فيليتري، إيطاليا، 25 سبتمبر 2007 (Zenit.org)
ننشر في ما يلي تالعظة التي ألقاها البابا بندكتس السادس عشر صباح يوم 23 سبتمبر 2007 خلال قداس احتفالي في ساحة كاتدرائية القديس إكليمنضوس بمناسبة الزيارة القصيرة التي أجراها قداسته إلى أبرشية فيليتري-سينيي على بعد 25 ميلاً جنوب شرق روما.
أيها الإخوة والأخوات،
لقد عدت بكل سرور إليكم لأترأس هذا الاحتفال الافخارستي استجابة لدعواتكم المتكررة. أعود إليكم بكل سرور لألتقي برعيتكم التي كانت لسنوات كثيرة رعيتي بطريقة خاصة والتي ما زالت عزيزة على قلبي. وأحييكم اليوم بعاطفة كبيرة. بداية، أود أن أحيي الكاردينال فرانسيس أرينزي الذي خلفني بصفته كردينال شرفي لهذه الأبرشية. وأحيي أسقفكم فينتشزو أبيتشيلي الذي أريد شكره على كلماته اللطيفة ترحيباً بي بالنيابة عنكم.
وأحيي كذلك الأساقفة والكهنة والرهبان والراهبات الآخرين والعمال الرعويين والشباب وكل من يعمل في الأبرشيات والحركات والجمعيات المختلفة. وأحيي المفوض الحاكم في فيليتري رؤساء بلديات المدن في أبرشية فيليتري-سينيي والسلطات المدنية والعسكرية التي تشرفنا بحضورها.
أرسل تحياتي أيضاً إلى كل من جاء من أماكن مختلفة، وخصوصاً من ألمانيا، للاتحاد معنا في هذا اليوم الاحتفالي. فأواصر الصداقة تربط بلدي الأم ببلدكم: وهذا العمود البرونزي من "ماركتل أم إن" الذي منح لي في سبتمبر الماضي خلال رحلتي إلى ألمانيا يشهد على هذه الصداقة وتمنيت بقاءه هنا ليعبر عن محبتي وودي لكم.
أعرف أنكم حضرتم لزيارتي اليوم رحلة روحية عميقة باعتماد آية من رسالة يوحنا الأولى "ونحن قد عرفنا وصدقنا المحبة التي لله فينا" (4:16). "الله محبة". أول رسالة حبرية لي تبدأ بهذه الكلمات التي تشكل جوهر إيماننا – الصورة المسيحية لله وصورة الإنسان الناتجة عنها ورحلته.
لقد سررت لاختياركم دليلاً للرحلة الرعوية والروحية للأبرشية العبارة التالية: نحن نعي محبة الله لنا ونؤمن به." لا يسع الطقوس الدينية اليوم إلا أن تركز على هذه الحقيقة الأساسية، على محبة الله القادرة على فرض اتجاه جديد وقيمة إضافية على وجود الإنسان. فالمحبة هي جوهر المسيحية التي تجعل المؤمن والمجتمع المسيحي يسعى وراء الأمل والسلام في كل الأوضاع، ويتنبه على الأخص إلى حاجات الفقراء والمحرومين. المحبة أساس وجود الكنيسة.
خلال أيام الأحد القليلة الماضية، قام قارئ الإنجيل المعني أكثر من غيره بإظهار محبة يسوع للفقراء بعرض العديد من الأفكار للتفكير بمخاطر التعلق المفرط بالمال والأمور المادية وكل ما يمنعنا عن محبة الله وإخواننا. واليوم، نميل نحو المثل الذي يتحدث عن وكيل خائن ويتلقى الثناء في نهاية المطاف (لوقا، 16: 1 -13) حيث يعملنا الله درساً مفيداً. وكما هي الحال دوماً، نتعلم درسنا من أحداث حالية: فهو يتحدث عن وكيل على وشك أن يطرد بسبب سوء إدارته شؤون سيده ويحاول بمكر التوصل إلى اتفاق مع مدينيه لضمان مستقبله. إنه خائن لكنه ماكر في الوقت عينه: لا يصوره الإنجيل كمثال يحتذى به لعدم نزاهته بل لتقليد براعته الحذرة. في الواقع، ينتهي المثل بالكلمات التالية: "فمدح السيد وكيل الظلم إذ بحكمة فعل."
ماذا يريد يسوع قوله لنا؟ أتبَع لوقا مثل الوكيل غير الوفي بمجموعة من الأقوال والنصح حول علاقتنا بالمال والسلع على هذه الأرض. إنها عبارات مقتضبة تدعونا إلى اختيار يتطلب قراراً جذرياً وتوتراً داخلياً مستمراً. فالحياة هي دوماً خيار: بين النزاهة وعدمها، بين الأنانية ومحبة الغير، بين الخير والشر. وينتهي المثل بأسلوب حاد وقاطع: "لا يقدر خادم أن يخدم سيدين. لأنه إما أن يبغض الواحد ويحب الآخر أو يلازم الواحد ويحتقر الآخر. لا تقدرون أن تخدموا الله والمال" (لوقا، 16:13).
المال هو المصطلح الفينيقي الأصلي الذي يعني الأمان الاقتصادي والنجاح في العمل؛ يمكننا القوا إننا نجد في الثراء المثال الذي يضحي المرء لأجله بكل شيء للوصول إلى النجاح الشخصي. لذلك، لا بد من اتخاذ قرار أساسي – الاختيار بين منطق الربح كالمعيار الأخير لعملنا ومنطق المشاركة والتضامن. إذا انتصر منطق الربح، فسوف تزداد التفاوتات بين الفقير والغني وسوف يؤدي إلى استغلال كوكبنا بشكل جائر.
أما إذا انتصر منطق المشاركة والتضامن، من الممكن تصحيح مسار العمل وتوجيهه نحو النمو المتناسب لصالح الجميع. في النهاية، إنه قرار بين الله والشيطان. إذا لم تعتبر محبة الله وإخوتنا في الإنسانية مجرد أمر ثانوي وسطحي بل الهدف الحقيقي والنهائي لوجودنا، يجب أن نعرف كيف نتخذ قرارات أساسية لننفتح على نكران الذات والشهادة إذا اقتضى الأمر. اليوم كما بالأمس، تتطلب الحياة المسيحية منا الشجاعة لنذهب عكس التيار ونحب يسوع الذي ضحى بنفسه على الصليب لأجلنا.
بالتالي، يمكننا القول بكلمات القديس أغسطينوس أنه عبر الثروات الدنيوية، يمكننا الحصول على الثروات الحقيقية والأبدية: في الواقع، إذا كان هناك أشخاص مستعدين للقيام بأي عمل غير نزيه من أجل ضمان الرفاه المادي، وهو أمر غير مضمون، إلى متى علينا نحن المسيحيين محاولة إيجاد السعادة الأبدية عبر خيرات هذه الأرض ("مقالات" 359:10). الآن، الطريقة الوحيدة لجعل هباتنا وقدراتنا الشخصية وثرواتنا مثمرة هي تشاركها مع إخوتنا لنكون وكلاء أمينين على الثروات التي وهبنا إياها الله. فيسوع قال: "الأمين في القليل أمين في الكثير والظالم في القليل ظالم أيضاً في الكثير" (لوقا 16: 10-11).
يتحدث النبي عاموس عن هذا الخيار الأساسي الذي يجب اتخاذه يوماً بعد يوم في القراءة الأولى اليوم. فهو يشجب بأقسى العبارات أسلوب العيش الاعتيادي للأشخاص الذين ينجرون وراء سعيهم الأناني لتحقيق الربح بكل الوسائل ويتعطشون لجني الأموال ويحتقرون الفقراء ويستغلونهم لصالحهم (عاموس 4:5). يجب أن يرفض المسحي كل ذلك ويفتح قلبه أمام مشاعر الكرم الحقيقية. ويخبرنا القديس بولس في القراءة الثانية أن محبة الجميع بصدق خير تعبير لهذا الكرم الذي يظهر في الصلاة قبل كل شيء. فالصلاة للآخرين هي أكبر تعبير عن المحبة.
من جهتهم، يدعونا الرسل إلى الصلاة أولاً لمن يقوم يتحمل المسؤوليات في المجتمع المدني لأنهم إذا كانوا يميلون نحو الخير العام، يكون لقراراتهم نتائج إيجابية تضمن السلم "وحياة مطمئنة هادئة في كل تقوى ووقار" للجميع (تيموثاوس 1، 2:2). إن صلاتنا للغير قيمة وتشكل دعماً روحياً لتشييد المجتمع الكنسي المؤمن بالمسيح وببناء مجتمع أكثر عدالة ودعماً.
أيها الإخوة والأخوات،
دعونا نصلي بأسلوب خاص حتى تقود أبرشيتكم إلى عمل رعوي تشاركي وعضوي متنامٍ وفق الإرشادات التي يقدمها لكم أسقفكم بعاطفة رعوية مذهلة، وعلى الأخص في هذه الأبرشية التي تشهد تغييرات كثيرة بسب انتقال العديد من العائلات الشابة خارج روما وتطور قطاع الخدمات ووصول المهاجرين إلى مراكز المدن.
فقد جاءت رسالة أسقفكم الرعوية في كانون الأول الماضي في وقتها المناسب وتضمنت دعوة للاستماع إلى كلام الله بانتباه وإلى تعاليم مجلس الفاتيكان الثاني ومجمع الكنيسة.
نحن نضع كل مشاريعكم الرعوية ونواياكم في يدي سيدة النعم التي تحتفظون بصورتها في كاتدرائيتكم الجميلة. فلترافق حماية والدتنا مريم رحلة كل الحاضرين هنا ومن لم يتمكن من المشاركة في قداس اليوم. فلترع السيدة العذراء المرضى والمسنين والأطفال وكل من يشعر بالوحدة أو بتخلي الآخرين عنه أو بأي ضيقة. حررينا يا سيدتنا مريم من الطمع بالثروات ودعينا نرفع أيدينا للرب ونمجده في حياتنا اليومية.
آمين!