يُذكر أن 26يونيه هو اليوم العالمي لمساندة ضحايا التعذيب بحسب ميثاق الأمم المتحدة. وقد جاء في ديباجة ميثاق الأمم المتحدة، سان فرانسيسكو في 26يونيه 1945م " نحن شعوب الأمم المتحدة وقد آلينا على أنفسنا أن ننقذ الأجيال المقبلة من ويلات الحرب التي في خلال جيل واحد جلبت على الإنسانية مرتين أحزاناً يعجز عنها الوصف، وان نؤكد من جديد إيماننا بالحقوق الأساسية للإنسان وبكرامة الفرد وقدره وبما للرجال والنساء والأمم كبيرها وصغيرها من حقوق متساوية وان نبين الأحوال التي يمكن في ظلها تحقيق العدالة واحترام الالتزامات الناشئة عن المعاهدات وغيرها من مصادر القانون الدولي، وان ندفع بالرقي الاجتماعي قدما، وان نرفع مستوى الحياة في جو من الحرية أفسح". هذا ما جاء بنص الميثاق الخاص بضحايا التعذيب، بالطبع القصد هنا بالتعذيب هو كل تعذيب قائم على ضحايا الحروب من تعذيب جسدي ونفسي ومعنوي.
الحرب العالمية الأولى والثانية انتهت بكوارث فوق احتمال البشر، والنتائج كانت غير إنسانية على الإطلاق وفاقت كل التصورات، ولكن الحرب بدون أسمائها أولى أو ثانية لم تنتهي حتى الآن. ولا نحتاج لدليل بوجود سلسلة الحروب التي مرت بأجزاء متناثرة من العالم وخاصة بالشرق الأوسط مروراً من حرب 48 إلى حرب العراق والأحداث اليومية بحياة الإنسان العربي. نص ميثاق الأمم المتحدة الخاص بالتعذيب ربما وضع يوم عالمي لنتذكر المعذبين من حولنا، كما وضع حد لتعداد الحروب أولى وثانية حتى الآن. ولكن….من الذي سيضع حد للحرب عامة والتعذيب خاصة بعد مرور 62 عاماً على هذا النص؟
مازالت متابعة أحداث خطف الصحفي البريطاني آلان جونستون من قبل جماعة جيش الإسلام مستمرة. وبآخر تطورات الحدث ظهر لنا آلان جونستون مرتدياً حزام على الموضة أي حزام ناسف مناشد حماس والحكومة البريطانية أن لا يلجئوا إلى القوة لإنهاء الأمر، كما طلب جونستون من الـ بي بي سي والبريطانيين الذين يدعمونه أن يساندوه في هذه المناشدة ويطالبوا معه بالعودة إلى المفاوضات التي كانت قائمة لإطلاق سراحه ومع التطورات التي تحدث بغزة أصبحت في خبر كان.
تسجيل جونستون يشبه مشاهد كثيرة لو لم نراها فالأكيد أننا سمعنا عنها، وهى موضة هذا العصر، ارتداء الأحزمة الناسفة وسواء المرتدي كان قد ارتداها بنفسه وإرادته مُسلماً كيانه وإرادته لغيره أو مثل هذا الصحفي كانت غصباً فهي تظل لغة من لغات عصرنا الحديث.
لا أدري كيف يكون شعور الإنسان وهو مرتدي هذا الحزام الناسف برضاه مقتنعاً انه بعمليته الفدائية كما يؤمن يجاهد في سبيل وطنه. وإنما أحاول أن أتخيل نفسي مرتدية هذا الحزام بظروف مثل جونستون، الذي لم يكن كل ذنبه غير أنه أحب غزة وقبل بها مقرا دائما له، وعمل بها ثلاث سنوات. شعوره وهو يطل على العالم، على كل من عرفوه، على زوجته وأولاده وهو مثبتاً على كرسي، مرتدياً حزام ناسف، عليه أن يقول كلمات محددة. كيف يكون هذا الشعور؟ كيف يكون وهو بهذا الضعف!؟ قاسياً على الإنسان الذي يملك الحرية يشعر بأن لحريته حدود0 وأن الزمان ينشب أظفار الفناء والتناهي 0
نحن كمشاهدين رأينا وسمعنا جونستون، وربما وقفتنا أمام منظره لم تكن أكثر من كونه مشهداً عابراً ضمن عشرات المشاهد الأصعب يومياً من ضرب وقتل ونسف وعذابات متعددة الأشكال. ولكن بالطبع كان هذا المشهد مختلفاً لمن يعرفه وخاصة أسرته المعذبة بفراقه بهذا الشكل. مُناشدة جونستون بعدم استعمال العنف والقوة لإطلاق سراحه كانت الأقوى من كل الأخبار والمؤتمرات والقمم المنعقدة هنا وهناك. كانت الأهم من كل تصريحات الزعماء والرؤساء. كانت تعبر لا عن ضعف وقلة حيلة، إنما عن إحساس وقوة ومعاناة. الكل هنا وهناك يجلس على طاولة المفاوضات وبقاعات المؤتمرات وأمامه عشرات الميكروفونات ومن خلفه الأكثر من الحرس ليقول وكأنه لم يقل شيء. وتنتهي مهمته عند حدّ التصريحات. إنما جونستون عندما تكلم نطق بما يحتاجه العالم الآن. إلى وقفة مع الذات، إلى نظرة لضعف قائم لا مهرب منه، إلى نتيجة غرور الإنسان وكبرياؤه القادر على كل فعل أي شيء. نعم فهو قادر على البحث عن كل ما يدمر ويهدم ويـُبعد. جونستون قال أنني هنا بمفردي وانتم بعيدون تتقاتلون بالكلام. الأهم عندكم إلا تنهزموا، الأهم أن تطلقوا صراحي حياً كنت أو ميتاً. كلمات الصحفي كانت جرس انتباه لمن يأخذ العنف مبدأ ونهجاً بالحياة. والخوف إن لم يكن هناك أحدا يسمعه، وتكون كلماته صرخة بوادي مظلم من العنف والعندّ. مئة وخمسة أيام مرت على جونستون وهو مُختطف مقيد، نجهل جميعاً وضعه الحالي كيف يكون، ليس فقط وحده بهذا الوضع إنما هناك الكثيرون داخل السجون والمعتقلات وكهوف المُختطِفين. وكما قال وليم شكسبير”الزمن، بطيء جداً لمن ينتظر…سريع جداً لمن يخشى…طويل جداً لمن يتألم". فإلى متى سيظل هؤلاء منتظرون فعل لا قول من أولي الأمر؟ إلى متى سينتظرون تصرفاً حكيماً بعيداً عن الغرور الإنساني وبعيداً عن العنف الوراثي؟ فلقد ورثنا العنف واحتقار الآخر والتعالي عليه منذ زمن وها أن مِنا مَن يَدفع الثمن.
باليوم العالمي لمساندة ضحايا التعذيب نحتاج إلى إعادة النظر لكل ما يحدث من حولنا، نحتاج أن نوثق ميثاقاً جديداً للأمان والسلام. نحتاج أن نصغي لصوت الذين يعانون معاناة حقيقية ويتألمون، فهم الأقدر على اتخاذ القرار لأنهم يشعروا بالألم ويدفعوا ثمناً غالياً من حياتهم وكرامتهم. العالم يحتاج أن يُصغي لكلمات جونستون…لا تطلقوا سراحي بالعنف، إنما بالتفاهم والإصغاء والقبول. ليقبل كل منكم رأي الآخر ويحترمه مهما اختلفا في الرأي حتى أعيش، حتى يعيش العالم بسلام. حتى يقف في وجه التعصب والكراهية والاختلاف. حتى لا نعود نُهين مَن همّ أضعـف مِنا، ونقبل إهانة من هم أقـوى مِنـا ، حتى لا نعود نقبل احتلال دولـة لأخـــــرى. ولا نعود نؤكــــــد أن البقـــــاء للأقـــــــوى. بل البقاء للاحترام و قبول الآخر…البقاء للحبّ…البقاء للسلام.