عظة الأب الأقدس أثناء القداس بمناسبة تأسيس مركز الشبيبة العالمي في روما

الفاتيكان، الإثنين 10 مارس 2008 (Zenit.org).

ننشر في ما يلي عظة الأب الأقدس بندكتس السادس عشر في القداس الإلهي الذي جمعه بالشبيبة في مركز الشبيبة العالمي – سان لورنسو بالقرب من الفاتيكان، بمناسبة مرور 25 سنة على تأسيس المركز.

* * *

السادة الكرادلة،

الإخوة الأجلاء في الأسقفية والكهنوت،

أيها الإخوة والأخوات الأعزاء!

 إنه لفرح عظيم لي أن أتمكن من الاحتفال معكم، في هذه الكنيسة الرومانية الجميلة، بالذكرى الخامسة والعشرين لمركز الشبيبة العالمي سان لورنسو، الذي أراده البابا يوحنا بولس الثاني الحبيب بالقرب من بازيليك القديس بطرس، وافتتحه هو بالذات في 13 مارس 1983.

 إن القداس الإلهي الذي يُحتفل به كل سبت، يشكل بالنسبة للكثير من الشباب، الآتين من مختلف أنحاء العالم للدرس في الجامعات الرومانية، يشكل مناسبة هامة للتعرف على كرادلة وأساقفة الكورية الرومانية، وأيضًا على أساقفة من القارات الخمس لدى مرورهم بروما في زياراتهم إلى الأعتاب الرسولية.

 لقد أتيت هنا أنا أيضًا – كما سبق وذكرتم – مرات غير قليلة، لكي أحتفل بالافخارستيا عندما كنت عميدًا لمجمع عقيدة الإيمان. وكان اللقاء بشباب وشابات من مختلف أصقاع الأرض خبرة جميلة دومًا، في هذا المركز، الذي يشكل بالنسبة لهم نقطة استقبال ومرجعية.

 أوجه بشكل خاص تحية قلبية لكم أيها الشباب، شاكرًا إياكم لأجل الاستقبال الحار الذي خصصتموني به. […].

[ثم ألقى الأب الأقدس هذه العظة العفوية]

 لنأتِ الآن إلى إنجيل هذا اليوم المكرس لموضوع هام وأساسي: ما هي الحياة؟ ما هو الموت؟ كيف يجب أن نعيش؟ وأن نموت؟

 إن القديس يوحنا – بُغية إفهامنا بشكل أفضل معنى سر الحياة وجواب يسوع، يستعمل من أجل هذا الواقع الأوحد كلمتين مختلفتين، لكي يبين مختلف أبعاد واقع "الحياة": كلمة " bíos " وكلمة " zoé ".

 تتطرق كلمة بيوس، كما يمكننا أن نفهم بسهولة، إلى هذا الكون الحيوي الضخم، المحيط الحيوي الذي يمتد من الخلايا الأولية وصولاً إلى الأجسام الأكثر انتظامًا، والأكثر نموًا؛ شجرة الحياة الكبيرة التي نمت فيها مختلف العناصر الحيوية. والإنسان عينه ينتمي لهذه الشجرة؛ فهو جزء من الكون الحيوي الذي يبدأ بأعجوبة: ففي صلب المادة الجامدة ينمو محور حيوي: وهي ما نسميه الجسم.

 ولكن الإنسان رغم انتمائه لهذا الكون الحيوي الضخم، إلا أنه يتجاوزه لأنه في الوقت عينه جزء من واقع يسميه يوحنا " zoé". وهي طبقة جديدة من الحياة، ينفتح فيها الكائن على المعرفة. بالطبع، يبقى الإنسان إنسانًا وله كامل كرامته، حتى ولو كان في حالة غيبوبة (coma)، وحتى ولو كان جنينًا، ولكن، إذا عاش الإنسان فقط بشكل بيولوجي، لا يحقق كل مقدرات كيانه.

 الإنسان مدعو إلى الانفتاح على أبعاد جديدة. إنه كائن يستطيع المعرفة. بالطبع، الحيوانات تعرف أيضًا، ولكن فقط الأمور التي تهمها للحياة البيولوجية. أما معرفة الإنسان فتذهب أبعد من ذلك؛ فالإنسان يريد أن يعرف كل شيء، كل الواقع، والواقع بملء تفاصيله؛ يريد أن يعرف ماهية كيانه وماهية العالم. يعطش إلى معرف اللامتناهي، يريد أن يصل إلى نبع الحياة، يريد أن يشرب من هذا النبع وأن يجد الحياة عينها.

 ونصل هنا إلى البعد الثاني: الإنسان ليس كائنًا يعرف وحسب؛ بل هو كائن يعيش في علاقة صداقة ومحبة. إلى جانب بُعد معرفة الحقيقة والكائن، هناك بعد غير منفصل، هو بعد العلاقة والحب. وهنا يقترب الإنسان أكثر إلى نبع الحياة، الذي يريد أن يشرب منه وأن يحوز الحياة بوفرة، لكي يحصل على الحياة عينها.

 يمكننا القول بأن العلم كله إنما هو صراع واحد كبير من أجل الحياة؛ وبوجه خصوص الطب. ففي نهاية المطاف، الطب هو سعي إلى مواجهة الموت، هو سعي إلى الخلود [اللاموت]. ولكن هل يمكننا أن نجد دواءً يضمن لنا الخلود؟ هذا هو بالضبط السؤال الذي يطرحه إنجيل اليوم.

 لنحاول أن نتخيل أن الطب تمكن من إيجاد الوصفة الطبية ضد الموت، وصفة الخلود. حتى في هذا الحال، نحن في صدد دواء يدخل في إطار المحيط الحيوي، وهو دواء مفيد بكل تأكيد لحياتنا الروحية والبشرية، إلا أنه يبقى بحد ذاته دواءً منغلقًا في إطار هذا المحيط الحيوي.

 من السهل أن نتخيل ما قد يحصل لو كانت حياة الإنسان البيولوجية بلا نهاية، لو كانت خالدة: لَكُنّا وجدنا أنفسنا في عالم عجوز، عالم مليء بالعجائز، عالم لا يفسح مجالًا للشباب، لا يترك فسحة لتجدد الحياة. نفهم هكذا أن ليس هذا نوع الخلود الذي نتوق إليه؛ ليست هذه إمكانية الارتواء من نبع الحياة الذي نتشوق إليه.

 وفي هذه الحال، نفهم من ناحية أننا لا نستطيع أن نرجو امتدادًا لامتناهيًا للحياة البيولوجية، ومع ذلك، من ناحية أخرى، نتوق إلى الشرب من نبع الحياة بالذات لكي نتنعم بحياة لا تنتهي، في هذه الحالة بالذات يتدخل الرب ويخاطبنا في الإنجيل قائلاً: "أنا القيامة والحياة. من يؤمن بي وإن مات فسيحيا؛ ومن يعيش ويؤمن بي، فلن يموت أبدًا".

 "أنا القيامة": الشرب من نبع الحياة يعني الدخول في شركة مع هذا الحب اللامتناهي الذي هو نبع الحياة. باللقاء مع يسوع، ندخل في اتصال، لا بل في شركة، مع الحياة عينها ونتجاوز عتبة الموت، لأننا على اتصال بالحياة الحقيقية، ما وراء الحياة البيولوجية.

 لقد سمى آباء الكنيسة الافخارستيا "دواء الخلود". وهو كذلك، لأنه في الافخارستيا ندخل في علاقة، بل في شركة، مع جسد المسيح القائم، ندخل في مدار الحياة القائمة سلفًا، الحياة الأبدية. ندخل في شركة مع هذا الجسد الذي تحييه الحياة التي لا تموت، وبهذا نحن منذ الآن وللأبد في مدار هذه الحياة عينها. وبهذا الشكل، يشكل هذا الإنجيل أيضًا تفسيرًا عميقًا لماهية الافخارستيا، ويدعونا إلى أن نعيش حقًا من الافخارستيا لكي نتمكن من أن نتحول في شركة الحب. هذه هي الحياة الحقة.

 يقول لنا الرب  في إنجيل يوحنا: "لقد أتيت لتكون لهم الحياة وتكون لهم بوفرة".  الحياة بوفرة ليست، كما يعتقد البعض، أن نستهلك كل شيء، وأن نمتلك كل شيء، وأن نتمكن من فعل كل ما نبغي. بهذا الشكل إنما نعيش للأشياء المائتة، نعيش للموت. الحياة بوفرة هي أن نعيش الشركة وأن نضحي حَمَلَة الحياة للآخرين أيضًا.

 
إن مساجين الحرب الذين نُفُوا إلى روسيا لمدة 10 سنوات وأكثر، عرضة للصقيع والجوع، قالوا لدى رجوعهم: "لقد تمكنت من البقاء على قيد الحياة لأني كنت أعرف أن أحدًا ما كان ينتظرني. كنت أعرف أن هناك أشخاصًا ينتظروني، وأنني كنت ضروريًا ومرتقبًا". هذا الحب الذي كان ينتظرهم كان الدواء الناجع للحياة في وجه كل الشرور. وبالحقيقة، نحن كلنا مرتقبون. الرب ينتظرنا؛ ولا ينتظرنا وحسب، بل يمد لما يده. فلنقبل يد الرب ولنصل إليه لكي يمنحنا أن نعيش حقًا، أن نعيش ملء الحياة لكي نتمكن أن نشرك معاصرينا بالحياة الحقة، بالحياة بوفرة. آمين.

* * *

 
نقله من الإيطالية إلى العربية روبير شعيب – وكالة زينيت العالمية (
Zenit.org)

حقوق الطبع محفوظة لمكتبة النشر الفاتيكانية – 2008.