عظة البطريرك الماروني نصرالله صفير 17/02/08

بكركي، الأحد 17 فبراير 2008 (zenit.org).

ننشر في  ما يلي العظة التي ألقاها البطريرك الماروني الكاردينال مار نصرالله بطرس صفير في قداس الاحد في كنيسة الصرح البطريركي في بكركي، بعنوان  عماد السيد المسيح كما تحدث عنه قداسة الحبر الاعظم البابا بنديكوس السادس عشر في كتابه "يسوع الناصرة".

"في إمكاننا أن نتمثل الانطباع الخارق العادة الذي كان على صورة يوحنا المعمدان ورسالته أن تثيراه حتما في جو غليان القدس يومذاك. وأخيرا ظهر مجددا نبي، وكانت حياته في حد ذاتها شهادة. وأخيرا ظهر تدخل من الله في التاريخ. يوحنا المعمدان يعمد بالماء، ولكن واحدا أكبر منه سيعمد بالروح القدس والنار، وهو على الباب. وهكذا لا حاجة بنا إلى أن نعتبر أن ما دل عليه مرقس هو مغالاة، عندما قال: "وكانت كل بلاد اليهودية، وجميع سكان أورشليم يخرجون إليه، ويعتمدون على يده في نهر الاردن، معترفين بخطاياهم "(1). إن الاعتراف بالخطايا يعود إلى عماد يوحنا. واليهودية في تلك الأيام كانت تعرف اعترافات عامة، ولكنها ما كانت لتجهل الاعترافات الشخصية التي كان على المؤمن أن يعدد فيها جميع خطاياه. وكان في هذا التمرين يجب أن يتغلب المؤمن على وجوده السابق الخاطئ، وأن ينطلق انطلاقة جديدة ليسلك سلوكا آخر مغايرا.

وهذا هو معنى العماد. ونجد من ناحية رمزية الموت: الماء الذي يفني ويدمر. وفي نظر الفكر القديم، كان الاقيانوس يشكل تهديدا دائما للكون، وللأرض. والمياه كان في استطاعتها أصلا أن تكفن كل حياة. وبواسطة التغطيس، يتبنى النهر هذه الرمزية. ولكن الساقية هي أيضا رمز الحياة. وأنهر المنطقة الكبيرة أي النيل، والفرات، ودجلة هي أكبر موزع للحياة. وكذلك الأردن هو ينبوع حياة للمنطقة حتى اليوم. وكان المقصود تطهير الانسان وتحذيره من وحل الماضي الذي يثقل على الحياة ويشوهها. وهذا يعني انطلاقة جديدة، أي موتا وحياة وقيامة. وهذا يعني أيضا انطلاقا من الصفر لسلوك حياة جديدة. ويمكننا القول أن في الأمر ميلادا جديدا. وكل هذا سنشرحه لاحقا لدى الكلام عن لاهوت العماد المسيحي. وأما بذور هذا العماد فقد وضعت في النزول في مياه الأردن، والصعود إلى الشاطئ.
رأينا أن كل اليهودية وأورشليم تدفقوا ليعتمدوا. ولكن يبدو أن شيئا جديدا قد حدث: "وفي تلك الأيام، جاء يسوع من ناصرة الجليل، واعتمد في الأردن على يد يوحنا" (2). حتى ذلك الوقت، لم يأت أحد على ذكر حجاج آتين من الجليل، وكل شيء كان يبدو مركزا على اليهودية وحدها. ولكن الجديد في الأمر هو أن يسوع ليس من منطقة أخرى، وأنه آت نوعا ما من بعيد. إن الجديد في الأمر هو أن يسوع يريد أن يتعمد، وأنه اختلط بجموع الخطأة المجهولين، المنتظرين على ضفاف الأردن. وكما رأينا، إن العماد يعني الإقرار بالخطايا. وهو اعتراف المؤمن بخطاياه ومحاولة التنكر لحياة قديمة شاذة لقبول حياة جديدة، وهل هذا كان ممكنا بالنسبة إلى يسوع؟ وكيف كان عليه ان يعترف بخطايا؟ أن يطلق حياة سابقة ليسلك حياة جديدة؟ هذا هو السؤال الذي يجبر المسيحيون على طرحه على نفوسهم. والجدل الذي قام بين يوحنا المعمدان ويسوع والذي أورده متى، طرح هذا السؤال: "أنا المحتاج أن أعتمد منك، وأنت تأتي ألي"(3) . وتابع متى قوله: "فأجاب يسوع وقال له: "دعني الان، فهكذا يحسن بنا أن نتم كل بر! حينئذ تركه يعتمد "(4).

إن معنى هذا الجواب، الذي يبدو أنه لغز، ليس بالامر السهل. وعلى كل حال، إن الكلمة الصغيرة "الآن" تعبر عن نوع من التحفظ. ويجب في الحالات العابرة، التصرف بطريقة معينة. ولشرح جواب يسوع، من الضروري أن نعطي كلمة "بر" كل معناها: يجب أن نتم كل بر. في العالم الذي كان فيه يسوع، كان هذا البر جواب الانسان على التوراة. والقبول المطلق بإرادة الله، إرادة حمل "نير ملكوت الله"، استعمالا لصيغة معروفة. إن عماد يوحنا لم يكن محتسبا في التوراة. ولكن يسوع اعترف بهذا العماد، باستعماله هذه الكلمة التي تعبر عن قبول دونما تحفظ بإرادة الله، والرضى المطيع بنيره.

ولما كان القبول المتواضع بهذا العماد ينطوي على الإقرار بالذنب، وطلب المغفرة لمعرفة التجديد، ان القبول المطلق بإرادة الله في عالم طبعته الخطيئة، يعرب أيضا عن التضامن مع الناس الذين أصبحوا خطأة، غير أنهم يتوقون إلى البر. كان من الواجب أن يكون هناك الصليب والقيامة لقياس أهمية هذا الأمر. إن الذين يقتبلون العماد، لدى نزولهم في الماء، يعترفون بخطاياهم، ويسعون إلى التحرر من حمل سقوطهم في الخطيئة. ماذا فعل اذن يسوع ؟ إن لوقا الذي يعير صلاة يسوع انتباها كبيرا، على مدى انجيله، والذي صوره دائما في صلاة، عندما يتكلم مع الآب، يقول لنا ان يسوع كان يصلي لدى قبوله العماد (5). إن المسيحيين، إنطلاقا من الصليب والقيامة، فهموا ما حدث: إن يسوع أخذ على عاتقه حمل خطيئة البشرية جمعاء وحملها فيما كان نازلا إلى الأردن. ودشن حياته العامة بأنه أخذ مكان الخطأة. ودشنها باستباقه الصليب. فهو نوعا ما يونان الحقيقي الذي قال للبحارة :"خذوني وألقوني في البحر"(6). بالصليب وحده ينكشف معنى اعتماد يسوع، وقبوله بأن يأخذ على عاتقه كل ما هو "بر". إن العماد هو قبول الموت من أجل خطايا البشرية، والصوت الذي ارتفع في عماد يسوع "هذا هو ابني الحبيب" (7)، هو استباق للقيامة. ومن المفهوم اذا ان كلمة عماد، في خطاب يسوع عينه، تعني موته (8).

إنطلاقا من هنا يمكننا فقط أن نتفهم العماد المسيحي. إن استباق الموت على الصليب، الذي تم في عماد يسوع، واستباق القيامة التي أعلن عنها الصوت الآتي من السماء، هي الآن حقائق. إن العماد بالماء الذي مارسه يوحنا لقد تم بعماد حياة يسوع وموته. أتباع الدعوة إلى العماد يعني الآن الذهاب إلى المكان الذي اعتمد فيه يسوع، والقبول هكذا بتماهيه معنا وتماهينا معه. ونقطة استباقه الموت أصبحت بالنسبة إلينا استباقنا القيامة معه (9). وقد أبان بولس الرسول هذه العلاقة الداخلية دون أن يتحدث بوضوح عن عماد يسوع في الاردن.

إن كنيسة الشرق، في طقوسها ولاهوتها المتعلق بالايقونات، قد توسعت وتعمقت في مفهوم عماد يسوع. وهي ترى علاقة عميقة بين محتوى عيد الغطاس (الذي في أثنائه يحتفل في الشرق بيسوع الذي أعلن عنه الصوت الآتي من السماء أنه ابن الله)، ومحتوى عيد الفصح. وفي عبارات يسوع ليوحنا: "فهكذا يحسن بنا أن نتم كل بر"(10). ومسيحيو الشرق يفهمون استباقا لذلك الكلمات التي قالها يسوع في الجسمانية: "يا أبتاه. ليس كما أريد، بل كما تريد (11). وإن التراتيل الطقسية في الثالث من كانون الثاني تقابل صلوات الأربعاء من اسبوع الآلام، وتراتيل الرابع من كانون الثاني تقابل تراتيل خميس الأسرار، وتراتيل الخامس من كانون الثاني تقابل تراتيل الجمعة العظيمة وسبت النور.

وفن الرسوم يأخذ هذه المقابلة في الاعتبار. إن أيقونة عماد يسوع تمثل الماء كقبر سيال له شكل مغارة مظلمة، وهي علامة تصويرية تمثل جوف الأرض، أي الجحيم. ونزول يسوع إلى هذا القبر السائل، إلى هذا الجحيم الذي يطوقه تماما، هو هكذا إتمام نزول يسوع، قبل بلوغ الساعة، إلى عالم الأموات :"بعد أن نزل إلى الماء، قيد الرجل القوي"(12)، على ما يقول القديس كيرللس الأورشليمي. كتب القديس يوحنا فم الذهب: "الغطس في الماء، والخروج منه، هما رمز النزول إلى الجحيم والقيامة. والصلوات الطقسية البيزنطية تقدم أيضا مرجعا آخر رمزيا: في ذلك الزمن، انكفأ الأردن أمام وشاح ايليا، وانقسمت المياه وتركت طريقا على اليابسة رمزا حقيقيا إلى العماد الذي بفضله نقطع أشواط الحياة" .

وهكذا نفهم عماد يسوع على أنه إعادة لمجموع التاريخ الذي يستعيد الماضي ويستبق المستقبل. إن الدخول في خطيئة الآخر إنما هو نزول الى "الجحيم"، ليس فقط كما هي الحال لدى الشاعر دانتي، أي كمشاهد، بل بعاطفة شفقة، وتبدل بقوة التأثر، فيعمد هكذا إلى اقتحام أبواب الأعماق، وفتحها بالقوة. إنه نزول إلى بيت الشر، وصراع مع الرجل القوي، الذي يسجن الانسان (وفي الواقع ألسنا جميعا سجناء قوى تخضعنا لتلاعب لا يوصف)! إن هذا الرجل القوي الذي لا يقهر سيغلبه من هو أقوى منه، إنطلاقا فقط من قوى التاريخ العام، وسيقيده، وهو مساو لله الذي يمكنه أن يأخذ على عاتقه جميع خطايا العالم، وأن يحملها حتى النهاية، دون أن يهمل شيئا على حدة، لدى نزوله، من هويته مع الذين سقطوا في الخطيئة. هذا الصراع هو "منعطف" الكائن الذي يقوم بتكوين جديد للكائن الذي يعد سماء جديدة وأرضا جديدة. من هذه الزاوية، إن سر التوبة يبدو كهبة يشرك في كفاح يسوع لتحويل العالم، بفضل منطعف الحياة الذي حصل مع نزوله وصعوده.

إن عماد يسوع المسيح في الأردن كان حافزا لنا على اقتبال سر العماد الذي يغفر جميع الخطايا، اذا صحبته توبة صادقة. والمسيح لم يكن في حاجة إلى عماد، لكنه خضع له ليشجعنا على اقتباله. وهذا ما أراد قداسته أن يشرحه بطريقة لاهوتية علمية. فعلينا نحن أن نحافظ دائما على نعمة العماد، وأن نسعى إلى التغلب، بنعمة الله، على الشر والخطيئة.

ومن شأن مفعول العماد أن يحولنا عن الشر وينمي فينا المحبة لله والقريب. وان المشهدين المختلفين المتقابلين اللذين رأيناهما الأسبوع الماضي، في اليوم عينه، وفي مكانين وزمنين متقاربين، تدفقت فيهما جماهير اللبنانيين، إن هذا لدليل واضح على ما يباعد بين اللبنانيين، فيما الواجب يقضي بتقاربهم لإنقاذ بلدهم الذي لن ينقذه سواهم. فعسى أن يتعظوا ويعملوا متكاتفين على إنقاذ لبنان".