الدعارة: نشاط مشروع أو فعل عبودية؟

محاولة فاشلة للدفاع عن كرامة المرأة
للأب جون فلين

روما، 19 أكتوبر 2007 (Zenit.org)

تشكل قضية تشريع الدعارة موضوع نقاش في العديد من الدول.
فدولة المجر قررت مؤخراً تشريع هذا النشاط، لأن الحكومة على ما يبدو ترغب في الإفادة من عائدات هذا النشاط الذي وفقاً لحساباتها يمكنه أن يولّد ما يقارب مليار دولار في العام، بحسب ما أوردت وكالة الأسوشيايتد بريس في 24 سبتمبر الماضي.
أما بلغاريا، فقد اتخذت تدبيراً معاكساً بالعودة عن خطة تهدف إلى تشريع الدعارة، بحسب ما جاء في صحيفة الـ"نيويورك تايمز" بتاريخ 6 أكتوبر الماضي.
وبحسب مقالة صادرة في الصحيفة المذكورة فإن وزير الداخلية البلغاري، رومن بيتكوف، قال خلال انعقاد منتدى مؤخراً حول الإتجار بالبشر: "يجب أن نكون حازمين بالقول إن بيع الجسد جريمة". وأشارت الصحيفة أيضاً إلى أن فنلندا قد اعتمدت قوانين ضدّ شراء الخدمات الجنسية من نساء يعملن لحساب متجرين، في حين يُقال إن النروج تخطط لفرض حظر شامل على ابتياع الخدمات الجنسية.
في هذه الأثناء، يبدو أن إيطاليا تبحث في سبل معالجة مسألة الدعارة في الشوارع التي أصبحت ممارسة شائعة في البلاد. وقال وزير الداخلية جوليانو أماتو إن الحكومة تبحث عن تدابير في هذا الصدد شأن تغريم الزبائن، حسب ما أوردت جريدة أفينيري الإيطالية في 26 سبتمبر.
ويشكل موضوع الدعارة محطّ نقاش في بريطانيا حيث تقدّم سلسلة تلفزيونية جديدة بعنوان "بيل دو جور" (وترجمتها إلى العربية تعني "فتيات الهوى اللواتي يعملن نهارا"ً) صورة منمّقة عن صناعة الجنس – وهي صورة تنتقدها بشدة إمين ساينر في مقالة صادرة بتاريخ 20 سبتمبر الماضي في صحيفة الـ"غارديان").
وتقول ساينر في مقالتها: "من عدد النساء المقدَّر بـ80 ألف امرأة تعمل في مجال الجنس في المملكة المتحدة، إن الغالبية الساحقة تقوم بذلك لأنها تعاني مشاكل مخدرات أو لها عائلات عليها أن تعيلها وليس لديها طريقة ممكنة أخرى لكسب المال".
وأضافت قائلةً إن ثلثي العاملين في مجال الدعارة قد تعرضوا للعنف، بما في ذلك الإغتصاب. وتبيّن البيانات الحكومية أيضاً أن ما لا يقلّ عن 60 امرأة تعملن في هذا المجال قد تعرضن للقتل في السنوات العشر الأخيرة.
وقد عادت مادلين بونتينغ التي تعمل كمعلّقة في صحيفة الـ"غارديان" وفتحت باب النقاش بمقالة نُشرَت في 8 أكتوبر الجاري تفيد بأن 90% من فتيات الهوى يرغبن في التخلي عن هذا النشاط. وتشير بونتينغ إلى أنه في وقت يزدهر فيه الإتجار بالجنس كإحدى أكثر أشكال الجريمة المنظمة ربحيةً، لسنا بحاجة إلى قصص خيالية حول الدعارة.

\"\"

الفشل الفيكتوري
يمكن للدول التي يجري فيها نقاش حول مسألة تشريع الدعارة أو عدم تشريعها أن تتعلّم من تجربة ولاية فيكتوريا الأسترالية حيث شرّعت الحكومة المحلية الدعارة منذ العام 1984، ومذّاك الحين ازدهرت تجارة الجنس. ولكن بالرغم من مرور 20 سنة ونيّف على بداية هذه التجربة، فإن الكثير من الأرباح الموعودة جرّاء تشريع الدعارة لم تتحقق، بحسب ما جاء في كتاب صدر في بداية هذا العام.
يمكن الإطلاع على تفاصيل الوضع في ولاية فيكتوريا في كتاب من تأليف ماري لوسيل سوليفان التي أعلنت نفسها "ناشطة لحقوق المرأة" وعنوانه: " Making Sex Work: A Failed Experiment With Legalised Prostitution" (إنجاح العمل في مجال الجنس: تجربة فاشلة مع الدعارة المشرّعة" (منشورات دار سبينيفاكس Spinifex Press).
تطرح ساليفان الموضوع من منطلق أن "نظام الدعارة المشرّع في ولاية فيكتوريا يساهم في الإبقاء على الهيمنة الذكورية وعلى اعتبار المرأة سلعة جنسية وعلى الإقرار في الثقافة بمبدأ العنف ضدّ المرأة".
وتتهم ساليفان في كتابها قوننة الدعارة، وكأنها نوع من أنواع العمالة، بأنها قد قوّضت المساواة بين الرجل والمرأة في مكان العمل وبأنها تناقض سياسات حكومية أخرى تهدف إلى حماية حقوق المرأة.
وتضيف أن الضغوط الممارسة اليوم من أجل اعتبار الدعارة كأي صنعة أخرى غالباً ما تنبع من رؤيا نيوليبرالية لسوق التجارة الحرة التي تعتبر المرأة والفتاة كمجرّد سلعة تباع وتُشرى. وترى ساليفان أن بعض الناشطات في مجال الدفاع عن المرأة مّمن دعمنَ تشريع الدعارة قد تأثّرن كذلك بنظرة تحررية ومنفلتة ورغبة في غير مكانها في إرساء "حقوق" العاملين في مجال الدعارة.
وتشرح ساليفان كيف أنه تمّ الدفاع عن هذا التشريع في ولاية فيكتوريا بحجة الحدّ من الأذى اللاحق بالنساء المعنيات، عبر وضع قوانين رسمية ونظم حماية قانونية ترعى صناعة الجنس.

 

\"\"

العنف المتأصل
وتؤكد على أن ذلك لم يتحقق، لأن محاولة تصوير الدعارة كصنعة يجب وضعها تحت معايير الصحة والسلامة العامة تتجاهل العنف المتأصل في الدعارة وصعوبة تمييز التحرش الجنسي والإغتصاب عن المنتَج الذي يبتاعه زبائن الدعارة.
وتضيف ساليفان أن تشريع الدعارة بحدّ ذاته قد أدخل مجموعة جديدة من العواقب المضرّة بالمرأة، ومن بينها، ولسخرية القدر، توسيع الناحية غير القانونية للدعارة. ففي الواقع، وبدل أن تختفي ظاهرة الدعارة غير الرسمية مع تشريع هذا النشاط استمرت في النمو في ولاية فيكتوريا.
كذلك، فإن التشريع، وبدل من أن يقضي على تأثير الجريمة المنظمة، فقد أعطى دفعاً للأعمال غير القانونية عبر تقديمه لبيوت الدعارى القانونية وغير القانونية حوافز إقتصادية أهمّ للإتجار بالنساء والفتيات. وقد استشهدت ساليفان بأقوال خبراء في الجريمة المنظمة الذين يعتبرون أن الدعارة المشرّعة في ولاية فيكتوريا لا تزال مرتبطة بشكل وثيق بالجريمة المبطّنة.
وبالنظر إلى مسألة الإتجار بالبشر، تلفت سوليفان الإنتباه إلى دراسات عالمية تقدّر بالمليارات نسبة الأرباح التي يدرّها هذا النوع من الإستعباد المعاصر. وتتراوح التقديرات بالنسبة إلى عدد النساء والفتيات ضحايا الإتجار بين 700 ألف ومليونين في السنة الواحدة.
ويبيّن ساليفان أن تشريع الدعارة في فيكتوريا لم يحُل دون خفض نسبة الإتجار غير المشروع بالجنس. كما أنه، ومنذ لحظة التشريع، ما زالت مسألة دعارة الأطفال تشكل مشكلة حقيقية.

صناعة تدرّ مليارات الدولارات
ولفتت سوليفان إلى أننا في زمن حيث وسائل الإعلام وخطوط الطيران والفنادق وقطاع السياحة والمصارف تسعى جميعها إلى تعزيز صناعة الدعارة وتوسيعها. كما أن عملية التشريع قد أحدثت انتهاكاً من قبل الدعارة للحياة العامة.
وبحسب الأرقام الواردة في الكتاب، فإن رقم الأرباح السنوي لصناعة الدعارة في ولاية فيكتوريا قد بلغ 360 مليون دولار أسترالي في العام 1999، ما يعادل اليوم واستناداً إلى أسعار الصرف الحالية 323.3 مليون دولار. يُذكَر أنه في أستراليا، وحدها ثلاث ولايات وإقليم واحد قد شرّعوا الدعارة. وقدّرت شركة تقدّم خدمات معلوماتية لشركات الأعمال ذكرتها ساليفان في كتابها بأن رقم الأرباح قد بلغ 1.780 مليون دولار أسترالي في السنة المالية 2004-2005.
وبدل التشريع، اقترحت ساليفان الإقتداء بحالة السويد حيث يجرّم القانون شراء الخدمات الجنسية ولا يعاقب النساء والأطفال الذين يمارسون هذا النشاط، بالإضافة إلى أن السويد يساعد النساء اللواتي وقعنَ ضحايا العنف نتيجة الدعارة.
وختمت ساليفان بالقول إن تشريع الدعارة لهو خطأ جسيم، إذ يكرّس قدرة الرجل على شراء المرأة والفتاة لأغراض المتعة الجنسية كـ"حق" قانوني. وما إن يحدث ذلك، تصبح إمكانية مراقبة هذه الصناعة والحؤول دون استغلال المرأة مسألة أكثر صعوبة.

العبودية
جاء في نص صدر في 16 يونيو الماضي عن المجلس البابوي لراعوية المهاجرين أن "الدعارة هي وجه من أوجه العبودية". وقد استقطب الكتيّب بعنوان "توجيهات لراعوية الطرقات" انتباه وسائل الإعلام لما يتضمّنه من وصايا عشر موجهة إلى السائقين، ولكن أيضاً نظراً للقسم المخصص للدعارة في الطرقات (الفقرات 85-115).
وتابع المجلس البابوي يقول: "إن الإستغلال الجنسي للمرأة هو من دون شك نتيجة أنظمة عديدة يغيب فيها العدل". وأسباب كثيرة مثل العوز واستخدام العنف والإتجار بالبشر تساهم في إيقاع المرأة في فخّ الدعارة.
وأضافت الوثيقة: "إن ضحايا الدعارة أشخاص بشريون هم في الكثير من الحالات يطلبون النجدة ليتمّ تحريرهم من العبودية، لأنهم ما كانوا ليختاروا بيع أجسادهم في الشوارع في ظروف طبيعية".
ودعا المجلس إلى المزيد من الجهود للمساعدة على تحرير المرأة من الأفعال الناتجة عن الدعارة التي تنتهك كرامة الإنسان. وأضاف البيان أن المؤسسات الكاثوليكية قد همّت في أحيان كثيرة إلى مساعدة المرأة للإفلات من هذا الوضع. وهؤلاء النساء بحاجة إلى المساعدة لاستعادة الثقة واحترام الذات والإندماج مجدداً في الحياة العائلية والمجتمعية.
من جهة أخرى، "يحتاج الزبائن إلى التنوير في ما يتعلق باحترام المرأة وكرامتها، والقيم بين الأشخاص ومجمل العلاقات والحياة الجنسية". كما يحتاج المستغلّون إلى التنوير بخصوص هرمية قيم الحياة وحقوق الإنسان، بحسب ما جاء في توصيات النص.
وختم البيان بأن "الإلتزام على مختلف الأصعدة –المحلي والوطني والدولي– بقضية تحرير العاملات في مجال الدعارة هو بالتالي التصرف الحقيقي لتلاميذ يسوع المسيح، وتعبير عن المحبة المسيحية الحقيقية". وهو من دون شك حلّ أفضل بأشواط من تشريع ما لا يمكن أن يتعدّى كونه مجرّد عبودية جنسية.

أنظر أيضا

 

 

 

كتاب الجنس ومعناه الانسانى د. كوستى بندلى
مقدمة الكتاب

يدور هذا البحث حول مناقبيّة الجنس، لذا لا بد لنا قبل الخوض في هذا الموضوع أن نوجز مفهومنا للأخلاق عامة. فكثيراً ما فُهمت الأخلاق – ولا تزال – على أنها مجموعة نواميس يفرضها على السلوك الإنساني مصدر خارج عن كيان الإنسان، سواء أكان هذا المصدر إرادة إلهية مفروضة بشكل كيفي أو وجداناً يتطلب من الإنسان طاعة عمياء لأوامره ونواهيه. ذلك المفهوم الناموسيّ للأخلاق الذي تسرب عبر التاريخ حتى إلى الأخلاق المسيحية محولاً إياها عن مفهومها الإنجيلي الأصيل، لا يبدو لنا المفهوم الصحيح. فالأخلاق في نظرنا نابعة من صميم الكيان الإنساني ومعبرة عن متطلبات هذا الكيان العميقة. إنّها القواعد التي بموجبها يحقق الإنسان إنسانيته (وفي منظار ديني يعبر عن تلك الحياة النابعة من اتصاله بالله والتي بها تتحقق إنسانيته على أكمل وجه). تلك النظرة إلى الأخلاق تتفق وحدها، كما يبدو لنا، مع التعليم الإنجيلي من جهة ومع اكتشافات علم النفس الحديث من جهة أخرى. لذا سنعتمدها فكرة موجهة لدراستنا هذه.


 

مناقبيّة الجنس في منظار كهذا، هي أن يحقق الجنس مرماه الإنساني. لذا لا يمكن تحديدها بالاستقلال عن دراسة الجنس كما يتجلى عند الإنسان. هذا لا يعني أنه من الممكن تحديد هذه المناقبيّة عن طريق الاستنتاج العلمي البحت. فالعلم، من حيث هو علم، يصف ما هو كائن وليس من شأنه أن يحدد ما ينبغي أن يكون. عالم القيم خارج عن متناوله. لذا فالبحث في مناقبيّة الجنس يفترض تقييماً للجنس مرتبطاً بنظرة شاملة إلى الإنسان ومعنى وجوده. ولكن لا بد لهذا التقييم، إذا شاء أن يكون متأصلاً في مقتضيات الكيان الإنساني، أن يتخذ معطيات علوم الإنسان منطلقاً له، حتى لا يكون المعنى الذي يضفيه على الجنس غريباً عنه بل نابعاً من صميمه.هذا ما سنحاول تحقيقه.
كوستي بندلي