مستقبل المسيحيّة العربيّة

 جميل أن يتحدث الكتاب والمفكرون المسلمون عن "مستقبل المسيحية العربية"، وأن يظهروا مخاوفهم من نزيف الهجرة الذي يؤثر على أخوتهم. فالوطن العربي الذي يدين غالبيته بالدين الإسلامي، كان منارة للمسيحيين منذ نشأة المسيحية، إلا أن الأحداث التي عصفت بهذه المنطقة، قد أثرت على وجود المسيحيين، فأمسوا أقلية عددية ، رغم أن حضورهم ما زال فاعلا في كافة الميادين. نحيي الدكتور التونسي عز الدين عناية على المقال المنشور هنا، وهو مدرس في جامعة "الحكمة" التي شهدت قبل أيام حدثا كبيرا، تمثل باعتذار البابا بندكتس 16 عن إلقاء محاضرة فيها، نظرا لاحتجاجات بعض المدرسين والطلبة من قسم الفيزياء على زيارة قداسته. المهم أنّ الدكتور عناية يحاول أن يجعل المسيحيين العرب متشبثي الجذور مع أصولهم ومنابتهم العربية ، في الوقت الذي لا يدعوهم إلى قطع أواصر العلاقة مع أخوتهم المسيحيين في الغرب، رغم أن الغرب لم يعد مسيحيا بقيمه وسياساته (محرّر موقع "أبونا").

 
عن صحيفة الخبر الجزائرية، 12\\2\\2008 منذ أن رُبِطَت لاهوتيا مصائر شقّ واسع من أتباع المسيحية في البلاد العربية بالكنيسة الغربية، تكثّف العمل لإضعاف الأواصر التي ترتبط تلك الجماعات بالحضارة العربية الإسلامية. واشتدّت الإغراءات لإلحاقها، خدمة وولاء وتبعية، بالكنيسة الغربية. ترافق ذلك المسعى مع الضّعف الذي دبّ في الكيان الحضاري العربسلامي. وربما يلحظ المراقب التاريخي أبرز تلك التحوّلات في ما صار ينعت به مسيحيو البلاد العربية بمسيحيي الشّرق، والنّعت ليس بريئا.
اختُلِقت لتلك الجماعات المجتثّة هويات وقوميات عدّة: آشورية وكلدانية وسريانية وفينيقية وقبطية، إلاّ أن تكون عربية. وصارت العناوين التي تعقد تحتها المؤتمرات واللّقاءات في الغرب، بشأن مناصرة المسيحية "المستضعفة”، وتطارح إشكالياتها وقضاياها، تحت مسمّيات “مسيحيو الشّرق”، مع تغييب متعمّد لنعت “المسيحيين العرب” أو “المسيحية العربية”. وغالبا ما تنتهي خلاصة الحديث في تلك اللّقاءات إلى تصوير المسيحيين المشارقة كبش فداء، واتهام الإسلام أوّلا والعرب المسلمين ثانيا. والغريب أن المغرَّر بهم صدّقوا ذلك، وراحوا يتملّصون مما يربطهم بمهدهم الحضاري الشّامل والرحب. تذكّرني واقعة نفي الهويّة والتملّص منها بحكاية شائعة في الغرب الإسلامي، تروي أنّه سُئل بغل عن والده الحمار، فاستحى من ذكره، فردّ قائلا: خالي الحصان!!.
آخر تلك النّدوات التي عقدت لتباحث مستقبل المسيحية العربية كانت خلال اليومين 16 و17 من شهر نوفمبر من العام المنصرم (2007)، بدعوة من المعهد العالمي لعلوم الأديان بباريس، والتي حضرها لفيف من رموز المسيحية العربية، منهم البطريارك ميشال الصبّاح، والأب أميل شوفاني، ورئيس أساقفة بغداد يوحنا بنيامين سليمان، والمطران جورج خضر، والأب اليسوعي المصري سمير خليل سمير. كما حضرها جمع من الغربيين ممن ينشغلون بالأديان، منهم المأسوف على ثوريته المفكّر ريجيس دوبري.
المسيحية العربية محنتها الأساسيّة واردة ممن يدّعون أنهم حماتها وأوصياء عليها، ولكن الاعتراف بذلك الواقع يتطلّب شجاعة روحية في مستوى صدق السيّد المسيح، عليه أفضل الصّلاة والسّلام، في حادثة “من لم يفعلها منكم فليرمها بحجر”. فمن سخرية القدر أن المسيحيين، على افتراض أن بوش وآله منهم، هم من يجلُون ويهجّرون أتباع المسيح من دورهم وأراضيهم في العراق. فقد كان البلد يضم قبيل الحرب ما يربو على نصف مليون مسيحي، تراجع العدد مع حملة “اللاّهوتيين المحافظين” إلى ما يقارب المائتي ألف. كما أنّ أعوان بوش في فلسطين السّليبة هم من يهجّرون المسيحيين الفلسطينيين، لا حركتا “حماس” و”الجهاد” “المتطرّفتين” كما يروَّج بهتانا.
يمكن معاينة النزيف الخطير لأعداد المسيحيين الفلسطينيين، بمقارنة ما قبل دخول اليهود الغربيين وبعد استيطانهم، ففلسطين اليوم توشك أن تتحوّل إلى مجرّد ديزني لاند روحي، والمسيحيون الفلسطينيون إلى مجرّد معروضات متحفية “إيزوتيكية” لا غير. إنها الحقيقة التاريخية التي يعجز الإخوة المسيحيون العرب أن يرووا أسبابها العميقة لإخوانهم في الدّين من الغربيين. إنه كلّما دسّ الغرب أنفه في الشأن المسيحي العربي إلاّ وتكاثرت أشباه الكنائس وتفرّق حملة الصّليب أمرهم بينهم شيعا، حتى تناثروا وكادوا أن يتواروا.
فضمن لعبة التوظيف تلك، غالبا ما أخطأ مسيحيو الشّرق التّقدير، حين اعتبروا الغرب حامي المسيحية وراعيها، ولم يدركوا أنه مجموعة من المصالح الوطنية المختلفة، استغلّت وتستغلّ مسيحيي الشّرق لتفتيت المجتمعات، كما كان مع الدّولة العثمانية سابقا، وفي أيّامنا لصياغة توازنات قوى خارجية، تربط فيها تطلّعات الأهالي المسيحيين وإرادتهم بالخارج.
حين يتحدّث الغربيون عن المسيحية العربية، التي ينعتونها بالشّرقية، نافين عنها خاصياتها العربية وبعدها الحضاري الإسلامي، غالبا ما يكرّرون حديثهم عن المسيحيين العرب بصفتهم شعلة المدنية والتقدّم واللاّئكية والتّسامح في غابة من المسلمين المتخلفين والجهلة. ولمن له دراية لما كانت عليه شروط دخول مدارس المبشّرين في بلدان المشرق في القرن التّاسع عشر ومطلع القرن العشرين، يعرف لماذا كان قصب السّبق في التعرّف على الغرب والانفتاح عليه وعلى لغاته للإخوة المسيحيين. ولكن ذلك السّبق بدأ يتلاشى مع بداية عودة الأمور إلى نصابها، فقد جرت في النّهر مياه كثيرة. كان الحصار العلمي المضروب على العرب المسلمين حينها، وراء رواج أسطورة أن الحداثة العربية تمر عبر قناة المسيحيين العرب، ولكنّنا كمسلمين ومسيحيين همّنا واحد وأملنا واحد.
فلو كان محمّد عابد الجابري أو طه عبد الرّحمن أو محمّد حسنين هيكل من المسيحيين لأطبقت شهرتهم الآفاق، ولترجمت أعمالهم إلى كافة الألسن الغربية، ولكن هؤلاء من المسلمين، فتلك قصّة أخرى. وهنا أتهم العقل الغربي المخاتل في التعامل مع الواقع العربي، فأنا أعيش في الغرب وأحمل جنسيّة أهله وأدرّس في جامعاته، أعرف جيّدا كيف تُنتَقى النّصوص التي تترجم، وعلى أيّ أساس يقع اختيارها، ومن من الكتّاب العرب يُروَّج لهم في الغرب ويسدل السّتار على غيرهم.
فالأقباط المصريون الذين لا تربطهم صلات متينة بالكنيسة الغربية بقوا مسيحيين من درجة ثانية في المخيال الدّيني الغربي وفي الآلة الدّعائية الغربية، من حيث إيلاء الاهتمام بهم ومناصرتهم، واستمرّ النظر إليهم بصفتهم أقرب للمسلمين منه إلى المسيحيين الغربيين، لا لشيء إلا لأنهم حافظوا على هويتهم اللاّهوتية ورفضوا الانضواء تحت مظلّة الكنيسة الغربية، ولأن البابا شنودة، رعاه الله، اعتبر دخول القدس المغتصبة خطيئة في ظلّ الاحتلال الإسرائيلي، فقد بقي مغضوبا عليه. ولو كان الغرب عادلا في تعامله مع مسيحيي البلاد العربية لدافع عن قضايا المسيحيين أينما كانوا بنفس الحماس والصّدق. فالكنيسة الغربية، لا تهتزّ إلاّ إذا مسّ ضرّ رعاياها، ممن ارتبطوا بها لاهوتيا وسياسيا، وأما من دونهم من الأقباط والأرثوذكس والنّساطرة والسريان فمسيحيتهم فيها شوائب. وحديثي ليس دعوة تحضّ المسيحيين العرب على أن يقطعوا صلاتهم بإخوانهم في الدّين من الغربيين وغير الغربيين، بل ما أودّ قوله أن المسيحي العربي ينبغي أن لا يهوّن من شأنه، وهو الوريث المباشر للمسيح قبل أن تتأورب المسيحية. فقرية معلولا الآرامية بسوريا شاهدة، لسانا وعبادا، على قرب نسب الأهالي من المسيح من الفاتيكان، وإن تكاثرت الكنائس وضجّت النواقيس في روما. إذ واقع السوسيولوجيا الدّينية في الغرب يخبر أن “الكنائس خاوية والسّاحات ملأى”.
ستتوارى المسيحية من أرض العرب، إن تواصل النزيف على ما عليه، بربط مصائر المسيحيين بالخارج، والأمر ليس رجما بالغيب، بل وقائع السّائد والإحصائيات تبينه. لذا لا بد أن يعي المسيحي العربي قبل المسلم هذه الفاجعة الدّاهمة. ففي اليوم الذي يتماهى فيه المسيحي العربي مع حضارته العربية الإسلامية، عندها تبدأ الصّحوة الوجودية والانبعاثة الحقيقية للمسيحية العربية.
 
* كتاب المقال هو أستاذ تونسي يدرّس بجامعة لاسابيينسا بروما
نقلاً عن الموقع الصديق "أبونا"

\"\"