معاً أمام الله ولذلك معاً في الدفاع عن الإنسان

الأب كريستيان فان نيسبن اليسوعي(1)

باسم الله الذي يجمعنا في رحمته ومحبته، والذي نؤمن به جميعاً.

أيها الإخوة والأخوات في الله،

على أي أساس نكون معاً، نحن المسيحيين والمسلمين في عالم اليوم وخاصة في هذه المنطقة من الأرض- التي دعانا الله إلى العيش فيها؟ على أي أساس نبني مستقبلنا المشترك ونجتهد معاً في سبيل حياة أفضل لجميع أعضاء مجتمعاتنا؟.

كثيراً ما ننظر بعضنا إلى بعض أولاً وقبل كل شيء بصفتنا منتمين إلى جماعتين دينيتين مختلفتين اختلافاً عميقاً وكأنه لا يوجد ما يجمعنا في العمق. ومرات أخرى ننظر بعضنا إلى بعض عكس النظرة الأولى، على أساس كوننا إخوة وأخوات في الإنسانية، وأيضاً شركاء في المواطنة الواحدة، مدعوين إلى العيش المشترك، ولكن بغض النظر عن الانتماء الديني المختلف، بغض النظر عن البعد الديني والروحي في حياتنا، وتأكيداً لذلك يوجد عدد من الناس الذين يقولون إن علاقاتنا على ما يرام طالما لا نتكلم عن الأمور الدينية.

لذلك أطرح اليوم السؤال: ألا يمكن تجاوز هذه المفارقة؟ أولاً يمكن أن ننظر بعضنا إلى بعض بكوننا مشتركين في اختلافنا، شركاء حقيقيين في المجال ذاته الذي نختلف فيه؟ ألا توجد بيننا إخوّة حقيقية لا تنحصر في البُعد الإنساني البحت، في البُعد الاجتماعي والسياسي والثقافي، بل تصل إلى الإخوّة الإيمانية والروحية، دون أن ننكر إطلاقاً الاختلاف الديني بيننا ودون أن نغفل عن أهمية ذلك الاختلاف؟

أريد في هذا الحديث أن أطرح أمامكم اقتناعي العميق أننا نقدر أن نواجه اختلافنا مواجهة إيجابية وبنّاءة وأنه في وسعنا أن نعيش شركة حقيقية في إيماننا المختلف فنكون معاً كمؤمنين مختلفين، مسؤولين معاً وباسم الله عن مصير الإنسان في مجتمعنا. إننا حقاً معاً أمام الله، ولذلك معاً في الدفاع عن الإنسان.

إننا نؤمن بالله، ونؤمن بالله ذاته. ليس هذا هو اقتناعي الشخصي فقط ولكن هذا هو الموقف الرسمي للكنيسة الكاثوليكية، التي أنتمي إليها، هذا هو موقفها الرسمي على الأقل منذ المجمع الفاتيكاني الثاني الذي انعقد من 1962 حتى 1965 والذي يتكلم في نصين من وثائقه عن المسلمين فيقول في الدستور العقائدي عن الكنيسة، موضحاً العلاقة بين الكنيسة والمسلمين، إن المسلمين "يعبدون معنا الإله الأوحد، الرحيم، الذي سيدين البشر في اليوم الأخير"(16).

لا يقول المجمع إن لنا تصوراً مشتركاً لله وعقيدة واحدة خاصة به تعالى- كأن الكلام عن قاسم مشترك غير مسيحي وغير إسلامي، وبالتالي مجرد تصور نظري فقير، نوع من الفكر، النظرية البحتة. لكن الكلام عن الحقيقة الحية ذاتها، حقيقة الإله الحي الذي نتجه إليه جميعاً ونبحث عنه في واقع حياتنا.

إن ما نقوله عن الله سبحانه وتعالى هو مختلف- إن تصوراتنا وعقائدنا وكلماتنا الخاصة بالله هي مختلفة وإن وُجدت فيها أيضاً عناصر مشتركة مهمة، ولكن من نؤمن به ونعبده ونتوب إليه هو هو: الإله الواحد الحي القيوم الذي خلقنا والذي نحن كلنا منه وإليه.

إننا كلنا لا نعبد خليقة من الخلائق بل نرفض العبادة لأي عنصر من عناصر هذا العالم- مادياً كان أو معنوياً- إننا كلنا نؤمن أن الإله الحي المتميز عن جميع خلائقه هو الذي خلقنا كما خلق كل ما يوجد دون استثناء. فنتحرر بالتالي من كل ما هو خضوع لأي سلطة وقوة مخلوقة خضوع المربوب لربه. فأصبحت جميع الخلائق موجودة للإنسان، حتى تساعده على الوصول إلى غايته كما أن الإنسان هو الله ليتمجد الله فيه.

نؤمن كلنا بالله الذي هو أكبر، أكبر من كل ما نقدر أن نتصوره ونفكره ونقوله، والذي هو المتعالي على خلائقه التي كلها به ومنه وفيه، وهو بالتالي في الآن ذاته حاضر فيها أيضاً. فنتجه إليه تعالى، لا بالهروب من هذا العالم ولكن بما نتجاوب معه في استعمالنا لخلائقه.

إن الإله العلي الحي الذي نؤمن به جميعاً هو في نظرتنا كلنا واحد وحدة مطلقة وهو الذي لا إله إلا هو، كما يقول الكتاب المقدس في عهديه القديم والجديد- والقرآن الكريم جميعاً.

ونؤمن جميعاً أن الله الحي الذي هو الكل في حياتنا هو رحيم، يهمه الإنسان- كل إنسان فردي والجماعة البشرية بأسرها- ويهتم بهم. "وإن كان الله معنا فمن يكون علينا"، كما يقول القديس بولس (رو 8/31).

إن الله الذي يتم بالإنسان هذا الاهتمام العظيم، خلق الإنسان واعياً وحراً، وبالتالي مسؤولاً أمامه. إنه تعالى يريد الإنسان سعيداً سعادة أبدية، ولكنه لا يحقق ل هذا دون تعاون هذا الإنسان ودون تجاوبه مع إرادته الصالحة. فالله إذن هو مصدر مصير الإنسان الأبدي، وهو المصدر والأساس لحياتنا الخلقية، حياة الناس بعضهم مع بعض تحت نور الله. وإن كان الإنسان كثيراً ما ينحرف ويبتعد عن ربه.

نؤمن كلنا أن الله هو من يدعو الإنسان إلى التوبة، وإلى العودة إليه- وإن اختلفت عقائدنا فيما يخص كيفية تدخل الله لهداية الإنسان. ومع ذلك تمثل لنا جميعاً عودة الإنسان نحو الله أيضاً عودة الإنسان إلى أخيه الإنسان.

ثم نلاحظ أنّا نقول في كل هذا: "نؤمن". إننا نؤمن بالله ولا يمثل هذا مجرد اقتناعاً نظرياً بفكرة مجردة، ولكن الإيمان هذا بالنسبة إلينا جميعاً هو موقف وحركة والتزام، إن الإيمان هو موقف عقلي وحياتي لأنه علاقة بكائن حي. لا يمكن أن يكون مجرد ملاحظة.

الإيمان بالله هو موقف من الله وفي الآن ذاته موقف من كل شيء، لأنه ينسب كل شيء إلى الله فيصبح الله المرجع الأساسي في التعامل مع كل الخلائق. هو اعتراف أن الله هو المطلق الوحيد في حياتي وأنه الكل، وبالتالي هو اختيار أساسي بين كل ما هو غير الله- مهما كان عظيماً- وبن الله، بين المال والشهرة والنجاح والعلم بل حتى تملك الخبرة- باختصار كل ما هو امتلاك الذات، من ناحية وبين رب كل هذه الأشياء والقيم وخالقها، بين كل الأشياء وبين الكل الذي يعطي قيمة لكل الأشياء فيجب أن يُرجع إليه.

إن الإيمان هو يقين، ولكن ليس كاليقين النظري مثل يقين الرياضيات ولكنه يقين يشمل العقل والوجدان، يقين العلاقة مثل تيقن الصديق من صديقه- وأكثر من ذلك- إنه يقين جدير أن يضحي الإنسان في سبيله بحياته لأنه يقين الشاكر نحو من يعطيه كل شيء. إن يقين الإيمان لنا جميعاً- مسلمين ومسيحيين- يقين عرفان الجميل، يتحول إلى تسليم القلب له تعالى والاستعداد لخدمة الجلال الإلهي في كل شيء، في كل ما نقوم به وفي كل مواقف حياتنا. ألا يتقابل هنا المسيحي والمسلم في الإعجاب الفعال أمام إيمان إبراهيم المستعد ليضحي بابنه، مؤمنا بحكمة الله ورحمته، معطياً لله أثمن ما عنده؟

إن موقف الإيمان بالله الحي، رب حياتنا، هو التزام نحوه التزام الحبيب نحو حبيبه- إن كان هذا في الصداقة أو في الزواج- بل التزام المؤمن نحو ربه هو المصدر الحقيقي لكل التزاماته الأخرى.

إن موقف الإيمان هذا الذي نلتقي فيه هو حركة. إن هذا الإله الذي لا يمكن أن ندركه ونحيط به، والذي هو أكبر من كل ما نصل إليه، لا نقدر أن ندخل في علاقة معه إلا بالحركة المستمرة، نحوه، حركة تبتدئ دائماً من جديد فتصبح فيه كل نقطة وصول نقطة انطلاق جديدة- كما قال بعض الروحيين: نتحرك فيها من بداية إلى بداية! فقال العلامة القديس أوغسطينوس مخاطبا الله: "إنك تبحث عن الهاربين منك وتهرب من الباحثين عنك!". يهرب من الباحثين عنه تعالى، لا ليعذبهم بل ليجتذبهم ويحركهم وبهذا يحييهم.

هذا الإيمان الذي يرى فيه المسلم والمسيحي موقفاً حياً من الله ومن العالم ومن الذات، من كل الأشياء ومن كل الأشخاص، هو موقف يضعنا بالتالي على الطريق الواحد، طريق المؤمنين الذي هو طريق السائرين السالكين نحو ربهم الواحد، طريق السائحين الروحيين على دروب الله. إن موقف الإيمان يضعنا نحو المسيحيين والمسلمين معاً أمام الله وفي حضوره، يجعلنا نسير معاً نحوه تعالى. فيصبح هكذا إيماننا موضع الالتقاء. وإذا كان هذا الإيمان هو علاقة حية بالله الحي، فإننا نلتقي معاً في داخل هذه العلاقة، في داخل علاقتنا بالله، نلتقي في الله سبحانه وتعالى وباسمه. فيكون الله العلي هو الذي يجمعنا.

إن الله خلق الإنسان شركة، لم يخلقه أفراداً متفرقين منعزلين بعضهم عن بعض، ولكنه تعالى خلق الناس حتى يكوّنوا جماعة بشرية، إخوّة حقيقية باسمه وتحت نور لطفه. كجماعة وشركة نقبل من الله هبة الوجود والحياة. ولذلك نقبل هذه الهبة الإلهية أيضاً بعضنا من خلال بعض.

بالتالي لا أقدر أن أؤمن بالله وأعبده عبادة حقة دون أن أحترم أخي الإنسان الذي وضعني الله ذاته في شركة الوجود والحياة معه. ها نحن مدعوون باسم إيماننا بالله، إلى احترام بعضنا بعضاً كما نحن، إلى قبول الآخر كما هو بما في ذلك من الاختلاف بيننا. يدعونا الله أن نكون معاً في حضوره وأمامه بصفتنا مؤمنين مختلفين. إن هذا الاختلاف هو سبب ألم لأنه يجعلنا نختلف في أثمن ما عندنا، ولكن أمام الله لا يمكن أن يُصبح هذا الاختلاف سبب احتقار أو سبب رفض بعضنا لبعض، أو سبب تعصب وانغلاق.

إننا نختلف ضميرياً، أي في موقف ضميرنا أمام الله، فيما نراه أمانة قلبنا نحوه: بالتالي اختلافنا هو في الحقيقة نقسها التي فيها نلتقي. ألا يعني هذا أننا نقدر أن نعيش هذا الاختلاف معاً، أن نعيش اختلافنا بطريقة إيجابية. أقصد بذلك أن نعيش اختلافنا باحترام جذري لشخص الآخر بكونه خليقة الله وبكونه مؤمناً بالله وبكونه صاحب ضمير حي، ضمير مقدس، باحترامي لضمير الشخص الآخر احترام الله سبحانه ذاته، واهب هذا الضمير. فنقدر أن نلتقي ليس فقط رغم اختلافنا بل في اختلافنا. فنعيش أيضاً معاً ألم هذا الاختلاف. أليس هذا أيضاً معنى العبارة القرآنية "لا إكراه في الدين" "أي لا يمكن أن يتحقق الإيمان الديني والعلاقة الحية بالله بالإكراه- الذي لا يمكن أن يوصل إلا إلى ظاهر الاقتناع دون حقيقة اقتناع القلب؟ ولذلك لا يجب أن يمارس الإكراه في المجال الديني أبداً.

عندما نعيش التقاءنا بهذه الروح نقدر أن نلتقي في خبراتنا الروحية ذاتها- دون أي جدال- وهنا نجد مجال اللقاء الروحي هذا المجال المجهول والمظلوم في كثير من علاقاتنا.

ألا يصبح حينئذ التقاؤنا بعضنا ببعض ومعايشتنا ومشاركتنا "العيش والملح" وتعاوننا على كل المستويات جزءاً أساسياً من علاقتنا بالله تعالى نفسها؟

بهذه المسيرة نصبح- نحن المسيحيين والمسلمين- دون أن ننكر اختلافاتنا ولا أهميتها ودون أن نقلل أو نخبئها، نصبح حقاً إخوة في الله وبالتالي مسؤولين بعضنا عن بعض أمام الله وباسمه تعالى مسؤولية الأخ عن أخيه.

عندما يتقدم الالتقاء والعلاقة بهذه الطريقة- وأنا أؤمن أن مثل هذه المسيرة ليست بحلم رومانسي ولكنها إمكانية حقيقية إن آمنا بها وطلبناها من الله تعالى ذاته بصفتها هبة من لطفه- عند هذا التقدم للمسيرة المشتركة نستطيع أن ندعو بعضنا بعضاً إلى الإصغاء إلى الله وإلى التوبة إليه والاهتداء به تعالى- كل واحد منا حسب ضميره. ألا نصبح حينئذ بعضنا لبعض شهوداً لله، كل واحد منا كما هو؟ فبذلك نعيش خبرة الشهادة المتبادلة بأثمن ما عندنا، دون دعاية ولا جدال ولا إكراه، بل بالاحترام الصادق والحوار الحقيقي المخلص الذي ليس وراءه أهداف مخفية ملتوية، حوار من أجل الفهم والتفاهم والإصغاء، من أجل التقاء المؤمنين المختلفين، مقتنعين أن الله سبحانه يخاطبنا أيضاً من خلال هذا الحوار.

إن كنا هكذا- نحن المؤمنين المختلفين، مسلمين ومسيحيين- معاً أمام الله، لوجدنا أنفسنا أيضاً معاً في الدفاع عن الإنسان. بالنسبة إلينا كلنا، مسيحيين ومسلمين، الله الذي نؤمن به والذي نلتقي أمامه، هو الذي يدعونا إلى احترام الإنسان- كل إنسان- كما قلنا يدعونا إلى احترام هذا الإنسان الذي هو خليقة الله المتميزة عن سائر المخلوقات، بل يدعونا إلى الدفاع عن هذا الإنسان عن كرامته وحياته وحقوقه، لأنه إنسان.

بالنسبة إلينا جميعاً الإنسان هو مقدس، يمثل قيمة مقدسة أعطاه إياها الله سبحانه وتعالى ذاته، وإن عبرنا عن ذلك بطرق مختلفة وعلى أساس اعتبارات مختلفة إلى درجة ما:

بالنسبة إلى الإسلام الإنسان هو مقدس، وأرى تأكيد ذلك في بعض الاعتبارات التي تفرض نفسها على ذهني ضمن اعتبارات كثيرة. يعتبر الإسلام أن الله يخاطب الناس بصفتهم ناساً، فيقول مثلاً: "أيها الناس" ثم يؤكد القرآن الكريم أن الإنسان هو "خليقة الله على الأرض"، مكلف من قبل الله بالاهتمام بالأرض، وهذا ما يعطيه كرامة ومسؤولية ينفرد ويتميز بهما عن سائر المخلوقات. ويشعر الإنسان المعاصر بهذه المسؤولية وخطورتها وأهميتها لأنه اكتشف أنه في الآن ذاته قادر على استفادة عظيمة من الأرض وعلى تخريبها وتدميرها أيضاً.

ثم نجد أيضاً في القرآن الكريم الحديث عن الله الذي يطلب من الملائكة أن يسجدوا أمام آدم الذي يعلمه الله أيضاً الأسماء- ونعلم أن الاسم يعبّر عن معنى الأشياء، وبالتالي يوكل الإنسان باستعمال كل الأشياء بحسب المعاني الذي يعطيها الله لخلائقه. ولا يمثل سجود الملائكة ذا أمام الإنسان سجود العبادة بل الاعتراف بأن كرامة الإنسان فريدة ضمن جميع الخلائق وأن الله أخضع جميع الخلائق لتصرف الإنسان وحتى تكون في خدمته. كما يلفت نظري أيضاً أن القرآن الكريم يقول عن قاتل قتل إنساناً دون مبرر: كأنه قتل البشرية جمعاء.

والمعنى هنا أن هذا القاتل لم يحترم في شخص ضحيته إنسانيته، أي كون إنساناً، وبالتالي أهان الإنسانية كلها، مهما يكن صغيراً كان أم كبيراً، فقيراً أم غنياً، حقيراً أم عظيماً. ومن الأكيد أنه توجه في الإسلام اعتبارات أخرى كثيرة تؤكد قدسية الإنسان هذه.

وكذلك بالنسبة للمسيحية الإنسان هو مقدس. وهنا أيضاً أذكر على سبيل المثال لا الحصر، أن الكتاب المقدس يعلمنا أن الله تعالى خلق الإنسان على صورته ومثاله. ويفتح هذا مجالاً كبيراً للتأمل في قدسية الإنسان وعظمته: إن كان هذا بعقله ووعيه، أو بحريته وولايته، أو بمحبته وبقدرته على الدخول في علاقة شخصية مع الله. كما نجد في الكتاب المقدس كيف أن الله يحب هذا الإنسان حباً فريداً- حتى بعد ما أخطأ إليه- وأنه يقطع عهداً معه- ويكون الله أميناً نحو هذا العهد حتى عندما يكسر الإنسان هذا العهد.

كذلك خلق الله كل شيء للإنسان كما نجد مثلاً في المزمور 136 (135) ثم أيضاً في العهد الجديد، مثلاً عندما يقول القديس بولس: "كل شيء لكم، وأنتم للمسيح، والمسيح لله" (1كور 3/22). إن كل شيء لنا لنستثمره في خدمة الله وإكرامه. وتعتبر المسيحية أن قمة اختيار الله للإنسان وتقديسه سر التجسد، إن الله الكلمة- دون أن يفقد شيئاً من ألوهيته- صار بشراً، إنساناً. ويؤكد أحد آباء الكنيسة، أي أحد معلمي الكنيسة الكبار من القرون الأولى، ألا وهو القديس إيريناوس، أسقف ليون في آخر القرن الثاني، يؤكد أنه لا يوجد أي تعارض بين قيمة الإنسان ومكانته وبين مجد الله، بل كيف أن ارتقاء الإنسان يبرز مجد الله، عندما قال كلمته المشهورة: "إن مجد الله هو الإنسان الحي" كلما أصبح الإنسان أكثر حباً يزيد ظهور مجد الله فيه.

هكذا نرى كيف أن إيماننا بالله الحي الخالق يوصلنا جميعاً إلى الاعتراف بقدسية الإنسان. فيجب أن يصبح هذا الاعتراف فعلياً ولا ينحصر في مجرد ألفاظ. بالتالي لا أقدر أن أحترم الله دون أن أحترم الإنسان، كل إنسان، واحتراماً يشمل الكلام مع الآخر وعنه كما يشمل النظر إليه والمواقف منه والتصرفات بصدده. وكذلك لا أقدر أن أخدم الله ودون أن أقوم بخدمة الإنسان، كل إنسان- خاصة الإنسان المنبوذ أو المهمش أو المظلوم أو المحتقر. ولا أدّعي أني أؤمن برحمة الله ومحبته نحو البشر إن لم أمارس أنا بدوري هذه الرحمة والمحبة نحو أخي الإنسان، خاصة المخطئ المحتاج إلى الرحمة.

ولا أقدر أيضاً أن أدافع عن حقوق الله دون أن أدافع عن حقوق الإنسان، كل إنسان، وأكافح من أجلها ومن أجل كل القيم التي تمثل كرامة الإنسان، مثل حياته وممتلكاته وحريته وضميره وسلامة معيشته وثقافته وقدرته على الإبداع والابتكار…الخ

يرى البعض أن هناك تعارضاً بين حقوق الله وحقوق الإنسان، كأنه توجد منافسة بين الله والإنسان الذي خلقه الله كريماً وأراد له عظمته وقدسيته وحقوقه. أر أن هذا التعارض يجب ألا يوجد. إن الإيمان بالله يجب أن يعمق الاحترام للإنسان، لكل إنسان ولحقوقه لأن هذا الإيمان هو الذي يكتشف قدسية الإنسان كما رأينا.

فيجب أن يكون هذا الدفاع عن حقوق الإنسان وكرامته دفاعاً فعالاً، من قبل كل واحد بحسب إمكانياته الواقعية، فلا ينحصر هذا الدفاع في مجرد إعلانات. كما يجب أن يكون دفاعاً عن الشخص الإنسان بكل أبعاده: دفاعاً عن إمكانياته ليعيش مادياً، ولكن أيضاً روحياً ودينياً، اجتماعياً وثقافياً. ويشمل هذا كما قلنا أيضاً الدفاع عن الإنسان في هذه القيمة العظيمة التي بها يتميز عن الحيوان، ألا وهي ضميره. وبالتالي نطالب أيضاً معاً وباسم إيماننا بالله- باحترام للضمير هذا- أن يقدر الأفراد أن يختلفوا في مواقفهم الضميرية. فلا تنال هذه الحرية والاحترام لهذا الحق من مكانة الله وعظمته في حياتنا ومجتمعاتنا بل وتبرزها وتؤكدها.

ويجب أيضاً ألا ينحصر هذا الدفاع عن حقوق الإنسان بدافع من إيماننا في الدفاع عن حقوق الأفراد، بل يشمل الجماعات البشرية أيضاً. إذا رأينا أن الله خلق الإنسان جماعة أي كائناً يدعوه اله إلى حياة الشركة، يجب أن ندافع أيضاً عن حقوق هذه الجماعات البشرية- بكل مستوياتها وأشكالها: الدول والأمم والشعوب، وكذلك الدفاع عن الجماعات الدينية والثقافية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية…الخ

ويمكن أن يساهم كل واحد منا، مسيحيين ومسلمين، بكل ما اكتسبه من تراثه في هذا المجال، فنكتشف أننا نقدر أن نشارك بعضنا بعضاً في قيم اجتماعية عظيمة. واختبرت شخصياً كيف أن كثيراً من المسلمين وجدوا رؤيتهم تماماً في بعض النصوص الخاصة بالتعليم الاجتماعي للكنيسة- مثل نص المجمع الفاتيكاني الثاني عن الكنيسة في العالم المعاصر وبعض الرسائل الباباوية عن الشؤون الاجتماعية.

كما يوصلنا هذا الجهد إلى البحث المشترك في معنى التنمية البشرية- هذه الكلمة المستعملة كثيراً والمستهلكة أحياناً والمحاطة في واقع الأمر بكثير من الغموض. نقدر أن نحدد معاً- انطلاقاً من إيماننا- ما هي التنمية الحقيقية (وما هي التنمية المزورة)، ثم نجتهد معاً لنحقق هذه التنمية حتى ينمو الإنسان حقاً في مجتمعاتنا.

حقاً يدعونا إيماننا وموقفنا معاً أمام الله وفي حضوره إلى مجهود مشترك رائع في سبيل مجد الله الذي هو الإنسان الحي.

 



[1] محاضرة ألقيت في جامعة بيت لحم بتاريخ 12/11/1994.