عظة البطريرك الماروني مار نصرالله بطرس صفير

بكركي، 6 يناير 2007 (zenit.org).

 تابع البطريرك الماروني مار نصرالله بطرس صفير في قداس اليوم تلاوة رسالة البابا بينديكتس السادس عشر في مناسبة "اليوم العالمي للسلام وعنوانها "العائلة البشرية وجماعة السلام".
* * *

8- انه من الأهمية في مكان، من هذه الناحية، ان نشعر بأن الأرض هي بمثابة "بيت لنا مشترك". ولكي تكون في خدمة الجميع يجب أن نختار، عندما يتعلق الأمر بادارتها، طريق الحوار، وهي خير من طريق اختيار القرار الفردي. واذا كان لا بد من ذلك، ففي استطاعتنا أن نزيد الأماكن المؤسساتية على الصعيد الدولي، لكي نحسن، بطريقة متناسقة، ادارة "هذا البيت" الذي هو بيتنا.غير انه يجب، اولا انضاج الاعتقاد في الضمائر بانه علينا أن نتعاون معا تعاونا مسؤولا. والمشاكل التي تلوح في الأفق هي معقدة وملحة. ولمواجهة هذا الوضع مواجهة فاعلة، يحسن بنا أن نعمل عملا متناسقا. وهناك حقل يجب أن يتكثف فيه، في وجه خاص، الحوار بين الشعوب، وهو حقل ادارة موارد الطاقة على الأرض. والبلدان المتقدمة تقنيا، من هذه الناحية، تواجه أمرين ملحين: أولا تجب اعادة النظر في ما تعوده الناس من استهلاك مبالغ فيه، ومرتبط بطريقة التطور الحالية، وثانيا يجب النظر في التوظيفات المعتمدة بغية تنويع موارد الطاقة وتحسين استعمالها. والبلدان التي تبرز الى الوجود تحتاج شديد الحاجة الى الطاقة، غير أن هذه الحاجة قد تتوفر لها على حساب بلدان فقيرة تضطر، بسبب نقصان بناها التحتية، الى بيع موارد الطاقة عندها بأسعار متدنية. وان حريتها السياسية تعاني أحيانا من أنواع الحماية، أو على الأقل، من شروط تبدو في وضوح مذلة.
العائلة، والجماعة البشرية والاقتصاد
9- ان أحد شروط السلام في كل عائلة يكمن في أن هذه العائلة تعتمد على أساس متين من القيم الروحية والأدبية العامة. غير أنه تجب الاضافة أيضا أن العائلة تختبر السلام اختبارا صحيحا، عندما يتأكد لكل عضو من أعضائها ما يحتاج اليه، وعندما يدار الأرث العائلي، وهو ثمرة عمل بعضهم، وتوفير بعضهم الآخر، ومعاونة الجميع الناشطة، ادارة جيدة، بروح من التضامن، دونما مبالغة أو تشويه. ليستتب السلام في العائلة، يجب اذن من جهة أن يكون هناك انفتاح على تراث رفيع من الأخلاق، ومن جهة ثانية، وهذا ليس بأقل أهمية، يجب أن تتوفر في الوقت عينه، ادارة جيدة للأموال المادية، وللعلاقات بين الأشخاص. واهمال هذين الوجهين له نتائج وخيمة منها افساد الثقة المتبادلة بسبب الشك الذي يهدد مستقبل صميم العائلة.
10- يمكن تطبيق هذا التفكير على العائلة الأخرى الكبيرة التي هي البشرية جمعاء. وهي فيما تعرف اليوم وحدة كبرى بفضل العولمة، تحتاج ايضا، بالاضافة الى القيم العامة، الى اقتصاد يستجيب لمتطلبات الخير العام على قياس عالمي. والعودة، من هذه الناحية، الى العائلة الطبيعية، تبدو خاصة ذات معنى. يجب تطوير علاقات عادلة وصادقة بين الأفراد والشعوب، لكي يتمكنوا، على صعيد المساواة والعدالة، من التعاون. وفي الوقت عينه، يجب بذل كل جهد ممكن لتأمين استعمال منصف للموارد، وتوزيع عادل للثروات. وبخاصة، ان المساعدات الممنوحة للبلدان الفقيرة، يجب أن تخضع لمقاييس اقتصادية ذات منطق سليم، ومجانبة التبذير، الذي في نهاية الأمر، يقود خاصة الى اللجؤ الى أجهزة ودوائر مكلفة. ويحسن ألا تغرب عن البال المقتضيات الأدبية بحيث ان التنظيم الاقتصادي لا يكون فقط ثمرة قوانين صارمة تضمن الربح المباشر، وتبدو في النهاية غير انسانية.
العائلة، والجماعة البشرية والشريعة الأدبية
ان عائلة تعيش بسلام اذا كان جميع الذين يؤلفونها يخضعون لقاعدة عامة: وهذا يفسح في المجال لمقاومة الفردية والأنانية، ويخلق روابط بين كل من الأعضاء، تساعد على وجودهم المنسجم، ومعاونتهم في سبيل هدف مشترك. وهذا المقياس، الواضح في حد ذاته، يصح أيضا على الجماعات الكبرى: ذهابا من المستوى المحلي، والوطني، الى الجماعة الدولية عينها. ليكون هناك سلام، يجب أن يكون هناك شريعة عامة تفسح في المجال للحرية بأن تكون فعلا حرية، وليس ارادة عمياء، وتحمي الضعيف، من جور القوي. وفي عائلة الشعوب، نرى تصرفات عديدة كيفية، سواء أكان في داخل كل دولة، أم في العلاقات المتبادلة بين الدول. وفضلا عن ذلك، هناك حالات تقضي على الضعيف بالانحناء ليس أمام مقتضيات العدالة، بل أمام القوة الغاشمة التي يتمتع بها من كانت له وسائل أكثر من غيره. ولنكرر: ان القانون يجب أن يطوع القوة، ويجب أن يصح هذا أيضا على العلاقات بين الدول ذات السيادة.
12-ان الكنيسة غالبا ما قالت كلمتها في طبيعة القانون ووظيفته: القاعدة القانونية التي تنظم العلاقات بين الأشخاص، بتطويع التصرفات الخارجية، وبانزال عقوبات في الذين يخرقون التدابير المتخذة، لها مقياس أدبي قائم على طبيعة الأشياء. ان العقل البشري في مقدوره كذلك أن يتبين هذا المقياس على الأقل، على مستوى المقتضيات الأساسية، بعوده الى العقل الخلاق الذي هو الله، وهو في أساس كل شيء. وعلى هذا المقياس الأدبي أن ينظم خيارات الضمائر، ويوجه جميع التصرفات البشرية. هل هناك قواعد قانونية للعلاقات بين الأمم التي تكون العائلة البشرية؟ واذا كانت هناك قواعد، فهل هي فاعلة؟ الجواب نعم، هذه القواعد موجودة، لكنها، لكي تكون حقا فاعلة، يجب أن تصعد الى القاعدة القانونية الطبيعية، والا تكون هذه القاعدة خاضعة لرضى هزيل وسريع العطب.
13- ان معرفة القاعدة الأدبية الطبيعية، ليست مقصورة على الانسان الذي يخلو بذاته، والذي يتساءل أمام مصيره عما يميز في ذاته من تطلعات عميقة لها منطق داخلي. وفي امكانه أن يكتشف، بعد الكثير من الحيرة والتردد، هذه الشريعة الأدبية، على الأقل في خطوطها الجوهرية، هذه الشريعة التي تسمح للكائنات البشرية، بقطع النظر عن الفوارق الثقافية، أن يتفاهموا في ما بينهم، في ما يخص أهم وجوه الخير والشر، والعدل والظلم. ولا بد من العودة الى هذه الشريعة الأساسية ومن تكريس أحسن ما لدينا من قوى لهذا البحث، دون أن نستسلم للقنوط أمام الابهام، والألغاز. وفي الواقع، ان القيم المغروسة في الشريعة الطبيعية، ولو بطريقة مجتزأة وغير متجانسة، هي حاضرة في الاتفاقات الدولية، بصيغ سلطة معترف بها اعترافا شاملا في مبادىء الحق الانساني الذي سلمت به تشريعات الدول، أو في قوانين المنظمات الدولية. ان البشرية ليست من دون شريعة. وانه من الملح أن يتواصل الحوار في ما خص هذه الأمور بحيث تتمكن الدول من الوصول في تشريعاتها الى الاعتراف بحقوق الانسان الأساسية اعترافا متجانسا. ان تقدم الثقافة القانونية في العالم يتوقف، في ما يتوقف عليه، على الالتزام الرامي الى جعل القواعد الدولية أكثر فاعلية، هذه القواعد التي هي مضمون انساني عميق، وذلك مجانبة أن تصبح اجراءات يسهل الدوران حولها لأسباب انانية وعقائدية.

تجاوز الصراعات ونزع السلاح
14- ان البشرية تعيش، في أيامنا، لسؤ الطالع، انقاسامات كبيرة، وصراعات قاسية، تلقي ظلالا قاتمة على مستقبلها. وهناك مناطق واسعة من الكرة الأرضية تعاني من توترات متنامية. وهناك ما يحمل على خوف مشروع، يشعر به كل مسؤول، من أن تحوز بلدان كثيرة على أسلحة نووية. ولا نزال نشهد اليوم حروبا أهلية كثيرة في القارة الأفريقية، ولو لاحظنا في بعض البلدان بعض تقدم في ما خص الحرية والديمقراطية. والشرق الأوسط يبقى ساحة لصراعات واغتيالات لها عواقب على الشعوب والمناطق المجاورة. وقد تجرها الى دوامة العنف. وفي وجه عام، انا نرى بأسف شديد أن عدد الدول التي انزلقت الى السباق الى التسلح هو في تنام مستمر: وهناك دول لا تزال في طريقها الى النمو تخصص قسما مهما من نتاجها الداخلي الضئيل لشراء أسلحة. وهذه التجارة المشؤومة تتسع بفضل عدة مسؤوليات: هناك البلدان المصنعة التي تستفيد فائدة كبرى من بيع الأسلحة، وهناك الأنظمة المستبدة السائدة في كثير من البلدان الفقيرة، التي تريد أن تعزز وضعها عن طريق شرائها أسلحة أكثر تطورا. في هذه الأيام الصعبة، لا بد من أن ينبري جميع الأشخاص من ذوي الارادة الطيبة لايجاد اتفاقات عملية بغية نزع للسلاح ناجع، خاصة في ما يتعلق بالأسلحة النووية. وأشعر أنه من واجبي، فيما يتكاثر انتشار السلاح النووي، أن أحث السلطات لكي تعود الى التفاوض عودة ثابتة، بغية نزع الأسلحة النووية الموجودة نزعا تصاعديا، ومتفقا عليه. واني، فيما أجدد هذا النداء، أعرف أني أردد الأمنية التي يصوغها كل الذين يهمهم مستقبل البشرية.
15-لقد مرت ستون سنة على الاعلان الشامل لحقوق الانسان الذي احتفلت به منظمة الأمم المتحدة ( 1948-2008). لقد أرادت العائلة البشرية بهذه الوثيقة أن تبدي نفورها من فظائع الحرب العالمية الثانية، فاعترفت بوحدتها القائمة على المساواة من حيث الكرامة بين جميع الناس، وأقامت في وسط التعايش الانساني أحترام الحقوق الأساسية لكل فرد وكل شعب: وكانت خطوة ثابتة في الطريق الصعب المكلف الذي يقود الى الوفاق والسلام. ومن المستحسن أيضا أن نذكر الاحتفال بمرور خمس وعشرين سنة على تبني الكرسي الرسولي شرعة حقوق العائلة (1983-2008)، ومرور أربعين سنة على الاحتفال بأول يوم عالمي للسلام (1968-2008). ان الاحتفال بهذا اليوم الذي هو ثمرة الهام رباني للبابا بولس السادس، والذي ثابر عليه سلفنا الموقر البابا يوحنا بولس الثاني، قد أتاح للكنيسة، على مر السنين، أن تشرح، عبر ما نشرته من رسائل في هذه المناسبة، عقيدة مضيئة لمصلحة خير البشر الأساسي. وفي ضؤ هذه الاحتفالات المعبرة، اني أدعو جميع الرجال وجميع النساء لكي يعوا وعيا صافيا انتسابهم الشامل الى العائلة البشرية الوحيدة، وأن يبذلوا جهدهم لكي يكون التعايش على الأرض دائما انعكاسا لهذا اليقين الذي يتعلق به ارساء سلام حقيقي طويل الأجل على الأرض. وأني أدعو المؤمنين أيضا لكي يضرعوا الى الله دون ملل لكي يجود علينا بنعمة السلام العظيمة. أما المسيحيون فيعرفون أنه في امكانهم أن يلوذوا بحمى شفاعة تلك التي هي أم ابن الله الذي صار جسدا من أجل خلاص البشرية جمعاء، وهي أيضا أمنا جميعا.
أني أصوغ لكم جميعا أطيب الأماني في العام الجديد.
صدر عن الفاتيكان في الثامن من كانون الأول
البابا بندكتس السادس عشر.