حق الإنسان في التحول عن دينه بقلم الشيخ عبد الله أدهمي

 

أكدت معظم النظم القانونية، ابتداءً من شريعة حمورابي ومروراً بقوانين أبو عمران موسى ابن ميمون بن عبد الله القرطبي الإسرائيلي، على ضرورة معاقبة الارتداد عن الدين.

 

 وفي لائحة قوانين الإمبراطور الروماني جوستيان الشهيرة، وهي أساس جميع القوانين الكنائسية الرومانية والقانون المدني الحديث، يتوجب "معاقبة الارتداد بالقتل" وأنه يجب ألا يكون هناك "تسامح مع الارتداد".
وتنص الشرائع الدينية في الإنجيل على "أن من يشكك في، أو يسفّه كلمة واحدة في التوراة، أو الذين وضعوا الكتب الدينية اليهودية، فإنه يعتبر كافراً بالدين ويعتبر عمله هرطقة… ولا أمل له بتاتاً". القوانين المتعلقة بغير المؤمنين هؤلاء صارمة جداً: "قد يقتل فوراً". أو، كما نصح أبو عمران الإسرائيلي، الحاخام والفيلسوف الأندلسي في القرن الثالث عشر فيما يتعلق بالتعطيل المؤقت لقانون الارتداد في عهده: "ويمكن تنفيذ عملية قتله بشكل غير مباشر".
كما تنص الشريعة الإسلامية كذلك على الإعدام في حالات الإشهار العلني للارتداد بشكل ثابت. ورغم شِحّة الأدبيات فيما يتعلق بظهور قانون الارتداد وتطبيقه في الحقبة الأولى من تاريخ المسلمين، إلا أن تطبيقه الفعلي اعتمد عادة على ما إذا كان الإعلان عنه علنياً أو سرياً وبشكل شخصي. أما في الدولة الإسلامية فقد تُرك ما تفعله الأقليات، دينية أكانت أو غير ذلك، في حياتها الشخصية حسب حريتها وتعقّلها، حتى لو أشير إليها بشكل حرفي على أنها "منحرفة" عن التعاليم الإسلامية.
تحكم الشريعة، مثلها مثل بقية القوانين الدينية، شعائر العبادة ولوائح السلوك الفردي والجماعي وأخلاقياتها. وبعكس المفاهيم الدينية النمطية، يُفهم العالَم الدنيوي في الشريعة في الواقع بطريقة براغماتية عملية على أنه علماني من حيث المبدأ.
من وجهة نظر الدين، تعتبر الطبيعة الأساسية للمخلوق البشري أنها الرنو والتوق إلى عبادة الله تعالى دون إعاقة. وبهذا كان عالم الردة الخاص دائماً يعكس أبعاداً أكثر تعقيداً تجعل من الحكم البشري النهائي أمراً مستحيلاً. فغياهب القلب والعقل وأسرارهما بعيدة عن العلوم الدينية مثلما بالكاد يصعب قياسها في علم الأعصاب.
مجابهتنا الإبداعية مع الحياة الدنيوية العلمانية هي التي تكشف عن قدرتنا لأن نكون غير ذوي فائدة لغيرنا، وهي الأداة الأولية التي يمكن من خلالها الرفع من موقعنا الروحاني الساكن. العبادة الصادقة الحقيقية تصبح في نهاية الأمر أداة قياس وضعنا الروحاني.
طالما جرى تكييف الحوار العقلاني في المضمون الديني للشريعة، وطالما كانت تلك ظاهرة إسلامية فريدة، كما هو صحيح في قرطبة الأوروبية مثلما الأمر في بغداد العربية. لم تكن العلوم الدينية التجريدية للمعتزلة، وهم مجموعة من الفلاسفة في القرن الثالث عشر، أو الجدالات المنطقية الخارجية غير الملطَّفة لمجموعة إخوان الصفاء السرية في القرن العاشر، لم تكن في يوم من الأيام على سبيل المثال، أساساً أو سبباً لإقصاء أحد عن حظيرة الإسلام.
أكثر الدلائل بروزاً على عدم معاقبة الارتداد "الشخصي" في الإسلام البقاء الدائم لما يسمى بالنفاق المتفشي في مجتمع المدينة، رغم الآيات القرآنية العديدة ضدهم. كذلك لم يجرِ في يوم من الأيام انتقاد فكر "الهرطقة" الشخصي أو فرض الرقابة عليه، طالما أنه لم يجرِ الوعظ به علناً لم يحكم عليه إلا كذلك، كما لم تكن هناك مطالبات لفظية بالحاجة إلى كبته. الاستقرار الخارجي أو الظاهري في العالم الدنيوي هو ما يسمح لمؤسسات المجتمع المدني بالاستمرار.
علّمت المقاومة اللاعنفية للنبي محمد (ص) في مكة، ودبلوماسيته في صلح الحديبية صحابته درساً مماثلاً. فقد سمح الرسول (ص) بموجب هذا الصلح للناس أن يهاجروا دون أي انتقام رغم حقيقة أنهم كانوا بذلك يتخلون عن الإسلام (حيث أن بعضهم كان قد اعتنق الدين الجديد لمصالح شخصية).
لم يعطَ أي نبي تصريحاً بالحكم على إيمان أحد من بني البشر، كما يكرر القرآن الكريم. فالحكم في نهاية المطاف لله وحده. لذا فإن الخدمة البناءة لتقاليدنا المقدسة تكمن في إظهار وثاقة صلتها كأداة من الإبداع اللامتناهي، وليس في الحد من قيمتها إلى درجة الانشغال بحكم الثقافة المعاصرة.
نحن بحاجة لأن نعترف بالتنوع والاختلاف والاعتراف بهما كجزء من النوايا الإلهية للخلق، بأننا خُلِقنا شعوباً وقبائل حتى يمكن أن نتعلم عن ونغتني من أساليب بعضنا بعضاً. "يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير" (13:49). سوف تتحدى الإقليمية والنسبية التنوع بشكل دائم، وخاصة عندما يتم التمويه على النسبية بأنها تسامح، وليس لأن الناس غير قادرين ضمنياً على العيش معاً.
نحن بحاجة لتفانٍ متجدد للحقيقة، وللسعي وراءها بحرية من خلال اللاطائفية المؤسسة والمؤسسات الجديرة بعالم مثقف. وكما حضّ توماس جيفرسون: "الحقيقة هي … الخصم الصحيح والكافي للخطأ". فقط من خلال النقاش والحوار الحر المفعَم بالاحترام يمكننا أن نحكم على العقائد وأن نتحداها من حيث فوائدها وحسناتها.
الإصلاحات التي نحن في أمسّ الحاجة إليها، عبر أرجاء الكرة الأرضية هي إعادة تقييم صادق للمصادر الأصلية لكافة أساطيرنا الثقافية الجائرة وأساليب تفكيرنا الاستبدادية.
نحن كمسلمين بحاجة لإيجاد أداة قياسية ذات مستوى أعلى لما يشكل الكفاءة في خدمة المجالات ذات المكانة العلمية العالمية في الشريعة. وهذا سوف يجهزنا بوضوح أكبر وثقة أعمق ويمنعنا من أن نتظاهر دون تفكير وبعاطفة زائدة احتجاجاً، في كل مرة يتحدى ريح عابر إيماننا وعقيدتنا.
كقادة دينيين من جميع المذاهب، نحن بحاجة لأن نعترف بمسؤوليتنا عن الكتب من العزل والتغريب الذي يعاني منه المؤمنون في كافة أنحاء العالم. ويمكن البدء بذلك من خلال إعادة بناء مصداقية مؤسساتنا، الأمر الذي سيعيد في نهاية المطاف إطلاق الخيال الديني للجماهير.
أخيراً، نحن بحاجة لالتزام متجدد للتركيز على روح الجماعة المتمثلة بالخدمة المتعاطفة غير الأنانية كثقة جماهيرية، وهذا بالتأكيد حريّ بصورة أكبر بمثال الرسول الكريم (ص) الذي ندعي الولاء له.

*الشيخ عبد الله أدهمي إمام عربي أميركي وأحد علماء الإسلام البارزين. وهو يعمل حالياً في مجال بحوث المضامين اللغوية لآيات قرآنية تثير بعض المشاكل على ما يبدو. تقوم خدمة Common Ground الإخبارية بتوزيع هذا المقال

 

 

مختارات" الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي الموقع، بل هي آراء كتّابها فقط

في 27/10/2007

عن موقع عالم بلا حدود