عظة البطريرك الماروني مار نصرالله بطرس صفير 27/01/08

بكركي، 27 يناير 207 (zenit.org)

 ننشر في ما يلي العظة التي ألقاها البطريرك الماروني الكاردينال مار تصرالله بطرس صفير يوم الأحد في كنيسة الصرح البطريركي في بكركي، بعنوان "يقيم لك الرب الهك نبيا من بينكم"

"نتابع الحديث عن كتاب قداسة الحبر الاعظم البابا بنديكتوس السادس عشر: "يسوع الناصرة", ونورد اليوم الجزء الاول من المقدمة وعنوانه "نظرة اولى الى سر يسوع".

يخفي سفر تثنية الاشتراع وعدا يختلف كل الاختلاف عن رجاء باقي اسفار العهد القديم المسيحاني. وهو بالغ الاهمية لفهم وجه يسوع. فهو ليس ملك اسرائيل, ولا ملك العالم, ولا داود الجديد, الموعود به, لكنه موسى الجديد فيما موسى قد ظهر على انه نبي. وتسمية نبي تبرز في العالم الديني المحيط وتحدد كشيء لا مثيل له ومختلف. لا وجود له بهذه الصيغة الا في اسرائيل. والجدة والفرق اللذان تتميز بهما هذه التسمية تتأتى عن نوعية الايمان بالله الذي خص به الشعب الاسرائيلي. ومنذ القدم تساءل الانسان ليعرف من اين اتى, وهو على الاخص قلق مما يكتنف اصوله من ظلام, ومن عدم رؤية مستقبله, يريد ان يمزق الستار, ويعرف ما يجري للنجاة من الويل, وايجاد طريق الخلاص.
وليست الاديان فقط خاضعة للمساءلة عن اصلها, وكلها تحاول ان ترفع البرقع عن المستقبل. وان اهميتها تكمن في انها تعرف انها تنقل ما سيحدث, لتسمح هكذا للانسان ان يجد الطريق الذي عليه ان يسلكه لكيلا يسقط. هذا هو السبب الذي من اجله تحدثت فعليا جميع الاديان عن صيغ المستقبل المرتقبة.

ان سفر تثنية الاشتراع يعدد مختلف صيغ "الانفتاح" على المستقبل في محيط اسرائيل: "اذا اتيت الارض التي يعطيكها الرب الهك فلا تتعلم ان تصنع مثل رجاسات تلك الامم. لا يوجد فيكم من يجيز ابنه او ابنته في النار ولا من يتعاطى عرافة ولا مشعوذ ولا متفائل ولا ساحر. ولا من يرقي رقية ولا من يسأل تابعة ولا من يستشير الموتى. لأن كل من يصنع ذلك ممقوت عند الرب ولاجل تلك الرجاسات سيطرد الرب الهك اولئك من وجهك "تثنية الاشتراع 18/ 9 -12).

والى اي حد كان يصعب العدول عن ذلك, هذا ما تدل عليه دلالة واضحة قصة نهاية شاول: وهو كان قد حاول ان يطبق هذه الوصية, وان يلغي كل انواع السحر, ولكنه وقد كان يواجه خطرا مداهما, وهو خطر خوض معركة مع الفلسطينيين, فما تحمل صمت الله وذهب على ظهر حصان الى احدى العرافات التي كان عليها ان تستلهم روح صموئيل ليفتح لها عينيها على المستقبل: عندما يصمت الرب, فان آخر عليه ان يمزق ستار المستقبل (راجع صموئيل 28).

ان الفصل الثامن عشر من تثنية الاشتراع يرذل كل هذه الاساليب للدخول في المعرفة المستقبل, بوصفها اياها رجسا في عين الرب, وهو يضع قبالة هذه الطريقة لمعرفة المستقبل طريقة اخرى خاصة باسرائيل هي طريق الايمان في صيغة وعد: "لان الرب الهك اختاره من جميع اسباطك ليقف للخدمة باسم الرب هو وبنوه كل الايام".
لاول وهلة، يبدو ان ذلك وعد يقيم النبوءة في اسرائيل، ومهمة النبي ترجمة الحاضر والمستقبل الموكولة اليه.
وانتقاد الانبياء الكذبة الذي نجده دائما في الاسفار النبوية، يدل على خطر قيام الاسفار النبوية بدور العرافين، وتصرفهم هذا التصرف للاجابة على الطلب، وهو طلب يوقع اسرائيل ثانية في الضلال الذي تلقى الانبياء الرسالة لابعاده".

وختام سفر تثنية الاشتراع يعود مجددا الى الوعد ويلبسه لباسا مفاجئا يذهب الى ابعد من قيام النبوءة، ويعطي وجه النبي معناه الخاص. ويمكننا ان نقرأ في الواقع ما يلي: "ولم يتم من بعد نبي في اسرائيل كموسى الذي عرفه الرب وجها الى وجه". وهذه الخاتمة لخامس سفر من اسفار موسى تسوده مسحة غريبة من الكآبة. ان الوعد، "لنبي مثلي" لم يتحقق بعد. ويبدو الآن ان هذه الكلمات لا تشير فقط الى قيام النبوءة، لان النبوءة كانت موجودة، بل الى امر اكثر اهمية، وهو الاعلان عن موسى جديد. وكان واضحا ان الاقامة في فلسطين لم تكن الدخول في الخلاص، وان اسرائيل تنتظر تحريرها الحقيقي، وان هجرة اكثر ايذاء كانت ضرورية، وانه للحصول على ذلك كان يجب بروز موسى جديد.

وبعد قيل ايضا ان ما يميز موسى، وما يشكل خصوصيته، وجوهر وجهه هو انه: "رأى الله وجها لوجه وخاطبه خطاب صديق لصديق: ويكلم الرب موسى وجها الى وجه كما يكلم المرء صاحبه، واذا رجع الى المحلة كان خادمه يشوع بن نون الغلام لا يبرح من داخل الخباء". وان ما يميز جوهريا وجه موسى ليس العجائب المنسوبة اليه، ولا الاعمال والتجارب التي حدثت له، وهو يجتاز صحراء مصر "بيت العبودية"، على عتبة ارض الميعاد. ان ما كان حاسما هو ان موسى خاطب الله خطاب صديق. وهذا وحده كان منطلق اعماله، وهذا ما تجذرت فيه الشريعة التي كان لها ان تشير الى الطريق التي كان على اسرائيل ان يتبعها في التاريخ.

والآن اصبح واضحا ان النبي ليس نسخة اسرائيلية عن العراف، كما اعتبره غالبا بعضهم، وكما رأى انبياء كذبة عديدون ذواتهم، لكنه يعني شيئا آخر مختلفا كل الاختلاف: فهو ليس هنا لينشر احداث الغد او بعده ولارضاء فضول الناس او حاجتهم الى الطمأنينة. فهو يظهر لنا وجه الله، وفي التالي الطريق التي يجب ان نسلكها. والمستقبل الذي تعنيه هذه التعاليم يذهب الى ابعد بكثير مما نبحث عن معرفته عندما نسأل العرافين. فهو يرشد الى الطريق الذي يوصل الى "الخروج" الحق، والذي يبحث عن كل طرق التاريخ، ويخط الطريق الموصل الى الله، ذلك انه يجب اتخاذ الاتجاه الصحيح. وبهذا المعنى، ان النبوءة تقابل من وجه الضبط، ايمان اسرائيل باله واحد، هذا معناه نقله الى حياة جماعة عملية، تمثل امام الله، وعلى الطريق تجاه الله.

"ما قام في اسرائيل نبي كموسى"، هذا القول يولي بعدا جديدا اخريا، الوعد الذي بموجبه يبعث الله الرب الهكم نبيا مثلي، بامكان اسرائيل منذ الآن ان يتأمل ان يكون له نبي جديد، لم يظهر بعد، لكنه سينهض في الساعة الموعودة.
وعلامة هذا النبي الخاصة هي انه يواجه الله وجها لوجه مواجهة صديق لصديق. وعلامته الفارقة قربه من الله بحيث انه يستطيع ان يبلغ دون واسطة، وبالتالي دونما تزيين كلام الله. وهذا هو العنصر الخلاصي الذي ينتظره اسرائيل، وتنتظره البشرية. وعلينا ان نذكر هنا بقصة غريبة تتعلق بعلاقة موسى بالله، وهي قصة رواها سفر الخروج. لقد روت الصلاة التي وجهها موسى الى الله قال "أرني مجدك". وهذه الصلاة لم تستجب: "لا يمكنك ان ترى وجهي : "وقال اما وجهي فلا تستطيع ان تراه لانه لا يراني انسان ويعيش". ورأى موسى انه اعطي مكانا بالقرب من الله في تجويفة صخر يمر الله امامها بمجده. وفيما يمر الله امامه يغطيه بيده، ويسحبها لاحقا ويقول له: "ثم ازيل يدي فتنظر قفاي واما وجهي فلا يرى".

هذا المقطع العجيب قام بدور اساسي في تاريخ الصوفية واليهودية والمسيحية، لانه انطلاقا منه حاول بعضهم ان يعرف الى اي حد يمكن الذهاب بالاتصال بالله في هذه الحياة، وتمييز حدود الرؤية الصوفية. اما ما يهمنا الآن، فهو ان قرب موسى من الله الذي جعل منه وسيط الحي الكبير، وسيط العهد، يبلغ هنا حدوده. فهو لم ير وجه الله، ولو غرق في الغيم قريبا من الله، وخاطبه خطاب صديق. وهكذا ان وعد "نبي مثلي" تخفي ضمنا انتظارا اكبر، وهو ان آخر نبي وهو موسى الجديد، سيعطى ما لم يحصل عليه موسى، اي رؤية وجه الله فعلا مباشرة. ومكالمته انطلاقا من هذه الرؤيا، وليس فقط لانه رأى الله من الظهر. وهذا يتضمن، في شكل شبه طبيعي، الامل بان موسى الجديد سيكون وسيط عهد ارفع من العهد الذي تمكن موسى من حمله من سيناء: "اما المسيح الذي جاء حبرا للخيرات المستقبلية فيمسكن اعظم واكمل لم يصنع بايد اي ليس من ذلك البناء. وليس بدم تيوس وعجول بل بدم نفسه دخل الاقداس مرة واحدة فوجد فداء ابديا".

وفي هذا الاطار نجد مفتاح قراءة ختام مقدمة انجيل يوحنا: ان الله ما رآه احد البتة، والابن الوحيد، الذي هو في حضن الآب، هو الذي قاد الى معرفته "الله لم يره احد قط الا الابن الوحيد الذي في حضن الآب هو أخبر". ذلك ان في يسوع تم سر الوعد لنبي جديد, وبه تحقق تماما ما بقي مكتمل لدى موسى: عاش امام وجه الله، ليس بوصفه فقط صديقا، بل بوصفه ابنا عاش مع الاب بأوثق اتحاد.

هذه هي نقطة الانطلاق التي يمكن منها معرفة وجه يسوع، على ما يقترحه علينا العهد الجديد، وان كل ما يقال عن يسوع، وكلامه، وأعماله، وآلامه، ومجده، يجد هنا اساسه. واذا اهملنا هذا، وهو الاساس، نكون قد عبرنا الى جانب ما يتميز به وجه يسوع ليصبح وجها فيه تناقض وبالتالي غير مفهوم. والسؤال الذي يطرح نفسه حتما امام كل قارىء للعهد الجديد يبحث عن معرفة من اين استطاع يسوع ان يستخرج تعليمه. وهذا ما يشرح طرق تصرفه، ان هذا السؤال لا يمكن ان يكون له جوابا الا انطلاقا من هنا. أن ردة فعل سامعي يسوع كانت واضحة: هذا التعليم لا يأتي من أية مدرسة، وهو مختلف كل الاختلاف عن التعليم الذي تلقته المدارس. وهو ليس شرحا لطريقة التفسير التي تتناقلها المدارس. فهو مغاير تماما. أنه تعليم فيه سلطات وتجب العودة، لدى التفكير بعبارات يسوع، الى ما يقوله سامعوه، والتعمق في معناه.

الحديث عن موسى ويسوع المسيح هو حديث لا يخلو من فائدة للتعمق في الايمان. والايمان هو ليس فقط أساس الدين بل أساس كل قضية كبرى. والايمان بالوطن واجب لا بد من ترسيخه في القلوب والعقول.
لكن ما نشهده من تصرفات ونسمعه من أقوال لا يدل على أيمان كبير بالوطن لدى بعض الناس. والوطن لا يعني المواطنين وحسب, بل يعني ما بناه السلف الصالح وتركه لنا من تراث وتاريخ وعادات يجب التمسك بها والعودة اليها. مكننا الله من تأثر خطى السلف الصالح، آمين"