السلام…الصلاة، كلمتان تنسجمان دائما, كلا منهما تُعني الكثير. كما أن رابطاً قوياً يربطهما بعضهما البعض. فمن يُصلي صلاة حقيقية من قلب خاشع إلى الله، يرى دائماً سلاماً واضحاً أمام عيناه. فيشعر انه يقود العالم الصغير الذي يحكمه بسلاح الصلاة نحو السلام. وكلما كانت صلاته صادقة من أعماقه، واثقة في الله القادر، كلما كانت نتائجها دائماً نحو الخير والسلام. مهما كانت الظواهر تدل على غير ذلك. فللصلاة قوة لا يدركها إلا من عاشها. وهى تحرك رغباتنا الصالحة نحو الأفضل دائماً. وعلاقتها بالسلام علاقة وطيدة فهي التي تمنح الإنسان السلام الخاص مع الله ونفسه والآخرين. وتستطيع أن تنجو بالسلام من أنياب التعصب والتفرقة واستغلال الآخر.
هناك كثيرون يسعون إلى السلام الحقيقي، ويُصلّون ويَعملون من اجل نشره بقدر المستطاع. والحركة العالمية من اجل نشر السلام تسير إلى الأمام رغم كل ما نشاهده من أحداث عنف وتعصب في العراق وفلسطين ولبنان، ورغم كل الاختلافات التي يبحث عنها بعض من تهيئ لهم أنفسهم أنهم قادرون على تسيير قانون الغابة أو فرق..تسد. والدليل اللقاء التاريخي للعاهل السعودي الملك عبد الله بن عبد العزيز بالبابا بندكتوس السادس عشر بالفاتيكان في السادس من نوفمبر 2007م. هذا اليوم الذي سجله التاريخ من نور، نور يبعث الأمل والتفاؤل لحلول السلام كحل أساسي لكل ما تمر به البشرية من تغييرات نافعة وضارة. هذا اللقاء بمثابة الضوء الأخضر لكل مُحب للسلام، لكل بذرة زُرعت في قلب طفل صغير عيناه صوب الشمس التي تشرق على الجميع دون تفرقة.
هذه الزيارة التاريخية لأول ملك سعودي ورمز الأمة الإسلامية يزور رئيس الكنيسة الكاثوليكية ورمز للدين المسيحي في العالم. لم تكن فقط زيارة فريدة من نوعها لكنها سقوط لكل السدود التي بنيت عبر السنين الماضية. السدود التي ازدادت بين ثقافتين وحضارتين وفي لقائهما انهارت تحت أقدامهما معلنة أن الله الواحد هو واحد للكل. واهب السلام، السلام الذي يرجوه كل المؤمنين به إيماناً حكيماً خالياً من كل تعصب أعمى.
حينما نتكلم عن السلام لابد أن نوجه كلامنا بشكل جديّ لكل الأجيال الصاعدة والتي ستكون يوماً ما مسئولة عن نشر السلام. فان كان بعض ممن يديرون دفة العالم الآن يتكلمون عن السلام ويحققونه بطرق عكسية، فهناك أيضاً من يفعلون ويمدون جسوراً جديدة للسلام عبر حضارتين طالما اختلفتا على مر العصور. ففي لقاء البابا بندكتوس السادس عشر والملك عبد الله بن عبد العزيز امتداد لجسر بُني بلقائهما وسيمتد بحكمة وفهم الأجيال المعاصرة والقادمة. لذلك فعلى الجميع الانتباه لهذه المبادرات وهذه الخطوة المحسوبة والتي انتظرناها طويلاً نحو الانفتاح على الآخر.
لم يكن أبداً السلام سهلاً، فثمنه دائماً يكلف الكثير. وقد بذل البابا الراحل يوحنا بولس الثاني مجهوداً كبيراً سجله التاريخ، فبدأ في حياته مراحل السعي نحو السلام مع الأخر. في 27 أكتوبر 1986م كان البابا يوحنا بولس الثاني يرئس يوما عالميا للصلاة من اجل السلام في اسيزي مع ممثلي عدد من ديانات العالم. فكان له الفضل في بدأ حوار الأديـان الذي كان يشجعه دائماً و يُقيم له مؤتمرات كثيرة في بلاد كثيرة منها أسيزي ، ايطاليــا و غيرها. وفيها أعطى الجميع فرصة الإصغاء للآخر. كتب البابا يوحنا في كتابه (العبور إلى الرجاء): "كان للقاءات الصلاة، في اسيزي أهمية بالغة، بخاصة الصلاة لإحلال السلام في البوسنة 1993، كما أن لقاءاتي مع المسلمين في أثناء رحلاتي الرسولية المتعددة إلى أفريقيا واسيا، إذ حدث أن أكثرية سكان البلدان التي قصدتها كانت من المسلمين، وهذا لم يمنعهم من استقبال البابا بحفاوة بالغة، والإصغاء إليه بمودة".
ويُذكر أن البابا يوحنا بولس الثاني كان أول بابا يدخل مسجداً حين زار المسجد الأمـوي في دمشق عام 2001 .
لقد مدّ البابا يوحنا بولس الثاني جسوراً كثيرة بين العالم المسيحي متمثلاً فيه كرئيس للكنيسة الكاثوليكية وبين الأديان الأخرى. لقد مدّ جسوراً راسخة بزيارته لمصر، المغرب، العراق، فلسطين،….الخ. لم يكن إيمانه بقوة الصلاة قليلاً، والدليل أن نتائجها تزداد مع مرور الوقت وان تأخرت لأسباب كثيرة، لكنها دائماً تأتي بنتائج ملهمة وقوية تشدد على فكر كل إنسان يطمح إلى عالم خالي من الكراهية والتعصب والتباعد. إلى كل إنسان يطمح في صلاته إلى عالم مليء بالسلام والآمان الذي هو حق للجميع.
الصلاة لا تغير الأحداث، إنما تستطيع أن تغير مفاهيمنا وقيمنا وطرق تفكيرنا نحو الأفضل. لقد دّعا البابا يوحنا في حياته كثيراً للصلاة، فهو أدرك قوة الصلاة بصدق وثقة في الله وعاشها في ضميره ورسالته. وكانت سلاحه ضد العنف، واتجاه العالم إلى الضياع بقبول الحروب. كانت صلاته ودعوته للصلاة سلاحاً لتبديل العالم في نظره، لتشجيع العالم أن يفكر في إرادة الله التي تريد الخير لجميع البشر. صلاته لم تذهب يوماً، إنما كانت تنمو وتزهر بين الحين والآخر ثماراً تليق بالمحبة وقبول الآخر.