روما، 1 يناير 2008 (zenit.org).
ننشر في ما يلي تأمل يناير للبابا بندكتس السادس عشر، من كتاب "بندكتس".
الأول من يناير
أم الله
إذا كانت مريم هي التي تلد الرب حقاً، إذا كانت تحمل في أحشائها من غلب الموت بالموت ومن هو الحياة بكل ما للكلمة من معنى، فمن هي أم الله هي حقاً "ولادة جديدة": بل هي وجه جديد للولادة منخرطة في الوجه القديم، تماماً كما أن مريم هي العهد الجديد وسط العهد القديم، وإن كجزءٍٍ من العهد القديم. وتلك الولادة ليست موتاً، بل هي تحوّل وصيرورة، وتفتّق للحياة يبدّد الموت ويتركه نهائياً وراءنا.
ويشير لقب "أم الله"، من جهة، إلى العذراء مريم: فهذه الحياة لا تُستمد من خلال الموت والتحول اليومي، بل هي بداية بحتة. ومن جهة أخرى، يشير العنوان إلى الصعود: فمن هذه الحياة تأتي الحياة وحدها، وليس الموت. وهذه "الولادة" الجديدة لا تفترض خلع الذات القديمة كشرط أساسي لا بدّ منه، بل هي تثبيت نهائي للذات ككل.
الثاني من يناير
منطق الكون
كلما غُصنا في معرفة الكون، كلما صُعقنا أكثر بوجود "حكمة" لا يمكن إلا أن نعجب وندهش لطرقها. فمتى سلكناها ألِفنا مجدداً ذلك المنطق الخالق الذي ندين له بمنطقنا. قال ألبرت أينشتاين في ما مضى إن في قوانين الطبيعة "ثمة منطق متفوّق، إذا بكل عظيم يخرج من فكر الإنسان وذهنه يبدو فراغاً أجوف بالمقارنة معه". وفي ما هو أوسع، في عالم الأجسام السماوية، يتجلى لنا منطق عظيم يؤمّن تماسك الكون ووحدته. فإذا بنا ندخل أعمق إلى أصغر ما يكون، إلى الخلايا وتركيبات الحياة الأساسية، فنكتشف، هنا أيضاً، منطقاً نعجب له، فإذا بنا نقول مع القديس بونافنتور: "من لا يبصر هنا فهو أعمى. ومن لا يسمع هنا فهو أصمّ. ومن لا يشرع في العبادة هنا وفي تمجيد المنطق الخالق فهو أبكم"… فالله نفسه يشعّ في منطق خليقته. فالفيزياء وعلم الأحياء، والعلوم الطبيعية عموماً، قد أعطتنا شرحاً جديداً وغير مسبوق لعملية الخلق، مع صور واسعة وجديدة تتيح لنا التعرف إلى وجه الخالق فندرك مرةً جديدةً أن في بداية وأساس كل كائن منطق خالق. فالكون ليس نتاج الظلمة واللامنطق. بل هو وليدة الفكر والحرية والجمال الذي هو مطابق للمحبة. وهذه النظرة إلى الأمور تمنحنا الشجاعة للإستمرار في العيش وتمدّنا بالقوة، وقد اطمأن البال منا، لكي نأخذ على عاتقنا الخوض في مغامرة الحياة.
الثالث من يناير
الخلائق التي يمكنها أن تكون واحداً مع المسيح
في العهد الجديد، يُشار إلى المسيح باعتباره آدم الثاني، وآدم النهائي، وصورة الله (1قور 15: 44-48؛ 1قو: 15). وهذا يعني أن فيه وحده يكمن الجواب الكامل على السؤال حول ماهية الكائن البشري. وفيه وحده ينكشف المعنى الأعمق لما يُعتبر حتى اللحظة مشروع تقريبي. فهو الكائن البشري النهائي، والخليقة هي، إذا جاز القول، رسم أولي يشير إليه. وبالتالي يمكننا القول إن الأشخاص البشريين هم الكائنات التي يمكن أن تكون إخوةً وأخوات ليسوع المسيح. والكائنات البشرية هي المخلوقات التي يمكن أن تكون واحداً مع المسيح وبذلك واحداً مع الله. من هنا، فإن العلاقة بين الخليقة والمسيح، بين آدم الأول وآدم الثاني، تعني أن الأشخاص البشريين هم مشاريع كائنات، بل كائنات يتميزون بالتحول. فهم ليسوا أنفسهم بعد؛ بل عليهم أن يصبحوا أنفسهم في نهاية المطاف. عليهم أن يموتوا مع المسيح كحبة الحنطة لكي ينموا بحق ويرتفعوا ويكونوا أنفسهم (يو 12: 24). ولا يجوز الحكم على الأشخاص البشريين فقط من منطلق تاريخهم الماضي أو على أساس لحظة يتيمة نسمّيها الحاضر. فهم موجهون نحو المستقبل ووحده المستقبل يكشف تماماً عما يصيرون إليه بحق (1يو 3: 2). علينا إذاً أن نرى دائماً في الأشخاص البشريين الآخرين أشخاصاً سيأتي يوم نشاركهم فيه فرح الله. علينا أن ننظر إليهم كأشخاص مدعوين، إلى جانبنا، ليكونوا أعضاء في جسد المسيح، وسيقوم يوم نجلس وإياهم إلى طاولة إبراهيم وإسحق ويعقوب، وإلى مائدة المسيح نفسه، بوصفنا إخوةً وأخوات لهم، وإخوةً وأخوات للمسيح، وأبناءً لله.
الرابع من يناير
الإيمان يبدّل الوقت
الوقت يتبدل بفعل الإيمان. ففي الإيمان، يُقاس الوقت…بأعمال الله الذي يلتفت قلبه نحو الإنسان في كل ما يصنع. ويُختصَر الحدثان الأبرزان اللذان تدور حولهما حركة الأزمنة بحسب مفهومنا المسيحي بولادة المسيح وقيامته. وتستند أعيادنا المسيحية إلى نظرتنا إلى أعمال الله هذه، وليس إلى مراقبتنا لحركة الكواكب. وتختلف العودة المستمرة لهذه الأعياد كل الإختلاف من الناحية النوعية عن العودة المتكررة للسنة من أول يوم وحتى آخر يوم فيها. فليست هي دورة متكررة دائماً أبداً بل تعبير هي عن محبة الله التي لا تنضب والتي ندركها بفعل الذاكرة. فخلافاً لبداية العام المدني، تتّسم بداية العام المسيحي –الميلاد- بتجدد متميز، حيث تقدم لنا مراراً وتكراراً الفرصة لنعود إلى صلاح الإله الذي تأنس، ونعود أطفالاً فيه، وفيه نحيا حياةً جديدة… فاليوم الثامن في حياة يسوع هو ذلك اليوم الذي فيه أصبح مواطناً شرعياً، قُل جزءاً من شعبه… ولمّا أصبح فصلاً حياً من فصول تاريخنا، إنجلى سرّ ميلادنا المظلم، وتحوّلت بداية وجودنا التي كانت توصَف تارةً بالنعمة وطوراً باللعنة، نعمةً حقة… واليوم الثامن هو أيضاً يوم قيامته ويوم الخلق في آنٍ معاً. فعمل الخلق عند الله لا يخفق لا يتوقف بل هو في حركة دائمة باتجاه القيامة… ففي خضمّ الوقت الذي يمضي، تومض دائماً بداية جديدة. وما هذه البداية الجديدة إلا الحب الأزلي.
الخامس من يناير
حدث الميلاد
لقد أصبحنا نؤمن بمحبة الله لنا: بهذه الكلمات يمكن للمسيحي أن يعبّر عن القرار الأساسي في حياته. فأن تكون مسيحياً ليس خياراً أخلاقياً أو فكرة عظيمة، بل هو لقاء بحدث وشخص يفتح للحياة آفاقاً جديدة واتجاهاً حاسماً. هكذا يصف مار يوحنا الإنجيلي هذا الحدث: "إن الله بلغ من حبه للعالم أنه جاد بابنه الواحد، لكي… من يؤمن به ينال الحياة الأبدية" (3: 16). والإيمان المسيحي، من خلال اعترافه بمركزية المحبة، قد أبقى على جوهر إيمان إسرائيل وضمّنه في آنٍ معاً عمقاً وبعداً جديدين. كان التقيّ من اليهود يتلو يومياً آيات سفر تثنية الإشتراع هذه التي هي تعبير عن جوهر وجوده فيهتف قائلاً: "إسمع يا إسرائيل: إن الرب إلهنا هو رب واحد. فأحبب الرب إلهك بكل قلبك وكل نفسك وكل قوتك" (6: 4-6). وقد جاء يسوع ليوحّد في تعليم واحد وصية الحب هذه تجاه الله ووصية محبة القريب الواردة في سفر الأحبار: "أحبب قريبك حبك لنفسك" (أح 19: 18؛ راجع 2 مك 29-31). ولمّا كان الله هو الذي أحبنا في البدء (1 يو 4: 10)، لم تعد المحبة اليوم مجرد "وصية" بل تفاعل مع عطية المحبة التي يقترب من خلالها الله منا.
(ترجمة وكالة زينيت العالمية)