عقدة النقص، عقدة العار بقلم: د. غريغوار مرشو

عندما يتحوّل العالَم من حولنا إلى زيف وتضليل يصبح لزاماً على كلّ واحد أن يلعب اللعبة كما تسمح له إمكانيّاته، وويل لذوي النيَّة الطيّبة، فواحدهم لا يُغرّم فقط من خلال استغلاله، بل يُزدرى باعتباره ساذجاً وغبيّاً… تدلّنا علاقات التكاذب والتضليل على مدى الانهيار الذي ألمّ بقيمة الإنسان في العالَم اليوم، حين يتحوّل إلى مضلَّل أو ضحيَّة تضليل. فالآخَر ليس مساوياً لنا بل أداة نستغلّها بشتّى الوسائل الممكنة، أداة انخداعنا. ولكنّنا في نهاية المطاف نحكم على إنسانيّتنا بالتبخيس من خلال هذا الخداع.

هذه الوضعيَّة العلائقيَّة وما يتبعها من إحساس بالعجز أمام المصير المهدَّد دوماً، وانعدام مشاعر الأمن تجاه قوى الطبيعة، تؤدّي إلى بروز مجموعة من العقد تميّز حياة الإنسان المقهور، أهمّها عقدة النقص وعقدة العار.
أ- عقدة النقص:
 إنّ موقف الإنسان المصاب بمشاعر النقص يرى أنّ مصيره معرَّض لأحداث وتغيّرات يطغى عليها طابع الاعتباط أحياناً والمجّانيَّة أحياناً أُخرى. إنّه يعيش في حالة تهديد دائم لأمنه وصحّته وقوّته ومستقبله. يفتقر ذلك إلى الإحساس بالقوّة والقدرة والمجابهة. وتبدو الأمور، بالنسبة إلى المقهور، كما لو أنّ ثمّة, باستمرار, انعداماً في التكافؤ بين قوّته وقوّة الظواهر التي يتعامل معها. يفتقد الطابع الاقتحاميّ في السلوك وسرعان ما يتخلّى عن المجابهة منسحباً أو مستسلماً أو متجنّباً، أو طلباً للسلامة وخوفاً من سوء العاقبة، أو يأساً من إمكانيَّة الظفر والتصدّي، وبذلك يفقد موقفه العامّ من الحياة، الطابع التغييريّ الفعّال، ويقع في أسلوب التوقّع والانتظار والتلقّي الفاتر لما قد يحدث، ثمّ ثمّة انعدام للثقة بالنَفْس، إذ ما من شيء مضمون في وجوده، فقدان الثقة هذا يسحبه على جميع الآخَرين أمثاله. وهكذا يشعر بأنّه وإيّاهم لا يستطيعون شيئاً إزاء قهر الطبيعة وقوى التسلّط.
عقدة النقص, إذاً, تجعل الخوف يتحكّم في الإنسان المقهور: الخوف من مختلف مظاهر السُلطة، الخوف من قوى الطبيعة، الخوف من فقدان القدرة على المجابهة، الخوف من شرور الآخَرين، ما يُلقي به في ما يمكن تسميته بانعدام الكفاءة الاجتماعيَّة والمعرفيَّة. وإذا خرج من دائرة حياته الضيّقة يحسّ بالغربة الشديدة وبانحسار الذات.
وتتجلّى عقدة النقص بوضوح ظاهر في موقف الإنسان المسحوق حيال العِلم والتكنولوجيا، فهو يضع نَفْسه مسبقاً في وضعيَّة العاجز عن استيعاب التكنولوجيا الحديثة. يظلّ أمامها مبهوراً ومنذهلاً لأنّ الآلة بالنسبة إلـيه ليست عمليّات تحكّم حركتها وبنيتها مجموعة من القوانين الفيزيائيَّة والرياضيَّة، بل هي كيان سحريّ يمتّ إلى عالَم يتجاوز عالَمه. ولهذا فهو يقبل عليها بحذر وتردّد، ويُصاب أمام معرفتها والسيطرة عليها بنوع من الصدّ المعرفيّ.
ب- عقدة العار:
عقدة العار هي العنصر المكمَّل الطبيعيّ لعقدة النقص. الإنسان المقهور يخجل من ذاته، يعيش وضعه كعار وجوديّ يصعب احتماله. إنّه في حالة دفاع دائم تجاه افتضاح أمره، افتضاح عجزه وبؤسه. ولذلك "فالسترة" هي إحدى هواجسه الأساسيَّة. إنّه الكائن المعرَّض ويخشى أن ينكشف باستمرار، يخشى ألاّ يقوى على الصمود، يتمسّك بشدّة بالمظاهر التي تكوّن ستراً واقياً لبؤسه الداخليّ. هاجس الفضيحة يُخيَّم عليه (فضيحة العجز أو الفقر أو الشرف أو المرض). حساسيّته مفرطة جدّاً لكلّ ما يهدّد المظهر الخارجيّ الذي يحاول أن يقدّم نفسه من خلاله للآخَرين. ولذلك فإنّ جدليَّة الحياة الحميمة والمظاهر الخارجيَّة، جدليَّة ما يخفي وما يعلن، تجعله يعيش حالة امتحان، وتهديد دائم بفقدان توازنه من خلال فقدان دفاعاته، وتعرّي حياته الحميمة التي يجترّ مأساتها بصمت وألم. همّه الأوّل اجتياز الامتحان والاحتفاظ "بالسترة". نظرة الآخَرين، وتعليقاتهم، تكتسب قوّة شديدة الوطأة على نَفْسه، تهدّد مكانته الركيكة واعتباره الذاتيّ الذي يحافظ عليه بمشقّة بالغة.
مع هذه العقدة نضع الإصبع على ما يمكن تسميته بالجرح النرجسيّ، وهو الذي يكوّن أكثر مواطن الوجود الإنسانيّ ضعفاً وإحساساً بكبريائه الذاتيَّة، إنّها الكرامة المهدّدة. ولذلك, فالعزّة أو الكرامة تحتلّ مكانة أساسيَّة في خطاب الإنسان المقهور. بقاء الرأس مرفوعاً، الاحتماء من كلام الناس، قضايا مصيريَّة بالنسبة إليه. يستطيع الإنسان المقهور أن يعيش بدون خبز، ولكنّه يفقد كيانه الإنسانيّ إذا فقد كرامته وظلّ عارياً أمام عاره. تلك هي النقطة التي تنهار معها الطاقة على احتمال مأساة القهر والبؤس، ذلك أنّ العار على صلة، من الناحية اللغويَّة، بالوزن والتقويم، وهو تقويم سلبيّ، دليل العيب والسبّة أو الشتيمة وموطن الضعف.
ولكنّ الرَجل المقهور يُسقط العار أساساً على المرأة: المرأة العورة أي موطن الضعف والعيب، بسبب هذا الإسقاط يربط الإنسان المقهور شرفه كلّه وكرامته كلّها بأمر جنسيّ ليس لـه أيّ مبرّر من الناحية البيولوجيَّة المحض، ونعني به الحياة الجنسيَّة للمرأة. طبعاً, إنَّ للوظيفة الاجتماعيَّة في حياة المرأة الجنسيَّة دوراً بارزاً في هذا الربط. ولكن من الناحية الظواهريَّة الخالصة، ليس من قبيل المصادفات أن تحاط المرأة بكلّ هذه الأساطير حول دورها في التعبير عن الشرف المهدّد. فما دام أنّ كُبرى درجات الظلم تلحق عادة بالمرأة في المجتمع الذي يتّصف بالقهر، ليس من المستغرب, إذاً, أن يربط الشرف بها ويسقط العار عليها.
يصل الأمر حدّاً من التطرّف يجعل القتل مبرّراً ومعترفاً به اجتماعيّاً تحت اسم جناية الشرف. مبرّراً لأنّه يعتبر انتفاضة مشروعة لاستعادة الكرامة والسمعة اللتين هدرتا. يحقّ لنا أن نتساءل حول ما يسمّى جنايات الشرف (قتل الأخت، أو البنت، أو الزوجة، أو الأُمّ لأسباب جنسيَّة) فيما إذا لم يكن في الأمر خدعة تمارسها الفئة المتسلّطة من خلال القيم التي تفرضها على الفئة المسحوقة، حيث تصوّر لها ارتباط شرفها وكرامتها بالمرأة بدل أن تُربط بالمكانة الاجتماعيَّة والمهنيَّة، أليس في ذلك تحويلاً للأنظار عن مصدر العار وسببه وهو الاستغلال والتسلّط وما يفرضانه من قهر على الإنسان ودوس لكرامته؟ فالإنسان المسحوق بدل أن يثور ضدّ مصدر عاره الحقيقيّ، يثور ضدّ مَن يمثّل عاره الوهميّ وهو المرأة المستضعفة. هذا في حين تحتفظ الفئة المستغلّة لنفسها بلقب الشرف والنبل من خلال ما تتمتّع به من امتيازات.
إنّ الكثير من التصرّفات الاستعراضيَّة التي تشيع في البلدان النامية، تهدف، بالتحديد، إلى التستّر على عقدة العار، خصوصاً الاستعراض الاستهلاكيّ. يأتي بعده جميع أشكال الادّعاء والتبجّح وخداع الآخَرين بجاه أو مال أو حظوة لا أساسَ لها من الواقع. إنّ إنسان العالَم المسمّى بالمتخلّف هو أسير المظاهر، أيّاً كانت سطحيّتها ما دامت تخدم غرض التستّر على عاره الذاتيّ.
ليست عقدة العار وقفاً على الفئة المسحوقة، بل هي عامّة في المجتمع، حتّى الفئة ذات الحظوة لا تخلو منها، وإن كان درع المظاهر الذي تحتمي به أقوى وأصلب وأكثر مناعة. القوّة المتسلّطة ليست بمعزل عن خوف الفضيحة التي تكشف هزال وجودها وزيف وجاهتها وامتدادها، كما أنّها لا تخلو من عقدة النقص حيال الأجنبيّ والمستعمر الذي يشكّل نموذج الرقيّ بالنسبة إليها.
وكما أنّ الإنسان المسحوق يتشفّى من المرأة كي يستر عاره، كذلك يشتطّ المتسلّط في فرض سلطانه وبطشه على المستضعفين من الناس، ومن خلال بطشه يشعر بالمتعة والقوّة، ساتراً بذلك نقصه وعاره.
نقلاً عن نشرة أبرشيّة الأرمن الكاثوليك بحلب، عدد 2004