحبّ الله لنا. وهذا ما أدّى إلى تشويه تصوّر الإنسان لله. فالمسيح يخلّصنا من الخطيئة من خلال المسيرة التي عاشها معنا، مسيرة الحبّ، مسيرة معاكسة لمسيرة الخطيئة، أثبت من خلالها أنَّه حبّ، كلّيّ الحبّ، لا بلّ يموت حبًّا في سبيل مَنْ يُحِبّ: " لَيْسَ لأَحَدٍ حُبٌّ أَعْظَمُ مِنْ أنْ يَبْذُلَ نَفْسَهُ فِي سَبِيلِ أَحِبّائِه " (يو 15/13). فإذا اختبرنا حبّ الله لنا في العمق، تحرِّرْنَا من الخطيئة ولم نعدْ محتاجين إلى هذه الوسائل المزيَّفة لكي نُثْبت لذواتنا أننا بشر محبوبون. فعندما أثق بحبّ الله لي، أستطيع أنْ أقول مع القدّيس إغناطيوس دي لويولا: " خذ، يا ربّ، واقبل حرّيّتي كلّها وذاكرتي وعقلي وإرادتي كلها، كلُّ ما هو لي وكلّ ما هو عندي. أنت أعطيتني ذلك، فإليك أعيده يا ربّ. كلّ شيء لك، فتصرّف فيه بكامل مشيئتك. أعطِني حبّك ونعمتك، فهذا يكفينيا " (رياضات رقم 234).

 

 

 

الله المتجسِّد

" إِنَّ اللهَ ما رآهُ أَحدٌ قطّ… مَن رآني رأَى الآب " (يو 1/18 و 14/9 ) " في البَدءِ كانَ الكَلِمَة والكَلِمَةُ كانَ لَدى الله والكَلِمَةُ هوَ الله. كانَ في البَدءِ لَدى الله. بِه كانَ كُلُّ شَيء وبِدونِه ما كانَ شَيءٌ مِمَّا كان." (يو 1/1-3).

 

ما يميّز الإيمان المسيحيّ هو، ولا شكّ، سرّ التجسّد، كما نسمّيه في الكنيسة، أي الإيمان بالله الذي صار إنسانًا. كلّ إيماننا المسيحي ينطلق من التجسّد، لأننا لا نعرف الله إلاَّ من خلال الابن، أو بالأحرى لا نعرف إلاَّ الله المتجسِّد.

 

نحن نقول ونعرِّف أنَّ المسيح هو إله وإنسان معًا، فكيف يمكننا أنْ نقبل ونفهم هذا الأمر؟ وما هي نتائجه على حياتنا الإنسانية والإيمانيّة؟ بوجهٍ عامّ، لا نحمل إنسايّة يسوع على محمل الجدّيّة، بلّ نعيشها كما لو كانت عبارة عن قناع، أو موضوع موقت. ولهذا السبب، نفصل شخصيّة يسوع إلى شخصيّة إلهيّة تُجْرِي العجائب والأعمال الخارقة، وإلى شخصيّة إنسانيّة تتألّم وتموت على الصليب، في حين يُظْهِر لنا الكتاب المقدّس أنَّ التجسُّد هو من صميم الله، لا أمر أُضِيفَ إليه بسبب الخطيئة. لهذا السبب نصرِّح بأنَّه " لو لَم تكن هناك من خطيئة، لتجسَّد المسيح ". ومن جهة أخرى نضيف: " لا وجود لله إلاَّ الله المتجسِّد "، إذ إنَّه حبّ لا يمكنه إلاَّ أنْ يتًحد بمن يُحبّ.

 

إنَّ المسيح هو إنسان بكلّ معنى الكلمة، لا بلّ هو الذي يكشف لنا حقيقة الإنسان. إنْ أردتم أنْ تعرفوا من هو الإنسان، فانتسبوا إلى مدرسة المسيح. لقد عاش المسيح المسيرة الإنسانيّة بكاملها، ما عدا الخطيئة. عاش الطريق الذي من خلاله يتمّ تحميق إنسانيّة كلِّ إنسان، أيّ أنَّه عاش وواجه الواقع الإنسانِيّ بكل واقعيّة وبدون هروب، على عكس ما نتصرّف نحن، إذْ أنّنا، في أغلب الأحيان، نحاول أنْ ننفي واقعنا، مختبئين وراء مثاليّة لا نفع منها، أو نطلب من الله أن يغيّر لنا هذا الواقع المرفوض. والتجارب التي خاضها يسوع في أثناء حياته الأرضيّة تُظْهر لنا هذه الناحية،حيث كان حرًّا في أنْ يقول: لا لأبيه السماويّ.

 

التجسّد له نتائجه، لا على نظرتنا للأمور، بلّ على نوعيّة لقائنا الله. إنَّ حياتنا اليوميّة تصبح مختلفة، إنْ فهمنا وعشنا التجسّد بهذا المفهوم. والتجسّد يُفْهِمْنا أنَّ مكان لقائنا الله هو حياتنا الإنسانيّة بكلِّ ما فيها.

 

إنَّ الكتاب المقدّس يُقَدِّم لنا الله بوجهين، إنْ صحّ التعبير: فهو الإله الذي لا يمكن إدراكه والإله المتعالي (العليقة المتّقدة )، وهو، في الوقت نفسه، إله التاريخ، أي إله البشر: " أَنَا اَلرَبّ إِلَه آَبَائِكُم، إِلَه إِبْرَاهِيم وَإِلَه إِسْحَق وَإِلَه يَعْقُوب " (خر 3/15). فالتجسّد ليس حدثًا تمّ في فترة من التاريخ (مع العلم بأنَّ هذا صحيح بالنسبة إلى شخص يسوع ). إنّه تاريخ الله مع البشر. وعمليّة التجسّد عملية لا تنتهي، لأنَّ الله يريد الاتّحاد يالبشريّة جمعاء.

 

يقول آباء الكنيسة: صار الله إنسانًا ليصير الإنسان إلهًا ". أوضّح مباشرة فأضيف  لن يصير الإنسان الله، بلّ هو مدعوّ إلى التألّه، والفارق هو كبير ومهمّ. فكلّ إنسان هو " إنسان إلهيّ "، أيّ أنَّه، إلى حدٍ ما، إله وإنسان، بمعنى أنّ الله أو روح الله موجود فيه. وهو مدعوّ إلى تحقيق هذه الوحدة بوجهٍ كلّيّ. على حدّ قول بولس الرسول في أمر ملكوت، " حيث يصبح الله الكلّ في الكلّ ". بالطبع، هذه الوحدة لن تتم بإلغاء الواحدة على حساب الأخرى ( الإنسانيّة والإلهيّة ). فالوحدة هي أوّلاً وحدة في التعدُّد. والإنسانيّة الحقيقيّة هي ثانيًا (إنسانيّة مؤلّهة ) والألوهة الحقيقيّة هي ألوهة متأنّسة. عاش المسيح هذه الوحدة التامّة، وهذا يعني أنِّي، حين أعيش إنسانيّتي، فأنا أعش ألوهيتّي، والعكس صحيح. وبمعنى آخر، فإنّ الإنسان الحقيقي هو إنسان متألّه، والله الحقيقي هو إله متأنّس.

 

عاش المسيح هذه الوحدة، حين اعتبر الإنسان وحدة متماسكة لا فرق فيها بين الجسد والروح. بهذا المعنى قال للمُقْعَد أوّلاً: " يا بُنَيَّ، غُفِرَتْ لَكَ خَطَايَاك ". ومن بعدها قال له: " قُمِ فَاِحْمِل فِرَاشَك واِذْهَبْ إِلَى بَيْتَكَ " (مر 2/5 و 11). فالتجسّد هو الذي يخلّصنا، لأنَّ يسوع، من خلاله، يأخذ موتنا ويعطينا حياته: خرج المقعد معافًا سليمًا، وحُكِمَ على يسوع بالموت. بهذا المعنى، كلّ حياة يسوع هي تجسُّد: ولادة وطفولة وعلاقات ومشاعر وموت وقيامة. والتجسّد هو الله الذي يعيش بابنه حياة الإنسان لكي يعيش الإنسان، في الوقت نفسه، حياة مع الله. وعبَّر يسوع عن ذلك مرارّا،حين شبَّه ملكوت السماوات بالعرس. بيسوع، "تزوّج الله البشريّة "، وإنَّ "لم يكن الإنسان أمينًا، فإنَّه لا يطلَّق ". ولم ينتهِ التجسّد، أوّلاً لأنَّ المسيح لم ينفصل عن جسده: " به يوجد إنسان جالس عن يمين الآب "ا. وثانيًَا لأنَّ تاريخ حبّ الله للبشر لم ينتهِ، ما لم يلتحق ويتملّك كلّ البشريّة.

 

إنَّ فَهِمْنًا، قَبِلْنا وحًاوَلْنا أنْ نعيش التجسّد. وكذلك فإنَّ نتائجه مهمّة بالنسبة إلينا، في حياتنا العمليّة والروحيّة:

إذا عاش المسيح الوحدة بين الإنسان والله، وإذا اعتُبر الإنسان وحدة متماسكة لا تتجزَّأ، فعلينا أنْ نعي أنَّ الإنسان واحد، روح وجسد، فلا وجود لروح خالدة وجسد فانٍ، بلّ هناك إنسان واحد يولد ويعيش ويموت ويقوم من بين ا لأموات.

 

وإذا سكن المسيح بيننا، بين البشر، إذا توحّدت الألوهة مع الأنسنة، فهذا يعني أنَّه علينا إلغاء المثاليَّة من إيماننا وإنجيلنا وقبول وجود الله بالإنسان، أيّضا كان هذا الإنسان. وهذا يعني أيضًا عدم تصنيف البشر، وفقدان الأمل من أي كان، إن صحّ التعبير، وعلينا أخيرًا أنْ نفصل بين الإنسان والشرّ الذي يرتكبه، فإنَّ الإنسان لا يعادل شرَّه. وهذا ما يجعلنا نفهم ما هي المفغرة، وإلاَّ أصبحت عقيمة، وهذا ما حدث في شأن المرأة الزانية، إذْ إنَّها اكتشفت أنَّ الخطيئة ليست جزءًا منها، من جسدها، على عكس الفرّيسيّين واليهود الذين كانوا يعتقدون بأنَّهم برجمها يقتلون الشرّ معها: " إِذْهَبِي وَلا تَعُودِي إِلَى اَلخَطِيئَة ". وهذا يعني أنَّ المسيح اعتبرها أهلاً، جعلها أهلاً لأنْ تعيش بدون هذه الخطيئة.

 

الكنسية – على مثال المسيح – هي إلهيّة وإنسانيّة. هذا يعني أنَّ الكنيسة تبقى مؤسّسة يديرها بشر يعملون بتأثير من الروح القدس، أيّ باتّحاد بالله، دون أنْ تلغي هذه الوحدة بُعدها الإنسانِي. قرارات المسؤولين فيها تبقى قرارات بشر أحرار. وهنا نرى أنَّ الوحدة لا تلغي التعدُّد. فالألوهة لم ولن تلغي الإنسانيّة. وهذا يعني أيضًا أنَّ الإلهي يُعَبِّر ويَعّبَّر عنه من خلال الإنسانِي.

 

كلّ إنسان هو، كما قلّنا، إلهيّ وإنسانِي معًا، أي أنَّ الإنسان هو مقدّس لا يحقّ لنا أن نمسّ به. قال المسيح في إنجيل متى: " قِيلَ لَكُم: لا تَزْنِ، أمَّا أَنَا فَأقُولُ لَكُم: مَنْ نَظَرَ إِلَى اِمْرَأَةٍ وَاِشْتَهَاهَا، فَقَد زَنَى بِِهَا فَي قَلْبِهِ ".

 

والتجسُّد هو الوسيلة الوحيدة لتحقيق إنسانيّة الإنسان، لتحقيق دعوته: " إِنْمُوا واَكْثِرُوا واِمْلأُوا الأَرْضَ وأَخْضِعُوهَا وتَسَلّطُوا عَلَى أَسْمَاكِ اَلبَحْرِ وَطِيُورِ السَمَاءِ وَكلِّ حَيَوَانٍ يَدُبّ عَلَى اَلأَرْضِ " (تك 1/28).

 

عندما أعيش إنسانيّتي، فأنا أعيش ألوهيّتي0 أيّ لا فرق بين الدينيّ والدنيويّ، لا وجود لمجال مخصَّص لله ومجال آخر لا علاقة له به. كلّ ما يمسّ الإنسان يمسّ الله والعكس بالعكس. وهذا يعني أنَّ ملكوت الله يبدأ هنا، لا في نهاية الكون فقط، لأنَّ المسيح نفسه عاش هذه الوحدة ( الملكوت ) على الأرض. وبهذا المعنى أيضًا عليّ أنْ أكون أمينًا لكلِّ ما أقوم به: إمتحان،عمل إلخ… لأنَّ كلّ ذلك يمسّني ويمسّ الآخر،أى الإنسان.

 

 

الله المتألم

" وبَدأَ ( يسوع ) يُعَلِّمُهم أَنَّ ابنَ الإِنسانِ يَجِبُ علَيه أَن يُعانيَ آلاماً شديدة، وأَن يرْذُلَه الشُّيوخُ وعُظماءُ الكَهَنَةِ والكَتَبَة، وأَن يُقتَل، وأَن يقومَ بَعدَ ثَلاثةِ أَيَّام." (مر 8/31-32).

 

أوّل سؤال يتبادر إلى أذهاننا هو التالي: هل هذا يعني أنَّ يسوع كان في صدد تطبيق برنامج " مسبق الصنع "؟ هذا السؤال نسمعه مرَّات عديدة على أفواه الناس.

 

إنْ قرأنا الإنجيل بتمعُّن، نلاحظ، ولا شكّ، أنَّ جميع المقاطع تشير إلى آلام المسيح وموته وقيامته، بطريقة من الطرق. لهذا السبب، أتوقَّف الآن عند موضوع آلام المسيح، لنحاول أنْ نتعمَّق فيها ونَفْهَمْهَا فهمًا أفضل.

 

في بعض الأحيان، قد تُفاجئنا النصوص الكتابيّة: فهناك سلسلة من النصوص، كالنمق أعلاه (مر 8) حيث تُظهر لنا  التعابير فيها أنَّ موت المسيح على الصليب هو أمر ضروري " يجب على ابن الإنسان ". وفي النسبة نفمها تقريبًا، هناك تعابير أخرى معاكسة تكشف لنا أنَّ هذا الموت كان موتًا حرًّا، موتًا تمّ اختياره من قبل المسيح: " إِنَّ الآب يُحِبُّنِي لأَنِّي أّبْذُل نَفْسِي لأَنَالَهَا ثَانِيَةً. مَا مِنْ أَحَدٍ يَنْتَزِعْها مِنِّي وَلِكْنِّي أَبْذُلُهَا بِرِضَاي " (يو 10/17-18). فهل الضرورة والحرّيّة أمران متناقضان؟.

 

موت يسوع كضرورة، يشير يسوع إليه على أنَّه إرادة الآب: " أَفَلا أَشْرَبُ اَلكَأْسَ اَلّتي نَاوَلَنِي إِيَّاهَا أَبِي "؟، أو على أنَّه المعمودية التي سيقبلها يسوع: وكُتِبَ أيضًا " إِنَّما حَدَثَ ذَلِك كُلَّه لِتَتِمّ كُتُبَ الأَنْبِيَاء ". على يسوع إذًا أنْ يدخل في دوّامة الشرّ البشريّ. نرى هذه الضرورة " مسجّلة " في الله، إنْ صحَّ التعبير، ويؤكّدها الكتاب المقدّس. وهذه، الضرورة " مسجّلة " أيضًا في المحيط الإنسانِي. كل شيء ضد يسوع: الخبث والحسد والخيانة إلخ… فالسماوات والأرض متّفقة على هذا الموت.

 

ولكن هناك مجموعة أخرى من النصوص تشير إلى أنَّ الآلام قد تم اختيارها بكلّ حرّيّة من قِبَل يسوع: " إِنِّي أَبْذُل نَفْسِي بِرِضَاي ". وردت هذه الآية في إطار الراعي الصالح (يو 10 ) الذي يبذل نفسه في سبيل خرافه: إنَّه أتى من أجل ذلك. فإليه تعود المبادرة. وبولس الرسول يشدّد على هذه الناحية في رسائله. فهل موت المسيح هو موت ضروريّ أو موت مُختار، اختاره المسيح بحرّيّة؟

 

إنَّ الكلمة الأساسيّة في هذه النصوص هي، ولا شك، كلمة البذل، أي تسليم الذات. وهذه الكلمة كثيرًا ما نجدها في النصوص: جميع الناس يُسلّمون يسوع إلى جميع الناس: يهوذا يُسلّمه إلى اليهود، وهم يُسلمونه إلى بيلاطس، وهذا يسلّمه إلى الصلب. فمع أنَّ هؤلاء الناس يتناقلون يسوع فيما بينهم وكأنَّه مُجرَّد شيء ما، فإنَّهم يصلون متأخّرين جدًا، لأنَّ يسوع يفاجئهم في أثناء العشاء الأخير. فقبل أن يخرج يهوذا في الليل ليُسلّم يسوع، أَسْلَم يسوع نفسه بقوله: " خُذُوا فَكُلُوا، خُذُوا فَاِشْرَبُوا ". لا يمكن أحدًا أنْ يَسْلُبَه حياته، لأنَّه لا يمكن الاستيلاء على ما سبق وأعطى.

 

العشاء الأخير عمل أساسيّ لتفهُّم الآم يسوع: إنَّه المكان الذي يتخلّى فيه يسوع عن حياته ويجعل منها عطيّة. هكذا نرى ضرورة الموت، وقد تمّ تجاوزها من قِبَل حرّيّة يسوع. بهذا المعنى يقول بولس الرسول: " لقد ابتلع الظفر الخطيئة ".

 

إنَّ موت يسوع هو موت البار، يكشف لا من جهة عدم عدالة الصليب، لأنَّ البار وُضع فِي عداد المجرمين. ومن جهة أخرى، يكشف لنا الصليب، أو يُعْلِن لنا شرّنا جميعًا أمام جميع البشر.

 

كتب بولس الرسول: " جَعَلَ نَفْسَه خَطِيئة ". فعلى الصليب تتمّ السخرية من العدالة وتُكشف خطيئة الإنسان، وقد سبق وقلنا إنَّ الله غير عادل، بلّ هو رحيم. وعن السؤال: لماذا أراد الله الموت لابنه، جواب واحد: لقد أراد الله، في المسيح، أنْ يلحق بنا في قمًة شقائنا. أفلم يُدْعَ عَمَّانُوئيل، أي الله معنا؟ لا وجود لموت آخر من شأنه أن يعبّر عن جوهر الله، عن الله الحبّ.

 

وثمرة الخطيئة، في نظر الكتاب المقدّس، هي الانقسام: الانقسام بين الرجل والمرأة، بين الإنسان وأخيه الإنسان. ثمرة الخطيثة هي محاولة إلغاء التعدُّد، وكلّ ذلك يتم من خلال العنف. فالصليب هو، فِي النهاية، محاكمة هذا العنف الإنسانِيّ.

 

وفى نظر البشر، يُعتبر يسوع كبش فداء. قال عظيم الكهنة: " خيرُ لَكُم أَنْ يَمُوتَ رَجُلٌ وَاحِدٌ عَنْ اَلشَعبِ "، في حين يبذل يسوع نفسه بحرّيّة، ويموت بلا مبرّر. يدلّ موت يسوع على أنّناء عندما نقتل، فلنتخلّص من شعورنا بالذنب أكثر ممَّا نرتكز على الأسباب الكافية.

 

ليس الله هو الذي ينصب الصلبان، بلّ الإنسان. فإنَّه يموت على صلباننا بكل حبّ وحرّيّة. والمسيح لم يبحث عن الصليب، بلّ قَبِلَه بكلّ حبّ وحرّيّة ووعي. لا يرسل الله لنا صلبانًا، لأنه حبّ. وعلينا أنْ نعلم بأن الصليب هو صليب الحبّ، لا صليب الآلام، بمعنى أنَّ الحبّ يجعلني، على مثال المسيح، أقبل الصليب، ولكنني لا أبحث عن الصليب. وبهذا المعنى أقول إنِّي مدعوّ إلى أن أعيش الصليب بفرح.

 

والمسيح لا يخلّصنا بموته فقط، بلّ خاصّة بالأمانة التي دفعته إلى العيش مع الإنسان، دفعته إلى تحقيق إرادة الآب: لقد عبَّر عن حبِّه لأبيه حتى الموت، الموت حبًّا: " هو الَّذي في صُورةِ الله، لم يَعُدَّ مُساواتَه للهِ غَنيمَة، بل تَجرَّدَ مِن ذاتِه مُتَّخِذًا صُورةَ العَبْد وصارَ على مِثالِ البَشَر، وظَهَرَ في هَيئَةِ إِنْسان، فَوضَعَ نَفْسَه وأَطاعَ حَتَّى المَوت مَوتِ الصَّليب. لِذلِك رَفَعَه اللهُ إِلى العُلى، ووَهَبَ لَه الاَسمَ الَّذي يَفوقُ جَميعَ الأَسماء. كَيما تَجثُوَ، لاسمِ يسوع، كُلُّ رُكبَةٍ في السَّمَواتِ، وفي الأَرْضِ وتَحتَ الأَرض، ويَشهَدَ كُلُّ ِلسانٍ أَنَّ يسوعَ المسيحَ هو الرَّبّ، تَمْجيدًا للهِ الآب."  (فل 2/ 6-11).

 

ما هو خلاصي في آلام يسوع وموته هو الحبّ، حبّ مفرط، حيث الصليب هو أفضل تعبير عنه: " فَبَلَغَ بِهِ اَلحبّ إِلَى أَقْصَى حِدُودِه "ا (يو 17/ 1).

 

وبفضل الصليب عرفه الإنسان أنَّ الله محبّة. لهذا السبب يتكلّم بولس الرسول عما يسمّيه " لغة الصليب ".

 

وما هي نتائج ذلك المفهوم على حياتنا؟.

 

أوّلاًأ ندرك أنَّ الصليب هو قبل كل شيء صليب الحبّ، لا صليب الألم، بمعنى أنَّ حبّي للآخرين يجعلني أقبل الصليب ولا أتلقَّاه كأمر مفروض عليّ من الخارج. فالحبّ يجعلني أقبل أنْ أتألمّ من أجل الآخرين، من أجل من أحبّ. ولكن ذلك ينبع من داخلي ومن قناعتي الشخصيّة. وهذا ما يعني أيضًا أنَّ المسيحيّ لا يبحث عن الألم كما يعتقد الكثيرون، بلّ عن الحبّ، لأنَّ الله محبَّة ولا يطلب منَّا سوى أنْ نحبّ. وللحبّ متطلباته ولا شكّ. لا يرسل الله لنا صلبانًا، فإنَّه حبّ ولا يمكنه أنْ يمارس معنا سوى أعمال الحبّ. سبق وقلّنا إنَّ الله عاجز خارجًا عن الحبّ.

 

الحبّ الحقيقي يدفعني إلى قبول الموت بشتى أنواعه: أوّلاً الموت المعنوي، الموت عن الذات. أنا مدعوّ إلى أن أموت عن ذاتِي من أجل من أحبّ. ولا بدّ لي أن أموت عن ذاتِي، إنْ أردت أنْ يكبر الآخرون. أموت عن أنانيتي، عن حبّي المفرط لذاتِي من أجل أن أكون أكئر حضورًا للآخر المحتاج إليّ. وبهذا المعنى يقول يوحنا المعمدان في شأن علاقته مع المسيح: " لا بُدّ لَهُ مِنْ أَنْ يَكْبَرَ. وَلا بُدّ لِي مِنْ أَنْ أَصْغَرَ " (يو 3/30). إنْ حاولت أن أعيش الصليب والآلام بهذا المفهوم، فهذا يجعلني أكون حرًّا أمام موتِي النهائيّ، موتِي الجسديّ، أي أنني باختصار أكون إنسانًا حرًّا بكلِّ معنى الكلمة.

 

 

 

الله المائت والقائم من بين الأموات

 

" وإِن كانَ المسيحُ لم يَقُمْ، فتَبشيرُنا باطِلٌ وإِيمانُكُم أَيضًا باطِل" (1قور 15/14).

 

لا شكّ أنَّ القيامة موضوع أساسيّ في إيماننا المسيحيّ. وبولس الرسول هو واضح في كلامه عليها. غالبًا ما نعيش القيامة على أنَّها مكافأة تعطى لنا، أو بالأحرى نحصل عليها مقابل أعمالنا الصالحة. كما أنَّها قد تساعدنا على التخلّص من واقعنا وحاضرنا. إذْ إنَّنا نهرب إلى التفكير في عالم القيامة، فِي نوعيّة القيامة وكيفيّتها. والقيامة هي أخيرًا موضوع مزعج لنا لأنَّنا نطرح الكثير من الأسئلة حولها من دون الحصول على جواب واضح ونهائيّ، بالرغم من وجود العديد من التخيّلات والأفلام حولها.

 

وهذا موضوع مهمّ أيضًا، لأنَّ الإنسان يرفض الموت ويسعى باستمرار إلى الخلود. فكلِّ حياة الإنسان هي محاولة للهروب من الموت ( الإبداع والإنجاب وصعوبة قبول غياب صبيّ في العائلة ليخلّدها إلخ… ). وكلِّ حدّ يواجهه الإنسان يحيله، بشكلٍ لاواعٍ بالطبع، إلى هذا الحدّ النهائيّ الذي هو الموت. وهذا ما يعاكس القيامة، فهي تتطلّب قبول الموت.

 

ولماذا يرفض الإنسان الموت؟ لأنَّه لا يقبل الحدود، والحال أنَّ الموت يُشَكّل في نظره الحدّ النهائيّ. الإنسان يرفض الموت لأنَّه لا يثق بالكفاية بحبّ الله له. فهو في بحث مستمرّ عن الضمانات التي تكفل له الحبّ. تكفل له أنَّه كائن محبوب. ونقول أخيرًا إنَّ الإنسان لا يثق بالكلمة، بكلمة الله. وقد تكون الفكرة التي ورثناها والقائلة بأنَّ الإنسان هو " روح خالدة وجسد فانٍ " قد وجدها الإنسان ليطمئن ذاته. وفِي هذه الأيّام، كثيرًا ما نسمع الناس يتساءلون حول الموت والقيامة والخلود، كثيرًا ما يتحدّثون ويتساءلون حول موضوع الأرواح واستحضار الأرواح. كلّ ذلك يدلّ على أنَّ الإنسان يرفض الحدود، يرفض الموت.

 

أوّل من تحدّث عن القيامة، انطلاقًا من خبرته، هو القدّيس بولس الرسول. عاش بولس القيامة واختبرها على طريق دمشق . وهذا يعني أوّلاً أنّنا نختبر القيامة هنا، من دون أنْ نلغى القيامة الأخيرة، قيامة الأجساد.

 

عندما يتكلّم بولس عن القيامة، فإنَّه يتكلّم عنها على أنَّها تحوّل: ليست القيامة إحياء للجثة، بلّ القيامة تحوّل: تحوّل بولس من مضطهِد للمسيح وللمسيحيّين: " شاول، شاول، لماذا تضطهدنِي؟ ".

 

وهذا التحوّل هو نتيجة الاتّحاد بالله. فبقدر ما أتّحد بالله، وبالتالي أستسلم لعمل روحه في باطني، أكون في القيامة، لأنَّ التحوّل لا يتمّ بأعمالي، بلّ القيامة هي التعبير عن هذا التحوّل الذى أعيشه، عن طريق الوحدة التي أعيشها مع الله.

 

نحن مدعوّون إلى اختبار القيامة في هذه الدنيا، والقيامة الأخيرة ( الشاملة والجماعيّة ) هي، إلى حدٍ ما، نهاية المطاف، نهاية المسيرة، مسيرة القيامات التي أعيشها وأختبرها في هذه الدنيا. والإنجيلي يوحنا واضح في هذا الأمر، حين يقول: " الحَقَّ الحَقَّ أَقولُ لَكم: مَن سَمِعَ كَلامي وآمَنَ بِمَن أَرسَلَني فلَه الحَياةَ الأَبَدِيَّة ولا يَمثُلُ لَدى القَضاء بلِ انتَقَلَ مِنَ المَوتِ إِلى الحَياة. الحَقَّ الحَقَّ أَقولُ لَكم: تَأتي ساعةٌ – وقد حَضَرَتِ الآن – فيها يَسمَعُ الأَمواتُ صَوتَ ابنِ الله والَّذينَ يَسمعَونَه يَحيَوْن.» (يو 5/24-25) إنَّ آنيّة القيامة وحاضرها أمر مهمّ جدًا عند الإنجيلي يوحنّا، ونحن مدعوّون إلى أنْ نعيها كذلك. بالطبع، أكرّر وأقول: إنَّ هذا لا ينفي القيامة الأخيرة، قيامة الأجساد.

 

لكيّ تكون هناك قيامة، فلا بدّ من وجود الموت. فلكي أختبر القيامة، عليّ أنْ أموت. لذلك نحن مدعوّون إلى أن نعيش الموت هنا، الموت عن الذات من أجل الآخر، حبًّا له ولكي يكبر. الموت عن الذات أختبره بعلاقاتِي المختلفة: الزوج مع الزوجة، الأهل مع الأولاد إلخ…

 

إسمحوا لي الآن أنْ أتوقَّف عند أمرٍ مهمّ نعيشه جميعًا بوجهِ من الوجوه، وفيه نختبر القيامة، ألا وهو: المغفرة. ماذا يحدث في المغفرة؟

 

الخطيئة تمسّ دائمًا بالآخر. فيها شيء من رفض العلاقة مع الآخر. إنها هدّامة، تهدم من يرتكبها، لأنَّه لم يعدْ على صورة الله. كما أنَّها تمسّ بضحيَّتها، إذ إنَّ كل خطيئة تسعى إلى تصغير الآخر، إلى اعتباره مجرَّد شيء.

 

لكى يستطيع ضحيّة الخطيئة أنْ يغفر، عليه أنْ يقبل أنَه قد تمّ تحجيمه ولم يُعْتبر وجوده، أنَّه، باختصار، قد قُتل. وهذا ما يظهر في آلام المسيح، فقد قبل الموت الذي يمارَس عليه. إنَّ قبول الشرّ الذي يمارسه الآخر علينا يعني التخلِّي عن مبدأ العدل والدخول معه في علاقة رحمة، علاقة حبّ.

 

فمَنْ يغفر يُحرِّر في نفسه الحبّ، الحبّ المجَّانِي، بما أنَّ الذي جرحه لم يَعُدْ يستحق أن يُحَبّ، فِي حين أنَّ الحبّ هو قدرة خلاَّقة تعمل دائمًا. فالمغفرة تستعمل الخطيئة لتُنتج ما هو عكس الخطيئة، أي القيامة.

 

كما أنَّ المغفرة تخلق مرَّة أخرى مَنْ أخطأ، فإنَّ رفض أو تخلَِّى عن تحجيم الآخر، تخلَّى عن هدمه. عندما يفغر لي الآخر وأقبل هذه المغفرة، أعترف بأنني قد خطئت، ولكنّي، بوجه خاص، أكتشف الآخر في علاقة جديدة، أكتشفه أكبر منّى.

 

وماذا إنْ لم يغفر مَنْ جُرِحَ؟ كلّ مسار عملية الخلق الجديد يبدو مجمّدًا. من رفض أنْ يغفر، رفض أنْ يجعل نفسه على صورة الله. فما الحلّ ؟ أنْ أقبل عدم مغفرته لي، أي أن أغفر له عدم مغفرته لي، فبهذا ينقلب الوضع كلّيًا، ويصبح هو فِي موقف الذي يُغفر له.

 المراجع :

فرح الإيمان بهجة الحياة، فرنسوا فاريون، دار المشرق، 1989.

M. Neusch, Dieu aujourd\’hui, Desclée de Brouwer, 1987.



J-L. Marion, Prolégomènes à la charité, Editions de la différence, 1986.

فهرس المحتويات:

·      مقدمة

·      الله المحرر

·      الله الخالق

·      الله المخلص

·      الله المتجسد

·      الله المتألم

·      الله المائت و القائم من بين الأموات

·      المراجع