البطريرك الماروني يتحدث عن كتاب يسوع الناصري للبابا بندكتس السادس عشر

في عظة يوم الأحد

بكركي، 14 يناير 2008 (zenit.org).

 ننشر في ما يلي نص العظة التي ألقاها البطريرك الماروني الكاردينال مار نصرالله بطرس صفير يوم الأحد في كنيسة الصرح البطريركي في بكركي، بعنوان "لكي… يعترف كل لسان ان الرب يسوع المسيح هو في مجد الله الآب".

"نبدأ اليوم الكلام عن كتاب قداسة الحبر الأعظم البابا بنديكتس السادس السادس عشر، الجديد الصادر في أيار من السنة الفائتة، وعنوانه: يسوع الناصري، وهو يتحدث عن يسوع من العماد في الأردن حتى التجلي. وسيليه لاحقا جزء ثان. وحديثنا اليوم عن مقدمة هذا الكتاب.

يقول قداسته ان هذا الكتاب عن يسوع، الذي نشر منه أول جزء، هو ثمرة مسيرة داخلية طويلة. لقد نشرت، طوال سني الشباب بين العقد الثالث والرابع، كتب كثيرة عن يسوع المسيح. ورسمت هذه الكتب صورة عن يسوع ابتداء من الأناجيل. ورسمته عائشا على الأرض بوصفه انسانا، وهو بهذه الصفة، حمل الله الى الناس، الله الذي يؤلف معه، بوصفه ابنا، كائنا واحدا. وهكذا بفضل يسوع الانسان، صار الله مرئيا، كما أن صورة الانسان البار صارت مرئية، انطلاقا من الله.ولكن الوضع تغير منذ السنوات الخمسين. واتسعت الهوة بين "يسوع التاريخي"، "ويسوع الايمان". وتباعد الوجهان بسرعة. ولكن ما معنى الايمان بيسوع المسيح، بيسوع ابن الله الحي، ما دام الانسان يسوع مختلفا عن يسوع الذي ترسمه الأناجيل، وعن يسوع الذي تنادي به الكنيسة انطلاقا من الأنجيل؟ ان التقدم الذي أحرزه البحث التاريخي النقدي أفضى الى فوارق دقيقة بين ما يقوله التقليد الذي في النهاية أصبحت معه صورة يسوع، التي لا بد من أن يعود اليها الايمان، غير واضحة، وحتى متبخرة. وفي الوقت عينه، ان اعادة تركيب صورة يسوع التي يجب البحث عنها في تقاليد الانجيليين ومصادرهم، ظهرت متناقضة: فمن جهة نرى الثوري المقاوم للرومان، الساعي الى تقويض السلطات القائمة والذي مني بالفشل، ومن جهة ثانية نرى يسوع النصوح الوضيع الذي يقبل بكل شيء، ويتسبب فجأة لنفسه بفشله دون ان يفهم أحد سبب هذا الفشل. وعندما نقارن بين هذه الصور، نرى أنها تعكس صور المؤلفين ومثلهم أكثر منها صورة المسيح، التي أصبحت متبخرة. وفي التالي، ان الحذر بالنسبة الى صور يسوع هذه المختلفة، تعاظم، بينما صورة يسوع أمعنت في التباعد عنا.

وفي نتيجة هذه المحاولات الطبيعية، يبدو أننا لا نعرف الا القليل الموثوق به عن يسوع، وأن الايمان بألوهته هو الذي صاغ صورته بعدئذ. وفي الوقت عينه، ان هذا الانطباع دخل عميقا في ضمير المسيحية الجماعي. وهذا الموقف هو مأساوي بالنسبة الى الايمان، لأن نقطة الارتكاز الصحيحة التي يستند اليها كل شيء، -أي الصداقة الحميمية مع يسوع – تبقى غير مؤكدة.وقد شعر أحد شراح الكتاب المقدس الكاثوليك الألمان المشاهير في القسم الثاني من القرن العشرين في أواخر حياته، بالخطر الذي يتهدد الايمان، خاصة بما في الكتب المنشورة عن جميع صور يسوع المسيح "التاريخية" من نقص، فوضع كتابه القيم:"شخص يسوع المسيح في مرآة الأناجيل الأربعة". وقد وضع هذا المؤلف في خدمة المؤمنين المسيحيين، الذين داخلهم الشك من جراء الأبحاث التاريخية، في ما خص قدرتهم على المحافظة على الايمان بشخص يسوع المسيح، مخلص العالم. وفي ختام كتابه، أوجز حياته التي أنفقها في البحث، بقوله: "ان البحث العلمي الذي يلجأ الى الوسائل التاريخية النقادة يصعب عليه ابراز صورة ترضي عن يسوع التاريخي، وان الجهود التي بذلها الشرح العلمي لنخل التقاليد تدخلنا في نقاش دائم عن التقاليد، والدرس التاريخي المتعلق بالصياغة، وهو نقاش لن يتوقف أبدا.

وان ما يمثله هذا الكاتب عن صورة يسوع، من جراء اتباعه صيغة البحث التي لا بد منها تبقى دائما ناقصة، ولا يمكنها أن تتحرر من بعض تناقض داخلي. ان المؤلف يظهر لنا صورة يسوع كما أظهرتها لنا الأناجيل، لكنه يراها من خلال تقاليد كثيرة لا يمكننا أن نرى يسوع الا من خلالها، ولا يمكننا أن نتبين وجه يسوع الحقيقي الا من بعيد. ولا بد قاعدة تاريخية، ولكن صورة الايمان التي هي صورة الأناجيل تحمل على تخطيها. وهذا ما لا يشك به أحد، ولكن حدود هذه القاعدة التاريخية تبقى هشة. والمؤلف أبرز النقطة الأساسية، فجعل منها معطى تاريخيا: وهي العودة الى الله، والرباط الحميم بالله اللذين يتميز بهما يسوع. "أن لم نرس في الله شخص يسوع المسيح، فهو يبقى غير واضح، وهيوليا، وغير قابل للشرح". وهو حجر الزاوية من كتابي. فهو يرى يسوع من خلال مشاركته الآب الذي هو مرتكز شخصيته. ودون هذه المشاركة، لا نفهم شيئا، وبفضلها، يجعل المسيح نفسه حاضرا بالنسبة الينا حتى اليوم.وفي وصف شخص السيد المسيح الواقعي، لقد حاولت الذهاب الى أبعد من المؤلف المشار اليه. وان ما أجده من ترابط غير وثيق بين العلاقة التي يحددها هذا المؤلف، وبين العلاقات التقليدية والأحداث التاريخية، يظهر واضحا، بحسب ما أرى، في العبارة التالية: ان الأناجيل "تريد، اذا صح التعبير، الباس صورة المسيح ابن الله السرية جسدا، وهو الذي تراءى على الأرض". وفي ما يتعلق بهذا الأمر، تبدو لي، يقول قداسته، وجهة نظر، وهي التالية: "ان الأناجيل لم تكن في حاجة الى الباس المسيح جسدا، لأنه كان قد أخذ جسدا في الواقع. يبقى أن نرى اذا كان مستطاعا أن نجتاز هذه الغابة من التقاليد لنجد هذا الجسد.

وقد اعترف هذا المؤلف بأنه مدين للطريقة التاريخية النقدية التي تكلمت عنها الرسالة الباباوية التي عنوانها: "الروح الألهي الذي هب"، و ظهرت سنة1943، وأجازت استعمالها في اللاهوت الكاثوليكي .وقد حددت هذه الرسالة مرحلة هامة بالنسبة الى شرح الكتاب الكاثوليكي. وقد ظهرت في داخل الكنيسة الكاثوليكية وخارجها، منذ بدء النقاش حول الصيغة المعتمدة لشرح الكتاب، طرق جديدة هامة لتفسير الكتاب المقدس، وهو شرح يتعلق بالعمل التاريخي، وما له من علاقة باللاهوت، وبالطريقة التاريخية. وقد اتخذت وثيقة الفاتيكان الثاني: "كلمة الله"، المتعلقة بالوحي الالهي، خطوة جديدة حاسمة في ما خص "الوحي الألهي". وهناك، ما عدا ذلك، ايضاحات جاءت ثمرة تفكير عميق في الجهود المبذولة لشرح الكتاب، ظهرت في الوثيقتين اللتين أصدرتهما لجنة الكتاب المقدس الحيرية: تفسير الكتاب المقدس في الكنيسة، والشعب اليهودي، وكتبه المقدسة في التوراة المسيحية.وأود على الأقل، بالخطوط العريضة، أن اشير الى ما هي التوجهات النابعة من هاتين الوثيقتين اللتين قادتا عملي في كتابة هذا الكتاب. والوجه الأول، وهو أنه من الناحيتين اللاهوتية والايمانية في جوهرهما، نجد ان الطريقة التاريخية ذاتها وتبقى بعدا لا بد منه لعمل التفسير. ومن الجوهري للأيمان الكتابي أن نستطيع العودة الى أحداث تاريخية حقا. فهي لا تروي أساطير كرموز الى الحقيقة تذهب الى أبعد من التاريخ، لكنها تقوم على تاريخ جرى على تراب هذه الأرض. فالواقع التاريخي ليس بالنسبة اليها صورة رمزية يمكن استبدالها، انه تراب هذه الأرض. التراب الذي يتألف منها. لقد تجسد، ونحن بهذه الكلمات نعترف بدخول الله حقا في تاريخ البشر.واذا استبعدنا هذا التاريخ، فان الايمان المسيحي يكون باطلا في حد ذاته، ويذوب في صيغة دينية أخرى. وما دام التاريخ الواقعي يشكل جزءا من جوهر الايمان، فعلى هذا الايمان أن يواجه الطريقة التاريخية. ان الدستور المجمعي في الوحي الألهي يقول ذلك بوضوح في العدد 12 ويصوغ في هذا السياق عدة عناصر اسلوبية حسية جديرة بالاحترام. وان وثيقة اللجنة الكتابية المخصصة لشرح الكتاب المقدس هي من الدقة بحيث نجدها في الفصل المعنون "طريقة تفسير ومقاربة".

من المستحيل، نكرر ذلك، أن نستغني عن الطريقة التاريخية النقدية بسبب هيكلية الايمان المسيحي. غير أنه يجب أن نضيف أمرين: ان هذه الطريقة، فيما هي أحد الأبعاد الأساسية للتفسير، لا تستغرق عمل التفسير بالنسبة الى الذين يرون في الكتابات التوراتية الكتاب المقدس وهم يعتقدونها موحاة من الله. وهذا ما سنعود اليه لاحقا.
والعنصر الثاني المهم، هو أنه يجب أن نميز حدود الطريقة التاريخية النقدية ذاتها. وبالنسبة الى من يشعر أنه معني بالتوارة، ان أول حد هو أن تضع الطريقة الكلمة في الماضي. وهي، بوصفها طريقة تاريخية، تدرس نص الحدث الذي رأى مولد النصوص. وهي تسعى الى معرفة الماضي واكتناهه بقدر ما يمكن من الدقة، مثلما كان في حد ذاته، قبل أن يكون الكاتب ما استطاع وأراد أن يقوله في ذاك العهد، على وجه التحديد، في نطاق تفكيره والأحداث. وعلى الطريقة التاريخية، لتبقى وفية لذاتها، لا أن تبحث فقط عن الكلمة في ماضيها، يجب أيضا أن تتركها في الماضي. وفي امكانها أن ترى فيها نقاط تماس في الحاضر، وفي الواقع، وفي امكانها أن تسعى الى تطبيقها على الحاضر، ولكنها لا تستطيع أن تجعلها حاضرة، وهذا يتعدى النطاق الموضوع لها. وفي الواقع، ان هذه الدقة في تفسير الماضي هو في وقت معا يشكل ما لها من قوة، وحدود.

ان الكلام عن يسوع المسيح الإله – الانسان، ليس بالأمر السهل. وهو كلام يصعب فهمه،ان لم يتداركنا الله بنعمة منه، تقودنا الى فهمه. ولا يعلم حقيقة الله الا الله، على ما قاله أحد المفكرين. وهذا ما توجه به يسوع عينه في الانجيل المقدس الى أبيه السماوي بقوله: "لقد أخفيت هذه عن الحكماء والفهماء، وأظهرتها للأطفال".
فما قولنا عما يغرقنا به بعضهم في هذه الأيام من أقوال فيها الكثير من المعميات، قد تجر الى ما لا تحمد عقباه. وقديما قيل: ان الحرب أولها كلام. وقانا الله شر الكلام والحروب".