مريم والكنيسة

مريم والكنيسة

الأب أوغسطينوس كوسا

 

يوجد بين مريم والكنيسة شكل متوازي الخطوط، معروف بـ "مريم – الكنيسة"، كان منذ أقدم العصور، وما زال عزيزاً على المؤمنين. فالكنيسة هي، على شبه مريم: بتول وأمّ ووسيطة ومربية وزوجة.

فمريم ولدت الكنيسة مع يسوع على الجلجلة. وكانت في البدء هي نفسها الكنيسة. والكنيسة التي خرجت منها تواصل على الأرض الوظائف التي تمارسها مريم في السماء: إنها تلد المؤمنين وتغذّيهم وتربّيهم وتقدّسهم لتبلغ بهم إلى ملء قامة المسيح. وتحاول جاهدة أن تجعل منهم مسحاء آخرين.

مريم رمز الكنيسة

شبّه يسوع، في كلامه الأخير إلى التلاميذ، موته بولادة مؤلمة: "الحقّ الحقّ أقول لكم: ستبكون وتنتحبون، واما العالمُ فيفرح. ستحزنون، ولكن حُزنكم سينقلبُ فرحاً. إنّ المرأة تحزن عندما تلِد لأنّ ساعتها حانت. فإذا وضعت الطفل لا تذكر شِدّتها بعد ذلك لفرحها بأنّ قد ولِد إنسان في العالم. فأنتم أيضاً تحزنون الآن ولكن سأعود فأراكم فتفرح قلوبكم وما من أحدٍ يسلُبُكم هذا الفرح" (يوحنّا 16/20-22).

في هذا الكلام من إنجيل يوحنّا نجد صورة ولادة ابنة صهيون للخلاص المسيحاني مجسّدة الشعب الموعودة به.

وإنّ الرسول يوحنّا فكّر بنصوص إشعيا لقوّة الصلة بينها.

يرى إشعيا النبي في نشيده الرؤيوي أورشليم تلد شعباً جديداً :

"قبل أن تتمخّض ولدت

قبل أن يأخذها الطلق وضعت ذكراً

من الذي سمع بمثل هذا

ومن الذي رأى مثل هذه؟

أمّ تولد امة في مرةٍ واحدة

فإنّ صهيون ما إن تمخّضت حتى ولدت بنيها.. (اشعيا 66/7-7)

افرحوا مع أورشليم

وابتهجوا بها يا جميع محبّيها.

سُرّوا معها سروراً، يا جميع النائحين عليها ( اشعيا 66/10).

لأنّه هكذا قال الربّ:

هاءنذا أميل إليها السلام كالنهر

ومجد الأمم كالوادي الطافح

فترضعون وعلى الورك تحملون

وعلى الركبتين تُدلّلون.

كإنسان تعزّيه امه

كذلك أنا أعزّيكم وفي أورشليم تعزّون

وتنظرون فتُسَرّ قلوبكم

وتُزهرُ عظامكم كالعشب… ( اشعيا 66 /12-14).

إنّ الوعود الواردة في إنجيل يوحنّا، شبيهة جداً بالوعود الواردة في كتاب التعزية عند اشعيا. يعد السيّد المسيح تلاميذه المدعوين "بالأبناء الصغار" (يوحنّا 13/33)، وبإلاّ يتركهم يتامى (يوحنّا 14/18)، وبأن يعود إليهم فيراهم ( يوحنّا 16/22)، ويرسل إليهم الروح المعزّي، وفي كلامه الوداعي يظهر السيّد المسيح عطف الله كالأمّ وعطف الروح القدس والكنيسة فيتابعان عمله.

وبما أنّ مريم هي رمز الكنيسة، فإنّها تشترك بكل جروحاتها بآلام المصلوب. وتلد، عند الصليب، بالألم، الإيمان بوعد المسيح:"إنّ ابن الإنسان سيُسلّم إلى أيدي الناس، فيقتلونه، وفي اليوم الثالث يقوم" (متى 17/22-23). ومريم أيضاً، هي بالإيمان، ابنة صهيون التي تلد رجاءها بالالم. وهي الكنيسة المؤمنة والأمينة حتى النهاية. هي حقاً رمز الكنيسة، أمّ المؤمنين في الإيمان بالمصلوب الذي سيقوم، وفي أوجاعها كأمّ وكمؤمنة. ولكونها كذلك، نظر إليها يسوع وقال: "أيّتها المرأة، هذا ابنك" (يوحنّا 19/26). والتلميذ الحبيب يوحنّا، الأمين هو حقاً ابن الكنيسة – الأمّ التي ترمز إليها مريم باشتراكها بإيمان المصلوب وبإيمانها ورجائها بالقيامة.

مريم رمز للأمانة

إنّ التلميذ المدعو "بالتلميذ الذي يحبّه يسوع"، هو بدون اعتراض، تجسيد للتلميذ الكامل، الأمين الحقيقي للمسيح، وللمؤمن الذي يقبل الروح. وليس الموضوع محبّة خاصّة من يسوع لأحد رسله، وإنّما تجسيد رمزي للأمانة للربّ. فقد أراد المسيح أن يمثّل أحد تلاميذه حتى النهاية ، الأمانة التامة، في حين تركه الآخرون في اللحظة الحرجة.
يجسّد التلميذ الحبيب إذاً امانة المؤمنين ، أخوة يسوع، حتى الموت. وإذا كان التلميذ، عند الصليب، كان يمثّل أكثر من شخصيته الخاصة، فكذلك الامر بالنسبة لمريم.

إنّ لقب "امرأة" الذي أطلعه عليها ابنها المصلوب، كما فعل في "عرس قانا الجليل " متحدّياً كلّ التقاليد اليهودية يرينا إنّه يضع أمّه خارج العلاقة بين أمّ وابنها. فهو يرى فيها " المرأة التي ترمز إلى شعب الله في رسالة أمومتها، وابنة صهيون التي ترمز الى ولادة الشعب الجديد، الخلاص المسيحاني بالألم يتبعه الفرح المعادي والكنيسة التي تصير أمّاً تغذّي جميع الذين يقبلون الروح القدس المعزّي، والتي تلد أبناء الآب وأخوة يسوع، حتى انتهاء الأزمنة، بالكلمة والعماد وتغذّيهم بالكلمة وبالأفخارستيا.

ولكون مريم رمزاً للكنيسة، سلّمها يسوع إلى التلميذ الحبيب وأوصاه بها. لقد انتهى زمن أمومة مريم الجسدية لابن الله المتجسّد، وأعلن المسيح نهايتها في عرس قانا، فتصبح أمّ الله رمز الكنيسة الأمّ. ولن نستطيع بعد الآن أن نتكلّم عن الكنيسة وعن أمومتها، وتواضعها، وإيمانها، وفرحها دون أن نرى في مريم، أمّ الربّ، صورتها النقية ومثالها الأعلى.

تمّ كلّ شيء (يوحنّا 19/30)

على الصليب تمّ كلّ شيء. رموز العهد القديم كلّها: الحمل الفصحي، والكاهن الأعظم والملك هو المسيح إلى الأبد.

وقد تمّ في مريم انتقال اسرائيل القديم إلى الشعب الجديد. لأنّ المسيح، وهو يلفظ نفسه الأخير" أسلم الروح" إلى المرأة التي تمثّل الكنيسة في أمومتها، والذي يمثلها التلميذ في أمانته. وقد لاحظ القدّيس امبروسيوس انتقال ابنة صهيون إلى الشعب الجديد فقال: "يتعلق الأمر هنا بسرّ الكنيسة: إنّ مريم المتحدة رمزياً، لا فعلياً، بالشعب القديم، بعد أن ولدت الكلمة وزرعتها في أجساد البشر ونفوسهم بالإيمان بالصليب وبدفن جسد المسيح، اختارت طاعة لأوامر الله، مجتمع شعب أكثر فتوة".

عهد شخصي جديد

يذكّرنا كلام المسيح "ايتها المرأة، هذا ابنك، ثمّ قال للتلميذ:"هذه أمّك" (يوحنّا 19/27)، بصيغة العهد، في العهد القديم :"فأكون له أبّاً وهو يكون لي ابناً" " وأنا قلت في نفسي كيف أجعلك بين البنين وأعطيك الأرض الشهية ميراث زينة زينات الأمم. ثمّ قلت في نفسي: ولا ترتدين عن السير ورائي" (إرميا 3/19). وأزرعها لي في الأرض وأرحم غير مرحومة وأقول لليس بشعبي: "أنت شعبي" وهو يقول: "أنت إلهي" (هوشع 2/25 ، ارميا 24/7 و31/33 وحزقيال 36/28).

وستعود هذه الصيغة المزدوجة في رؤيا أورشليم الجديدة والمرأة الشابة الواردة في سفر الرؤيا، المرأة المزيّنة من أجل عروسها: "هوذا مسكن الله مع الناس. فسيسكن معهم وهم سيكونون شعوبه وهو سيكون "الله معهم" (رؤيا يوحنّا 21/3).

قام العهد الجديد بين الآب وبين التلاميذ الأحباء، اخوة يسوع، من خلال الكنيسة – الأمّ أورشليم العليا فهي حرّة، وهي أمّنا" ( غلاطية 4/26). قبلت الكنيسة – الأمّ، المرموز إليها بمريم، عند أقدام الصليب، رسالة الأمومة قرب اخوة يسوع، أبناء الآب. هكذا يُعبّر عن العهد الجديد بألفاظ مألوفة: فشعب الله يصبح عائلة الآب مع الكنيسة، في الروح القدس، كأمّ والابن كأخ، بكر الرسل وبكر المؤمنين ومن المدهش أن ترى يسوع، في إنجيل يوحنّا، لم يدعُ تلاميذه "أخوة" إلاّ بعد القيامة.فقد قال لمريم المجدلية:"اذهبي إلى إخوتي، فقولي لهم إنّي صاعدٌ إلى أبي وأبيكم، وإلهي وإلهكم" (يوحنّا 20/17-18).

ولد الشعب الجديد للعهد الجديد، في موت المسيح وفي أوجاع ابنة صهيون المشتركة فيها الجماعة المسيحانية، الممثلة عند الصليب بأمّ يسوع وتلميذه الحبيب، وسلّم المصلوب هذا الشعب روحه. ومن الجنب المطعون بالحربة، ظهرت له علامات الدم والماء السرية: العماد والافخارستيا.

تقدّس هذا الشعب الجديد كعائلة الآب. وصارت الكنيسة في الروح، منذ الآن أمّ المؤمنين، وصار التلاميذ أخوة يسوع. وسيوضح المسيح المنتصر على الموت هذه الحقيقة، عندما يسمّي تلاميذه "إخوته" والله "أباه وأباهم".
إنّ حقيقة الله هذه – أي الكنيسة – الأمّ وكنيسة الاخوة ظهرت رمزياً عند أقدام الصليب في مريم – أمّ التلميذ الحبيب، ابنها.

مريم ووحدة المؤمنين

وأمومة الكنيسة المرموز إليها بمريم، أمّ التلميذ، هي ينبوع وحدة التلاميذ والاخوة المؤمنين بالمسيح. ويسوع في صلاته الكهنوتية (يوحنّا 17)، صلى من أجل وحدة اتباعه" وأنا وهبتُ لهم ما وهبت لي من المجد ليكونوا واحداً كما نحن واحد: أنا فيهم وأنت فيّ ليبلغوا كمال الوحدة ويعرف العالم أنّك أنت أرسلتني وأنّك أحببتهم كما أحببتني" (يوحنّا 17/22-23). ووحدة الآب والابن هي ينبوع وحدة الاخوة وقدوتهم وهي ممكنة بفضل سكن المسيح في جسده، الكنيسة، بالروح القدس. والكنيسة باعتبارها أمّ المؤمنين، تؤلّف وتدير وحدة اخوة يسوع وتهتمّ دائماً، لكونها أمّاً، بوحدة أبنائها أبناء الآب واخوة المسيح.

قبلت مريم، رمز الكنيسة – الأمّ، التلميذ الأمين ابناً لها، وأخذها هذا إلى بيته، يرمز كلاهما معاً إلى وحدة الكنيسة. هذا المشهد عند أقدام الصليب يتعارض مع المشهد الذي يسبقه مباشرة: اقتسم الجنود ثياب المصلوب واقترعوا على قميصه غير المخيط، فهم لا يؤمنون، والمسيح في نظرهم ، موضوع شقاق وانقسام. فتممّوا نبؤءة انقسام البشر" يقتسمون ثيابي بينهم وعلى لباسي يقترعون" (مز 22/19). وعلى العكس، فإنّ مجموعة النساء الأمينات، عند أقدام الصليب، وبخاصّة كلام المصلوب لأمّه ولتلميذه، تعني وحدة المؤمنين في الكنيسة الواحدة. للأسف يشبه المسيحيون اليوم، إلى حدّ كبير، الجنود الذين اقتسموا غنائم المسيح أكثر مما يشبهون مريم والتلميذ المتّحدين بالمسيح في شراكة روحية ومادية واحدة. ونحن، المتحدين بالكنيسة – الأمّ، التلاميذ الأحباء والأمناء الحقيقين، نحن اخوة يسوع الحقيقيون كالتلميذ الحبيب الذي صار ابن مريم، وأخذها إلى خاصّته. ونحن، على مثاله، نقبل الكنيسة، أمّنا، في حياتنا كأبناء الآب وإخوة يسوع حقيقيين.

إنّ الساعة التي ذكرها يسوع لمريم، في عرس قانا، قد أتت الآن. فإذا ردّ يسوع أمّه. في عرس قانا، إلى ساعة الصليب، فلكي تفهم، في هذا الساعة الحاسمة، دعوتها الجديدة التي نضجت طيلة حياة ابنها على الأرض. بعد أن كانت أمّ الله ولعبت دورها كأمّ الله، أخذت اسم الكنيسة – الأمّ ودورها. إنّنا نفهم أمومة الكنيسة، عندما نتأمّل في أمومة مريم، أمّ الربّ وأمّ التلميذ الحبيب.

مريم أمّ في الكنيسة

وعد المسيح تلاميذه علناً بقوله:" الحقّ أقول لكم ما من أحد ترك بيتاً وأخوة أو أخوات أو اباً وأمّاً أو بنين أو حقولاً لأجل اسمي ولأجل الإنجيل إلاّ يأخذ مائة ضعف. أمّا في هذا الزمان فبيوتاً واخوة وأخوات وأمّهات وبنين وحقولاً مع اضطهادات وأمّا في الدهر الآتي فالحياة الأبدية (مرقس 10/29-30، متى 19/29، لوقا 18/29-30). كلّ من يتخلّى، من أجل المسيح وبشارة الملكوت الجديدة، عن خيرات هذا العالم لينصرف كلّياً إلى المسيح وخدمته ينال الوعد بمائة الضعف هنا على الأرض. فإذا ترك بيته وعائلته يجد في الزمن الحاضر بيوتاً واخوة وأخوات وأمّهات… هذه هي صورة الكنيسة العائلية المعروضة هنا علينا.

يقول النص إنّ التلميذ الذي يترك أمّه من أجل المسيح يأخذ أضعاف أمّهات. فصورة الكنيسة هنا صورة عائلة روحية محدّدة: الكنيسة هي البيت الجديد لأبناء الآب واخوة يسوع، وسيجدون فيها بيوتاً اخوية تستقبلهم، ويلتقون فيها بإخوة وأخوات وأمّهات أيضاً عديدات. يختتم القدّيس بولس رسائله بتحيات تشهد على هذه الحياة الكنسية المفهومة كحياة عائلية فائقة الطبيعة. فالذين دعوا إلى الفقر من أجل المسيح، وإلى الزهد والتجرّد كان لديهم كلّ شيء مشتركاً ( أعمال الرسل 2/44). وكانت حياتهم الكنسية حياة عائلة كبيرة حيث البيوت والاخوة والأخوات والأمّهات والأبناء والأملاك في شراكة كاملة. ويشير القدّيس بولس، في نهاية رسائله إلى حقيقة العائلة الكنسية وفيها يتكلّم باستمرار عن الاخوة والأخوات:"واستودعكم فيبة أختنا التي هي خادمة الكنيسة… أمّا ابلوس الأخ فأخبركم إنّي سألته كثيراً أن يأتيكم مع الاخوة.." (روم 16/1، 1 قور 16/12) ويشير إلى البيوت حيث تتجمّع الكنيسة، بيوت برسكة واكيلا وارسطوبولوس ونرجس (روم 16/5، 10، 11…). ويذكر أيضاً أبناءه الروحيين، فتيموتاوس هو كالابن مع أبيه، هو "ابن حقيقي" لبولس في الإيمان. واوتيسيموس هو "ابنه الذي ولده في القيود" (فل 2/22، 1 تيم 1 /2، 2 تيم 2/1، ف 10) ومرقس هو "ابن" بطرس (1بط 5/13). أمّا الحقول والممتلكات فهي مشتركة كما في عائلة واحدة"وكان جميع المؤمنين معاً وكان كلّ شيء مشتركاً بينهم وكانوا يبيعون أملاكهم وأمتعتهم ويوزعونها على الجميع على حسب حاجة كلّ واحد…" (أعمال الرسل 2/44-45، 4/32، 34/35). حقّاً لم يكن لجماعة المؤمنين سوى قلب واحد ونفس واحدة كما هي الحال في عائلة فائقة الطبيعة.

لنعدْ إلى نص القدّيس مرقس الإنجيلي: من هنَّ الأمّهات في الكنيسة؟ وما هي منازل الجماعة الاخوية؟ من هُم الإخوة والأخوات والحقول المشتركة؟ يستطيع بولس أن ينيرنا في هذا الموضوع. فقد كتب إلى أهل روما يقول: "سلّموا على روفس (روم 16/13) المختار عند الربّ وعلى أمّه التي هي كأمّي". وفي توصياته الراعوية إلى تيموتاوس كتب:"لا تعنف شيخاً بل عظه كأنّه أب لك، وعظ الشبّان كأنّهم اخوة لك، والعجائز كأنّهن أمّهات والشابّات كأنهنّ اخوات تعاملهن بكل عفاف"(1 تيم 5/1). ثمّ يتبعها بتوصيات من أجل الأرامل خاصة اللواتي "هنّ أرامل حقّاً، الباقيات وحدهنّ فتفوّض أمورهنّ إلى الله تقضي ليلهنّ ونهارهنّ في الدعاء والصلاة" (1 تيم 5/5).

إنّ أعمار الحياة المختلفة تحتفظ، في الكنيسة، بمدلولها. فالذين كانت تعاملهم، في شبابهم، كأخوة، تعاملهم، في شيخوختهم، كأباء. وكذلك قلْ عن النساء المسيحيات اللواتي، بعد أن كنّ أخوات يصبحن أمّهات بالروح. كان القدّيس بولس يعتبر أمّ روفس كأمّه. وعلى صعيد الإيمان والرحمة تستطيع بعض العجائز، بفضل خبرتهنّ في الحياة المسيحية، أن يلعبنَ دور الأمومة الروحية التي هي رسالة الكنيسة الجوهرية. إنّ نظام الأرامل في الكنيسة الأولى (1 تيم 5/3-16) نشأ على الأرجح من القناعة بأنّ المرأة المسيحية المتحرّرة من الهموم العائلية، الغنية بالخبرة الروحية، يمكنها القيام بدور عظيم في خدمة الجماعة الكنسية. ويرى القدّيس بولس هؤلاء الأرامل منقطعات خاصّة إلى الصلاة والتعبّد، ليس فقط النساء المنقطعات كلّياً إلى خدمة المسيح، بل هناك أيضاً الأمّهات المسيحيات اللواتي يستطعنَ القيام، في الكنيسة بدور الأمومة الروحية، مظهرات وجهاً من وجوه الكنيسة. هكذا تجد، في الكنيسة، الحياة العائلية الطبيعية نفسها متبدّلة. والذين تركوا كلّ شيء من أجل المسيح يأخذون مائة ضعف في هذا الزمان، في حضن الكنيسة عائلة الآب، بيوتاً واخوة وأخوات وأبناء وأمّهات وملء الجماعة العائلية المروحنة في المسيح.

كان القدّيس بولس يعتبر أمّ روفس، أخيه بالمسيح، كأمّه الروحية. والتلميذ الذي كان يسوع يحبّه، قبل مريم، على الصليب، كأمّه وأخذها إلى بيته. وللمشهد، كما رأينا، معنىً صوفي بالنسبة لأمومة الكنيسة. ومع ذلك فكلام يسوع المصلوب جعل التلميذ في النتيجة يقبل أمّ يسوع في بيته. ونزولاً عند رغبة المسيح سيعيش مع مريم، رمز الكنيسة، معتبراً إيّاها أمّه الروحية شخصياً. ويمكننا التصوّر، بكلّ وضوح، إنّ مريم كانت تطلعه على أمور كثيرة من شخصية ابنها وحياته، فكانت له ولسائر التلاميذ ينبوع معرفة انجيلية. وستقوم مريم قربه وقرب التلاميذ جميعاً بدور كبير في التقليد عن حقائق الإيمان. وسيكون لها رسالة الأمّ الروحية الحقيقية في الكنيسة الأولى. وبما أنّ المسيح سمّاها " أمّاً" ترمز إلى الكنيسة – الأمّ، فكيف لا تكون في عداد الأمّهات اللواتي يعثر عليهنّ التلاميذ مضاعفاً في هذا الزمان، ضمن الجماعة الكنسية العائلية، وبناء على كلام المصلوب، ستصبح للتلميذ ولكلّ التلاميذ الذين يمثّلهم، أولى الأمّهات في الكنيسة. وفي محبتها لابنها، الربّ الممجّد القائم من الموت، وفي إيمانها ورجائها وحنانها، ستكون قدوة لهم وأمّاً روحية تسهر وتصلّي وتخدم. وستكون مثل أرامل الكنيسة الأولى "تفوض أمرها إلى الله وتقضي ليلها ونهارها في الدعاء والصلاة"(1 تيم 5/5).

يستطيع التلميذ الذي يحبّه يسوع أن يقول عن مريم أنّها أمّ يسوع وأمّه شخصياً. فيحقّق الصداقة الحميمة التي تربطه بالمسيح، ربّه وأخيه. ومريم، أمّ يسوع وأمّه، هي الشخص الذي يستطيع أن يقرّبه أكثر من المسيح، سيّده وربّه. كانت وإيّاه شاهدة على ساعات المصلوب الأخيرة، وسمعت آخر كلماته، وقبلت الروح الذي سلّمه إلى كنيسته. فمريم هي له، وبه لجميع التلاميذ التي تجتمع حولهم وللكنيسة علامة قريبة من يسوع. هي أمّ روحية في الجماعة المسيحية، وهي أكثر الأمّهات الروحيات في الكنيسة إكراماً. هي الأمّ الروحية للتلميذ الحبيب والأمين وأمّ كلّ مسيحي، أخي يسوع.

يخبرنا سفر الأعمال (1/12-14) إنّ جماعة التلاميذ الأحد عشر عادوا إلى أورشليم بعد الصعود مباشرة، ودخلوا إلى العلّية حيث كانوا يجتمعون عادة مع المسيح. وهناك راحوا ينتظرون حلول الروح القدس في العنصرة:"وكانوا يواظبون جميعاً على الصلاة بقلب واحد بعض النسوة ومريم أمّ يسوع واخوته" (أعمال الرسل: 1/14). مريم أمّ يسوع مدموجة بجماعة التلاميذ: الرسل والنسوة وأقرباء الربّ. وكانت تواظب على الصلاة معهم وبينهم بقلب واحد، بانتظار حلول الروح القدس الذي يفتتح عصر الكنيسة الرسولي. وبما أنّها رمز الكنيسة – الأمّ، فليس لها وظيفة إدارية هرمية كبطرس ويوحنا ويعقوب وبقية الرسل المذكورين أوّلاً. لقد ذكرت بين النساء وأقرباء يسوع، فهي، في وسط الكنيسة الأولى، علامة متواضعة ومصلية، كأمة الربّ والكنيسة. هكذا قبلت الروح في العنصرة لتكتمل في ملء دعوتها ضمن الكنيسة.

وتبدو مريم حقيقة كأرملة الكنيسة الأولى التي "تفوض أمرها إلى الله وتقضي ليلها ونهارها في العبادة والصلاة" (1 تيم 5/5). ومع ذلك فهي ليست وحدها، بل لها ابن في التلميذ الذي يحبّه يسوع. وهي بالدرجة الأولى الأم الروحية في وسط نساء مؤمنات تبعنَ المسيح ولا يزلنَ هنا دائماً. وهي، بالنسبة للتلميذ ولسائر التلاميذ، صورة الكنيسة – الأمّ والأمّ الروحية في الكنيسة. وتستطيع، بقوّة الروح، أن تنقل إلى التلاميذ وإلى الكنيسة الأولى كلّ ما تعرف عن يسوع، ابنها الحبيب، وما حفظته وتأمّلته في قلبها ( لو 2/19، 51). حملت ابنها بتواضع، لا كالرسل المبشّرين، بل كأمّ صموته، محبّة، أمّ ابن الله الجسدية الذي عرفته في أعماقه أكثر من أي شخص كان، أمّ روحية للتلاميذ الذين ستساعدهم، يوماً ما، على أن يتذكّروا كلّ ما قاله وتمّمه المسيح، وكانت له شاهدة أمينة وستكون، بإيمانها وصلاتها ومحبّتها ورجائها، أمّا روحية في الكنيسة – الأمّ التي هي صورتها الحيّة المتواضعة.

سرّ مريم والكنيسة

تبدو مريم، بكلّ وضوح، رمز الكنيسة، أمّنا، وتساعدنا على فهم أمومة الكنيسة في تدبيرها. وعندما نفكّر في سرّ الكنيسة، علينا أن نفكّر بمريم صورتها لنفهم أمومتها الروحية. فالكنيسة عروس المسيحي" أحبّها وبذل نفسه عنها ليقدّسها بماء الاستحمام وبما يتلى من الكلام، ويزفّها إلى نفسه كنيسة سنية لا شائبة فيها ولا تغضن ولا ما أشبه ذلك، بل مقدّسة بلا عيب… بل يغذّيه ويعنى به" (اف 5/25-32). ويضيف القدّيس بولس إلى وصف زواج الكنيسة قوله: "إنّ هذا السرّ لعظيم وأعني به سرّ المسيح والكنيسة". فإذا كان الاتحاد الزوجي بين المسيحي وامرأته، في نظر بولس، هو علامة رمزية وسرّ يوحّده عقولنا إلى حقيقة حبّ المسيح لعروسه، الكنيسة، فإنّ أمومة مريم للمسيح والتلميذ الحبيب أخي يسوع في نظر يوحنّا علامة رمزية وسر يوجّه عقولنا إلى حقيقة حبّ الكنيسة أمّنا، لنا. فسرّ مريم هو عظيم أيضاً، ويعني الكنيسة، أمّ المؤمنين الذين هم اخوة المسيح.

تلد الكنيسة أبناء الله، اخوة يسوع، بقوّة الروح القدس وتغذيهم وتقدّسهم وتعتني بهم، وبكلام الله وبالعماد تلد المؤمنين الجدد إلى عالم الإيمان والرجاء والمحبّة. وبالافخارستيا تغذّيهم بجسد ودم المسيح المحيي وبسلطان الحل تعزيهم في رحمة الله. وبالميرون ووضع اليد تمنحهم شفاء النفس والجسد…".

إنّ كلّ المهمّات التي تمارسها مطبوعة بطابع الأمومة الروحية. كتب بولس لنفسه ولجميع الرعاة المهتمين بخدمة الكنيسة لكي يبنوا كهنوت جميع المؤمنين الملوكي: "خاطبناكم بصراحة، يا أهل قورنتس، وصدرنا رحب، لستم عندنا في ضيق… إنّي أكلّمكم على أنّكم أبنائي، فاجعلوا صدوركم رحبة أنتم أيضاً…. فقد قلت لكم من قبل أنّكم في قلوبنا على الحياة والموت. لي ثقة بكم كيبرة. وأنا عظيم الفخر بكم. قد امتلأت بالعزاء وفاض قلبي فرحاً في شدائدنا كلّها" (2 قور 6/11-13، 7/3-4). "… فضلاً عن سائر الأمور من همّي اليومي والاعتماء بجميع الكنائس. فمن يكون ضعيفاً ولا أكون ضعيفاً؟ ومن تزلّ قدمه ولا أحترق أنا؟ "(2 قور 11/28-29).

أليس هذا الكلام شبيهاً برسالة أمّ إلى بنيها؟ يبدو القدّيس بولس، أحياناً، في رسائله أبّاً ، وأحياناً أمّاً. ويتمّم بإرادته رسالة الكنيسة – الأمّ. هذا الحنان والعطف الأموميان عرفهما القدّيس يوحنّا في تدبيره الراعوي: "أجل استقرّوا فيه الآن يا أبنائي الصغار… يا أبنائي الصغار احذروا الأصنام" (1يوحنا 2/1، 12/28، 3/7، 18، 4/4/، 5/21(

خلاصـــة

مريم حاضرة في الكنيسة على رأس جميع القديسين كأمّ الله وكالمرأة المسيحية الأولى لتكون محبوبة فتقود إلى محبّة المسيح. وتكون قدوة وتقود إلى الاقتداء بالمسيح وتسمّى طوباوية ومباركة بين النساء وتقود إلى تمجيد الله "تعظّم الربّ نفسي" ( لوقا 1/16).

ولحضور مريم في الكنيسة نتائج هامة جداً:

هي أوّلاً الحياة المتواضعة والخفية مع المسيح.

هي الحياة التأمّلية والصوفية أعيدت بها كرامتها في الكنيسة ضد الكبرياء ونشّطت في قلب الكنيسة، روحانية عائلية عائلة الله، مع حنان يسوع المسيح وعذوبته وصداقته.

وأخيراً هي دور المرأة في الكنيسة يدلّ إليه موقف مريم بقرب ابنها. ليست كاهناً مثله، بل تقف وراءه وتتبعه. وظيفتها أن تعنى به وتحبه. فهي تتصرّف بجرأة كما فعلت في عرس قانا الجليل.

هي تفهم كلّ شيء وتحتمل كلّ شيء وترجو كلّ شيء ولا غنىً عنها للخلاص.