لقاء مع دبلوماسيين من الدول الإسلامية

أهداف الكرسي الرسولي: الشخص البشري والعدالة والسلام"

العمل على تعزيز الحق في التنمية

\"انقر

الكاردينال ريناتو رافايلي مارتينو، رئيس المجلس البابوي للعدالة والسلام

 

لقاء مع دبلوماسيين من الدول الإسلامية

روما، 23 مايو 2007 (ZENIT.org) –حاضر الكاردينال ريناتو رافايلي مارتينو، رئيس المجلس البابوي للعدالة والسلام حول موضوع "أهداف الكرسي الرسولي: الشخص البشري والعدالة والسلام" يوم الإثنين في 7 مايو 2007 أمام دبلوماسيين من الدول الإسلامية وخبراء من القارات الخمس في الجامعة الغريغورية الحبرية، بدعوة من مؤسسة "غريغوريانا" ومعهد جاك ماريتان الدولي. 

مقدمة

 اسمحوا لي أن أعرب عن سعادتي وامتناني للفرصة التي تقدمها لي المؤسسة الغريغورية ومعهد جاك ماريتان الدولي لكي أتحدث عن أهداف عمل الكرسي الرسولي من أجل تعزيز وحماية الشخص البشري والعدالة والسلام. بصفتي دبلوماسيا، أمضيت ست عشرة سنة في نيويورك لكي أضفي على صرح الأمم المتحدة النفس الذي يحرك روما وروح الرسالة والتزام البابا الكبير يوحنا بولس الثاني والكرسي الرسولي الروماني. والالتزام بهذا الاتجاه لم يكن يتأتى من سعي إلى البطولات أو الهيمنة بل يجد جذوره في الإنجيل نفسه الذي أصبح أمانة في يد الكنيسة التي أُوكلت إليها رسالة نشره.

إن الكنيسة وبالتالي الكرسي الرسولي أيضاً لا يشكلان قوة سياسية بالمعنى التقليدي، وإنما قوة أخلاقية. فالقوة الأخلاقية بالذات، لا القوة السياسية، هي ما يعطي الكرسي الرسولي القدرة على التحرك على الساحة الدولية. وبالفعل، فإن الإنسانية اليوم بحاجة ماسة إلى الالتزام على الصعيد الأخلاقي، إضافةً إلى الصعيد السياسي. فهذا الأخير مهم طبعاً، بيد أنه غير كافٍ: فكما يشهد التاريخ، إن الأحزاب السياسية التي لا تعتمد على ثقافة راسخة للقيم الإنسانية مصيرها الزوال.

إن موقع الكرسي الرسولي المميز يسهل مصداقية تدخلاته التي لا تبتغي أي مصلحة خاصة كما يمكنكم أن تلاحظوا. وما يميز رسالة الكنيسة في المجال الاجتماعي هو التزامها لما فيه الخير العام للإنسانية بشتى الوسائل المتاحة لها.

 معنى حضور

 بالعودة إلى السنوات الستة عشر التي شرفني خلالها – باسم الكرسي الرسولي- أن أقوم بعمل مباشر لدى منظمة الأمم المتحدة في نيويورك، يمكنني أن أشهد شخصياً على العمل "المؤنسن" للدبلوماسية الفاتيكانية. فبالفعل، لقد حرص الكرسي الرسولي، وطوال نشاطاته في الأمم المتحدة، على نقل فكر البابا يوحنا بولس الثاني وعلى الإقتداء به. فبالإضافة إلى حضورهم اليومي في مختلف اللجان والمجالس التابعة للأمم المتحدة، قام ممثلو الكرسي الرسولي بتأمين الجزء الأهم ولا شك من عملهم في أثناء انعقاد سلسلة مؤتمرات الأمم المتحدة وقممها التي وجهت السياسات المتعلقة بالمشاكل الاجتماعية والاقتصادية لهذا العصر وبمسائل حقوق الإنسان. فخلال عقدين، شارك الكرسي الرسولي في المؤتمر حول البيئة الإنسانية في ستوكهولم في العام 1972، وفي مؤتمر السكان في بوخارست في العام 1974، وفي مؤتمر فانكوفر حول المستوطنات البشرية في 1976 حيث نجح الكرسي الرسولي في إقناع الحاضرين بضرورة تخصيص مساحة لأماكن العبادة خلال تخطيط المستوطنات البشرية. وفي 1984، شارك الكرسي الرسولي في المؤتمر العالمي الثاني للسكان في مكسيكو، وفي مؤتمر المرأة في نيروبي في العام 1985. وقد تم إطلاق سلسلة جديدة من المؤتمرات مع مؤتمر القمة حول الأطفال في العام 1990 التي تلاها مؤتمر البيئة في ريو دي جانيرو في 1992 حيث دافع الكرسي الرسولي عن "حق الأشخاص في القيم الدينية والثقافية". بالإضافة إلى ذلك، فإن الكرسي الرسولي توصل إلى أن يتم صياغة عبارة من المادة الأولى من إعلان ريو بشأن البيئة والتنمية على هذا النحو: "يقع البشر في صميم الاهتمامات المتعلقة بالتنمية المستدامة". وفي المؤتمر العالمي لحقوق الإنسان في فيينا في العام 1993 دافع الكرسي الرسولي عن المبدأ القائل بأن "جميع حقوق الإنسان نابعة من كرامة الإنسان وقدره المتأصلين فيه". وفي العام 1996، شارك الكرسي الرسولي في مؤتمر الموئل الثاني في اسطنبول حيث دافع بنجاح عن الحق في مسكن محترم. وأود أيضاً أن أذكّر بمشاركته في مؤتمر روما لإنشاء المحكمة الجنائية الدولية. وفي إطار هذه الفعاليات والتواريخ المهمة، اسمحوا لي أن أشير إلى بعض الخطوط التي تبين حضور الكرسي الرسولي وعمله والتي تسمح لنا بأن نفهم على نحو أفضل تاريخاً دبلوماسيا ناشطاً ومعقداً في آن معاً.

  الدفاع عن حقوق الإنسان

 إن نقطة الالتزام الأولى للكرسي الرسولي على الساحة الدولية هي تعزيز حقوق الإنسان والدفاع عنها. وأود أن أشير هنا إلى المفارقة/التناقض الموجودة/الموجود في التزام الكرسي الرسولي على جبهة حقوق الإنسان – الساخنة في مجمل الأحيان. لا يغيب عن أي منكم كم أن علاقة الكنيسة كانت – ولا تزال- متضاربة  مع "أسباب المعاصرين" في هذا المجال بالذات. فحقوق الإنسان التي تم تطويرها كبرنامج تحرّر من قبل الكنيسة وضدّها، أصبحت اليوم، في ظل جوّ مشحون بالحذر والنزعة الفردانية، أحد الملفات الأكثر تجسيداً للالتزام الكنسي في مجال حقوق الإنسان. فالكرسي الرسولي يدعم ويشجع الدفاع عن حقوق الإنسان في كافة نشاطاته على الصعيد العالمي، ويحدد في هذه الحقوق الأرضية الملائمة لحوار بناء مع هيئات ثقافية وقانونية وسياسية ودينية من أجل تعزيز كرامة الإنسان.

 ولا شك في أنكم جميعاً تذكرون مساهمة الكرسي الرسولي الحاسمة – وهي ثمرة معارك ضارية خاضها في مؤتمري القاهرة وبيجين- كيما يتم الاعتراف بحق الحياة منذ لحظة الحمل وتكريس كرامة المرأة كشخص. ولعله من المفيد أن نتوقف عند هذا المشهد التاريخي لنشاط الكرسي الرسولي. فكما تعرفون، انعقد مؤتمر القاهرة حول السكان والتنمية في العام 1994 حيث اضطرّ الكرسي الرسولي إلى مواجهة وضع كانت حقوق الإنسان فيه عرضة للانتهاكات.

 لقد وحدت جماعات راديكالية جهودها مع جهود جماعات أخرى تحبّذ التنظيم السكاني الجامح والعشوائي بهدف تحويل الأنظار عمّا كان يُفترض أن يشكل محور مؤتمر "السكان والتنمية" باتجاه "الحقوق الإنجابية للمرأة". وفي المفاوضات بشأن مشروع خطة عمل المؤتمر، تعرضت صورة العائلة التقليدية للهجوم والإهانة، كما مورست ضغوط في القاهرة أيضاً لكي يتمّ اعتماد "الحق العالمي في الإجهاض". ولمعالجة هذا الوضع، خاض وفد الكرسي الرسولي مفاوضات مكثفة وشائكة. وفي نهاية الأمر، لم يتم اعتماد أي حق في الإجهاض، حتى إن إحدى فقرات وثيقة القاهرة تحرّم تحديداً اللجوء إلى الإجهاض "كوسيلة للتنظيم العائلي". غير أن المؤتمر خلُص إلى طلب مليارات الدولارات لتُستثمر في "الصحة الإنجابية" و"التنظيم العائلي"، في حين أنه بالكاد ألمح إلى تخصيص "أموال إضافية" قد تكون ضرورية لتنمية الدول الفقيرة.

 وفي بيجين، استعاد المؤتمر العالمي الرابع المعني بالمرأة في العام 1995 عدداً من المشاكل التي كانت محطّ خلاف بين المندوبين في القاهرة. وبالإضافة إلى العمل على قضايا مشروعة، كالقضاء على التمييز ضد المرأة، عملنا على التصدي لمجموعات راديكالية كانت تقول ب"حق" المراهقين بالإطلاع على الخدمات الطبية من دون "تدخل" أهلهم وكانت تدخل عبارة "بكل أشكالها" كلما وردت لفظة "العائلة" في خطة العمل. ومرة جديدة، مورست ضغوط من أجل أن يعترف المؤتمر للمرأة بحق إنساني في الإجهاض. وقد تمكن الكرسي الرسولي، بدعم من مجموعة صغيرة من الدول، من أن يستبعد، مرة أخرى، الاعتراف بالإجهاض "كحق إنساني" وأن يضمن أن يتم الإشارة إلى مسألتي "العائلة" والأمومة" في وثيقة المؤتمر.   

من البداية إلى النهاية، عرف البابا يوحنا بولس الثاني أن المشاكل في مؤتمري القاهرة وبيجين ذات صلة بحقوق الإنسان. وقد تابع بانتباه من روما مجريات هذين المؤتمرين وقدّم الدعم لوفد الكرسي الرسولي عبر تدخله مراراً وتكراراً. وقد شعر بوجه خاص بالمخاطر التي تتهدد كرامة المرأة والحق الأساسي في الحياة. وقبل بدء أعمال مؤتمر بيجين، ذكّر المشاركين بالتحذير الذي تضمنته رسالة "السلام في الأرض" Pacem in terris: "إن أساس أي مجتمع منظم ومزدهر هو المبدأ القائل بأن كل شخص بشري هو شخص، أي طبيعة تتمتع بذكاء وإرادة حرة. ومن هذا المنطلق بالذات فهو له حقوق وواجبات يتأتيان كلاهما، معاً ومباشرةً، من طبيعته التي هي بالتالي عالمية وثابتة وغير قابلة للتصرف". 

وما كان البابا يوحنا بولس الثاني يقصده  بقوله إن الحقوق الإنسانية متأصلة بالشخص البشري هو أننا جميعاً أصحاب هذه الحقوق منذ ولادتنا. واسمحوا لي أن أقرأ على مسامعكم ما جاء على لسان البابا الراحل في هذا الصدد: "إن الإعلان العالمي واضح: فهو يعترف بالحقوق التي يعلنها ولا يمنح هذه الحقوق، إذ إنها جزء لا يتجزأ من الشخص البشري ومن كرامته. وبالتالي فإن أحداً لا يستطيع أن يحرم شخصاً آخر من حقوقه، أياً يكن هذا الشخص، لأن ذلك يعني التعدي على طبيعته. إن كل الأشخاص، من دون استثناء، متساوون في الكرامة. وللسبب عينه، فإن هذه الحقوق يجب أن تُراعى في كافة مراحل الحياة وفي كل المستويات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية. إنها تشكل وحدة متكاملة تهدف بوضوح إلى تعزيز كل أوجه خير الإنسان والمجتمع".

 والالتزام العميق على جبهة الحق في الحياة ولتعزيز كرامة المرأة لا يعني أن الكرسي الرسولي لم يكن لديه لفتة عامة إلى القضايا المتصلة بتعزيز حقوق الإنسان. وفي هذا المجال، اسمحوا لي أن أتوقف عند ناحية كميّة من التزام الكرسي الرسولي وهي الناحية المتصلة بإنفاذ الحقوق الإنسانية التي يكثر التغني بها من دون أن يتم احترامها في المقابل. وبالفعل، ففي رسالة اليوم العالمي للسلام في الأول من كانون الثاني/يناير 2003 التي جاءت تذكّرنا بالذكرى الأربعين لصدور الرسالة العامة "السلام على الأرض" –وهي الوثيقة المرجع للكنيسة الكاثوليكية حول حقوق الإنسان النابعة من قلب البابا يوحنا الثالث والعشرين- كانت صرخة تنديد البابا يوحنا بولس الثاني تدوّي بشكل حزين ولافت إلى حدّ بعيد حين قال: "نحن نشهد تعمّق هوة مقلقة بين مجموعة من "الحقوق" الجديدة المروّج لها في المجتمعات المتقدمة تكنولوجياً وحقوق الإنسان الأساسية التي لا تُحترَم حتى الآن، خاصةً في المجتمعات المتخلفة: أنا أفكر، على سبيل المثال، في الحق في الغذاء، ومياه الشفة، والمسكن، وتقرير المصير، والاستقلال. إن السلام يتطلب تقليص هذه الهوة بشكل طارئ والتخلص منها بشكل نهائي ".

وتكمن النقطة الثانية لالتزام الكرسي على الساحة الدولية في العمل على تعزيز الحق في التنمية. إن الدول الأكثر فقراً وعوزاً هي بالأخص من ينتظر إنفاذ هذا الحق بشكل كامل، وهي تعي – وبحسب التحديد الشهير الوارد في الرسالة العامة "ترقي الشعوب" للبابا بولس السادس- أن "التنمية هو الاسم الجديد للسلام". ونحن ندرك تمام الإدراك أنه خاصة ابتداءً من المجمع الفاتيكاني الثاني، لطالما كان التبشير بالإنجيل، وهو رسالة الكنيسة الأولى، في تلازم وثيق مع مبدأ الارتقاء بالإنسان. وقد جنّدت الكنيسة لبلوغ هذه الأهداف جمهور المرسلين والمتطوعين الهائل عبر العالم، بالإضافة إلى تعبئة الالتزام الهادف للكرسي لرسولي في مختلف المحافل الدولية. من غير الممكن –وأنا لا أنوي القيام بذلك هنا- أن نعدّد المبادرات الأهم في هذا المجال. سوف أكتفي هنا –كما فعلت في قمتي ريو وجوهانسبرغ- بالتذكير بأن الأهم بالنسبة إلى الكرسي الرسولي هو التأكيد باستمرار على محورية الشخص البشري والشخص كأساس لمختلف سياسات التنمية البشرية المستدامة.   

وفي هذه المناسبات، شدّدتُ على ضرورة اعتبار الأشخاص البشريين، لاسيما الفقراء منهم، "مسؤولين عن تقرير مصيرهم". وفي مؤتمر الأمم المتحدة لتمويل التنمية الذي انعقد في مونتراي في المكسيك قمتُ باسم البابا يوحنا بولس الثاني بتوجيه دعوة ملحة إلى المجتمع الدولي لكي يتعهّد بالقضاء على الفقر في العالم من خلال استرجاع القيم الأخلاقية في الاقتصاد ووضع كرامة الشخص البشري في قلب عملية التنمية. يوم ذاك قلتُ ما يمكنني أن أردده اليوم أيضاً بالأولى: "إن عالم اليوم يغشيه سلام هش وتطبعه الوعود الخائبة. كثير من الأشخاص يعيشون حياة من دون رجاء، مع احتمالات ضئيلة بتحقيق مستقبل أفضل لهم أو لأولادهم أو الأجيال القادمة… إن عائلة الأمم المتحدة لا يجوز أن تقبل بأن يمرّ يوم آخر من دون أن تجري محاولة حقيقية لتحقيق هذه الأهداف من خلال تسجيلها تقدماً ملموساً باتجاه القضاء على الفقر". وفي الرسالة التي وجهها لمناسبة اليوم العالمي للسلام 2003، ذكر البابا يوحنا بولس الثاني، من بين الشروط الأساسية لإرساء سلام دائم، الاهتمام الخاص الذي يجب أن يحوط بتنفيذ الالتزامات والوعود حيال الفقراء: "إن عدم الوفاء بالوعود المقطوعة التي يعتبرها الفقراء ذات أهمية قصوى قد يشكل بالفعل خيبة أمل بالنسبة إليهم. انطلاقا من هذه النظرة إلى الأمور، إن عدم احترام الالتزامات تجاه الأمم التي هي في طور النمو يشكل مشكلة أخلاقية حقيقية ويسلط الضوء أكثر على ظلم التباين القائم في هذا العالم  " 

 تعزيز الحق في السلام وحل الصراعات

 أما النقطة الثالثة التي تميز عمل الكرسي الرسولي فتتعلق بتعزيز الحق في السلام. وبالحديث عن عمل الكرسي الرسولي المسالم في مختلف المنظمات الدولية، في كل المسائل المتعلقة بنزع السلاح وعدم انتشار ونزع أسلحة الدمار الشامل، أجد نفسي ملزماً بأن أتوخى الإيجاز، إذ إن كلاً من هذه المجالات يستحق خطاباً كاملاً يتناوله بالتفصيل. 

والنشاط المسالم الذي يقوم به الكرسي الرسولي في مختلف المنظمات الدولية يشمل التدخلات الآيلة إلى تشجيع فض النزاعات القائمة فعلياً وتلافي النزاعات المحتملة. بالنسبة إلى الفئة الأولى، لا يمكنني إلا أن أذكّر بما كان البابا يوحنا بولس الثاني يطلق عليه تسمية "الحروب المنسية". منسية هي، خاصة من قبل وسائل الإعلام وليس الكنيسة التي ما انفكت يوماً تعمل على الوفاء بالتزاماتها في هذا المجال، لاسيما في الحروب التي تدمي القارة الإفريقية. وهو التزام راسخ من أجل رأب الشروخ الاجتماعية التي هي في أساس الصراعات المختلفة المنتشرة في القارة. إن إفريقيا بحاجة ماسة إلى السلام والرجاء. وهذا يفترض دعماً حاسماً من المجتمع الدولي، لا لوقف الحروب الجارية وحسب بل أيضاً لمكافحة أسباب هذه الصراعات في العمق بما يسمح بإرساء أسس سلام وتنمية مستدامة. وما عسانا نقول عن التدخلات المتواصلة ليوحنا بولس الثاني وبندكتس السادس عشر من أجل السلام في الشرق الأوسط؟ فحيال التفاقم المستمر للأزمة في تلك المنطقة، كرّر الكرسي الرسولي أن "الحل لهذه الأزمة لا يمكن أبداً أن يُفرض باللجوء إلى الإرهاب أو إلى النزاعات المسلحة، باعتقاد أن الانتصارات العسكرية قد تكون الحل". وفي ما خص تدارك النزاعات المحتملة، فإن تدخل البابا يوحنا الثالث والعشرين بخصوص أزمة الصواريخ في كوبا قد شكلت في الماضي، قبل ستة أشهر من صدور رسالة "السلام على الأرض"، محطة تاريخية مهمة، في وقت كان العالم على مشارف حرب نووية محتملة. وفي أيامنا، لا بد من أنكم كلكم تذكرون العمل الدءوب، على صعيد الرسالة والدبلوماسية، الذي قام به البابا يوحنا بولس الثاني والكرسي الرسولي لتجنيب العراق أهوال الحرب. واندلاع الحرب هناك قد حدا البعض إلى اعتبار أن البابا والكرسي الرسولي قد أخفقا في المهمة. ولكن الأب الأقدس والكرسي الرسولي لا ينظران إلى الأمور من هذا المنظار، ذلك أن معايير التحقق من فعالية عملهم مختلفة تماماً؛ فالأولوية بنظرهما هي لمعيار الصليب الذي يجعل القديس بولس يقول في مواجهة تتعارض مع السياق الثقافي السائد في عصره: "…لأن الحماقة من الله أكثر حكمة من الناس، والضعف من الله أوفر قوة من الناس" (1 قور 1، 25). في كل الحالات، من الأكيد أن البابا يوحنا بولس الثاني قد نجح في أن يحول دون أن تؤول الحرب في العراق واجهة لصدام مربك ومشؤوم بين الأديان.

   النظام العالمي

 لقد أعرب الكرسي الرسولي بألف طريقة وطريقة عن ثقته بما لمجتمع الشعوب من قيمة يعبّر عنها من خلال علاقات دولية تتسم بالاحترام المتبادل والتضامن المشترك وعبر الهيئات الدولية التي تشكل نوعاً ما ركيزة حياة هذا المجتمع وحيويته، وفقاً لاقتراحات رسالة "السلام على الأرض" السعيد الذكر البابا يوحنا الثالث والعشرين من أجل إنشاء نظام عالمي ترعاه سلطة عامة عالمية. وبالرغم من القيود المتعددة ومواطن الضعف الخلقية والحاجة الملحة إلى تعديلات ومراجعات لم تعد تتحمل التأجيل، يبقى المجتمع الدولي والنظام المتعدد الأطراف عنصرين أساسيين في "الفلسفة السياسية" والنشاط اليومي لدبلوماسية الكرسي الرسولي، كما أكّد وزير خارجية الفاتيكان نيافة الكاردينال تارتشيزيو بيرتوني خلال انعقاد مؤتمر مهم في الأكاديمية الحبرية للعلوم الاجتماعية مؤخراً. انطلاقاً من هذا المنظور الآني والحاسم بالنسبة إلى مستقبل المجتمع الدولي وبالنظر إلى الصعوبات الحالية، فإن الكرسي الرسولي يظهر كشاهد رجاء يدعو المجتمع الدولي إلى التحلي بالشجاعة وكلسان حال دعوة المسيح لبطرس – على الصعيد الأخلاقي والسياسي والثقافي الدولي- حين قال: "سر في العرض" (لو 5، 4): "أيها المجتمع الدولي، »سر في العرض!«". حول هذا الموضوع، وفي مقدمة المجلّد الذي تحدثت عنه بعنوان "كلمات فاعلة" كتب الكاردينال أنجيلو سودانو، سلف الكاردينال بيرتوني يقول وهو على صواب: "في بداية هذه الألفية التي تشهد إرهاباً أعمى وعنفاً حقوداً، تبدو الدعوة إلى التحلي بالشجاعة في محلّها بالضبط. فأحداً – وبالتحديد العامل في السلك الدبلوماسي-  يجب ألا يفقد الأمل من إمكانية إرساء نظام دولي منفتح على العدالة والحرية والتضامن والسلام. فالتاريخ لا يعلمنا أن نكتفي بدور ثانوي، بل بالعكس تماماً، إنه يدعونا إلى أن نكون رجالاً في الطليعة وأبناء رجاء".

  خاتمة

في مسيرتي الدبلوماسية الطويلة، لطالما قيل لي من باب المديح: "إن دبلوماسية الكرسي الرسولي هي الفضلى!". أنا لا أدري مدى صحة هذا التصريح. ولكن سواء أقيلت هذه العبارة بنبرة إعجاب أو بظل من التهكم والسخرية، فهي بحاجة إلى توضيح لأن الرأي العام يطلق أحياناً على نشاط الدبلوماسي – الذي غالباً ما يجهل ماهيته- أوصافاً وأحكاماً سلبية. واسمحوا لي أن أقول إن الدبلوماسية الفاتيكانية لها استحقاقات كثيرة لا تستمدها من قدراتها السياسية أو الدبلوماسية البحتة بقدر ما تستمدها –وفي المقام الأول- من قدرتها، في مختلف السياقات الوطنية والدولية، على إعطاء مكانة عامة ورؤيا نبوية للخطاب الديني والأخلاقي حول مصير الرجال والنساء وحول حقوقهم الأساسية. لقد خطّت الدبلوماسية الفاتيكانية إحدى أهم صفحات تاريخ الكنيسة المعاصرة وأكثرها دلالةً، في البعد الإنجيلي للحوار الأخلاقي والثقافي مع العالم المعاصر الذي يتوق إليه المجمع الفاتيكاني الثاني، مع الدستور الرعوي Gaudium et spes، وهو حوار ما انفكت تعاليم البابوات تشجعه وترجئه من خلال اقتراح العقيدة الاجتماعية. وإن لم أعد أعمل في السلك الدبلوماسي، فأنا ما زلت أشعر أنه من واجبي أن أحيي دبلوماسية الكرسي الرسولي التي كانت وستبقى، ضمن عائلة الأمم الكبرى، "شاهد حقيقي على كرامة الإنسان"؛ وبالنسبة إلى هذه الرسالة، لن نسأم يوماً من السعي إلى تحقيق توافق الأمم الحسنة النية حول قضايا العدالة والسلام الكبرى. وفي الختام –أخيراً وليس آخراً!: إن سر النجاح الحقيقي في عمل الكنيسة على الساحة الدولية أيضاً نجده في الصلاة. في أحد كلماته إلى السلك الدبلوماسي، وفي إشارة إلى السلام، قال البابا يوحنا بولس الثاني: "لعل بعض الدبلوماسيين سيتساءلون: أنّى للصلاة من أجل السلام أن تعزز السلام؟ والجواب هو أن السلام هو أولاً عطية من عند الله. إن الله هو أساسه (…). وهو من يدوّن في ضمير الإنسان قوانين تلزمه باحترام الحياة وشخص القريب؛ وهو لا ينفك يدعو الإنسان إلى السلام (…). فهو يريد أن يتعايش الناس (…). وهو يساعدهم أيضاً على أن يحققوا السلام أو  أن يسترجعوه في داخلهم بواسطة روحه القدوس". ويمكن للكنيسة وللكرسي الرسولي أن يؤديا دورهما في تطوير الإنسان وتعزيز حقوقه الأساسية، وتفعيل السلام والتنمية بشكل أفعل إذا ما ركزا جهودهما بدقة أكبر على ما يميزهما: أي الانفتاح على الله وتعليم مبادئ الأخوة العالمية وتعزيز ثقافة التضامن. هذا هو البعد الذي انخرط فيه الكرسي الرسولي ليحقق رسالته التي نحن اليوم أحوج إليها من أي وقت مضى، وقد آمن راجياً على غير رجاء (روم4، 18).

 

\"\"