بكركي، 16 ديسمبر 2007 (zenit.org).
ننشر في ما يلي العظة التي ألقاها البطريرك الماروني الكاردينال مار نصرالله بطرس صفير خلال قداس الأحد في كنيسة السيدة في الصرح البطريركي في بكركي.
* * *
"ويدعى اسمه عمانوئيل،أي الله معنا" ( متى 1: 23)
الله معنا. هذا هو الاسم الذي بشر به الملاك يوسف، وهو في الحلم: عمانوئيل. وشجعه على أن يأخذ مريم العذراء الى بيته، لأن المولود منها هو من الروح القدس. وأفهم الملاك يوسف أن عليه أن يدعو الصبي يسوع الذي معناه المخلص.أي ان هذا المخلص سيكون مقيما دائما معنا. وهذا ما يدخل الى قلوبنا ما تحتاج اليه في هذه الأيام من عزاء ورجاء.
ونعود الى العائلة ونرى أنها تختلف كل الاختلاف عما شاع تسميته بعائلة في بعض البلدان، ولكنه تزييف لمفهوم العائلة الصحيح التي هي صورة عن العائلة الالهية المؤلفة من ثلاثة أشخاص هم الآب والابن والروح القدس.
1- العائلة مؤلفة من أب وأم وأولاد
من راقب معنى الزواج والعائلة، قد يصاب بالذهول أمام الزواج بين المثليين. وقد أصبح زواج المثليين شائعا في المجتمعات الغربية في مختلف البلدان، وأقرته الدساتير والقوانين المرعية في كثير منها. ومعلوم أن القانون يتبع الحياة، ولكنه لا يلبث أن يعود اليها لكي ينظمها. ولكن هذا التنظيم قد يتم أحيانا عكس الحياة، وذلك عندما لا يحترم الشخص البشري، ولا يحسب أي حساب للطبيعة البشرية. وهذا ما يقود الى افراغ القانون من معناه، ويؤول الى عكس ما يراد منه. وللتخفيف من وقع هذا الوضع الشاذ، خلع بعضهم عليه أسماء من مثل:" عقد حياة مشتركة، أو شرعة حياة مشتركة، الى ما سوى ذلك من مصطلحات. وبعض من هؤلاء الشاذين يحاولون تبني اولاد.
ويبدو أن بعض المجالس النيابية في بلدان الغرب شرعت في اتخاذ خطوات قانونية لاقرار هذه الشواذات. ومن هذه الشواذات مثلا:" الغاء منع عقد زواج بين ثنائيي الجنس، وبين المثليين أيضا. ولكن هذه التشريعات لم تقر بعد. والقضاة في هذا المجال لم يتفقوا. والتشريع شيء وتطبيقه شيء آخر. ومن المفيد أن نذكر بما تقوله الكنيسة في هذا المجال:
الزواج بالنسبة الى الكنيسة هو عهد يقوم بين رجل وامرأة يؤلفان بموجبه شراكة تدوم مدى الحياة، وهو عهد معد من طبعه لخير الزوجين، ولايلاد البنين، وتربيتهم بحسب القانون 776 مقطع1. ويكون هناك زواج عندما يكون هناك رضى لدى الطرفين يعربان عنه بطريقة شرعية، وهما يملكان ملء قدرتهما القانونية، وهو رضى ليس باستطاعة أي سلطة بشرية أن تقوم مقامه، بحسب القانون. والرضى الزواجي هو فعل ارادة يمنح به الرجل والمرأة أحدهما الآخر، ويقبلان أحدهما الآخر بموجب عهد غير قابل للنقض ليشكل الزواج بحسب القانون. والزواج الصحيح يولد بين الزوجين رباطا دائما وحصريا من طبعه.
وبحسب الحق القانوني، ان لفظة زواج بامكانها أن تعبر عن العقد الذي يهب ويقبل بموجبه الرجل والمرأة احدهما الآخر، بطريقة دائمة وحصرية، ويقبل كل منها ويعطي الآخر الحق على جسده لجهة الأفعال التي تنتهي بالانجاب، أو الشراكة الدائمة التي تتولد بينهما، وهي نتيجة العقد السابق.
وطبيعة الزواج المسيحي التعاقدية تمد جذورها أساسا الى الرضى المتبادل بين الشخصين اللذين هما قانونا قادران، أي الرجل والمرأة، على منح احدهما الآخرالقبول ذاته، أو الرضى باعلان كل منهما ارادته اعلانا صريحا.
2- الزواج يقوم على الرضى المتبادل
ان التعبير عن الرضى في الزواج المسيحي يعود الى القاعدة الرومانية التي تقول بأن "الزواج لا يقوم على الجماع، بل على الرضى". فليس الجماع اذن ما يجعل أساس الزواج بل الرضى الذي يتخذ هنا معنى جديدا. وفي هذه الحال، ان الرضى لا يقوم على الارادة المتبادلة وحدها، والتي يثبتها الزمن بأن يعتبر كلاهما أحدهما الآخر زوجا وامرأة، لكنه يتضمن أيضا الاعلان الحر باتمام شريعة الانجاب الالهية. والانجاب، وهذا واضح، يتطلب الجماع بين الرجل والمرأة. وهذا يعني أنه ليكون هناك زواج مكتمل حقا، مع اكمال غاياته، لا بد من أن يتحقق مثل هذا الاتحاد بين شخصين من جنس مختلف. وفي حالة مخالفة، يكون العقد مستحيلا ويخرق أول شرط من الشروط المطلوبة، وهو أن يتم العقد بين شخصين كفؤين أي بين رجل وامرأة.
وان الزواج لا يكون الا بين رجل وامرأة. واذا تجاوز هذا المفهوم، عد شواذا غير مقبول. ولا معنى لقران بين غير رجل وامرأة، والقران بين رجل وامرأة هو في أساس العائلة. ولا مجال الى المقارنة بين هذا الزواج وغيره من الزواجات أو بين مثليين، أيا تكن الصيغة المعتمدة. وهذا واضح وصريح ولا يقبل الجدل لدى المسيحيين المؤمنين. وهذا افراغ للزواج من مضمونه ومعناه المألوف. وهناك من يتكلمون عن عائلة معاد تكوينها، أو عائلة ذات أب أو أم فقط. أو عائلة عاطفية تزول بزوال العاطفة.
واذا قبلنا بهذه التسميات، فان العائلة لا تبقى عائلة في مفهومها الصحيح. وقد شاعت تسمية العائلة بالتقليدية، ولكنه اسم لا يسوغه بعضهم. والتقليد يعني شيئا قديما، فقد جدته، وبالتالي قيمته، في عرف بعضهم.
غير ان الكثير من العائلات لا يزال متمسكا بالمفهوم الصحيح للعائلة. وهو مفهوم يوفر لهذه العائلات السعادة المرتجاة. ونتساءل من اين تستمد هذه العائلات ما تنعم به من سعادة؟ وهو سؤال يستأهل التفكير. وهناك من قال بموت العائلة، خاصة في اواسط القرن الفائت. ولكن العائلة تتابع نشاطها وحيويتها. ومتى ضاع معنى العائلة، ضاع معنى الزواج. لذلك يجب تسمية الأشياء بأسمائها، فلا يقال مثلا زواج بين مثليين، بحيث ان كل زواج، أيا يكن نوعه، وكل مساكنة شرعية أو غير شرعية، يصبح مقبولا. وهو غير مقبول.
وطبيعة التكوين عينها التي تميز الرجل والمرأة تقضي بالاحترام الواجب لكل منهما، وهما متساويان من حيث الكرامة، ولكنهما متكاملان بما بينهما من فوارق تكوينية. والله هو الذي جعل في قلب كل من الرجل والمرأة الانجذاب المتبادل احدهما الى الآخر. وهذا الانجذاب يصبح في الزواج عقدا قائما على الرضى المتبادل. وهذا يقود الى الانجاب. والاتحاد الزواجي متى اقترن بالرضى المتبادل يصبح رباطا أو اتفاقا ابديا لا عودة عنه. وهو اتفاق علني يشير الى ما للزواج من بعد اجتماعي. والرباط الزواجي واضح بالنسبة الى المجتمع بكامله. والمحبة الحقيقة الحرة بين الرجل والمرأة القائمة على الزواج تتحول بطبيعتها، فتبطل أن تكون محبة اختيار لتصبح محبة واجبة من باب العدالة على ما أبداه كل من الرجل والمرأة عندما أعطى كل منهما رضاه بدوره. والرضى القائم على الزواج ليس مطلق تعبير عن شعور مبهم، ذلك ان المحبة في الزواج تقضي حضورا وموافقة جسدية تنتهي بنقل الحياة يقوم به الرجل والمرأة. والمحبة الزوجية المنبثقة من الزواج تنفتح على الخصوبة والايلاد، وهذا حق تقضي به العدالة.
3-الوحدة والحصرية والأمانة
والرضى الباقي الى الأبد يقتضي الوحدة والحصرية والأمانة، وهذه الميزات التي يتمتع بها الاتحاد الزواجي تجد أساسها في طبيعة المحبة التي تقوم بين الرجل والمرأة. وهذا يعني أنه عندما يتحابب رجل وامرأة فهما يريدان دائما أن يكونا معا، وهذه هي الوحدة، ولا يريدان أن يقتسما الحياة أو خصوصيتهما مع غيرهما من الناس، وهذه هي الحصرية، وهما يريدان أن يبقيا متحدين، وهذه هي الأمانة. وهذا ما تقضي به العدالة. والزواج يؤسس اتحادا تتقاسم فيه ارادتان مشروع حياتهما، أي ما يملكان اليوم وغدا، وما هما، وما يكونان مستقبلا. ويصبح الزواج مؤسسة اجتماعية من باب المجاز. وما من مؤسسة اجتماعية يمكن ان نجد فيها ما نجد في الزواج من تفاهم قوي، ونهائي، بحيث ان المحبة الزواجية تتحول الى شيء واجب من الناحية القانونية. وهذا منطقي، لأنه من العائلة القائمة على الزواج يولد المجتمع بأكمله. فالزواج اذن هو المؤسسة الاجتماعية الناشئة عن الشخص، وهي تعطي المجتمع ما له من كيان.
والزواج هو مجتمع طبيعي ببن الرجل والمرأة. وهذا ما يدل عليه دائما الانجذاب الجنسي بين الرجل والمرأة، والانجاب الناتج عنهما، وحاجتهما الطبيعية الى التكامل بالاضافة الى حاجة الابناء الى والديهم لكي يبنوا هويتهم الشخصية، وحاجتهم الطبيعية المتعددة الى والديهما في مجال التربية، والأمان، والعطف، والتثقيف. وعندما يقبل الرجل والمرأة، بحرية تامة، مقتضيات المحبة هذه القائمة بينهما، فهما يقبلان بطريقة طبيعية أن يهب أحدهما الآخر احترام العهد الذي ألتزم كلاهما به. وعندما نرى هذه الموجبات وندير الظهر لها وللمحبة الانسانية، قد يصبح ذلك عبئا ثقيلا. لكن اذا نظرنا الى ذلك من الداخل، أي من طبيعة هذه العلاقة، نكتشف أن ذلك هو مطلب مقبول ينبع من مشاركة الزوجين الطبيعية. ان المحبة القائمة بين الرجل والمرأة تغير ما بينهما من جاذبية الى انصهار دون أن يقضي على تمايزهما، ويغير وجود كل منها الى وجودهما معا، واتحادهما الى مشاركة فيكونان جسدا واحدا. هذه هي الميزات الأساسية التي تحدد حتى اليوم الاتحاد الزواجي.
أيها الأخوة والأبناء الاعزاء،
الزواج المسيحي يقتضي له وحدة، أي رجل واحد لامراة واحدة، وحصرية، أي لا تعدد أزواج ولا تعدد زوجات، وأمانة أي لا خيانة في الزواج المسيحي. وهذا يجب أن يرافقه ايمان بالله راسخ، وارادة قوية، وسيطرة تامة على الارادة، بنعمة الله.
واذا عدنا الى ما نشهده عندنا على المسرح السياسي في هذه الآيام، نرى أنه يقتضي له وحدة نظرة الى شؤون البلد، ورأي سليم يتعالى على الأهواء، وحصرية، أي يجب أن ينصب الاهتمام على الشأن اللبناني، لنرى ما وصل اليه الشعب من سوء حال، ونحافظ على الوفاء لمصلحة لبنان، وليس على مصلحة سواه من البلدان. وهذا كله يتطلب منا الاسراع في انتخاب رئيس للجمهورية، وبعد ذلك يصار الى تنظيم ما يجب تنظيمه من شؤون. هذا ونسأل الطفل الألهي أن يفتح منا العيون على ما صرنا اليه من سوء حال، وأن يهدينا سواء السبيل.