"السلام والإزدهار واحترام حقوق الإنسان مسائل يجمعها رابط وثيق"
حاضرة الفاتيكان، 27 نوفمبر 2007 (Zenit.org)
نشر في ما يلي الكلمة التي وجهها قداسة البابا بندكتس السادس عشر إلى أعضاء منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة (الفاو) في 22 نوفمبر الجاري.
* * *
السيد الرئيس،
حضرة المدير العام،
أيها الحفل الكريم،
فيما تلتئم الدورة الرابعة والثلاثون للمؤتمر العام لمنظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة (الفاو)، يسرّني أن أرحب بكم في الفاتيكان. ويأتي لقاؤنا اليوم ليكمّل تقليداً يرقى إلى اليوم الذي اتخذت فيه منظمتكم روما مقراً لها. وأنا مسرور لهذه الفرصة الجديدة المتاحة لي كيما أعبّر لكم مجدداً عن تقديري للدور الذي تضطلعون به في القضاء على آفة الجوع في العالم.
وكما تعلمون، فإن الكرسي الرسولي لطالما كان شديد الإهتمام بكل الجهود المبذولة من أجل تحرير العائلة البشرية من الجوع وسوء التغذية، مع الإقتناع بأن حلّ هذه المشاكل لا يتطلب تفانياً إستثنائياً ووسائل تقنية عالية وحسب، بل روح تعاون حقيقي أيضاً، يجمع كل البشر ذوي الإرادة الطيبة.
ويستدعي هذا الهدف النبيل اعترافاً حاسماً بكرامة الشخص البشري المتأصلة في كل مراحل حياته. إن كل أشكال التمييز، لاسيما تلك التي تنال من التنمية الزراعية، لا بدّ من رفضها، لكونها تنتهك الحق الأساسي لكل شخص في "التحرر من الجوع". إن هذه القناعات مطلوبة في الواقع بحكم طبيعة عملكم لأجل الخير العام للإنسانية، كما تعبّر كلمات شعاركم البليغة – "توفير الخبز للجميع!"– التي ترد أيضاً في قلب الإنجيل والكنيسة مدعوّة إلى إعلانه.
إن البيانات التي تجمعون عبر الأبحاث التي تجرونها ونطاق برامجكم الآيلة لدعم الجهود العالمية لتنمية الموارد الطبيعية العالمية خير دليل على واحدة من أكثر التناقضات المقلقة في زمننا الحاضر وهي التفشي المستمر للفقر في عالم يشهد في الوقت ذاته مستوى ازدهار غير مسبوق، ليس فقط في المجال الإقتصادي، بل أيضاً في مجالي العلوم والتكنولوجيا اللذين يشهدان تقدماً سريعاً.
إن الحواجز التي تقف عائقاً أمام حل هذا الوضع المأساوي قد تهدّ العزيمة في بعض الأحيان. فالنزعات المسلحة وانتشار الأمراض والكوارث المناخية والطبيعية والترحيل القصري الكثيف للشعوب، كل هذه الحواجز يجب أن تشكل حافزاً لمضاعفة جهودنا الرامية إلى توفير الخبز اليومي لكل شخص. والكنيسة مقتنعة، من جهتها، بأن السعي إلى حلول تقنية أكثر فعالية في عالم في تغير مستمر وتوسع دائم يفترض برامج بعيدة النظر تشمل قيماً ثابتة تنبع من كرامة الشخص البشري وحقوقه غير القابلة للإنتهاك.
إن منظمة الفاو تواصل لعب دور رئيس في القضاء على الجوع، فيما تذكّر المجتمع الدولي بالحاجة الملحة إلى تيويم مستمر للأساليب المعتمدة وإلى وضع استراتيجيات تتناسب مع تحديات هذا الزمن. وهنا أودّ أن أعرب عن تقديري للجهود الحثيثة التي يبذلها في هذا الصدد كل العاملين مع منظمتكم. إن الكرسي الرسولي يتابع نشاطات منظمتكم عن كثب منذ أكثر من ستين عاماً وهو على ثقة بأن النتائج الملحوظة التي تمّ بلوغها سوف تستمر. فالفاو هي إحدى أولى المنظمات الدولية التي أقام الرسي الرسولي معها علاقات ديبلوماسية منتظمة. ففي 23 نوفمبر 1948، وخلال انعقاد الدورة الرابعة لمؤتمركم العام، مُنح الكرسي الرسولي صفة فريدة من نوعها هي صفة "مراقب دائم"، كضمانة لحقه في المشاركة في الأنشطة التس تنظمها الفاو بمختلف أقسامها والوكالات المنتسبة إليها، بما يتفق مع رسالة الكنيسة الدينية والأخلاقية.
إن المجهود الموحد الذي يقوم به المجتمع الدولي للقضاء على سوء التغذية وتعزيز التنمية الحقيقية يتطلب نظم إدارة وإشراف واضحة، وتقييماً واقعياً للموارد المطلوبة لمعالجة مجموعة واسعة من الحالات المختلفة الأوجه. وهو يتطلب إسهام كل فرد في المجتمع – الأفراد والمنظمات الخيرية والمؤسسات الخاصة والحكومات المحلية والوطنية—مع الأخذ في عين الإعتبار إحترام المبادئ الأخلاقية والأدبية التي هي إرث مشترك لكل الشعوب، وأساس كل حياة إجتماعية. وعلى المجتمع الدولي أن يفيد دائماً من هذا الكنز الثمين من القيم المشتركة، لاسيما أن التنمية الحقيقية والمستدامة لا يمكن أن تترسخ إلا في جوّ من التعاون والتصميم على تشارك الموارد المهنية والتقنية.
فالعائلة البشرية تحتاج اليوم أكثر من أي وقت مضى إلى إيجاد الوسائل والإستراتيجيات الكفيلة بحلّ النزاعات، وليدة الإختلافات الإجتماعية والتطاحن الإثني والفروقات الشاسعة في مستويات التنمية الإقتصادية. إن البشرية متعطشة للسلام الحقيقي والدائم – الذي يُبنى فقط عندما ينمّي المواطنون والمجموعات على كافة المستويات وقادة الحكومات فيهم حس اتخاذ القرارات المسؤولة والمتجذرة في مبدأ العدالة الأساسي. لذا لا بدّ للمجتمعات من أن تصبّ جهودها على تنشئة صانعي قرار حقيقيين: وهذه المهمة تقع خصوصاً على عاتق المنظمات شأن منظمتكم التي لا يمكن إلا أن تعترف بالتوزيع العالمي لخيور الخلق أساساً للعدالة الحقيقية.
أما الدين، وباعتباره قوة روحية جبارة لمعالجة جراح النزاعات والإنشقاقات، فلها دور مميز تضطلع به في هذا الصدد، وخصوصاً عبر العمل على تنشئة العقول والقلوب بما يتفق والرؤيا المتكاملة للشخص البشري.
أيها الحفل الكريم،
إن التقدم التقني، على أهميته، ليس بكل شيء. إذ يجب على هذا التقدم أن ينخرط ضمن السياق الأوسع للخير المتكامل للشخص البشري. وعليه أن يتغذى باستمرار من الإرث المشترك للقيم الذي من شأنه أن يُلهِم المبادرات الملموسة الرامية إلى توزيع أكثر إنصافاً للخيور الروحية والمادية. وكما كتبتُ في رسالتي "الله محبة"، "أولئك القادرون على مساعدةِ الآخرينَ سَيُدركونَ أنّه بقيامهم بذلك هم أنفسهم يقبلونَ المساعدة؛ فأنْ يَكُونَ الإنسانُ قادراً على مُسَاعَدَةِ الآخرين لا يُعتَبَرُ إستحقاقاً لهُ أَو إنجازاً يفتخرُ بهِ" (الفقرة 35). وهذا المبدأ ينسحب بشكل خاص على عالم الزراعة حيث إن عمل أولئك الذين غالباً ما يُنظر إليهم على أنهم "الأقل قدراً" في المجتمع يجب أن يلقى الإعتراف والتقدير اللذين يستحق.
إن جهود الفاو الجبارة من أجل التنمية والأمن الغذائي تشير بوضوح إلى الرابط القائم بين انتشار الفقر وانتهاك حقوق الإنسان، بدءاً بالحق الأساسي في الغذاء. فالسلام والإزدهار واحترام حقوق الإنسان مسائل يجمعها رابط وثيق. لقد آن الأوان –ومحبةً بالسلام- كي لا يعاني أي رجل أو امرأة أو طفل من الجوع بعد اليوم.
أيها الأصدقاء،
إنني، إذ أجدد لكم مشاعر التقدير للعمل الذي تقومون به، أرفع الصلاة كيما ينير الله القدير أعمالكم ويرشدها إلى ما يلبّي بشكل أكمل تطلعات العائلة البشرية إلى التضامن والعدالة والسلام.