يوحنا الذهبي الفم الراعي الصالح

عيد القديس يوحنّا الذهبي الفم في 13 تشرين الثاني نوفمبر

ولمناسبة احتفاليّة مرور 1600 سنة على وفاته (407-2007)

 

ولد يوحنّا في أنطاكية حوالي عام 345 لوالدين تقيين، من عائلة غنية ومعروفة. توفي والده وهو لا يزال طفلاً فكرّست أمه حياتها للاهتمام بوحيدها، لعلها شعرت أنه سيكون شاهد إيمانٍ عظيم. ولقد دعاها المعلم الكبير ليبانوس الذي ثقّف يوحنا "بأعظم النساء المسيحيات". تعلَّم يوحنا القانون والفصاحة والفلسفة. اعتبر يوحنا أولاً أن الشهادة للإيمان تكون في اعتناق الحياة الرهبانية التوحُديّة، ولولا دموع أمه لما تأخر في ترك العالم. إلا أنه ابتكر رهبانية في قصره، فاتخذ فيه منسكاً، وأخذ يمضي ساعاته في الصلاة والصوم وتأمل كلمة الله، حتى شهد فيه الكثيرون: "شابٌ يعيش في قلب المدينة كما يعيش المتوحدون في البراري والقفار". وقيل فيه أيضاً: "وجهه ينضح قداسة.. كأنه يبشّر بوجهه".

ذاع صيت يوحنا شيئاً فشيئاً، هو وصديقه باسيليوس، حتى طالبَ الشعبُ بهما أسقفَين مساعدَين لملاتيوس البطريرك. عندئذٍ شعر يوحنا بضعفه وعدم استحقاقه لهذه الخدمة، التي "تضاهي خدمة الملائكة أنفسهم"، حسب تعبيره. فهرب من الرسامة، تاركاً لها صديقه باسيليوس ليكون مثالاً للراهب والكاهن، والأسقف الشاهد، الذي يمنح الانسجام للتأمل والعمل الرسولي معاً في نظام الحياة المشتركة وخدمة الآخرين.

عاش يوحنا حياة جهاد وعمل، ناسكاً متوحداً بين عامي 374-380. واكتشف أن لا شهادة للإيمان دون الحوار المستمر مع الله. وبعد أن أتعبته الصحراء عاد ليؤدي شهادته في وسط العالم. "خير للإنسان، كما يقول، أن يكون أقل فضيلة، ويهدي الآخرين، من أن يعيش على قمم الجبال ويرى أخوته البشر يهلكون". فرُسم شماساً (381) وكاهناً (386)، وتشبّه في هذه المرحلة ببولس الرسول. فأخذ عنه حماسه وقوّته واندفاعه الرسولي، كذلك العلم والحكمة والعمل والصبر على المشقات. ولقد أخصب يراعه في هذه الفترة، فكتب عن "ألوهية المسيح"، وعن "التوبة"، وفي "البتولية" و"الزواج" و"الكهنوت". كما كتب تفاسير كثيرة عن الكتاب المقدس، ولمع في شرحه "العظة على الجبل". لقد آمن بسحر الكلمة وفعاليتها وأهميتها في الشهادة للإيمان. ولقد قيل، لشدة إبداعه في تخديم الكلمة للشهادة للإيمان، أن الهراطقة أنفسهم، وحتى غير المؤمنين، أحبوا سماع عظاته، حتى بلغت شهرته القسطنطينية العاصمة. وإثر وفاة بطريركها نادى شعبُها بيوحنا راعياً لها، فسُرق ليلاً لكي لا يتمكن الأنطاكيون الاحتفاظ بكاهنهم المحبوب.

ارتسم يوحنا بطريركاً للقسطنطينية عام 398 ليكون نموذجاً للأسقف الشاهد الذي لا يهاب الصعاب. فلم يكتفي أن يشهد للرب من خلال خدمته للكلمة والأسرار، بل أقرن الكلام بالعمل، خصوصاً بعد دخَلَتْ إلى الكنيسة مظاهرُ الترف في زمن أراد رجال الكنيسة أن يتشبهوا برجال الإمبراطورية بدل تشبههم بالمسيح. فأمر ببيع الذهب والفضة والسجاد والحرير والرخام والمرايا.. وكل غثٍ وثمين، وأقام لجنة خيرية، أشرف عليها بشكلٍ مباشر، تهتم بتوزيع الأموال والمساعدات على الفقراء. وأنشأ مشفى للمرضى، ومأوى للغرباء والمحتاجين، وصرف الخدم والحشم، وألغى الاستقبالات ومظاهر التبذير. وكانت قاعدته الذهبية في ذلك ما قاله هو وزميله باسيليوس: "إن السرقة لا تكون فقط عندما نأخذ ما لغيرنا، بل نكون سارقين حين لا نشارك الآخرين فيما نملك". لقد كان يُهيئ طعامه بنفسه، ويأكل مرة واحدة في اليوم، وليس لديه سوى ثوب واحد، ولا يملك في غرفته إلا لوحاً خشبياً وغطاءً للنوم والكتاب المقدس وبعض الكتب الروحية. لقد نقل حياة البرية إلى العاصمة، ولا غرابة في الأمر ألم يفعل ذلك حين كان علمانياً في بيت أهله؟ نظّم الوعظ والترتيل والصلوات، فشدّد على ضرورة مشاركة الشعب في الصلاة وحياة الكنيسة، واهتم بحياة الكهنة والأساقفة، فأنّبهم بمحبة لكي يتمتّعوا بالسيرة الحميدة، وشجّعهم على ممارسة الفضائل والتقوى، فكان مثالاً للراعي الصالح والشاهد الأمين.

أمام هذه الإصلاحات اشتدت عليه قوى الشر، فتآمر بعض الأساقفة والكهنة مع الإمبراطورة أفدوكيا، التي لم يتوانى في تأنيبها لأخلاقها المعوّجة، وسعوا للإطاحة به. حُكم عليه بالنفي، فحدث عشية تنفيذ الحكم زلزلة هزّت العاصمة، لأنه "إن صمت الجميع تكلمت الحجارة"، وعاد ودخل المدينة العاصمة دخول السيد المدينة المقدسة. وبعد حين، عادت الإمبراطورة تسعى لترحيله، فخاطبها بشجاعة قائلاً: "أنا لا أخاف الموت.. إن واجبي سأتممه عل أكمل وجه.. عليّ أن أعلن عن الخطيئة حيث تكون..". أمرته أولاً بالإقامة الجبرية ثم نفته. إنه كبولس الرسول تعرض، في سبيل شهادته للإيمان لعذابات متنوّعة (إقرأ: رسل11/23-00)، سُجن.. تعرّض للاغتيال.. جاع.. مرض.. ظلم.. تنقل بين المدن والمعتقلات.. وكان أينما يحل يلقى الترحاب.. ومات أخيراً سنة 407 في المنفى، وهو يردّد آخر كلماته: "المجد لله على كل شيء".

http://terezia.org  نقلا عن