المطارنة الموارنة: "نداؤنا يصدر من قلب جريح، من جراء ما آلت اليه حال بلدنا الذي اصبح على شفير الهاوية"
ألنداء الثامن لمجلس أساقفة لبنان الموارنة
بكركي/ لبنان، 20 سبتمبر 2007 (zenit.org). عقد مجلس المطارنة الموارنة، برئاسة البطريرك مار نصرالل بطرس صفير، اللقاء الشهري في مقر الصرح البطريركي في بكركي. ننشر في ما يلي النداء الصادر عن مجلس المطارنة الموارنة.
"نداؤنا هذه السنة يصدر من قلب جريح، من جراء ما آلت اليه حال بلدنا الذي اصبح على شفير الهاوية، لشدة ما اصابه من محن، وتناوبت عليه من آفات، واثخنت جسمه من جراح، لكننا نأمل ان تعاود ابناءه يقظة ينتبهون معها الى ما وصلت اليه اوضاعهم، فيستيقظون من غفلتهم ويعود بعضهم الى بعض، ليتكاتفوا ويتضافروا ويعملوا معا على انقاذ بلد ليس له من ينقذه سواهم، وقديما قيل: "ما حك جلدك مثل ظفرك"، وعبثا نتلفت الى كل الجهات يمينا وشمالا، شرقا وغربا، فلن نلقى ما نبحث عنه في غير ارض ابصرنا النور عليها، وتحت سماء تفيأنا ظلالها، وكان الله يحب المخلصين، وطوبى لأنقياء القلوب، فإنهم يعاينون وجه الله.
1- استحقاق مصيري
يواجه لبنان اليوم استحقاقا مصيريا، وهذا الاستحقاق هو انتخاب رئيس للجمهورية، الذي يتوقف على حسن اختياره، مصير الوطني اللبناني، ولا سبيل الى نهوض لبنان الا بتعاون رئيسه وحكومته ومجلس نوابه لتستقيم الامور فيه، ويستعيد الوطن مكانته بين الامم، لكنه بات يعاني صعوبة الاتفاق على اختيار مواطن صالح يبادر الى انقاذ البلد مما يتهدده من مخاطر، وقد كثر فيه المرشحون للمنصب الاول في الجمهورية، وكثر المنددون بأي مرشح لمجرد ذكر اسمه، فتنهال عليه الانتقادات من كل صوب، وسقى الله عهد الكتلتين الدستورية والوطنية يوم كان رئيس إحدى الكتلتين ينادى به رئيسا بما يقارب اجماع الاصوات.
والمأمول ان ينتخب رئيس يجمع بين اللبنانيين من جميع الفئات، ومجربا وذا خبرة في معالجة الشأن السياسي، ورأي حصيف ويقوى على اخذ قراره بذاته، يفرض هيبة الدولة، ويعمل على بسط سلطتها على جميع المواطنين، ومن واجبه ان يعرف انه انتخب ليحقق رغبات الشعب اللبناني، لا ليرضي اهواء هذا او ذاك، او تلك الدولة ومطامعها، او ذاك الطرف، او تلك الفئة من الناس. وقد قام دولة رئيس مجلس النواب بمبادرة ترمي الى الاتفاق على اختيار رئيس للجمهورية يجمع عليه اللبنانيون، ونأمل لهذه المبادرة ان تنجح.
ومن واجب النواب المحترمين ان يحضروا جلسة الانتخاب قياما بما عليهم من مسؤولية تجاه وطنهم ومواطنيهم، والاستنكاف في هذا المجال يعتبر مقاطعة للوطن، وما من احد مهما علا قدره وعظم شأنه باستطاعته ان يقاطع وطنه، ويسهم في عرقلة اموره.
2- الهجرة الكثيفة واسبابها
اذا تعذر تحقيق هذا الاستحقاق الرئاسي، فان مصير البلد سيكون قاتما، ما يثير قلق اللبنانيين وغضبهم، ويتحمل هذه المسؤولية رجال الحكم والسياسة امام الله والضمير والتاريخ. هذه النظرة المتشائمة الى الوطن حملت وتحمل العديد من المواطنين على هجره التماسا للطمأنينة في ارض يلقون فيها ما ينشدون من امن وراحة بال.
يقال ان ما يقارب المليون لبناني، من كل الطوائف على اختلافها، هجروا لبنان اما طلبنا للقمة العيش بعدما ضاقت بهم ارض بلدهم، واما قرفا من وضع سئموه فلم يجدوا لهم مخرجا منه غير الهجرة، واما يأسا من تحسين الاوضاع التي تزداد سوءا في هاتين السنتين الاخيرتين. وان ما يخشاه معظم اللبنانيين هو ان يصيبهم ما رأوا انه قد أصاب سواهم من سوء حال، فلاذوا بالفرار، وقد سبق ان كانت الهجرة افرادية تقتصر على بعض افراد العائلة، فاصبحت تشملهم جميعا. ومعلوم ان الذين هاجروا قد يذكر ابناؤهم واحفادهم وطنا هجره اجدادهم، لكنهم مع مرور الزمن، وبعد الشقة وتقادم العهد، لن يبقى من بينهم من يذكر وطنا هاجر منه اجداده. وما أصدق المثل القائل: "بعيد عن العين بعيد عن القلب"، والهجرة التي تقتصر على البلدان العربية قد يعود منها الى لبنان الذين غادروه، ولكن الذين يستوطنون بلدانا بعيدة كأوستراليا وكندا والولايات المتحدة وسواها، فهيهات ان يعودوا، ويخشى أن تبتلع الهجرة، إذا استمرت، صفوة اللبنانيين.
إن أسباب الهجرة كثيرة منها – وهو أبرزها- انتفاء أسباب العمل، خصوصا بالنسبة الى الشبان الذين حملوا في معظمهم شهادات جامعية ويروحون يبحثون عن عمل في بلدهم فلا يجدونه، فيضطرون الى الهجرة التي توفره لهم، ومعلوم أن خسارة الادمغة بالنسبة الى كل بلد هي خسارة ليست كبيرة وحسب، بل مميتة.
الوضع العام الذي لا يبعث على الاطمئنان يحمل الكثيرين من اللبنانيين، ومن بينهم نواب ومسؤولون، على مغادرة لبنان الى اوروبا، او الى بعض البلدان العربية سعيا الى الطمانينة وخوفا من اغتيال تناول اقرانا لهم دونما شفقة، ويكفي ان نعلم انه منذ سنة 2004 جرت في لبنان اربع عشرة حادثة اغيتال نجا منها اربعة اشخاص مستهدفين، وهذا أمر لم يعرفه لبنان طوال الثلاثين سنة التي مرت عليه، على الرغم مما جرى على أرضه من اقتتال ومآس وفواجع، وفي الفترة الاخيرة، سلك كثير من النواب الطريق عينها، متخليا عن دوره، ولو لوقت محدد تلاقيا للاغتيال.
وهناك مؤشر يدل على ان كثيرين أصبحوا عبيدا للمال، وعلى استعداد لبيع نفسهم لمن يدفع اكثر، وهذا ما تناقله غير واحد من العارفين في الانتخابات الفرعية الاخيرة، فهل الفقر المتزايد يبيح مثل هذه الاعمال المشينة؟ المال ليس صنما يعبد بل خادم مطيع.
ركود الحركة الاقتصادية الذي عرفه لبنان، وخصوصا العاصمة، وإقفال المحال التجارية والمؤسسات السياحية، بما فيها من فنادق ومطاعم ومقاه من جراء الاعتصامات القائمة في وسطها، مما حمل اصحابها على نقل اعمالهم الى بعض البلدان العربية في انتظار الرحيل الى ابعد منها، وقد يكون رحيل لا عودة بعده الى لبنان.
وقد امتنع رواد لبنان عن المجيء اليه، وبخاصة لقضاء فصل الصيف فيه، وكيف يقبلون عليه، واخبار الاقتتال والمتفجرات التي تودي بحياة السكان الامنين، لا يزال اصحابها ناشطين يتربصون بضحاياهم، وهذا ما زاد خسائر لبنان زيادة باهظة.
الحروب التي دارت رحاها في تموز وآب من السنة الفائتة، وفي هذه السنة في مخيم نهر البارد، وكان مقدرا لهذه الاخيرة الا تطول اكثر من اسبوع، فاذا بها قد امتدت الى اكثر من ثلاثة اشهر، ولما تنته نتائجها وقد تسببت بخسائر بشرية فادحة للجيش اللبناني، لكنها لم تنل والحمد الله من جهوزه وانضباطه وصحة عزمه.
الخلافات القائمة بين أهل السياسة في لبنان والجدل الذي لا ينتهي في ما بينهم، وهو خلاف سياسي على أمور مصيرية تتناول الخيارات الاساسية للوطن، وهو إما أن يكون الوطن سيدا حرا مستقلا يرعى شؤون ابنائه بمسؤولية كاملة، واما ان يكون منقوص السيادة والحرية والاستقلال، وان يكون تابعا لسواه، وقد رأينا الى أين أوصلتنا التبعية التي عانيناها طوال ما فوق الربع قرن، فبدل أن ننصرف الى معالجة قضايانا بتجرد وإخلاص، نرانا نولي وجوهنا شطر هذا او ذاك من البلدان، لنصغي الى ما يهمسون به إلينا، فنسرع الى العمل بارادتهم ونتجاهل انه ما من احد في الدنيا يفضل مصلحة غيره على مصلحته الخاصة، ونفرح بما يمدوننا به من سلاح ومال لنقتتل ونتفانى. وهل من جهالة تفوق هذه الجهالة؟
لذلك يجب إزاحة الغشاوة عن العيون والتطلع الى المستقبل بعيون بصيرة وعقول نيرة ترى ما في الوضع من خطورة، وقد وصل البلد الى حافة الافلاس والانهيار وتجاوزت ديونه الاربعين مليار دولار أميركي، وكثير من اللبنانيين من ذوي الغايات والاغراض مستمرون في مماحكاتهم العقيمة.
وعلاوة على ذلك، برزت بين اهل السياسة في المدة الاخيرة لغة تخاطب جديدة لم يألفها اللبنانيون من قبل، وهي لغة خشنة فيها الكثير من التحقير والازدراء للآخر، ومن لا يحترم نفسه فأنى له ان يحترمه الناس؟
3- اين الدواء؟
اذا كانت كل طائفة كبيرة تحاول ان تهيمن على من سواها بما تفتني من سلاح وتحصل عليه من مال، من انى جاء، وتبسط سيطرتها بالقوة والتخويف على ابناء وطنها، فلا نرى إذ ذاك لهذا المرض من دواء، ومعلوم ان في لبنان ثماني عشرة طائفة من المفروض ان تعيش جميعا على قدم المساواة امام القانون في جو من التكافل والتضامن والاخوة، ولكن اذا كانت كل طائفة تعي ما عليها من مسؤولية تجاه الوطن، وتجاه كل من طوائفه وابنائه وتبذل ما بوسعها في سبيل تعزيز العيش المشترك، دونما تطلع الى بسط الهيمنة على سواها، حينئذ سيعود الناس يرددون ما قيل يوما في تاريخ لبنان، حتى في العهد العثماني الذي حكم سلاطينه هذا الوطن طوال اربعمئة سنة "هنيئا لمن له مرقد عنزة في لبنان".
ولكن كيف سيتوافر هذا المناخ من الطمأنينة والثقة لجميع اللبنانيين ما دامت هذه الفئة او تلك من بينهم تكدس الاسلحة، وتحشد المقاتلين، وتدربهم على القتال وتكاد تقتطع لنفسها امارة تستأثر بها وتمنع الذين يريدون الدخول اليها من تحقيق رغبتهم، او فضولهم، ولا تحسب اي حساب لسواها من الناس، ولا للدولة القائمة، وتستقدم ما تريد من البضائع دون رقيب او حسيب، وكأن لا رجال جمارك يسهرون على ما يدخل البلد من بضائع محظورة وغير محظورة، وهذا دونما شك، ينذر بتفكك خطير وبقيام دويلات متناحرة متحاربة على انقاض الوطن الواحد.
الدواء أن يعود كل منا الى رشده وضميره ووطنه، وبعضنا الى بعض لنشمر عن سواعد الجد، ونبني وطننا المشترك، وهو وطن فريد قل نظيره في العالم، وان ما قاله فيه السعيد الذكر البابا يوحنا بولس الثاني لا يزال يتردد صداه في كل الاذهان، ان لبنان رسالة الشرق والغرب، انه رسالة حرية وعيش مشترك بين مسيحيين ومسلمين، في هذا العالم الفسيح كتل اسلامية كثيفة وكتل مسيحية لا تقل كثافة لا تعايش بينها، اما في لبنان فهناك عيش مشترك منذ زمن بعيد يجب صقله وتشذيب ما يشوبه من نوافل تعمل على تشويهه وإعادة ما نال فرادته من جراء تقادم العهد من غضون.
ويمتاز لبنان في هذه البقعة من العالم بما قد لا نجده عند سواه من البلدان، وهو مناخ الحرية والتعاطف الانساني، هذه الحرية هي التي تخلع عليه رداء من الجاذبية تحببه الى ابناء الشرق والغرب، ولو لا رعونة بعض ابنائه الذين يريدون ان يستأثروا به ويطيعوه بطابع العنف والفردية، هذا فضلا عما حباه الله من جمال طبيعة، واعتدال مناخ وعمق تاريخ وثقافة جعلت ابناءه ينفتحون على الشرق والغرب واذا اللبنانيين قد انتشروا في معظم بلدان العالم مما مل الشاعر حافظ ابراهيم على القول فيهم: رادوا المناهل في الدنيا ولو وجدوا الى الهجرة ركبا صاعدا ركبوا
ومع ذلك، يتقاعس المسؤولون عندنا، منذ زمن بعيد، في قيدهم كمواطنين، لهم حق، كسائر المواطنين في العالم، بالاشتراك في الانتخابات النيابية وفي الحياة الوطنية، وهذا اغناء للوطن واثراء له.
4- تعالوا نبني وطنا
ان الاوطان تغتذي بتضحيات ابنائها وتزدهر، ونحمد الله على ان الجيش اللبناني بدا متماسكا أكثر من كل مرة، وواجه ضباطه وافراده الموت ببسالة وعزم أكيدين، وقد مرت عليه في النصف الثاني من القرن اسابق احداث ادت الى انقسامه وشرذمته، لكنه هذه المرة، ثبت في وجه المحنة، وهذا ما يهنأ عليه قائدا وضباطا وجنودا.
والوطن في حاجة ماسة الى جميع أبنائه، أيا تكن أعمالهم واختصاصاتهم، ومهاراتهم، وهو في حاجة الى ان يساعد اقرباؤهم فيه ضعفاءهم واغتياؤهم ففقراءهم واصحاؤهم معاقيهم ومرضاهم، خصوصا في هذه الايام الصعبة التي بات فيها معظم العامة من الناس يعيشون عيش الشح والتقتير.
ويجب ان نرسخ في الاذهان ان الوطن في حاجة الى جميع مواطنيه، اما اذا فكرت كل مجموعة منهم في بناء وطن مستقل، وبمعزل عن سائر المجموعات، ودون ان تحسب حسابا لسواها من المجموعات فلا يبقى انذاك من وطن يستحق هذا الاسم.
وانه لمن المؤلم ان يذهب ابناؤنا الى بلدان العالم ليسهموا في بناء أوطان مزدهرة ويتركوا وطنهم للطارئين الوافدين عليه من كل حدب وصوب.
5- موجبات المرحلة في هذه الفترة من تاريخ لبنان
ان هذه الفترة من تاريخنا عصيبة، يقتضى لمعالجتها الكثير من الحكمة، والرؤية وطول الاناة، ونأمل ان يرتفع جميع المسؤولين من اللبنانيين الى مستوى هذه المرحلة، فلا يبحث احد منهم عن مصلحته الخاصة، بل علينا ان نبحث جميعا عبر حوار صريح عن مصلحة البلد المشتركة، وان نعرف معرفة اليقين ان مساحة لبنان أضيق من ان تقسم، وأن عدد سكانه أصغر من أن يجزأ، وأن علينا ان نقتنع بأنه مكتوب علينا ان نعيش معا على قدم المساواة امام القانون في جو من الاخوة والتعاطف والمحبة.
ولا يجوز ان ننظر الى وطننا نظرة تشاؤم، على الرغم مما يعاني من مشاكل، فيما دول العالم تنظر اليه نظرة تفاؤل وتقدير، وتعلن أنها على استعداد لمساعدته لينهض من كبوته، وخير برهان على ذلك ارسالهم اليه ابناءهم في نطاق القوات الدولية ليساعدوه على اعادة الامن والسلام الى ربوعه. ولا يجوز ان نتلهى بالترهات فيما نحن مقبلون على استحقاق يتعلق به مصير البلد الى حد كبير، وهو انتخاب رئيس للجمهورية، وهذا امر يرتب على كل اللبنانيين وبخاصة على المسؤولية من بينهم من نواب واهل الحكم مسؤولية تاريخية امام ضميرهم ووطنهم والتاريخ.
الختام
لبنان وطننا الذي تحنو تربته على رفات آبائنا واجدادنا، وهو مسرح صباء فتياننا وفتياتنا، وهو مقيل عثراتنا ومفرج كربتنا ومطمح آمالنا، فحرام ان يحل به على ايدينا ما يخدش بهاء وجهه الصافي، ويمزق وحدة ابنائه، وينال من تاريخه الحافل وماضيه المجيد، ومستقبله الواعد.
وفي الختام، إننا ندعو جميع اللبنانيين الى ان يرفعوا عيونهم وعقولهم الى الله الذي نؤمن به جميعا، كل على طريقته، لكي يسألوه ان ينتزع من قلوبهم ما يسكنها من حقد ومرارة، ويحل محلها المحبة بعضهم البعض، ويجمع صفوفهم على انقاذ وطنهم لبنان الذي اصبح على شفير الهاوية، ان لم يتداركوه، وهو يستصرخهم بكل جوارحه، ومن له سواهم في وجه من يضمرون له العداء والزوال؟ ولكنه باق على مدى الدهر، كما بقى في ما مضى من الزمن، وله ربه الذي يرعاه وقلوب جميع ابنائه التي تفتديه، ليظل وطن الحرية والاخاء والسلام