العدالــة في تعليم الكنيســة الاجتمــاعي للأخ وسيم كلاكش

النهار 09 / 12 / 2007

 عندما قامت الثورة الفرنسية، واعلنت حقوق الانسان والمواطن، سنة 1789، رأت الكنيسة في الامر تهديدا مباشرا لها، فاتخذت مواقف رافضة من تلك الحقوق لأنها مبنية على نظريات تعتبرها الكنيسة ملحدة، ولأنها كانت تعتبر اي حق يأخذه الانسان انتقاصا من حقوق الله. لكن الشأن الاجتماعي لم يغب عن اهتمام الكنيسة منذ نشأتها وعبر تاريخها.

حين نطالع الكتاب المقدس، نتوقف غالباً عند تعابيره ومعانيه الدينية البحتة، مهملين او متناسين بعده الاجتماعي الذي يعتبر بعدا اساسياً فان من يتعمق في قراءة كتب الانبياء مثلا، يرى انها تتطرق الى موضوع العدالة الذي هو في الوقت عينه موضوع ديني واجتماعي. هذا المفهوم ينطلق، في العهد القديم، من كلمة Sedeq العبرية التي تعني التوافق والعيش والسير بحسب مبدأ محدد ومعين. فكلمة "عدالة" لها مدلول ديني واجتماعي في آن. والعادل والصديق هو الذي يعيش بحسب المبدأ المتفق عليه. انه الانسان البريء والمستقيم. ذلك الذي يضع اتكاله على الله وحده، واليه يلجأ. فالعادل والصديق من لا يكتفي بأن يكون بريئاً ومستقيماً، بل يسهم بنشر العدالة والاستقامة حوله، ويعمل على ترسيخها في المجتمع. هو الذي يبني كل تصرفاته واعماله على هذا المبدأ. فنسمع النبي أشعيا يضع ما نسميه اليوم بـ"العدالة الاجتماعية" في صلب الواجبات الدينية، بل يجعلها مقياسا للتقوى والايمان. فالتقوى لله باطلة من دون الرحمة والعدالة حيال الناس (أش 1: 13 – 17؛ 58: 6 -7) ويطلب النبي العدل في الشرائع والحكم (آش 10: 1- 2، 5: 8 -10). فالعدالة هي سند العرش الملكي كما هي سند عرش الله. والله يختار الملك لأنه يحب العدل. وهو يدعى لكي "يملك في العدل"، ويقيم الحق والانصاف او العدل. حسب (1 مل 3: 28)، نَعِم الملك سليمان بحكمة الهية من اجل احقاق العدل. وينسب النبي حزقيال الى الله انه "يرعى بعدل": فهو يرعى بعدل، لأنه لا يحابي الوجوه. والنبي عاموس الذي يعرّف انه نبي "العدالة الاجتماعية" (عا 5: 21 – 24؛ 4: 1)، حين يتكلم عن موضوع العدالة، لا يكتفي بذلك، بل يدعو مستمعيه الى الابتعاد عن اماكن الحج والزيارة، اذا لم يجروا العدالة، والنبي ميخا يوجز ارادة الله ويقول: "ما يطلب الله منا هو ان نقيم العدل" (مي 6: 8). من هذه الاقوال الموجزة نرى ان العدل والرحمة في العهد القديم، مرتبطان بالايمان والتقوى، وان الحياة الدينية لا يمكن فصلها عن الحياة الاجتماعية.

-2 العدالة في العهد الجديد

يذكّر يسوع الفريسيين والكهنة والكتبة باستمرار ان عيش الشريعة الخارجي لا يكفي ان اهملنا الامور الاساسية: العدل والرحمة والامانة.

فرسالة البيبليا يجب ان تجيب على متطلبات الكلمة من خلال تصرف بنّاء يبني مجتمع عدالة وحرية للجميع. هذا يعني تحضير تفاسير للكتاب المقدس تسلط الضوء على الوضع الاجتماعي السياسي وتتحدى البنى الاجتماعية الظالمة وانتهاك حقوق الانسان وحالات الظلم والاستغلال، ويتطلب ايضا ان ننضم الى جميع الفرق والحركات التي تعمل من اجل العدل والسلام والتضامن مع المضطهدين.

3- العدالة في تعليم القديس توما الأكويني

يعطي القديس توما العدالة بعداً اجتماعياً، هو الخير العام. ويصفها بأنها فضيلة عامة تهدف الى هذا الخير العام. ويقول بأن كل اعمال الانسان، بدون تمييز لها علاقة بالعدالة، ولها طابع اجتماعي. وهو يسمّي هذه العدالة "العدالة الشرعية"، لأن الخير العام في المجتمع يتم بواسطة الشريعة أو القانون.

والى جانب هذه العدالة العامة، يميز القديس توما ايضاً عدالة خاصة تحدد ليس الخير العام فقط، لكن ايضاً الحقوق العامة، وحقوق الافراد، وتنظيم العلاقات الاجتماعية بين الناس. وهذه العدالة في رأيه نوعان:

• العدالة التبادلية التي تنظّم التبادل بين الافراد واعضاء المجتمع.

• العدالة التوزيعية التي تنظّم الخيرات العامة على مختلف الاعضاء في المجتمع، وهي تؤكد على حق الافراد في الجماعة في الحصول على ما يحق لهم من الخيرات المشتركة.

4- الرسائل البابوية التي اعتنت بالشؤون الاجتماعية

"الشؤون الحديثة" (1891). عام 1891 اصدر البابا لاون الثالث عشر الرسالة العامة "الشؤون الحديثة". فكانت تلك الرسالة نقطة تحول اساسية في حياة الكنيسة في ما يتعلق بتعاطيها مع "القضية العمالية" حول وضع العمال والاجور والتحولات الصناعية، اذ للمرة الاولى في التاريخ تأخذ الكنيسة موقفاً عالمياً ورسمياً من تلك القضية، ولا تكتفي بالاجابة على بعض الاسئلة والتساؤلات المطروحة او باقتراح حلول جزئية لمشاكل ومسائل ظرفية. أراد فيها البابا لاون الثالث عشر قطع الطريق على مواقف تطرف الحل الاشتراكي للقضية العمالية. وأراد ايضاً وضع الامور في نصاب العقل الهادئ، والمنطق السويّ، والعدالة، في إطار فلسفة تتجاوز الظاهر المادي، العرضي في ذاته، لتبلغ جوهر طبيعة الانسان سيد المادة، وتؤكد لكل ذي حق حقه توصلاً الى عدالة اجتماعية صحيحة.

ومن المعروف ان تلك الوثيقة اصبحت مرجعاً اساسياً استندت اليه الدول والحكومات لسن القوانين والشرائع الاجتماعية، ولوضع ما سمي في ما بعد بـ"قانون العمل".

يبني البابا لاون الثالث عشر الملكية الخاصة على العدل فيقول: المُلك الخاص ما هو الا نتيجة أجرة العامل وتعب يديه (4). ويستند البابا في مطالباته ايضاً بالمحافظة على الملكية الخاصة، على واجبات الانسان العيلية (10). وهكذا فالاشتراكيون باحلالهم عناية الدولة مكان العناية الابوية يذهبون ضد العدالة الطبيعية ويفككون اللحمة في العائلات (11). وتربط هذه الرسالة الأجر العادل بتأمين الحاجات (17). إن ما يجعل أمة تزدهر، هو احترام العدالة والاعتدال في فرض الضرائب (26).

وفي الرسالة العامة "اربعون سنة" (1931)، حول تنظيم المجتمع بروح الانجيل، بمناسبة مرور أربعين سنة على رسالة الشؤون الحديثة للبابا لاون الثالث عشر. يرى البابا بيوس الحادي عشر ان تنظيم العلاقات بين رأس المال والعمل يجب أن يتم وفقاً لمقتضيات العدالة التبادلية وفي اخضاع المنافسة الحرة والتحكّم الاقتصادي لسلطة الدولة وفقاً لشرائع عامة تصون العدالة الاجتماعية (11).

"فالعدالة المسماة تبادلية هي التي تفرض احترام الاملاك المختلفة وتمنع أياً كان من أن يتخطى حدود حقه الخاص ويتعدّى على حق غيره" (47).

فيقول: "قانون العدالة الاجتماعية لا يسمح بأن تمنع طبقة اجتماعية ما طبقة اخرى من المشاركة في هذه المنافع". بل ينبغي ان توزّع، على اساس متطلبات الخير المشترك ومبادىء العدالة الاجتماعية، موارد هذا العالم"(57).

وفي الرسالة العامة "الحبريّة العظمى" (1939) يقول البابا بيوس الثاني عشر، لا يمكن التمسك بفكرة التقدم غير المحدود(78)، ولكن السلطات تعدنا بنظام جديد مبني على العدالة والازدهار(79). فلا بد من الدعوة الى تجديد "روحي ديني" ينبع من المسيح ويتأسس عليه، تُجسّده العدالة وتكلله المحبة (83). وتود الكنيسة ان يرى جميع الناس الرب يسوع المسيح وكنيسته في نورهما الحقيقي، بحيث ان الذين بأيديهم السلطة "يسمحون لها بأن تعمل بحرية لتثقيف الجيل الطالع بحسب مبادىء العدالة والمحبة"(93). وأن السلام الحقيقي يجب ان يرتكز على العدل والحقيقة.

وفي رسالته العامة "ام ومعلمة" (1961) يؤكد البابا يوحنا الثالث والعشرون ان تحديد قيمة الاجر يجب الا يترك أمره للمضاربة الحرّة ولا لمزاجية الأقوياء، بل يجب ان يحدد طبقاً للعدل والإنصاف (71). وان العدالة الاجتماعية تفرض على التطور الاجتماعي ان يواكب التطور الاقتصادي. وان ازدهار شعب ما، هو نتيجة توزيع الثروات والخيرات توزيعاً عادلاً(74).

وفي الرسالة العامة "السلام على الارض" (1963) يقول البابا يوحنا الثالث والعشرون بأن العلاقات بين المجتمعات السياسية يجب ان تتم في الحقيقة والعدل والتضامن والمحبة (35-36). ويقتضي العدل من السلطات السياسية الاهتمام بالاقليات الإتنية من جهة اللغة والثقافة والثروات والنشاطات الاقتصادية (96). ومن علامات الازمنة التي رصدتها الرسالة رفض اللجوء الى الحرب لإحقاق العدالة (127).

 و"الكنيسة في عالم اليوم، فرح ورجاء" (1965) تقول ان النظام الاجتماعي يجب ان يبنى على العدالة (26)، وإن على البشر ان يعملوا كي تسود العدالة (35). والسلام عمل العدالة (77 – 78).

وفي الرسالة العامة "ترقّي الشعوب" (1976) حول الإنماء الشامل للشعوب، يرى البابا بولس السادس، مع المجمع الفاتيكاني الثاني أنه "على خيرات الخلق تصبّ بإنصاف بين أيدي الجميع، بمقتضى سنة العدل الذي لا ينفصم عن المحبة" (22). وأن التزامات الشعوب، النابعة من جذور الأخوة الانسانية والفائقة، تقتضي "حق العدالة الاجتماعية" (44). ويثبت تعليم لاون الثالث عشر في "الشؤون الحديثة": ان رضى الأطراف اذا كانوا على وضع شديد التفاوت، لا يكفي لضمانة عدالة الفقر". "فهذا الذي كان صحيحاً بالنسبة الى عدالة أجرة الفرد هو إياه أيضاً بالنسبة الى العقود الدولية… أن حرية التبادل لا تكون نصيفة إلا بخضوعها لمقتضيات العدالة الاجتماعية"(59).

وفي الرسالة العامة "فادي الانسان" (1979) يعالج البابا يوحنا بولس الثاني الاخطار التي تهدد انسان اليوم ويقول: "ان حالة الانسان اليوم تبتعد على ما يبدو عما تطلبه العدالة" (16/1). ويبدو انه في عالمنا المعاصر انتشر حسّ العدالة. وهذا الحس يُظهر بشكل أشد ما يناقض العدالة في العلاقات بين الناس وبين الطبقات وبين الجماعات وبين الدول. "وقد اصبح مبدأ حقوق الانسان مرتكزاً للعدالة الاجتماعية" (17/7).

نخلص الى القول ان الكنيسة، بعد كل التغييرات التي حصلت على اثر الثورة الصناعية في الجيل التاسع عشر، خطت خطوات جبارة في مرافقة الواقع الجديد والظروف المستجدة في حياة الانسان والمجتمع المعاصر. فهي لم تكن غريبة عما يعيشه ابناؤها ويعانونه في حياتهم اليومية.