هل تصدّقون معي أنّ الصمت هو نِعمة في كثير من الأحيان؟ قد تستغربون ذلك! ولكنْ، هذا هو الواقع. إننّا ثرثارون ونُحبّ الحكي كثيراً "شي بطعمة وشي بلا طعمة". رحم الله أبو نوّاس الذي قال: "متْ بداء الصمت خيرٌ لك من داء الكلام".
ممّا لا شكّ فيه أنّ الإنسان يتميّز عن غيره من الكائنات بقدرته على النطق، لذلك قالـوا عنـه: "حيوان ناطق". ولكن عندما تسمع ما ينطق به بعضهم في المناسبات المختلفة "تلعي" نَفْسك ويصيبك الغثيان!
المثل الشعبيّ يقول: "إذا كان الكلام من فضّة فالسكوت من ذهب". وهذا ما لا يفهمه صاحبنـا (ع) الذي يلعب دَور المهرّج في كلّ سهرة أو مناسبة نلتقي فيها, فلا يترك مجالاً لأحد لأن يشاركه الحديث أو يبدي رأيه في موضوع إلاّ وحوّله إلى مهزلة ساخرة.
وهذا جار لنا (م) ما إن يعود إلى المنـزل حتّى يجد نَفْسه أمام محطّة FM منـزليَّة لا تتوقّف عن إذاعة البيانات والإعلانات, وكلّما أراد إبداء رأيه في مشكلة ما لا يجد من شريكة حياته إلاّ " كلمات ليست كالكلمات".
أمّا صاحبتنا (د) فمصيبتها لسانها الذي يعمل حتّى في القدّاس والمناسبات الِدينيَّة. تلتفت يمنة ويسرة وهي تبربر وتوشوش مرافقتها فلا هي تصلّي ولا تدع غيرها يصلّي. المصيبة أنّك عندما تريد أن تعيش الصمت لتدخل إلى قدس أقداس الله في تأمّلٍ خاشع أو رياضة روحيَّة تشارك فيها، تجد أُناساً يخترقون هذا الصمت مثل البرغشة بداعي عدم تمكّنهم من السيطرة على لسانهم. وهذا ما حصل معي في إحدى الرياضات الروحيَّة الصامتة, حيث تحوّلت بفضل فاعل الخير، إلى نـزهةٍ جبليَّة فلا هو صَمَتْ ولم يتركنا نصمت!
إنّ صَوت الله ناعم خفيف, لا نستطيع سماعه إذا لم نصمت برهةً من الزمن. ولكن، يا للأسف، كثرة الأصوات وضجيج الحياة وصخبها يسكتانه وبعد ذلك نقول إنّنا لا نسمع صَوت الله. قال الشاعر العبّاسيّ أبو العتاهية:
إذا كنت عن أنْ تحسن الصمت عاجزاً فأنت عن الإبلاغ في القول أعجـزُ
إنّ الصمت هو الخطوة الأُولى لكي ننتبه إلى الآخَر ونصغي إليه. وأكثر ما أخشاه إذا ما بقينا نتكلّم ألاّ نجد مَن يعطينا أذناً صاغية لنا فيصبح حوارنا وكلامنا كالطرشان.
نقلاً عن نشرة أبرشية حلب للرمن الكاثوليك، 2003